عرض مشاركة واحدة
  #26  
قديم 2011-04-02, 10:53 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي

البلاغة فى كلمة ، و فى أية ، و فى سورة :


البلاغة فى كلمة :
إعلم أن كتاب الله العزيز هو أبلغ الكتب و أنزهها ، فلا تجد حرفاً ولا كلمةً إلا تناسب بيانياً سياقها الذى وردت فيه و هذا منتهى الفصاحة، و لنضرب أمثلة على ذلك:-

المثال الأول
أ- تدبر قوله تعالى ((وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ..))
و قوله جل و علا ((وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ))
فزاد حرف الواو فى الأية الثانية فقط فى قوله ( جاؤوها و فتحت) ، و ذلك أن جهنم هي كالسجن أبوابها مقفلة لا تفتح إلا لداخل أو خارج ، و في هذا الوصف تهويل ومفاجأة للكفار الذي يساقون ثم فجأة وهم لا يدرون أين يذهبون تفتح أبوب النار فيفاجأوا ويصابوا بالهلع. أما في حال المؤمنين فالجنة أبوابها مفتوحة على الدوام كما في قوله (جنّات عدن مفتّحة لهم الأبواب) وأهلها يتنقلون فيها من مكان إلى آخر في يسر وسرور وهم في طريقهم إليها يرونها من بعيد فيسعدون ويسرّون بالجزاء والنعيم الذي ينتظرهم...
- ومن جهة أخرى فإن الكافر يقاد للجحيم و هو مرعوب خائف من مصيره يتمنى ألا يبلغه لذلك يشعر أنه سيق إليها فى ثوانى فناسب هذا الإختصار فى الوقت حذف حرف الواو ( حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها)
اما المؤمن فإنه يستعجل النعيم و دخول الجنة فيستكثر الوقت الذى يقطعه لبلوغها رغم أنه قليل فناسب هذا الإستكثار أن يضع سبحانه حرف الواو للتعبير عنه ( حتى إذا جاؤوها و فتحت أبوابها)..
- و من وجه ثالث فإن جواب الشرط في حال جهنم (إذا جاؤوها) مذكور وهو(فتحت أبوابها)، أما في حال الجنة فلا يوجد جواب للشرط لأنه يضيق ذكر النعمة التي سيجدها المؤمنون في الجنة فكل ما يقال في اللغة يضيق بما في الجنة والجواب يكون في الجنة نفسها. فسبحانه جلّ جلاله.

ب- و في سورة الكهف قال تعالى ((سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ))
فزاد الواو فى قوله (( سبعة و ثامنهم كلبهم)) فى حين لا وجود لها فى قول من قالو ((ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ)) (( خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ))
و ذلك لأن العدد الصحيح هو سبعة و ثامنهم كلبهم، و هو مذهب العلما و على رأسهم حبر القرأن إبن عباس، لذا فرق سبحانه بين من قالوا بهذا و بين من قالوا بغيره، فعقب على من قالوا أعداداً أخرى بوصفهم أنهم يرجمون بالغيب ثم ذكر من قالوا الرقم الصحيح فتنبه..
و بما أنه الرقم الصحيح فقد أشار لذلك بتأخيره ، و دعمه بالواو لتفيد التوكيد والتحقيق بأن هذا القول صائب

جـ- كذلك فى سور الغاشية بدأت بالكلام عن (الغاشية) التى تغشى الناس بأهوالها فناسب أن يقرن ذلك الإسم المخيف بذكر فئة المجرمين ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً))
ثم لما انتقل لذكر فئة المؤمنين قال ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ))
و لم يعطف هذا الجزء على الجزء الأول فلم يقل (( و وجوه يومئذ ناعمة)) بين أن العطف ظاهرياً مطلوب لأنه عطف قسم على قسمه الأخر!
و حكمة ذلك إبراز تغاير الفريقين تغايراً تاماً، و لو عطف الثانى على الأول لتوهم متوهم إشتراكها فى أى شىء ،و ليبتعد معنوياً بالمؤمنين عن وصلهم بذلك الإسم المخيف (الغاشية)
فانظر رحمك الله كيف كان وضع الحرف الواحد أو حذفه مقصود بدقة و روعة ليناسب المعنى و يضبط المراد البيانى [ للإستزادة راجع كتاب خصائص التعبير القرأنى]

المثال الثانى
قد ترى حرف الجر الزائد و هو فى الواقع يحقق غاية، و هى توكيد المعنى المراد و تقويته من ذلك :-
أ- قوله تعالى ((وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً)) أى يكفي الله شهيداً ، فجاءت الباء الزائدة فأفادت تقوية المعنى، فكأنما تكررت الجملة كلها لتوكيد إثباته وإيجابه
- و كذا قوله سبحانه ((وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ)) ((وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ)) فكانت الباء الزائدة مبالغة فى نفى الجنون عن رسول الله، و فى نفى أى إحتمال لمفارقة الفجار للجحيم
ب- و قوله عز و جل ((وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)) فزيدت (من) لتؤكد أنه ليس من دابة صغير ولا كبيرة، حقيرة أو عظيمة إلا على الله رزقها وإلا يعلم مستقرها ومستودعها.
جـ- و قوله جل و علا ((وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا)) استخدم (من) ليؤكد عظم علم الله تعالى، فلا تسقط أدنى ورقة ولا أى ورقة إلا و ربنا بها عليم

المثال الثالث
تتجلى دقة القرأن فى إستعمال الحروف ، كالمجىء بـ (فى) بدلاً من (مع) (إلى) (على) لتحقيق المعنى بعمق ، أو لإبراز نكات لطيفة ، و من ذلك:
أ- قوله تعالى ((وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ)) قال (في تسع آيات) ولم يقل (مع تسع آيات) لأن معجزة خروج يد موسى عليه السلام بيضاء من غير سوء واحدة من التسع ، فإن جعلت (مع) بدلاً من (في) كانت الآيات عشر.
ب- و قوله سبحانه ((قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا )) فالتعبير بـ (فيها) أبلغ من التعبير بـ(إليها) لأن (فيها) توحي بأن المهاجر في سبيل الله تكون الأرض غطاء له تحيط به فلا يراه احد من الظالمين, فاللفظ (فيها) أعطى هذا الإيحاء الجميل.
جـ- و قوله عز و جل ((وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ)) التعبير بـ (فى) أبلغ من (على) إذ أبرز صورة السفينة فى قلب الماء ، يغمرها من فوقها و يرجها من تحتها حتى كان الموج كالجبال الشواهق ، و هى تجرى وسط هذه الأمواج المتلاطمة المرتفعة ولكن الله تعالى بقدرته نجّا أهلها المؤمنين..

المثال الرابع
تدبر قوله تعالى ((يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) لقمان
و قوله عز و جل ((وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ... إلى قوله ...وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) الشورى
فالأيات فى مدح الصبر و لكن الأولى قال تعالى فيها ((وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) و الثانية قال تعالى فيها ((وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ))
فتجد التوكيد باللام و زيادة المغفرة فى الثانية دون الأولى، و ذلك لأن الصبر نوعان:
صبر على أذى مقدر لا خصم فيه ، كالصبر على الفقر و المرض و الكوارث القدرية، أو على أذى فيه خصم غير مقدور عليه
فمثل هذا الصبر أهون لأن الإنسان لا يملك سوى أن يصبر و يحتسب، و هذا هو المقصود بقول لقمان لابنه ((وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) فلم يؤكد باللام و لم يذكر المغفرة.
و صبر يحتاج إلى جلد و قوة إرادة، و ذلك الذى فيه غريم اعتدى بالقول و الفعل معاً و هو مع ذلك مقدور على الإنتقام منه، أو الصفح عنه و هذا هو الذى قصده سبحانه بقوله ((وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) فذكر المغفرة و أكد باللام تناسباً مع ما يحتاجه هذا الصبر من عزيمة.

المثال الخامس
تدبر قوله تعالى حكاية عن قول الخضر لموسى ((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً )) الكهف 72،
و قال بعدها ((قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً )) الكهف 75
فزاد كلمة (لك) فى الأية الثانية دون الأولى، و ذلك أن موسى كان قد وعد الخضر ألا يسأله عن شىء حتى يخبره هو، فلم يحتمل لما رأه يخرق السفينه فسأله فأجابه الخضر بتذكيره قائلا ((أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)) فاعتذر موسى بشدة، فلما رأه يقتل الغلام لم يتمالك نفسه و هرع يسأله ثانية ، فأراد الخضر أن يبالغ فى تذكير الموسى بمخالفته لوعده فوكد ذلك بكلمة (لك) ((قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً)) فتأمل ..

المثال السادس
قد ترد بعض الكلمات فى كتاب الله فتشكل على من لا يعرفون لغة العرب، و هى من الجهة النحوية لها توجيهات كثيرة وضحها أهل العلم، و لكن ما نزيده هنا هو بيان أن إستعمال هذه الكلمات بالتحديد هو من صميم إعجاز القرأن البلاغى من ذلك:-
أ- تأمل قوله تعالى ((يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ))
فلمَ يقل أحق أن يرضوهما، و سر ذلك أن إرضاء الله تعالى وإرضاء رسوله عليه الصلاة والسلام أمر واحد وليسا أمرين مختلفين، فمن أرضى الله تعالى فقد أرضى رسوله، ومن أرضى الرسول فقد أرضى الله عز وجل ، لذا قال تعالى((مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)) النساء
لذلك وحد الضمير العائد عليهما للتأكيد على أن إرضاءهما واحد وسيلةً وغاية، و هذا أبلغ و أبين للقصد.
ب- تدبر قوله تعالى (( إنَّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ))
فجاء الفعل مضارعاً { فيكون } مع أن الحَدَثَ قد حصل وانتهى، و ذلك لأن الله تعالى أراد التمثيل لا الحصر، فجاء التعبير بالمضارع ليفيد الإستمرارية و التجدد
فدل بهذا التصريف على أن الله تعالى فعل ذلك فى أدم من قبل ، و فعله بعد ذلك فى المسيح ، و يفعله سبحانه فى أى خلق يشاء وقتما شاء!
جـ- و تدبر قوله تعالى (( إنَّ رحمت الله قريب من المحسنين ))
فجاءت الصفة { قريب } مخالفة للموصوف{ رحمت } ، و ذلك لأن كلمة قريب تعود على أقرب مذكور فى الحقيقة و هو لفظ الجلالة {الله}
وذلك أبلغ و أظهر لنعمة الله، فيكون المعنى ، إن الله قريب من المحسنين و ينزل عليهم رحمته أيضاً، فدل على قرب الرب منهم و معيته لهم بعلمه و سمعه و بصره و رحمته معاً
د- تدبر قوله تعالى ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا))
فجاء الفعل بصيغة الجمع {اقتتلوا} مع أنه ثنى الفاعل {طائفتان}، و ذلك لأن القرأن يصور للذهت المشهد بدقة، فكا طائفة تمثل فريق و كل فريق مؤلف من جماعة من الناس، فلما تكلم عنهما فطائفين أو قبيلتين ثنى لأنهما متمايزتان، أما لما جمع فقال {اقتتلوا} لأن الاقتتال تلتحم فيه الحشود و يضيع التمايز فتأمل
- و مثله قوله تعالى (( هذان خصمان اختصموا في ربهم ))
فجاء الفعل { اختصموا } بصيغة الجمع، مع أن الفاعل { خصمان } ، و ذلك لأن خصم فريق، وكل فريق مؤلَّف من عدد من الخصماء، فناسب أن يقول{ اختصموا } لأن كل فريق من الذين كفروا والذين آمنوا كبير.

المثال السابع
قال تعالى على لسان الخضر ثلاثة مقالات
((فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا.. )) (( فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ..)) (( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ..))
فتجد التنوع بإستخدام (فأردت) (فأردنا) (فأراد ربك)
و ذلك أنك لا تجد ربنا تبارك و تعالى ينسب السوء إلى نفسه فى القرأن، أما الخير والنِعم فكلها منسوبة إليه تعالى كما في قوله ((وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسّه الشر كان يؤوسا)) وقوله على لسان إبراهيم ((وإذا مرضت فهو يشفين)) ولم يقل يمرضني تأدباً مع الله تعالى، و قوله عن الجن ((وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)) فتنبه...و بتقرير ذلك نفهم سر التنوع فى الأيات:-
- أما الأية الأولى (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)
في هذه الآية الله تعالى لا ينسب العيب إلى نفسه أبداً فكان الخضر هو الذي عاب السفينة فجاء الفعل مفرداً.
- أما الأية الثانية(فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً )
في هذه الآية فيها اشتراك في العمل قتل الغلام والإبدال بخير منه حسن فجاء بالضمير الدالّ على الإشتراك، في الآية إذن جانب قتل وجانب إبدال فجاء جانب القتل من الخضر وجاء الإبدال من الله تعالى لذا جاء الفعل مثنّى.
-أما الأية الثالثة (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً)
ففى قصة الجدار فالأمر كله خير فتحت الجدار كنز وأبو الغلامين كان صالحاً والأمر كله خير ليس فيه جانب سوء فأسند الفعل إلى الله تعالى فقال (أراد ربك).
وجاء بكلمة رب في الآيات بدلاً من لفظ الجلالة (الله) للدلالة على أن الرب هو المربي والمعلِّم والراعي والرازق والآيات كلها في معنى الرعاية والتعهد والتربية لذا ناسب بين الأمر المطلوب واسمه الكريم سبحانه.

المثال الثامن
أنظر روعة إستخدام القرأن للإستعارة و الكناية لأحياء التعبير و تزيينه و تبيينه على أتم وجه و من ذلك:-
أ- تدبر قوله تعالى (( نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ))
فلما إستعمل كلمة حرث ههنا؟
يقول الأستاذ سيد قطب: [في هذا التعبير ألوان من التناسق الظاهر والمضمر , ومن لطف الكناية عن ملابسات دقيقة . وأدق ما فيه هو ذلك التشابه بين صلة الزارع بحرثه وصلة الزوج بزوجه في هذا المجال الخاص . وبين ذلك النبت الذي يخرجه الحرث , وذلك النبت الذي تخرجه الزوج ؛ وما في كليهما من تكثير وعمران وفلاح ...]
ب- تدبر قول تعالى (( و آية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ))
انظر كيف استعير في الآية الكريمة " السلخ " و هو كشط الجلد عن الشاة و نحوها لإزالة ضوء النهار عن الكون قليلاً قليلاً ، بجامع ما يترتب على كل منهما من ظهور شيء كان خافياً ، فبكشط الجلد يظهر لحم الشاة ، و بغروب الشمس تظهر الظلمة التي هي الأصل و النور طاريء عليها ....
جـ_ تدبر قوله تعالى (( إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية ))
استعير في الآية الكريمة " الطغيان " ، و هى استعارة فريدة لا توجد في غير القرآن تصور الماء إذا كثر و فار و اضطرب بالطاغية الذي جاوز حده ، و أفرط في استعلائه فما أعجب من هذا التصوير الذي يخلع على الماء صفات الإنسان الآدمي !
د- تدبر قوله تعالى (( و تركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض و نفخ في الصور فجمعناهم جمعاً ))
استعير في الآية الكريمة الموج " حركة الماء" للدفع الشديد بجامع سرعة الاضطراب و تتابعه في الكثرة ثم اشتق من الموج بمعنى الدفع الشديد" يموج " بمعنى يدفع بشدة .
إن هذه الاستعارة القرآنية الرائعة تصور للخيال هذا الجمع الحاشد من الناس احتشاداً لا تدرك العين مداه حتى صار هذا الحشد الزاخر كبحر ترى العين منه ما تراه من البحر الزاخر من حركة و تموج و اضطراب ...
هـ- تدبر قوله تعالى (( و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا ))
كنى هذه الآية بغل اليد إلى العنق عن البخل ، و ببسطها كل البسط عن الإسراف . تأمل الكنايتين تجد فيهما من روائع البيان ما لا يحيط به فكر إنسان فيهما جمال في التعبير ، و روعة في التصوير ، و إيجاز و تأثير ، و تنفير .
فهذه اليد التي غلت إلى العنق لا تستطيع أن تمتد ، و هو بذلك يرسم صورة البخيل الذي لا تستطيع يده أن بإنفاق و لا عطية . و التعبير ببسطها يصور هذا المبذر لا يبقى من ماله على شيء كهذا الذي يبسط يده فلا يبقى بها شيء....

المثال التاسع
قد ترد الكلمة فى كتاب الله فتحمل فى طياتها تصويراً دقيقاً للمعنى الذى تقصده، و تستشعره النفس بمجرد مرور هذه الكلمة على السمع و من ذلك:-
أ- قال تعالى ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ))
تدبر كلمة"كاااااافة" و ما فيها من إبراز لعالمية الرسالة المحمدية،و هى كلمة تمد لزوماً ست حركات،فلكأنك أثناء المد تمسك بقلم تخط به خطاً يطوق الكرة الأرضية،منذراً الناس فى المشارق و المغارب أن هذا رسول الله إليكم جميعا فاستجيبوا له،صلى الله عليه و سلم
ب- قال تعالى ((مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ....)) أل عمران
فتأمل جرس كلمة " صرّ " و ما يحويه من تصوير لمدلولها , وكأنما هو قذائف صغيرة تنطلق على الحرث فتهلكه ....
جـ- قال تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ )) التوبة
تسمع الأذن كلمة " اثاقلتم " فيتصور الخيال ذلك الجسم المثاقل , يرفعه الرافعون في جهد , فيسقط من أيديهم في ثِقل . إن في هذه الكلمة " طناً " على الأقل من الأثقال ! ولو أنك قلت : تثاقلتم , لخف الجرس , ولضاع الأثر المنشود , ولتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها هذا اللفظ , واستقل برسمها .
- كذلك تقرأ (( وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ )) فترتسم صورة التبطئة في جرس العبارة كلها – وفي جرس " ليبطئن " خاصة . وإن اللسان ليكاد يتعثر , وهو يتخبط فيها , حتى يصل ببطء إلى نهايتها ! .
د- قال تعالى على لسان هود ((أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ))
فتحس أن كلمة " أنلزمكموها " تصور جو الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق , وشد بعضها إلى بعض , كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون , ويشدون إليه وهم منه نافرون ! وهكذا يبدو لون من التناسق أعلى من البلاغة الظاهرية , وأرفع من الفصاحة اللفظية , اللتين يحسبهما بعض الباحثين في القرآن – قديما وحديثا – أعظم مزايا القرآن ! .
هـ- وتسمع كلمة : " يصطرخون " في الآية ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ . وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ )) فاطر
فيخيل إليك جرسها الغليظ , غلظ الصراخ المختلط المتجاوب من كل مكان , المنبعث من حناجر مكتظة بالأصوات الخشنة ؛ كما تلقي إليك ظل الإهمال لهذا الاصطراخ الذي لا يجد من يهتم به أو يلبيه . وتلمح من وراء ذلك كله صورة ذلك العذاب الغليظ الذي هم فيه يصطرخون .
و- فإذا سمعت قوله (( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ))الشعراء
" فكلمة " كبكبوا " يحدث جرسها صوت الحركة التي تتم بها .
ز- و تدبر قوله تعالى ((ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)) الحج
فلم يقل "و ليطوفوا" و إنما قال "و ليطّوّفوا" فالكلمة مشددة مثقلة بما يتناسب مع عمق الطواف الذى لا يكون مرة ولا مرتان ولا ثلاثة بل يتكرر سبع مرات متتالية!
حـ- و اسمع وقع كلمة ( اجْتُثَّتْ )في قوله:
((وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ))
تجد أن المقاطع الثلاثة للكلمة تصور المراحل الصوتية الثلاث لسقوط الشجرة المقتلعة:
أزيزانفصال الخشب عن الخشب مصور بمقطع"أججج"
احتكاك الاغصان والأوراق بالهواء وهي ساقطة مصور بمقطع :تثثث.
وارتطام الشجرة بالأرض الصلبة مصور بـ"ثت"


المثال العاشر
و من بلاغة القرأن أنه قد يستعمل المفردة أحياناً مبدلة نحو (مكة) (بكة) ، (اللاتى) (اللائى) ، (سارعوا) (سابقوا) و كل هذا مقصود فى كتاب الله، و من نماذج ذلك:-

بكّة و مكّة
فقد قال تعالى ((إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) آل عمران
وقال عز و جل ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا )) الفتح
فقال في آية آل عمران (بكّة) وقال في الفتح (مكّة) وسبب إيرادها بالباء في آل عمران أن الآية في سياق الحج (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) فجاء بالاسم (بكّة) من لفظ (البكّ) الدّال على الزحام لأنه في الحج يبكُّ الناس بعضهم بعضاً أي يزحم بعضهم بعضاً، وسُميت (بكّة) لأنهم يزدحمون فيها ..انظر "مفردات الراغب 57".
وليس السياق كذلك في آية الفتح بالاسم المشهور لها –(مكة)– فوضع كل لفظ في السياق الذي يقتضيه والله أعلم ...

اللائى و اللاتى
قال تعالى
((َمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ))
((الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ))
((وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ))
فى حين قال قال عز و جل
((وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ))
((َورَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ))
((وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ))
((قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ))
فلما استعمل فى الأيات الأولى كلمة (اللائى) و إستعمل فى سائر القرأن كلمة (اللاتى)
الجواب: أن ذلك مقصود، فكلمة اللائى لم تستعمل إلا فى حالة الفراق بطلاق أو ظهار، و كأن ذلك لثقل الهمزة فاستعملت للحالات الثقيلة النادرة كالطلاق و الظهار
و من الطريف أن بناء (اللائى) و جرسها يوجى بذلك فكأنها مشتقة من اللأى و هو الإبطاء و الإحتباس و الجهد و المشقة
و المظاهر أو المطلق محتبس عن زوجته و فى ذلك ما فيه من المشقة للطرفين،فانظر حسن مناسبة اللفظ و المعنى و دقة الإستعمال

سارعوا و سابقوا

قال تعالى ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)) آل عمران
و قال عز و جل ((سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)) الحديد
1- في الآية الأولى يقول الله تعالى : (وَسَارِعُوا) و في الآية الثانية يقول : (سَابِقُوا).
2- و في الآية الأولى قال : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ) و في الأية الثانية قال: ( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ).
3-و في الأية الأولى قال : ( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) و في الأية الثانية قال : (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ).
فما الفرق بين المسارعة و المسابقة ؟ و لماذا أدخل الله تعالى كاف التشبيه و إفراد السماء في الآية الثانية؟ و ما الفرق بين المتقين و المؤمنين ؟
الجواب:
- الكلام فى الأية الأولى عن المتقين، و فى الثانية عن المؤمنين، و المتقون فئة أضيق و أخص من المؤمنين
- فناسب أن يذكر فى الكلام عن المتقين (السماوات) ، و فى الكلام عن المؤمنين (السماء) لأن السماء أوسع من السماوات فلا تطلق كلمة كلمة سماوات إلا على السماوات السبع الطباق ، أما كلمة السماء فجاءت فى كتاب الله بمعانى أوسع كالعلو أو السحاب أو المطر أو الفضاء أو السقف أو السماوات المعروفة
فلما ضيق بذكر فئة المتقين ضيق بذكر (السماوات) و لما وسع بذكر المؤمنين عموماً وسع بذكر (السماء)
- لذلك أيضاً لما إستعمل (السموات) قال ( جنة عرضها السموات)، ولكن لما إستعمل (السماء) اتسعت اتساعا هائلا فجاء بأداة التشبيه (جنة عرضها كعرض السماء) لأن المشبه به عادة أبلغ من المشبه...
- كذلك قال (سارعوا) لما قال (عرضها السموات والأرض)، و قال (سابقوا) لما قال (كعرض السماء والأرض)
إذ أن كثرة الخلق المتجهين لمكان واحد تقتضي المسابقة فإن قلوا اقتضى ذلك المسارعة فقط وليس المسابقة
- ولما إتسع المكان اتسع الخلق ، فذكر السماء التي تشمل السموات وزيادة ، وذكر الذين آمنوا بالله ورسله ووهي تشمل المتقين وزيادة ، ثم زاد وقال (ذلك فضل الله ) لأن الفضل أوسع مما جاء في آل عمران بل الفضل واضح إذ جاءت عامة..

ريح و رياح
قد يتوهم متوهم أن كلمتى ريح و رياح لا فرق بينهما ظاهرياً ، إلأ أن القرأن العظيم لما إستعمل كل منهما جعل إستعماله مختلفاً
- فكلمة ريح في القرآن الكريم تستعمل للشّر
(( كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ )) أل عمران
((فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) فصلت
((إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِر)) القمر
(( و من يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ))الحج
((أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم)) الإسراء
- أما كلمة رياح فهي تستعمل في القرآن الكريم للخير
((... وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )) البقرة
((وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ )) الأعراف
((وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ)) الحجر
((أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) النمل
واستعملت كلمة ريح مع سليمان عليه السلام ، لكنها لم تُخصص لشيء فجاءت عامة قد تكون للخير أو لقهر عدوه لأن الله سخّرها له جنداً من جنده يتصرف بها كيف يشاء
فتأمل دقة توظيف المفردات فى كتاب الله ..

إذا و إن
تختص (إذا) بدخولها على المتيقن والكثير المتكرر بخلاف (إن) فإنها تدخل على المشكوك فيه والنادر، فكان إستعمال القرأن لكل منهما دقيق من ذلك:-
1- قال تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ))
فأتى بـ (إذا) في الوضوء لتكراره وكثرة أسبابه كالوضوء لصلاة الفرض, لصلاة السنة, ولقراءة القرآن, وللبث في المسجد, وللتبرك به, ولذكر الله, ولمس المصحف, وغيرها من الأسباب... فى حين أتى بـ (إن) في الجنابة لقلة وقوعها بالنسبة للحدث الأصغر
- و كذا فى أية التيمم ((وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً)) إستعمل (إن) لأن لجوء الإنسان للتيمم لا يكون إلا فى النادر القليل
2- قال تعالى ((وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)) أتى في جانب الحسنة (إذا) لأن نعم الله على عباده كثيرة و مقطوع بها: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا), وأتى بـ (إن) في جانب السيئة – أي المصيبة والبلوى – لأنها قليلة الوقوع ومشكوك فيها إذا ما قورنت بنعم الله.
3- قال تعالى ((فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ))
فقد جاءت الآية في جانب الحسنة بـ (إذا) الدالة على الكثرة والتحقيق تفيد كثرة تتابع الخيرات وتواردها على هؤلاء القوم (بني إسرائيل) وفي هذا تجسيد لما هم عليه من غفلة وجحود.. أما في جانب السيئة فلقد جاءت أداة الشرط (إن) الدالة على الشك والقلة.
4- قال تعالى ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ* وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ* وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ* وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ* وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ* وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ* وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ* وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ* وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ* وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ* وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ* وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ))
فكرر إستخدام كلمة (إذا) التي تفيد التحقق والتوقع واليقين لأن كل ما ذكر كائن لا محالة وحق لا ريب في وقوعه وحدوثه.
- بينما قال تعالى ((فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى)) فعبر بـ (إن) لأنها تفيد الشك والتقليل لأن الذكرى قل من ينتفع بها
كذا قوله ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) استخدم (إن) التي تفيد الشك والقلة أي ما ينبغي على المؤمنين أن يقتتلوا وإن حدث ذلك فهو قليل إستثنائى, و ليس الأصل
و كذا قوله ((اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) استعمل (إن) هنا لتفيد الشك في صدقهم أي أنهم كاذبون وغير صادقين

مطر و غيث
الكلمتان ظاهريا مترادفتان، و لكن إن دقننا النظر وجدنا كلمة غيث تعنى المطر المفيد لأنها من الغوث و هو الإنقاذ و النصرة ، فتفرد كتاب ربنا البليغ بهذه الكلمة للتعبير عن المطر الخير المفيد فقال تعالى
((وهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ))
((إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ))
((ُثمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ))
- أما لو إستعمل سبحانه كلمة مطر فقط فجعل ذلك مقترناً بالأذى أو السوء
((وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ))
((وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ))
((َلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ))
((وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى))

سجرت و فجرت
قال عز و جل ((وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ )) [التكوير : 6]
و قال سبحانه ((وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ)) [الإنفطار : 3]
فما سر التنوع فى اللفظ بيد أننا لا نكاد نعثر على إختلاف جوهرى بين دلالة الفعلين؟
يقول الدكتور عمر عتيق :جعل الله كل من اللفظين ملائماً للجو العام للسياق الذى ورد فيه على نحو بديع
*أما كلمة سجرت فبالعودة لدلالة مادة "سجر" نجد الأتى:
أ- تدل مادة "سجر على النار و الحرارة، و هذا يتلائم مع قوله تعالى ((و إذا الجحيم سعرت))، كذلك لا تخفى حرارة الشمس فى قوله (( و إذا الشمس كورت)) ، و الحرارة المنبعثة من انكدار النجوم بسقوطها ((و إذا النجوم إنكدرت))
ب- كذلك يقال سجرت الناقة: مدت حنينها، وانسجرت الإبل: أى تتابعت فى السير، و السجر:ضرب من سير الإبل، فلا يخفى ما فى ذلك اللفظ من تلائم مع قوله تعالى ((و إذا العشار عطلت)) فالعشار هى الإبل
جـ-كذلك يقال ساجور السبع أى الخشبة التى تجعل فى عنقه ، و يقال سجره: أى شده به، و هذا يناسب قوله تعالى (( و إذا الوحوش حشرت))
د- كذلك تدل مادة سجر على إئتلاف الطباع، فيقال سجير الرجل: أى خليله و صفيه،و هو ما يتفاعل مع قوله تعالى (( و إذا النفوس زوجت)) حيث يقترن الرجل الصالح بالصالحين فى الجنة، و الرجل الخبيث بالخبثاء فى الجحيم

*أما كلمة فجرت فجاءت فى سورة الإنفطار فى سياق التفرق ، إذ ناسب إنفجار البحار مع إنفطار السماء و إنشقاقها و بعثرة القبور و إنتثار النجوم
((إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ))
و بذلك ناسب ( سجرت) سياق التجميع، و ناسب (فجرت) سياق التفريق
* و لاحظ أيضاً إستعمل كلمة(إنكدرت) مع النجوم، و كلمة ( إنتثرت) مع الكواكب مع أن كلاهما يعنى السقوط، و ذلك لأن الإنكدار :التساقط مع ذهاب الضوء و النجوم مضيئة ، أما الكواكب فغير مضيئة فاستعمل معها الإنتثار فقط
و هكذا يصبح النص القرأنى خلية من الألفاظ تتجاذب و تتفاعل لتبنى جسدأ دلالياً منظماً و متكاملاً...


المثال الحادى عشر
وقد يحذف فى التعبير القرأنى من الكلمة فترد كاملة أو مقتطعة عل نحو (تتنزل) (تنزل) ، (تتوفاهم) (توفاهم)
و هذا لا يقع أبداً إعتباطاً و إنما لأغراض بلاغية، ومن هذه الأغراض أن يحذف من الفعل للدلالة على أن الحدث أقل مما لم يحذف منه، أو أن زمنه أقصر و نحو ذلك، فيقتطع من الفعل للدلالة على الإقتطاع فى الحدث أو يحذف منه فى مقام الإيجاز و الإختصار بخلاف مقام الإطالة و التفصيل، و لنرى عدة نماذج من ذلك لنوقن أن ذلك ليس مصادفة بل قصداً تكرر مراراً فى كتاب الله البليغ:

اسطاعوا و استطاعوا
قال تعالى (( فَمَااسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا))
و الكلام هنا عن جدار يأجوج و مأجوج، فلما تكلم عن محاولتهم أن يظهروه أى يتسلقوه إستعمل "ما اسطاعو" و لما تكلم عن محاولتهم أن ينقبوه أو ينقضوه بالحفر إستعمل كلمة "ما استطاعوا"
و ذلك لأن التسلق أيسر من إحداث النقب، كما أنه يحتاج إلى خفة و رشاقة فجاء اللفظ مخففاً ملائماً لحال المتسلق بالحذف
أما " مَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا " أثبت التاء لأن ثقب الجدار فعل شاق و طويل و يحتاج معدات ثقيلة ..إلخ،فلم يحذف من الفعل بل أعطاه أطول صيغة

تنزّل و تتنزّل
قال تعالى ((تنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ)) القدر
و قال عز و جل ((ِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)) فصلت
الكلام هنا عن نزول الملائكة على المؤمنين فقال فى الأولى "تنزّل" و فى الثانية "تتنزل"
و ذلك لأن نزول الملائكة المذكور فى سورة القدر إنما هو فى ليلة واحدة فى العام و هى ليلة القدر، فاقتطع من الفعل بقدر الإقتطاع فى الحدث
أما النزول فى أية فصلت، فهو يحدث على مدار العام فى كل وقت، ففى كل لحظة يموت مؤمن مستقيم فتتنزل الملائكة تبشره بالجنة،فأعطى الفعل كل صيغته و لم يحذف منه شيئاً

توفاهم و تتوفاهم
قال تعالى ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ)) النساء
و قال عز و جل ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) النحل
فما فى الأولى"توفاهم" و فى الثانية"تتوفاهم"
و ذلك أن المتوفين فى سورة النساء هم جزء من الذين هم فى سورة النحل، فالذين فى سورة النحل هم الذين ظلموا أنفسهم من الكافرين على وجه العموم، أما الذين فى النساء فهم الضعفاء الذين اتبعوهم لضعف الإيمان فى قلوبهم إن وجد، فلما كان هؤلاء أقل إقتطع من الفعل إشارة إلى الإقتطاع من الحدث

تبدّل و تتبدلوا
قال تعالى ((َوآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ))النساء
و قال عز و جل ((لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ)) الأحزاب
فقال فى الأية الأولى"تتبدلوا" و فى الثانية "تبدل"
و ذلك لأن أية الأحزاب حكمها مقصور على رسول الله صلى الله عليه و سلم ،أما أية النساء فهو حكم عام للمسلمين فى كل زمان و مكان،فجاء بالصيغة القصيرة للحدث القصير المقصور، و جاء بالصيغة الطويلة للحدث الطويل المعمم

تولوا و تتولوا
قال تعالى ((َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ)) الأنفال
و قال عز و جل ((وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ))هود
فقال فى الأولى"تولوا" و فى الثانية "تتولوا"
- و ذلك أن أية الأنفال خطاب للمؤمنين، و أية هود خطاب للكافرين،و معلوم أن تولى المؤمنين أقل من تولى الكافرين، فالأصل فى المؤمن الطاعة لا التولى، فلما كان وقوع التولى من المؤمنين أقل حذف من الفعل للدلالة على ذلك
- كذلك جاء الفعل تام فى قوله تعالى ((قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً))
و ذلك أن الكلام هنا عن الأعراب الذين تخلفوا نفاقاً، و الأعراب فيهم الجفاء و التمرد و عدم تمكن الإيمان من قلوبهم لذا قال تعالى فيهم:
((َجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))
((الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ))
((َومِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ))
((قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ))
فناسب ذلك أن يتم الفعل فى حقهم لكثرة وقوعه منهم
- كذلك أتم الفعل فى قوله تعالى ((َإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) إلى قوله ((وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ))
و ذلك أن التولى المقصود هنا هو التولى عن الإيمان و التقوى، فجاء بالتولى التام و لم يحذف من الفعل فتنبه...

تسطع و تستطع
قال تعالى ((هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا))
و قال عز و جل ((ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا))
العبارتان حكاية عن كلام الخضر لموسى فقال فى الأية الأولى "تستطع" وفى الثانية"تسطع"
و ذلك أن المقام فى الأية الأولى مقام شرح و إيضاح و تبيين، و كذلك مراعاة الحالة النفسية لموسى عليه السلام من ثقل ما رأه فسبب له الهم و الحيرة، فناسب الشرح و التبين و ثقل الهم أن ياتى بالفعل تاماً ثقيلا "تستطع"
أما المقام فى الأية الثانية فكان موسى قد قد خُفف عنه بمعرفة حكمة أفعال خضر، كما أنه كان مقام مفارقة فلم يتكلم الخضر بعدها و لو بكلمة، فناسب ذلك المقام الحذف و التخفيف

أخرتنى و أخرتن
قال تعالى على لسان المتوفى ((رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ))
و قال سبحانه على لسان إبليس ((لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً))
فقال فى الأولى "أخرتنى" و فى الثانية"أخرتن"
و ذلك لأن طلب إبليس لا يريده لنفسه ولا يعود عليه بنفع ولا يدفع عنه ضر و إنما يريده ليضل ذرية أدم، بعكس حال المتوفى فإن طلبه يريده لنفسه و لتحقيق مصلحته و دفع الضر عن ذاته
فلما كان طلب المتوفى طلباً حقيقياً و يرجوا منه أكبر نفع لنفسه أظهر الضمير، ولما كان طلب إبليس أشبه بشرط دخل عليه القسم ولا يحقق به مصلحة لنفسه حذف منه الضمير

إتبعنى و إتبعن
قال تعالى((فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ))
و قال عز و جل ((قلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي))
فقال فى الأولى"إتبعن" و قال فى الثانية"إتبعنى"
و ذلك أن الأية الأولى فقط فى الدخول فى الإسلام و هو عمل يعود بالنفع على فاعله فقط، أما الأية الثانية ففى الدعوة إلى الله و هى خصوصية زائدة بعد الإسلام و عمل يعود بالنفع على فاعله و على غيره، و يتطلب علماً و بصيرة...

تسئلنى و تسئلن
قال تعالى ((قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ))
و قال عز و جل ((قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً))
فقال فى الأية الأولى"تسألن" و قال فى الثانية"تسألنى"
و ذلك أن الأية الاولى فى سؤال نوح لربه قائلا ((َقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ))
فكان سؤالاً واحداً لم يسأل نوح غيره، و سأله على خوف و إستحياء، و متأولاً وعد ربه، و مع ذلك حظر عليه سبحانه أن يسأل ،فناسب ذلك أن يحذف الياء إشارة إلى ندرة الحدث، و الحزم فى النهى عن أصل السؤال
أما فى أية الكهف،فإن الخضر كان يتوقع السؤال من موسى، و تعددت الأسئلة من موسى عليه السلام،و لم يحظر عليه الخضر معرفة حكمة الفعل و إنما نهاه عن المبادرة بالسؤال إلى أن يفسر له، فناسب ذلك أن يتم الضمير ولا يحذفه دلالة على توقع السؤال و توقع تكراره ليتنبه موسى عليه السلام
أغلب مفردات هذا البحث نقلاً عن كتابات دكتور فاضل السامرائى حفظه الله، و الأستاذ سيد قطب رحمه الله





البلاغة فى أية :


بعد أن تناولنا أمثلة على بلاغة القران فى إستعمال الكلمة بل و الحرف، فلننظر فى أمثلة على بلاغة الجملة أو الأية من أيات الكتاب الكريم

المثال الأول
تدبر قوله تعالى ((َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ))
هذه أية واحدة فى كتاب الله إحتوت على:- نداء و خطاب و وصف و أمر و تحليل و إستثنائين و و تقييد و تفويض
نداء و خطاب: َيا أَيُّهَا
وصف: الَّذِينَ آمَنُواْ
أمر: أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ
تحليل: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ
إستثناء أول: إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ
إستثناء ثان: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ
تقييد: وَأَنتُمْ حُرُمٌ
تفويض: إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
و تأمل قوله تعالى ( أوفوا بالعقود) تجده من جوامع الكلم، إذ تضمن كل العقود ما كان منها مع الله من العهود و أمانة الدين، و ما كان مع الناس من عقود معاملات أو عهود أخلاقية و أمانات... سبحان الله

المثال الثانى
تدبر قوله تعالى ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ))
فهذه أية واحدة فى كتاب الله إختصر سبحانه فيها قصة موسى عليه السلام ، و على قصرها قسمت على نحو بديع إلى أمرين و نهيين و بشارتين!
الأمران: أرضعيه، ألقيه فى اليم
النهيان: لا تخافى، لا تحزنى
البشارتان: إنا رادوه إليك، جاعلوه من المرسلين

المثال الثالث
تدبر قوله تعالى ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ))
أية دارت حول معنين تبرزهما شعيرة الحج:
ترك المنكرات(فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ)
و فعل الخيرات(وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ)
و بقيتها دار حول كلمتين " الزاد و التقوى" و كل منهما ورد كمصدر و ورد كفعل ( الزاد،تزودوا/التقوى، اتقون)
و ركب بعضهم على بعض تركيباً عجيباً فخرج المعنى تاماً جميلاً جمع به بين زاد الأبدان، و زاد القلوب بما تضمنه من إستعارة بليغة

المثال الرابع
تدبر قوله تعالى ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ..))
هذه الأية أعجزت أبلغ ما كانت العرب تقوله لتحقيق معناها، فكانت مقولة العرب الشهيرة(القتل أنفى للقتل)
فجاء هذه الأية المعجزة لتظهر الفرق بين كلام الخالق و كلام المخلوق و هذا من وجوه عدة منها:-
1- مقولة العرب ورد فيها القتل تصريحاً بينما الأية لم تقل ( و لكم فى القتل حياة)
لأن كلمة القصاص أشمل و أعم فاحترز بها من القتل والجرح معا لشمول القصاص لهما ، فالحياة أيضا في قصاص الأعضاء بخلاف قول العرب
2- الطباع أميل إلى لفظ القصاص، من لفظ القتل، لإشعار الأول بالمساواة و العدالة، دون الثاني.
3- اطّراد الآية، و عدم اطّراد مقولتهم، إذ القصاص مطلقا سبب للحياة، بخلاف القتل، فإنه قد يكون أنفى للقتل، كالذي على وجه القصاص، و قد يكون أدعى له، كالذي على وجه الظلم.
4- الأية صرحت بالهدف من تشريع القصاص و هو حفظ ( الحياة) أما العبارة لم تصرح و لكن تضمنت، و التصريح أقوى من التلميح، كما أن نفي القتل لا يستلزم الحياة ، والآية تنص على ثبوتها فهي الغرض المطلوب منه
5- إن تنكير " حياة " يفيد تعظيما ، فيدل على أن في القصاص حياة متطاولة ، وأيضاً لأنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، و بالمقتول غير قاتله، فتقع فتنة عظيمة، فكان في حكم القصاص حياة أيُّ حياة
6- (القتل أنفى للقتل) فيها تكرار و لكن (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) لا تكرار فيها و هذا أبلغ
7- في الآية طباق ، لأن القصاص مشعر بضد الحياة بخلاف المثل .
8- إشتملت الآية على فن بديع حيث جعل أحد الضدين وهو الموت والفناء محلاً ومكانا للضد الآخر وهو للحياة ، وذلك بإدخال كلمة " في " .
9- إستغناء الآية عن تقدير محذوف بخلاف قولهم ففيه حذف التقدير : القتل أنفى للقتل من تركه
10- سلامة الآية من لفظ القتل المشعر بالوحشة ، بخلاف لفظ الحياة ؛ فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل .
11- الآية مبنية على الإثبات ، والمثل على النفي والإثبات أشرف .
12- إن المثل يفهم بعد فهم أن القصاص هو الحياة ، بينما الآية مفهومة من أول وهلة .
13- سلامة الآية من تكرار قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة ، وبعدها عن غنة النون، كما أن في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت ، بخلاف مثل العرب، كما أن فى المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد ، والآية سالمة منه .

المثال الخامس
تدبر قوله تعالى ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ))
فهذه الأية العظيمة فيها أوجه من بدائع البيان:-
- إشتلمت على وصفين و نهيين و بشارتين
الوصفان: قالوا ربنا الله، إستقاموا
فجمع بهاتين الصفتين بين الإخلاص و الإتباع، و هذا هو الدين كله، صلاح القلب بالتوحيد، و صلاح العمل بالإستقامة على شرع الله الحنيف يإمتثال أوامره و إجتناب نواهيه
النهيان: لا تخافوا، لا تحزنوا
ففند بهما كل ما يؤذى المؤمن ، إذا الحزن يكون على ما فات، و الخوف يكون مما هو أت...
البشارتان: تتنزل عليهم الملائكة، أبشرو بالجنة
فبشر المؤمن بتنزل ملائكة الرحمة وقت مغادرة الدار الدنيا، و بدخول جنة الخلد حين الإنتقال للدار الاخرة..فيفرح وقت إدباره، و يفرح وقت إقباله
فانظر إلى كم المعانى المستوفاة بأوجز لفظ!

المثال السادس
تدبر قوله تعالى ((َو قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))
هذه الأية البليغة تصور لنا فى إبجاز نهاية طوفان نوح عليه السلام، و قد إشتملت على الألوان البديعية الأتية:-
*تتكون هذه الأية من ثلاثة أخبار و ثلاثة أوامر
الثلاثة أخبار: غيض الماء/قضى الأمر/إستودت على الجودى
الثلاثة اوامر: ابلعى ماءك/أقلعى/ بعداً للقوم الظالمين

*و قد عدد فيها العلامة اللغوى إبن أبى الاصبع عدة أصناف من البديع:-
1- المناسبة اللفظية التامة : بين (أقلعى) و (ابلعى)، فقد جمع بين اللفظين و هما هنا موزونان ممقفيان بزنة و قافية واحدة
2- المطابقة: بين (السماء) و (الأرض) فى قوله (( يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي ))
3- المجاز المرسل: فى قوله (يا سماء) و الحقيقة: يا مطر السماء و العلاقة المجاورة
4- الإشارة: و هى أن يدل اللفظ القليل على المعنى الكثير بحيث يكون اللفظ لمحة دالة، و ذلك فى قوله ( و غيض الماء) لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء و تبلع الأرض ما يخرج منها،فدل هذا التركيب القليل(و غيض الماء) تحقق الأوامر السابقة كلها
5- الإرداف: و هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له، ولا بلفظ الإشارة الدال على المعانى الكثيرة، و إنما بلفظ ردف المعنى الخاص و تابعه قريب من لفظ المعنى الخاص قرب الردف من الرديف
و هذا فى قوله (و قضى الأمر) و حقيقة ذلك: و هلك من قضى الله بهلاكه، و نجا من قضى بنجاته
6- التمثيل: و هو بإختصار إيثار لفظ مكان أخر ليس أحدهما مجازاً
و هذا فى قوله (و استودت على الجودى) فإن حقيقة ذلك: و جلست على هذا المكان، فعدل عما فيه زيغ إلى ما لا زيغ فيه ولا حركة ولا إضطراب، فاستعمل (استوت) أى جلست جلوساً مستقراً تسكن به قلوب أهل السفينة و تأمن،ولا يحصل هذا بقولنا (جلست)
7- التعليل: لأن (غيض الماء) علة الإستواء
8- صحة التقسيم: حيث استوعب سبحانه حال الماء حين نقصه
9- الإحتراس: حيث إحترس من توهم متوهم أن الماء قد عم من لا يستحق الهلاك، و تحقق ذلك بقوله ((وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))
10- حسن النسق: فى عطف القضايا بعضها على بعض حسبما وقعت الأول فالأول
11- إئتلاف اللفظ مع المعنى: لكون كل لفظة لا يصلح غيرها مكانها
12- التسهيم: لأن من أول الأية إلى قوله (أقلعى) يقتضى أخرها، و التسهيم أن يكون فى أول الكلام ما يدل على أخره لأنها تقتضيه
13- التهذيب: لأن مفردات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن ، كل لفظة سهلة مخارج الحروف و عليها رونق الفصاحة
14- حسن البيان: لأن السامع لا يتوقف فى فهم معنى هذا الكلام لوضوحه و صفاؤه
15- التمكين: لأن الفاصلة مستقرة فى قرارها،مطمئنة فى مكانها غير قلقة ولا مستكرهة
16- الإنسجام: و هو تحدر الكلام بسهولة و عذوبة سبك
17- الإيجاز: لأن الله اقتص قصة السفينة بلفظها مستوعبة فى أخصر عبارة بألفظ غير مطولة
ففيه إيجاز الحذف... انظر كيف بنى الفعل للمجهول فى عدة مواضع (قيل يا أرض) (غيض) (قضى الأمر) (قيل بعداً)، كما طول ذكر السفينة و أضمر فاعل الفعل فى قوله (استوت) ،و حذف معمول (أقلعى)
و فيه إيجاز القصر... لأن بعض ألفاظها حوى الكثير من المعانى كقوله (غيض الماء) (قضى الأمر)

المثال السابع* تدبر قوله تعالى ((قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ))
جاءت هذه الأية بعد قوله تعالى ((وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)) و قبل قوله عز و جل ((قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ))
فهى أية تتجلى فيها روعة إئتلاف اللفظ مع المعنى ،و المعانى التى تعكسها الألفاظ هنا هى معانى الحزن و الوحشة و الغربة التى كان يعيشها يعقوب حتى و هو وسط بنيه بعد فقدان أعزهم إلى قلبه يوسف عليه السلام، و فقدان الثقة بهم بعدما ضيعوه، و فقدان من كان يسليه و يشعر بلوعة قلبه و هو إبنه الأخر بنيامين، و فقدان البصر و العيش فى وحشة و ظلام العمى بسبب الحزن، و فقدان الإتصال مع أبناءه بعدما أعرض عنهم و مضى يخلو بربه شاكياً بثه و حزنه إليه وحده سبحانه و تعالى
فهى إذا غربة بعدها غربة بعدها غربة، فأتى سبحانه بأغرب الألفاظ تباعاً لتعكس تلك الغربات المتطابقة!
- فأتى سبحانه بأغرب ألفاظ القسم (تالله) إذ المشهور القسم بالباء و الواو و هما أكثر دوراناً على الألسنة
- و لما أتى بها أتى بأغرب صيغ الأفعال التى ترفع الأسماء و تنصب الأخبار (تفتأ)، لأن كان و بقية أخوتها أعرف عند الكافة من (تفتأ) و أكثر إستعمالاً
- و أتى بـ(حرضاً) التى هى أغرب الألفاظ الدالة على المرض الشديد
* و من جهة أخرى أنظر إلى روعة إستعمال كلمة تفتأ دون غيرها، إذ تأتى لغة بثلاثة معانى: بمعنى سكّن وبمعنى نسي وبمعنى أطفأ النار، فدلت على نار الحرقة لا تنطفيء في قلب يعقوب ، و على عدم نسيانه ابنه أبداً رغم مرور الزمن ، و على أنه لا يسكن ولا يكف عن ذكره ،تلك فجمع بهذه الكلمة تلك المعاني الثلاثة التى تظهر حالة يعقوب أيما إظهار، وإضافة إلى ذلك حذف حرف النفي الذي لا يدل على التوكيد فالكلام في الآية غير متيقن.
* و كذا تدبر قوله تعالى: (أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى)
لفظ (ضيزى) من مستوحش الكلم و غريبه ، فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها، وكانت الجملة كلها كأنها تصور في هيئة النطق بها، الإنكار في الأولى والتهكم في الأخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة وخاصة في اللفظة الغريبة الذي تمكنت في موضعها من الفصل
و للإستزادة راجع إعجاز القرأن للرافعى رحمه الله


المثال الثامن
تدبر قوله تعالى ((وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ))
هذه الجملة جزء من آية، وهى من عجائب القرآن لما جمعته من معانى و عواطف و حركات و خواطر بأوفى صفة، و بيان ذلك:-
أ- ( استبقا ) الإستباق إفتعال من السبق، والإفتعال يوحي بالتكلف والتحمل ... فكأن الفاعلين يتسابقان بكل ما أوتيا من طاقة ...و ما هذا التكلف إلا تعبير جسدي عن الكامن النفسي :
فالمرأة واقعة تحت صارخ الشهوة.يدفعها بأقصى ما تستطيع.
والرجل واقع تحت إمرة التقوى يدفعه كذلك بأقصى ما يطيق.
فانظر إلى هذه التاء - وهي مجرد حرف- كيف أفصحت عن المكنونات.!
ب- ( استبقا الباب) حذف حرف الجر"إلى" يكشف عن محتوى نفسي عميق.يمكن رصده بمقارنة التعبيرين:
1/ استبقا إلى الباب.
2/ استبقا الباب.
فكلمة "إلى" فى الجملة الأولى حملت معلومة عن المسافة والإتجاه، ويكون معها (الباب) نهاية المسافة التي يراد قطعها.
لكن بحذف هذه المعلومة يصبح الباب هو الهدف، فيكون إيقاع الفعل عليه هو نفسه لا إيقاعه في مسافة تفضي إليه!
بعبارة أخرى نقول :بأي شيء كان وعي الفاعلين مشغولا؟ بالباب أم بالمسافة الفاصلة؟
لا ريب أن الباب هو المقصود، والاهتمام أثناء السباق منصرف إلى الفتح أو الاغلاق وليس إلى وقع الخطوات وامتداد المسافة....فلتحذف (إلى ) إذن ، ليبرز التعبير ما يوافق المقام: حركة الجسم وهي نحو السباق وحركة الذهن وهي نحو الباب.
لله در هذا القرآن.
جـ- (استبقا الباب ) ألف الإثنين مثبتة لفظاً لا نطقاً ، بسبب إلتقاء الساكنين،فيقرأ الفعل كأنه مفرد.
هذا الحذف له إيحاء دلالي يكشف عن سرعة الحدث:فلا وقت للمد في التعبير كما لا وقت للإبطاء في المعبر عنه.
د- ( استبقا الباب) فعل مشترك بين الفاعلين، ولكن شتان بين القصدين.، فاللفظ يصف المشهد خارجيا جسمين مندفعين في الفضاء في اتجاه واحد، لكن داخليا نلمس حركتين متعاكستين:.النزوع نحو الخروج والنزوع إلى المنع من الخروج.
هـ- (سيدها لدى الباب ) تكررت كلمة( الباب) مرتين مع أن الآية مبنية على الإيجاز.....وما ذاك إلا لأهمية" الباب "في المشهد وتعدد وظائفه بحسب الشخصيات.....
فالباب في سياق الاستباق ملحوظ باعتباره مخرجا.
أما الباب في سياق ذكر السيد فملحوظ باعتباره مدخلا.
فكان العبارة نبهت على أن الباب كما يستعمل للخروج يستعمل أيضا للدخول .لكن يبدو أن هذا المعنى الثاني كان غائبا عن الوعي حتى وقعت المفاجأة!
و- (سيدها) لم يقل "سيدهما" لأن قوة المشهد ليس في اعتبار العزيز مالكا ، ولكن في اعتباره زوجاً وبعلاً لإظهار خيانة المرأة و تأزيم الوضع برسم معالم الفضيحة....فلم يناسب إلا "سيدها" فتأمل.
ز- (وقدت قميصه من دبر) وصف لحركة خارجية واحدة....لكن كم تختزل من معان وأحداث.
-الرجل أقوى وأسرع من المرأة.
-المرأة تريد أن تستبقي الرجل فتمسك بكل ما تستطيع.
-المشهد يكاد يرى بالبصر:المرأة تمسك بأعلى القميص،يقع تعاكس لقوتين،القوة المندفعة والقوة الجاذبة فينتج عنه شق القميص ويمتد الشق من أعلى إلى أسفل.
-القميص المقدود سيكون مصدر استدلال فيما بعد. فتأمل
[نقلاً عن الشيخ أبى عبدالمعز حفظه الله]


المثال التاسع
تدبر قوله تعالى (( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))
*تبين الآية حالة عجيبة جداً مبنية على تعاقب ثلاث حركات:
{تفرون/ ملاقيكم/ تردون}
أ- وللنفس أن تتمثل قوة التعبير البياني الذي يهز المهجة في قوله "ملاقيكم "
إذ كانت هذه الكلمة أبلغ من لو قال : إن الموت الذي تفرون منه فإنه مدرككم.
لأن الفارين من الموت لا يتصورون الموت إلا خلفهم ويتوقعون في أي لحظة أن يدركهم... ومن ثم
لا يبقى مجال لعنصر المباغتة......
فليس أبلغ من هذه المفارقة: الفرار من الموت يؤول إلى الفرار إليه!!!
ب- الكفار حاولوا تغييب الموت ونبذه بعيداً عن دائرة الوعي....لذا أبرزته الآية مؤكدا بالنوعين من التوكيد المعروفين في لغة العرب:
التوكيد المعنوى /.التوكيد اللفظي.
فمن الأول التوكيد بـ"إن" ( إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ)
ومن الثاني إعادة التوكيد بتكرار "إن" ( فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)
مع ملحظ توكيد الموت صريحا( إِنَّ الْمَوْت)َ ومضمراً (فَإِنَّهُ )
جـ- "تفرون / ملاقيكم"
الفرار من الموت جاء على صيغة فعل المضارع ليوحي بديمومة الحدث وتجدده............وعورض هذا بمجيء لقاء الموت على صيغة الاسم لأن اللقاء يقع مرة واحدة ولا يتجدد شيئا بعد شيء كحال الفرار..وثبوت الوصفية للموت يوحي بكون ملاقاة الكفار هي ماهيته أو جزء منها.
[كتبه الشيخ أبو عبدالمعز]


المثال العاشر

تدبر قوله تعالى ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ))
هي آية واحدة، لكننا لو تدبرنا معناها لوجدنا أنفسنا سائحين في ملكوت الله، طائفين على مختلف العلوم. و بيان ذلك:-

(1) الدلالة على رب العالمين:
أ- دلت الآية الكريمة على رب العالمين بالدليلين المعروفين
"دليل الاختراع/ ودليل العناية" كما سماهما ابن رشد...
(فخلق الأرض وجعلها) من الدليل الأول،(وتسخيرها للإنسان وتوفير ما يلائم طبعه من رزق وأكل )من الدليل الثاني.
ب- نبهت الآية في ابتدائها وفي انتهائها على اسمين جليلين للرحمن:الأول والآخر.
فكل شيء ابتداؤه من الله( جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولا)
وكل شيء منتهاه إلى الله (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)
جـ - جمعت الآية بين فعلي الربوبية:الخلق والأمر (( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ))
الخلق: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا)
الأمر: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ)

(2) الدلالة على العلم الطبيعي:
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً)
أ- قال العلماء إن الأرض في مراحلها التكوينية الأولى لم تكن صالحة للحياة ثم تشكل الغلاف الجوي بعد ذلك واستقرت القارات وظهرت النباتات فأصبحت صالحة مسكنا للبشر....
وقد جاء في الآية فعل "جعل"الذي يفيد التحول والتصيير والنقل من حالة إلى أخرى..... فجعل الأرض ذلولاً مفهومه أنها كانت من قبل في وضعية مغايرة.
ب- أما وصف الأرض ب "ذلول" فيشهد على إعجاز القرأن، إذ كلمة ذلول تستعمل فى الدواب التى يمتطيها الإنسان ((وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ))
و المتأمل في حال الأرض سيجد هذا التماثل البليغ بين الأرض والمطية: فالأرض هي مطيتنا الكونية ونحن مستقرون على ظهرها بينما هي تقطع ملايين الأميال في الفضاء بسرعة مهولة.....فلا تشعرنا بالحركة فضلا عن أن تلقينا بعيدا عنها!

(3) الدلالة على علم العمران:
(فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)
أمر عام لبني آدم جاء بعد جعل الأرض ذلولاً، فالمشي في مناكبها هو الحكمة من جعلها على ذلك الوصف...
ويتضح من الآية الوضع البشري في التقدير الرباني: فهو مخلوق للسعي والحركة والسفر والرحلة والبحث والتنقيب.....
((هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا))

(4) الدلالة على علم الأخلاق والسلوك:
(وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)
جاور البيان المعجز بين الأكل والتذكير:كل من رزق الله، ولكن لا تنس الموت والبعث والحساب!!
فكأن عبارة (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) جاءت لكبح الإسترسال في الأكل والانغماس في الشهوات ... فيستعين الإنسان بهذه الشهوات نفسها للتقوى للعمل ليوم النشور

(5) الدلالة على علم التاريخ:
لخصت الآية تاريخ الإنسان في الوجود:
-فذكرت النشأة الأولى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا)
والنشأة الثانية (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)
وذكرت مرحلة المعاش (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِه)
ومرحلة المعاد (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)
وذكرت التكليف والحساب.
ثم ذكرت إجمالا الأحوال الثلاث للإنسان مع الأرض:
-يكون فوقها: مستفاد من قوله (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)
-يدفن فيها: (مستفاد من دلالة الاقتضاء )
-يبعث منها:مستفاد من قوله (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)
فما أعظمها من عجائب
[كتبه الشيخ أبو عبدالمعز]

المثال الحادى عشر
آية الكرسي هي سيّدة آي القرآن الكريم، و هى أية عقائدية لا أمر فيها ولا نهى، و فيها نكات بيانية منها:-
أولاً:لما كانت تتكلم عن الله سبحانه تجلت فيها الطريقة الربانية فى ترسيخ الإعتقاد، بالنفى و الإثبات، فلا تنفى شىء إلا و تثبت أخر، فأنظر كم مرت تكررت فيها أدوات النفى و الإستثناء ، تجدها فى الأية من أولها إلى أخرها، و كلما نفت شىء تثبت غيره أو تستثنيه، فهذا هو المنهج الربانى فى التعريف به تبارك و تعالى
((اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ))
ثانياً: قامت الأية على الثنائية، فتجدها تذكر من كل الأشياء اثنين اثنين، بدأها بصفتين من صفات الله تعالى (الحي القيوم) ، وذكر اثنين من النوم(سنة ونوم) ، وكرّر (لا) مرتين (لا تأخذه سنة ولا نوم)، وذكر اثنين في الملكية(السموات والأرض)، وكرر (ما) مرتين ، وذكر اثنين من علمه في (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)، وذكر اثنين مما وسعه الكرسي (وسع كرسيه السموات والأرض) ، وختم الآية باثنين من صفاته (العليّ العظيم).
وقد ورد إسمين من أسماء الله الحسنى مرتين في القرآن: في سورة البقرة (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) ومرة في سورة (آل عمران) في الأية الثانية (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) (لاحظ الرقم 2). والعلي العظيم وردت في القرآن مرتين في القرآن أيضاً مرة في سورة البقرة ومرة (له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم) في سورة الشورى في الآية الرابعة (أربع أسماء في الآية الرابعة)
ثالثاً: تمتعت الأية بحسن التقسيم والإستعمال اللغوى الدقيق و البليغ و بيان ذلك:-
- أول ما بدأت به لفظ الجلالة (الله) فيالها من بداية، ونلاحظ أن كل جملة في هذه الآية تصح أن تكون خبراً للمبتدأ (الله) لآن كل جملة فيها ضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى
- ثانى ما فيها الركن الأعظم شهادة الحق ( إلا إله إلا هو) فنفت الأولوهية عن كل ما دون الله و أثبتتها لله سبحانه وحده، فهذا توحيد الألوهية
- (الحى القيوم) كلاهما معرف بالألف و اللام دلالة على الكمال والقصر
الحى: فحياته سبحانه كاملة وكل ما عداه حياته قاصرة بل لا حيّ سواه على الحقيقة لآن من سواه يجوز عليه الموت و يستمد حياته من الحى سبحانه
القيّوم: هي صيغة المبالغة من القيام أى القائم بذاته المقيم لغيره ، فيدبر أمر خلقه في إنشائهم ورزقهم و حياتهم و موتهم، فلا قيّوم سواه حصراً، فكان فى هذه الأية توحيد الربوبية
- (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) كما علمنا فإن الأية تقوم على النفى و الأثبات ، فلما نفت الألوهية عن غير الله أثبتتها لله ، و لما أثبتت لله تمام الحياة و القيومية نفت عنه سبحانه السنة و النوم
والسنة هي النعاس الذي يتقدم النوم ولهذا جاءت في ترتيب الآية قبل النوم وهذا ما يعرف بتقديم السبق، فنفت النوم و نفت حتى مقدماته
ولم يقل سبحانه لا (تأخذه سنة ونوم) أو (سنة أو نوم) ، لأن في قوله "سنة ولا نوم" ينفيهما سواءً اجتمعا أو افترقا لكن لو قال سبحانه "سنة ونوم" فإنه ينفي الجمع ولا ينفي الإفراد فقد تأخذه سنة دون النوم أو يأخذه النوم دون السنة.
- (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) (ما) أشمل من (من) لأن الأولى تجمع العاقل وغير العاقل و الثانية تخص العقلاء
و قدّم الجار والمجرور على المبتدأ (له ما في السموات) إفادة القصر أن ذلك له حصراً لا شريك له في الملك فكانت هذه الجملة تقرير لواحدانية المِلك لله
وجاء ترتيب (له ما في السموات وما في الأرض) بعد (الحيّ القيّوم) ليدلّ على أنه قيوم على مِلكه الذي لا يشاركه فيه أحد غيره وهناك فرق بين من يقوم على ملكه ومن يقوم على ملك غيره فهذا الأخير قد يغفل عن ملك غيره أما الذي يقوم على ملكه لا يغفل ولا ينام ولا تأخذه سنة ولا نوم سبحانه
- (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) جاءت بعد إثبات المِلكية فأثبتت المُلك بجانب المِلك لله ، فله كل الملكوت و الكبرياء سبحانه ، ولا يتكلم أحد ولا يتقدم عنده إلا بإذنه
وكذا دلت على ملكه وحكمه في الدنيا والآخرة معاً ، لأنه لمّا قال (له ما في السموات وما في الأرض) يشمل ما في الدنيا وفي قوله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) هذا في الآخرة فدلّ هذا على ملكوته في الدنيا والآخرة
و هكذا تقرر توحيد الملك بعد تقرير توحيد الألوهية و توحيد الربوبية ، فالله تعالى هو رب الناس و ملك الناس و إله الناس
و قوله (من ذا) أخرجه مخرج الإستفهام الإنكاري لأنه أقوى من النفي ، و قد إكتسب معنيين: قوة الإستفهام والإشارة، ولا يوجد تعبير آخر أقوى من (من ذا) لكسب المعنيين قوة الإستفهام والإشارة معاً بمعنى (من الذي يشفع ومن هذا الذي يشفع).
- (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) إنتقل للكلام عن علم الله تعالى و عن كرسيه العظيم الذى هو موضع قدميه جل و علا ، فكان ذلك من توحيد الأسماء و الصفات بعد توحيد الألوهية و توحيد الربوبية و توحيد الملك
و الجملة أثبتت تمام العلم لله تعالى بأمورهم الماضية والمستقبلية، الظاهرة و الخفية، و من ذلك علمه بأحوال الشافع و هل يستحق أن يَشفع و المشفوع له وهل يستحق يُشفع فيه ، فناسب موضعها بعد ذكر الشفاعة
- (وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) على نفس منهج النفى و الإثبات، لما أثبت سبحانه لنفسه الإحاطة بالناس علماً نفى عن غيره أن يحيط بشىء من علمه سبحانه إلا ما شاء
و إستعمل (ما) و هي تحتمل معنيين في اللغة هنا تحتمل أن تكون مصدرية بمعنى (لا يحيطون بشيء من علمه إلا بمشيئته) وتحتمل أن تكون اسماًً موصولاً بمعنى (إلا بالذي شاء) وهنا جمع المعنيين أي لا يحيطون بعلمه إلا بمشيئته وبالذي يشاؤه أي بالعلم الذي يريد وبالمقدار الذي يريد. المقدار الذي يشاؤه نوعاً وقدراً. فمن سواه لا يعلم شيئاً إلا إذا ما أراده الله بمشيئته وبما أراده وبالقدر الذي يشاؤه
- (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) قال "وسع" و لم يقل "يسع" لأن صيغة الماضي تدلّ على أنه وسعهما فعلاً فلو قال يسع لكان فقط إخبار عن مقدار السعة ، فالكرسى ملكه سبحانه و وسع السماوات و الأرض الذين سبق و قال أنهما و ما فيهما ملكه، فهم يملك الشىء و يملك ما فيه فله كل الملك تبارك اسمه
- (وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) أي لا يجهده وجاء بـ (لا) للدلالة على الإطلاق (لا يمكن أن يحصل) .
- (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) عرّفهما بأل التعريف لأنه لا عليّ ولا عظيم على الحقيقة سواه فهو العليّ العظيم حصراً.
و بالجملة فالحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم والذي له ما في السموات والأرض والذي لا يشفع عنده إلا باذنه والذي يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم والذي لا يحاط بعلمه إلا بما شاء هو العليّ العظيم، فكل جملة في آية الكرسي المباركة تدلّ على أنه الحيّ القيّوم والعلي العظيم...نقلاً عن دكتور فاضل السامرائى

المثال الثانى عشر
تدبر قوله تعالى ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ))


كلمات شديدة الوقع بليغة المعنى،تضافرت فيها العناصر اللغوية والخطابية لحبك هذه المعانى و من ذلك:-



1) تشعر بقرائتك لهذه الكلمات أنها أمسكت بطرفي الحياة وجمعتهما في ومضة خاطفة ، ولكنه في الوقت ذاته يخيل هيئة الطول فيما بين الطرفين!
فهذه الصورة : من جانب تصور قصر الحياة فما كادت تبدأ بالتكاثر , حتى انتهت بالمقابر – وذلك أقصر ما نصور به فترة الحياة , في اللفظ والخيال – ولكنها من طرف خفي , قد عرضت امتداد اللهو طول الحياة من مبدئها إلى منتهاها , وساعدت كلمة " حتى " على بروز الامتداد ؛ فخيلت للنفس أن هؤلاء القوم لجوا في اللهو أمدا طويلا . وذلك من عجائب التخييل , فغرض قصر الحياة , وغرض طول اللهو فيها , كلاهما مقصود من التعبير , وكلاهما تحقق في هذا النص القصير
[نقلاً عن التصوير الفنى]
2) و من الجمال التعبيرى فى هاتين الأيتين إختيار المواجهة بضمير المخاطب (أَلْهَاكُمُ/ زُرْتُمُ) لتحقيق الدلالات التي يوحي بها أسلوب الخطاب من قبيل الإدانة والاتهام والتقريع والتوبيخ....
ف" ألهاهم التكاثر" ،الواردة في النص المصطنع ، لا تمنح شيئا من هذه المعاني إذ أن عطاءها سينحصر حينذاك في التقرير والإخبار.
3) و من مظاهر دقة و روعة اللفظ القرأنى ، تأملنا فى كل كلمة أستعملت فى هاتين الأيتين القصيرتين:
(ألهاكم)
لو أدرت لسان العرب لم تجد ما يقوم مقام"ألهاكم"..فلا الشغل ولا الاشتغال ولا الانهماك ولا اللعب ولا غيرها تفي بالمقصود..
"ألهاكم"..وحدها دلت على الإفراط والتفريط معا..فالمتلبس باللهو حاصل منه دائما شيئان:
-إضاعة الوقت والجهد في ما هو باطل أو قليل العائدة.
-الغفلة عن واجب أو أمر أكثر فائدة..
فيكون اللاهي مسؤولا عن أمرين:الوقت المهدور والواجب المتروك..
(التكاثر)
"التكاثر" كلمة بليغة كافية لتلخيص تاريخ البشرية كله!
فمن صيغة (تفاعل) إنبثقت كل المعاني المتعلقة بالتنافس والتحاسد والتصارع والتسابق وإشعال فتائل الحروب!
ولو ألقينا نظرة في تاريخ البشر لوجدناه يتلخص في هذه الكلمة،فما الحروب وما الصراعات إلا تعبيرا عن هذه الرغبة الكامنة في النفوس ، فكل أمة تريد أن تكثر سوادها و تنصر جنسها و فكرها!
-وهكذا نرى كيف حددت هذه الكلمة لوحدها طبائع الناس الداخلية وعلاقاتهم الخارجية في آن واحد
(حتى)
لو أدرت لسان العرب لم تجد ما يقوم مقام "حتى"
فهذا الحرف أنشأ توسعا دلاليا مذهلا:
أ- توسعا في زمن التكاثر.
ب- توسعا في المتكاثر به.
فعلى الأول يكون المعنى أن المخاطبين قد ألهاهم التكاثر طيلة حياتهم ولزمهم حتى ماتوا وزاروا القبور.
وعلى الثاني يكون المعنى أن المخاطبين وسعوا دائرة ما تكاثروا به حتى ذهبوا إلى المقابر لإحصاء الأموات منهم ..:
* فتكون "حتى" أنشأت تنديدا بوصفين قبيحين عند هؤلاء:
-الغفلة بمقتضى المعنى الأول
-والسفاهة بمقتضى المعنى الثاني
(زُرْتُمُ)
لو أدرت لسان العرب لم تجد ما يقوم مقام" زُرْتُمُ"
إمتازت بالدقة التعبيرية إذ الزائر منصرف لا مقيم فى المكان الذى يزوره، فجمعت بين التذكرة بالموت و التذكرة بالبعث!
(المقابر)
لو أدرت لسان العرب لم تجد ما يقوم مقام "المقابر"
فالمقابر جمع مقبرة ،والمقبرة مجتمع القبور..فتكون المقبرة جمعا لمجاميع..
وهذا التوسيع يراد له أن يكون مقابلا للتكاثر الذي إمتد في الزمان والمكان!
هذه خمس كلمات فقط..فمن يستطيع أن يأتي بمثلها..
إنه الإعجاز في صورته الباهرة!!
[كتبه الشيخ أبى عبدالمعز]

المثال الثالث عشر
من البلاغة فى أيات الذكر الحكيم تميزها بالإيجاز البديع ،و لو تدبرنا الآيات لعرفنا مدى بلاغة الإيحاء والاخـتصار، وتأثيره على النفس وأسـره للفكر،و دلالته على المعانى تامة الجامعة بأقصر عبارات دونما خلل أو تقصير ، ولنورد قبسات من أيات الله تدلل على ذلك:
1) تدبر قوله تعالى ((خـذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ))
ثلاثة أوامر كل منها يصلح مادة مؤلف كبير، جُمعت فى كلمات يسيرة و جمعت معها مكـارم الأخلاق ، لأن في أخذ العفو الترفع والتسامح واللين والرفق في الدعوة، وفي الأمر بالمعروف نشر الخيرات و الصفات الكريمات و كف الأذى و حفظ الأعراض و مكافحة المحرمات، وفي الإعراض الصبر والحلم والتؤدة و السمو

2) و تدبر قوله تعالى ((فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً))
لن تجد أبلغ و لاو أوجز من هذه الكلمات أبداً، إذ شرحت ببراعة ما وقع بين يوسف و أخوته حين أخذ بينيامين، فبذلو الجهد ليعدلوه عن رأيه و طلبوا منها و ترجوه و إنتظروا ثم اعادو الكرة أملاً فى أن يلين حتى استيأسوا منه و فقدوا الأمل، فأذخو يتناجون فيما بينهم و يتشاورون و يتباحثون ، كل هذه المعانى جمعتها هذه الكلمات القليلة الفصيحة، و هكذا يسمو الإيجاز إلى مرتبة الاعجاز.

3) و تدبر قوله تعالى ((وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء))
كلمات يسيرة شرحت واقعة و قعدت قاعدة، إذ كان بين المسلمبن و المشركين هدنة، ثم شعر المسلمون أن الكفار بدئو الإعداد للخيانة ، حينها شُرع لنا الحق وقف العقد شريطة أن نتلمس منهم الغدر، وأن ننذرهم علناً و بمدة كافية لنا و لهم على سواء بعدها نتحلل من الهدنة، فانظر كيف شرح كل هذه المعانى فى هذه الكلمات!

4) و تدبر قوله تعالى (( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف))
- أية جمعت كل ما يجب للنساء على الرجال من حسن المعاشرة وصيانتهن وإزاحة عللهن وكل ما يؤدي إلى مصالحهن، كما يشـمل ما يجب للرجال على النساء من طاعة الأزواج وحسن المشـاركة في السراء والضراء والسعي إلى مرضاته وحفظ غيبتهم وصيانتهم عن خيانتهم
- و قد رسخت الأية البليغة قاعدتان كليتان:-
القاعدة الأولى: "وجوب تساوي الحقوق والواجبات".......هذا مبدأ العدل وغاية استقرار المجتمعات.
القاعدة الثانية: "أسبقية الواجبات على الحقوق{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ }.
[ نقلاً عن الشيخ أبى عبدالمعز]

5) و انظر فى قوله تعالى (( والله يرزق من يشاء بغير حساب))
فانظر لكلمة (حساب) و التى تعد من جوامع الكلم العظيمة إذ إحتملت المعانى الأتية:
أ- حساب بمعنى العطاء الجزيل، فعطاء الله لا يدخل تحت عد أو حصر،فهو بغير حساب أي لا يتناهى ،كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} فتكون الآية مشيرة إلى سعة ملك الله.
ب- حساب بمعنى لا يحسب ما يعطي لأنه لا يخاف نفادها عنده، فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه، لأن المعطي إنما يحاسب ليعلم مقدار ما يعطي وما يبقي، فلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يجحف به، والله لا يحتاج إلى الحساب، لأنه عالم غني لا نهاية لمقدوراته، فتكون الآية مشيرة على الغنى المطلق.
جـ- أن يكون معنى (بغير حساب) أى بعضها ثواب وبعضها تفضيل محض، فهو بغير حساب، تكون الآية مشيرة إلى كرم الله :يعطي مقابل الشيء عدلا ويزيد ما لا مقابل له تفضلا .
د- بغير حساب أي:يرزق من يشاء ولا يحاسب نفسه على كثرة ما أعطى لأنه كريم.
أو:لا يحاسبه أحد على فعله ولا يوجد من يحاسبه لأنه هو العلي الأعلى {{لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ}
فتكون الآية مشيرة إلى الربوبية المطلقة.
هـ- بغير حساب بمعني أنه يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئاً عن كون المعطي محقاً أو مبطلاً أو محسناً أو مسيئاً
فتكون الآية تقريرا لقاعدة الأرزاق في الدنيا وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله، بل تجري وفقا لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين
و- بغير حساب يراد بها طائفة من الموحدين الذين يدخلهم الله الجنة بدون حساب وهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب كما في الحديث الصحيح و هم (الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون(
ز- بغير حساب أي: من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل إذا جاءه ما لم يكن في تقديره: لم يكن هذا في حسابـي
و معانٍ اخرى يمكن ان تستخرجها من هذه الجملة الجامعة!...
[نقلاً عن الشيخ أبى عبدالمعز]

6) و تدبر قوله تعالى ((فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ))
أية بليغة تعكس روعة الإيجاز فى القرأن، و بيان ذلك:-
أ- إعلم أن الكلمة قد تحمل نوعين من الدلالة : أ- الدلالة الحرفية ، ب- الدلالة الإيحائية .
مثلا كلمة رزق لا مرادف لها فى أي لغة من لغات الناس لأن الكلمة العربية لها من الظلال الروحية ومن المعاني الحدسية ما لا يمكن أن يوجد في ثقافة أخرى.
كذلك فعل "تولى" في الآية هنا، لا مرادف له يفي بكل الدلالات الإيحائية.....
فهو دال على الحركة في إتجاه معين مع الدلالة على موقف فكري ونفسي، بعكس لو إستعملنا كلمة إنصرف إن حملت المعنى الأول لم تحمل المعنى الثاني.
ب- (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى)
الظاهر أن الآية إخبار عن فرعون، وترتيب للأفعال الصادرة عنه( التولي والجمع والمجيء)
لكن التأمل الدقيق للفعلين (تولى، و أتى) يكشف أن الآية حملت إخباراً عن موسى عليه السلام أيضا فنقرأ في المشهد الواحد مشهدين في الحقيقة....وهذا من إيجاز القرآن المعجز!
"تولى" فعل يدل على حركة متجهة في الفضاء، ويدل أيضا على وجود شخص (أو شيء) في الخلف....
"أتى" فعل يدل على حركة متجهة في الفضاء ، لكنها حركة مقابلة للتولي، فالنقطة المرجعية هنا توجد أمام وليس خلف...
فالتولي إنفصال وذهاب بعيدا عن المتولى عنه...والإتيان عكسه .
و عليه فإن الآية تشعرنا أن موسى عليه السلام لم يغادر مكانه، حتى أن المتكلم قبل هذه الآية هو موسى عليه السلام ((قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ))
والمتكلم بعد الآية هو موسى عليه السلام أيضا ((قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى))
فموسى إستقر ساكناً مطمئناً بينما فرعون جاب أقطارها يجمع كيده، و ذلك لأن صاحب الحق واثق من نفسه مؤيد من ربه ينعم بمعيته و رعايته، فلا يفتقر للعباد ولا يحتاج إلى مناورة ولا إلى ذهاب ومجيء !
و هذا كقول نوح لقومه ((إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ))
جـ- ( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى)
الأفعال المتلاحقة تشعر بالسرعة لكنها مع ذلك بينت البرنامج الفرعوني كله......فانظر مثلا إلى قوة الجملة الوسطى "جمع كيده"
- فعل "جمع" يختزل أوقاتا وأحداثا: إعلانات،وسفراء،ومبعوثين ،وحركة في طول البلاد وعرضها، وعروضا وإغراءات ووعودا، باختصار حالة إستنفار قصوى.
- و المفعول به "كيد" يختزل من جهته الأفعال السحرية والرغبة في إزالة الحق بالباطل فضلا عن الإشارة إلى غموض عالم السحر والسحرة، فلا يقال الكيد إلا لما فيه خفاء
- فانظر إلى هذه الكلمة" كيد "كيف دلت على فكر وأهله كما دلت على نوايا وأصحابها ودلت على خطط وتراتيبها.
- ثم انظر إلى الرابطين لترى أسلوب القرآن المعجز:
* " جمع كيده" جملة معطوفة على سابقتها بالفاء...والفاء تدل على الترتيب مع الفورية كما هو معلوم..... ففهمنا من ذلك أن فرعون مستعجل في أمره فقضية موسى لا تحتمل التأخير، وفهمنا من فورية الجمع إستبداد فرعون وقيام الناس على خدمته واستجابة رغباته بأقصى ما يستطيعون.....فالأمر عند الفرعون يفيد الوجوب مع الفورية.
* "ثم أتى" استعمل هنا ثم التي تفيد التراخي....لأن المقام يقتضي ذلك:
فنفهم أنه بين جمع الكيد و الذهاب إلى الموعد إنصرمت مدة نبهت إليها" ثم" إنها مدة وضع المخططات والإتفاق على االوسائل وترتيب الأولويات وإختبار الحيل ....
ونستفيد أيضا قوة الحق الثابت عند موسى عليه السلام، ففرعون وسحرته لم يرتجلوا شيئا بل دبروا أمرهم واخذوا الوقت الكافي لبناء كيدهم.......ثم بعد أتوا صفا....فانهزموا.
فتعجب من أسلوب القرآن كيف جمع بين:
-سرعة تلاحق الأفعال في السرد والحكي.
-وتعدد الفصول والمشاهد والأحداث في المسرود والمحكي...نقلاً عن الشيخ أبى عبدالمعز

7) و من روائع الإيجاز أن يأتى بالكلام مبنياً على أن له جواب، فيحذف الجواب لعلم المخاطب به و من ذلك:أ- قوله تعالى ((وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً))
المراد : لو كان قرأناً تقع به هذه الأمور لكان هذا القرأن
ب- و قوله تعالى ((وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ))
المراد: و لولا فضل الله عليكم و رحمته لعذبكم
جـ- و قوله سبحانه ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً))
و لم يذكر ضد هذا لأن فى قوله ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) دليل على ما أراد
د- و قوله عز و جل ((لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ))
فذكر أمة واحدة و لم يذكر الأخرى التى هى ضدها لدلالة السياق عليها، و "سواء" تأتى للمعادلة بين فريقين
* و بالجملة فإن الإيجاز سمة بلاغية ظاهرة فى كتاب الله و أمثاله كثيرة كقوله تعالى (وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أى أشربوا حبه، (لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ) الصلوات لا تهدم و إنما بيوت الصلوات،( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) أى اسأل أهل القرية، (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا) أى أمرناهم بالعدل و الإحسان ففسقوا عن أمرنا فيها، (َأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم) و المعنى فقيل لهم أكفرتم...
و بذلك الإيجاز مع الإستيفاء حوى القرأن العظيم جوامع الكلم، حتى صارت تعبيراته حِكم متداولة كقوله تعالى:
(ولا يحيق المكر السىء إلا بأهله) (لكل نبأ مستقر) ( تحسبهم جميعاً و قلوبهم شتى) (كل حزب بما لديهم فرحون)



المثال الرابع عشر
و من بلاغة الجملة فى القرأن دقة النظم، و روعة تنسيق الحروف و الكلمات فى العبارة و من ذلك :
أ- تامل قوله تعالى ((قيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ))
فهذه أية لو قرأتها مجودة لتكرر حرف الميم معك ثمانى مرات متتالية، فمن يطيق تنسيق ذلك؟!

ب- تدبر قوله تعالى ((كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا))
- فبدأت السورة بخمسة أحرف مقطعة
ثم ركب عليها جملة من من خمسة أسماء ظاهرة بدون عطف وبدون فعل!
بل هي سبعة أسماء بالنظر إلى المضمر منها: الكاف والها
بل هي ثمانية أسماء بالنظر إلى المقدر منها:ذكر خبر مرفوع بمبتدأ محذوف تقديره :هذا ذكر رحمة ربك
فما أبدعه من تركيب!...كتبه الشيخ أبى عبدالمعز

ب- و تدبر قوله تعالى ((َفأرسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ))
فى هذه الأية نجد خمسة أسماء مسرودة سرداً إجمالياً، و الشأن فى مثلها ألا تكون موضعاً للجمال، و رغم ذلك تجد فيها نوعاً فريداً من الجمال التأليفى بنى على قاعدة فنية!
فهذه الأسماء الجوامد تتفاوت فيما بينهما خفة و ثقلاً، و أخفها على اللسان (الطوفان و الجراد و الدم) و أثقلها (القمّل و الضفادع)، فقدم الطوفان لخفته و لمكان المدّين فيه،ثم الجراد لأنها تلى الطوفان فى الخفة و فيها مد كذلك، فهما بمثابة ترويض للسان متدرجة فى النطق، و بعدها جاء بالإسمين الثقيلين (القمّل و الضفادع) بادئاً بالقمل لأنه الأخف و لمكان الغنة فيه،ثم جاء بالإسم الخامس (الدم) و هو أقلها حروفاً و أكثرها خفة ليسرع اللسان بها بعد هذا الجهد الطويل
و بذلك خرج القرأن بهذا السرد من باب العطف المجرد إلى تقعيد قاعدة جميلة بنيت على هيئة الكلم نفسه و أحواله من حيث الخفة و الثقل...أنظر كتاب خصائص التعبير القرانى

المثال الخامس عشر
فى هذا المثال ننظر فى أيات الأحكام، فقد يظن البعض أن أيات الأحكام يغلب عليها النمط التشريعى الجامد، و لكن الحقيقة أن الأيات التشريعية فى كتاب الله تجمع بين عنصرين أساسيين
(الأول) إقناع العقل و إمتاع العاطفة (الثاني) القدرة الكبيرة على نظم الأحكام بأبلغ أسلوب و من ذلك:

النموذج الأول
- تدبر قوله تعالى ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً))
فهذه الأية الكريمة ، تنظم المحرمات من النساء، و هى فى ذلك راعت أمرين هما
الأول:- الإستيعاب و الحصر الشامل بأوجز لفظ و أروع بيان
الثانى:ترتيب المحرمات فى نظام منطقى
* أما الإستيعاب و الحصر الشامل بأوجز لفظ و أروع بيان
- فانظر كيف بنى الفعل للمجهول فى قوله (حُرمت عليكم) إذ المحرم هو الله فلم يسم الفاعل للعلم به إختصاراً..
- و انظر كيف أضاف التحريم إلى الأعيان لا الأفعال فى قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ) و ليس المراد تحريم الذوات لأن الحرمة تتعلق بالأفعال لكنها بلاغة حذف مضاف بدلالة العقل، والمراد تحريم نكاحهن لأنه معظم ما يقصد منهن ولأنه المتبادر إلى الفهم ولأن ما قبله وما بعده في النكاح
- و انظر كيف اقتصر فى الخطاب على الرجال ،إذ الطلب و الخطبة تقع من جانب الرجال و المرأة هى المطلوبة، و الحكم اتصل بذكر الرجال لارتباطه الوثيق بالمرأة
- و انظر إلى الشمولية فى قوله (أمهاتكم ) (بناتكم ) إذ شملت الأم و الجدة و لو علت، و شملت الإبنة و الحفيدة و لو نزلت ، و استقر المعنى باللفظ الواحد دون حاجة إلى تبيان
- و انظر إلى نكتة توجيه الخطاب إلى الجمع مع تعليق الحرمة بالجمع كالأمهات والبنات " إلخ " , إذ تفيد الاستغراق في التوزيع, أي حرمت على كل رجل منكم أمه وابنته..إلخ
- و أنظر إلى التخفيف فى قوله و بنات الأخ و بنات الأخت، و لم يقل و بنات أخواتكم، لأن الختم بالجمع له غنة جميلة لكن مع كثرة الطرح قد تمله الأذن و تستثقله، فكان الإفراد ههنا بمثابة إستراحة خفيفة يستأنف بها السياق بنغمته دونما ملل ولا خلل
- و حسبك لتدرك جمال هذه الأية أن تنظر فى نظيرها فى كتاب النصارى مثلا ستجد النص على النحو:
((6 لا يقترب انسان الى قريب جسده ليكشف العورة انا الرب 7 عورة ابيك و عورة امك لا تكشف انها امك لا تكشف عورتها 8 عورة امراة ابيك لا تكشف انها عورة ابيك 9 عورة اختك بنت ابيك او بنت امك المولودة في البيت او المولودة خارجا لا تكشف عورتها 10 عورة ابنة ابنك او ابنة بنتك لا تكشف عورتها انها عورتك 11 عورة بنت امراة ابيك المولودة من ابيك لا تكشف عورتها انها اختك 12 عورة اخت ابيك لا تكشف انها قريبة ابيك 13 عورة اخت امك لا تكشف انها قريبة امك 14 عورة اخي ابيك لا تكشف الى امراته لا تقترب انها عمتك 15 عورة كنتك لا تكشف انها امراة ابنك لا تكشف عورتها 16 عورة امراة اخيك لا تكشف انها عورة اخيك 17 عورة امراة و بنتها لا تكشف و لا تاخذ ابنة ابنها او ابنة بنتها لتكشف عورتها انهما قريبتاها انه رذيلة 18 و لا تاخذ امراة على اختها للضر لتكشف عورتها معها في حياتها )) لاويين 18: 6-18
لاحظ أرشدك الله كيف إحتاج ما جمعه الرحمن فى أية بليغة موزونة موجزة محكمة إلى ثلاثة عشر فقرة فى كتاب القوم ببسط مطول و إسترسال غير مبرر و تكرار ، و مع ذلك لم تحط بكل المحرمات!
نعم فإنك إن تأملت لا تجد فى هذه الفقرات التى استغرقت الكثير من الكلمات للتعبير أى ذكر لتحريم الرجل على إبنة أخته، أو ابنة أخيه، و لا وجود لنص واحد يحرم هذا فى كل كتابهم!!
* و أما ترتيب المحرمات فى نظام منطقى:
فإن الأمر لم يقف على سرد المحرمات دونما تنظيم كما نجد فى كتب النصارى، و إنما راعى الترتيب بحسب شدة الحرمة فنظمها على النحو التالى:
1- حرمة ذاتية : و فيها الأم- البنت- الأخت- العمة- الخالة- بنت الأخ- بنت الأخت
و راعى فيها (أ) أهمية الحرمة(ب) علاقة الذكورة
و لهذا ذكرت الأم أولاً لعظم حرمتها،و لأن المخاطب جزؤها،ثم البنت لأنها تلى الأم فى عظم الحرمة، و لأنها جزء المخاطب، ثم الأخت لاتحادهما فى أصل الولادة، ثم العمة لأنها أقرب النساء للمخاطب بعد المذكورات، ثم الخالة كذلك..
و قدمت العمة على اخالة لتفضيل علاقة الذكورة على الأنوثة إذ العمة من جهة الأب و الخالة من جهة الأم، كذكلك قدمت بنت الأخ على بنت الأخت ، و أخرتا عن العمة و الخالة لأن القرابة فى العمة و الخالة من جهة الأصول و القرابة فى بنت الأخ و بنت الأخت من جهة الفروع
2- حرمة عارضة: و تحتها ست حالات و فيما بينها نوعان (أ) ما اكنت العلة فيها الرضاعة (ب) ما كانت العلة فيه الزواج، و قدم سبب الرضاع على سبب الزواج لأسبقية الأول وجوداً
فذكر الأم من الرضاعة قبل الأخت من الرضاعة تشبيهاً لها من حيث الحرمة بالأم الحقيقة،مع مراعاة الترتيب النزولى فى كل الحالات
ثم ذكر أم الزوجة و بنت الزوجة، و حلائل الأبناء و الجمع بين الأختين، و كذلك قدمت الأم هنا كما قدمت فى القسمين السابقين،ثم بنت الزوجة المدخول بها تشبيهاً لها بالإبنة، ثم حلائل الأبناء و أخيراً الجمع بين أختين

النموذج الثانى
[أحكام الطلاق] إذ لم تأتى أحكام الطلاق جامدة جافة كما نقرأ فى كتاب النصارى
((1. اذا اخذ رجل امرأة وتزوج بها فان لم تجد نعمة في عينيه لانه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق ودفعه الى يدها واطلقها من بيته 2 ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر 3 فان ابغضها الرجل الاخير وكتب لها كتاب طلاق ودفعه الى يدها واطلقها من بيته او اذا مات الرجل الاخير الذي اتخذها له زوجة 4 لا يقدر زوجها الاول الذي طلقها ان يعود ياخذها لتصير له زوجة بعد ان تنجست)) التثنية 24: 1-4
أما فى القرأن الكريم فلما تعرض سبحانه لأمر الطلاق صاغ من الكلمات و التعبيرات ما حقق الغرض التشريعى و التربوى مراعياً الحالة النفسية للمتفارقين ، إذ يخاطب من يغلب على حالهم التحامل و التنازع و نمو العداوة ، فمزج الأحكام بالوعظ و التذكرة حتى يرقق المشاعر و يحمل على الرحمة و الإنصاف ، لذلك إقترنت كل أيات الطلاق فى كتاب الله بذكر التقوى أو المعروف أو الترهيب بحدود الله
فقال تعالى ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ))
و قال تعالى ((الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ))
و قال تعالى ((وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ))
و قال تعالى ((وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ))
و قال تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً))
و قال تعالى ((لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ))
و قال تعالى ((وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))

- و نلاحظ أنه تعالى يعبر عن الإمتناع عن الطلاق بلفظة (إمساك) لأن الإنسان لا يمسك إلا ما فى منفعة
- و يعبر عن الطلاق بلفظة (تسريح) لأن التسريح فى الأصل إرسال للمرعى ففيه إيحاء للأزواج العازمين على الطلاق أن يحسنوا معاملتهن ولا يسيئوا إليهن ، و لم يقف عند هذا الحد بل وصف هذا التسريح أنه (تسريح بإحسان) أو (سراحاً جميلاً)

- و لما تكلم عن نفقة المتعة بعد الطلاق قال (مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) لأن الكلام هنا كان عن طلاق و لم يكن هناك مهر فُرض أصلاً، فالملابسة ضعيفة ، لذا استعمل تعبير الإحسان الذى فيه معنى الكرم و يثير عند الازواج مشاعر المروءة و النخوة و يستل من النفوس السخائم فتبذل ما وجب عليها فى رضاً و حنان

- و لما تكلم عن الحقوق المادية للمطلقة قبل الدخول، المفروض لها مهر، و لما كان التخالص المادى مظنة تضخم الجفاء بعد الطلاق، أخبر تعالى أن نفقة الزوجة حق من الله مفروض محسوم (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) ليغلق الطريق على الجور و العناد فيه، ثم انتقل باعطاءها و وليها الحرية فى التنازل عن هذا الحق(إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ)، ثم انتقل إلى التشجيع على ذلك و ربطه بالتقوى (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) لأنها أبقى للمودة و الذكرى الطيبة و لهذا أتبع هذا بقوله (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)
فجمعت هذه الألفاظ و التعبيرات المقسمة بين حظ العقل و حظ النفس معاً

- و لكن القرأن تعامل مع من أراد أن يطلق زوجته بعد الدخول بها معاملة خاصة:
** بدأت هذه المعاملة بالإغراء فقال تعالى ((وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ))، فإستعمل سبحانه أسلوب إغراء الزوج أن يمسك زوجته إن كرهها أملاً فى خير غزير يجزيه الله به لذلك...

و دعى لوأد الشقاق بالإستعانة بالأهل الطيبين الذين يعينون على الجمع لا الفراق و يريدون الإصلاح ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ))، ولا شك أن هذا له أثر عظيم فى النفس فالمصلح يعمل على تهدئة الزوج فى غضبه، و تقريب وجهات النظر، و التذكير بالمحاسن، و الإتيان بواحد من طرف الزوج و أخر من طرف زوجته يظهر

- لما تكلم عن حالة من عزم مصراً على تطليق زوجته ليتزوج بأخرى ،فلاشك أن الطلاق فى هذه الحالة أقسى و أشد، لذا لم يعتمد سبحانه نفس درجة اللين....و إنما إشتد فى الخطاب عليه ليعلم أن ما لها فهو حقوق فقد إستقر مستوفياً أسبابه الشرعية و العرفية و الأخلاقية ، و ليبرز إنتصار الشرع لمشاعر هذه المرأة و موقفها فقال تعالى
((((وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ))
فانظر كيف بين سبحانه أن ما فرض لها هو حق خالص و لو كان قنطاراً ، فلا يحق للزوج أن يأخذ منه شىء أى شىء، بل و حكم على من يفعل هذا بأنه ارتكب البهت العظيم و الإثم المبين!
ثم يوجه سبحانه سؤال استنكارى كيف تأخذ من زوجتك حقها، و تجحد ما كان بينكم من السكينة و العشرة فى بيت واحد، و انظر الى تعبير (وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) أى اطلع كل منكم على أسر أسرار الأخر و كان كل منكم لباساً وسكناً و ستراً و عوناً للأخر!
ثم ختم الأية ببيان أن العقد الذى كان فإنما هو ميثاق قام على الأمانة و على كلمة الله، و وصفه لعظمة شأنه بأنه غليظ ... و هكذا يتبين لك مقصود العلما بالإقناع العقلى و الإمتاع العاطفى
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس