الحمدُ لله ربِّ العَالمينَ ونُصَلِّي ونُسَلِّمُ على نبيّنَا وحبِيبنا محمد
وعلى آله وصحبه أمّا بعدُ:
أنزلَ اللهُ الكِتابَ على رَسولِه – صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ- لِيُخِرجَ بِه النّاسَ مِنَ الظّلماتِ إلى النّور
وجاءَتْ سُنّةُ نبيِّه– صلّى الله عليْه وسلَّمَ- مُبيِّنةً ومفصِّلةً لما جاءَ فِيه مِنَ الهدى والنُّور
فَنشأَ -على إثْر مُعايشةِ نُزولِ الوَحْيِ , ودعوةِ الرّسول– صلّى الله عليه وسلّم- إلى لُزومِ مُقْتضَاه
: عِلْماً وعمَلًا ودَعْوةً- خيرُ جِيلٍ كانَ على وَجهِ الأرْضِ وَهُمْ جِيلُ الصّحابةِ
الذِين تربَّوْا عَلى يَدِ النّبيِّ– صَلى الله عليْه وسلَّم- فَكَانُوا–كما قال ربُّنا- (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).
وقَدْ نقلَ هذا الجيلُ مَا تعلَّمه مِنْ رسولِه– صلّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ- مِنَ العِلم والعَمل بِه والتّربيةِ عَليْه
إلى مَنْ جاءَ بَعْدَهم مِنَ التّابعينَ وتَابِعيهم ؛ فكانَتْ هذِه القُرون الثلاثةُ الخيريةُ (سلفَ الأمّةِ)
الذِينَ اتّفقَ أهلُ السّنّة والجماعةِ على فَضْلِهم وعُلُوّ مَكَانَتِهم , كَما قالَ رسولُ الله– صلّى الله عليه وسلَّمَ- : [خَيْرُ النّاسِ قَرْنِي , ثُمّ الذِينَ يَلُونَهم،ثُمّ الذِينَ يَلُونَهم] .
ومَعَ شُيوعِ هَذِه الخَيْريّة في تِلك الأزْمنةِ وبيْنَ أولئك القومِ ؛ إلّا أنّه قدْ نَشَأ في خِلَالهم أقوامٌ شذّوا
عنْ هديِهم ؛ وخَالَفُوا أمْرَ النّبيِّ– صلّى اللهُ عليه وسلّمَ- بِما أوْجبَ لهمْ الْوُقوع فِي الكُفْرِ أوالنّفاقِ
أو البِدْعةِ , كَما أشارَ إليْه ابنُ كثير– رحمه الله- في تَفْسيرِهِ (6\89-90) بِقَوْلِهِ
:«وقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أيْ: عنْ أمْرِ رَسُولِ الله صلّى اللهُ عليْهِ وسلّمَ؛ فَهُو سَبيلُه ومِنهاجُه وطريقتُه وسنّتُه وشريعتُه،
فتوزنُ الأقوالُ والأعْمالُ بأقوالِه وأعْمالِه، فَما وافق ذلك قُبِل، وما خالفه فهو مَرْدُودٌ على قائلِه وفاعلِه، كائنًا مَا كانَ، كما ثبتَ في الصّحيحيْنِ وغيرِهما، عنْ رسولِ الله صَلّى اللهُ عَليه وسلّم أنّه قالَ: «مَنْ عمِل عَمَلًا ليسَ عليْه أمْرُنا فهوَ رَدٌّ».
أيْ: فلْيحذَرْ وليخْشَ مَنْ خالفَ شريعةَ الرّسول باطنًا أو ظاهرًا ( أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ )
أيْ: في قلُوبهم، مِنْ كفرٍ أو نِفاقٍ أو بِدْعةٍ، ( أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أيْ: في الدّنيا، بِقَتلٍ،
أو حَدٍّ،أو حَبسٍ، أو نحوِ ذلك».
فنشأَ في أواخِر عصْرِ الصَّحابةِ: (الخوارجُ، والقدَريةُ, والشّيعةُ، والمرجِئة)
الذِينَ كانُوا موافقين للصّحابَةِ والتّابِعين في عُمومِ مَظاهِرهم , وكثيرٍ مِن مُعتقداتهم وأعْمالهم ؛ لكنَّهم فَارَقوهم في بعضِ ذلك– قلّ أو كثر- , ومَعَ ذَلك فَما ارتضى الصَّحابة
أن ينسبَ هؤلاء إلى مَنهجَهم وطرِيقتِهم :
فهذَا عمرُ بنُ الخطّاب لمـّا بلَغه أنَّ صبيغًا العراقيَّ يتكّلمُ في مُتشابِه القرآنِ :
(ضَربَه وأمرَ بِهجْرِه وتغْرِيبه).
فَعَن ابن زرعة عنْ أبيه قالَ: «لقدْ رأيْتُ صبيغَ بنَ عسل بالبصرة كأنّه بَعيرٌ أجرب يجِيء
إلى الحِلَق، فكلّما جلس إلى حَلْقة قامُوا وتَرَكوه،فإنْ جلَس إلى قومٍ
لا يَعرفونه نادَاهم أهلُ الحلْقةِ الأخْرَى: عَزَمة أمِيرِ المؤْمنين» .
وهذَا عبدُ الله بنُ عمر -رضي الله عنهما- لما أخْبره يحيَى بنُ يَعمر عن القدَريّة قالَ:
«إذا رَجعْتَ إليْهم فَقُل لهم: ابنُ عمرَ يقولُ لَكم: إنّه مِنكم بَرِيء، وَأنَتم مِنْه بَراء».
وهذَا المنهجُ في ضرورةِ الحرْص على تمييزِ المنتَسبِ بِالبَاطِل ِإلى أهلِ الحقِّ ,
قدْ تلقّاه الصَّحابةُ– رضي اللهُ عنهم- عنْ مُعلِّمِهم ومُرَبِّيهم؛ وَهُو الرّسولُ–صلّى اللهُ عليه وسلَّمَ-
الذِي أخبرَ في أحاديثَ عدّةٍ عَنْ أقْوامٍ ظَواهرُهم في صَلاتِهم وصِيَامِهم وقَراءَتِهم لِلْقرآنِ
وَسَائِر عِبَادَاتِهم خيرٌ مِنْ ظَواهرِ الصَّحابةِ؛ لكنَّهم لَيسُوا على طريقَتِهم
ومَنْهجِهم في الاعْتقادِ والعَمل أَلا وَهُم
الخَوارجُ؛
الذين قالَ رَسولُ الله–صلى الله عليه وسلم- في تَوصيفهم– مخاطبًا أصحابَه-
1. «يقرأون القُرْآنَ ، ليس قِراءَتُكُم إلى قِراءَتِهم بشيء .
2. ولا صلاتكُم إلى صلاتهم بشيء .
3. ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء» [مسلم] .
4. «يقولون الحق بألسنتهم» [مسلم] .
5. «يقولون من قول خير البرَّيةِ» [متفق عليه] .
6. وقال للصَّحابة : «تَحْقِرون صلاتَكم مع صلاتهم ، وصيامَكم مع صيامهم ،
وعملَكم مع عملهم»[البخاري].
ومَع هذِه الأوْصاف الباهرةِ والاشْتراكِ في الْكثيرِ مِنَ الأقْوالِ والأعمال والاعْتقادَات
فَقد وجّه رَسولُ اللهِ–صلّى اللهُ عليه وسلَّم- ؛ إلى لُزومِ الحذَرِ مِنهم والتّميّزِ عَنهم
لِفَسادِ بَعْضِ أعمالهم وبواطِنِهم؛ ومِنْ ذَلك قولُه– صلّى الله عليه وسلَّم-:
1. «يَقْرؤُون القُرْآنَ يحسَبون أنّه لهم وَهو علَيْهم .
2. لا تُجاوِزُ صلاتُهم تراقيَهمُ .
3. يَمْرُقُون مِن الإسْلام كما يمرُق السَّهم مِنَ الرَّمِيَّة» [مسلم].
4. «يُحسِنُون القيل، ويسيئونَ الفِعل» [أبو داود] .
5. بل وقال– صلى الله عليه وسلم-: «أينما لَقَيْتمُوهم فاقتلُوهُم ، فإنَّ في قَتْلِهم أجراً لمن قَتَلَهُم عندَ الله يومَ القيامةِ» [متفق عليه] .
ومَعَ هَذا التّوصيفِ الدَّقيقِ لأحْوالهم , والتّحذِيرالشّدِيدِ مِنَ الاغْترارِ بِهم
إلا أنّه اغترَّ بِهم عددٌ غيرُ قليلٍ مِنَ النَّاسِ , وسَيسْتمرّ الاغترارُ بِهم حتّى خروجِ الدَّجّالِ,
كَما صحَّ مِنْ حَديثِ ابنِ عمرَ أنَّ رَسولَ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قالَ:
«ينشأُ نشْءٌ يقرؤون القرآنَ لا يجاوزُ تَرَاقِيهم، كلّما خرجَ قرنٌ قُطِع ،
قالَ ابنُ عُمَرَ: سَمعتُ رسولَ الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقولُ
:« كلّما خرجَ قرنٌ قُطع -أكثر مِنْ عِشرين مرّة- حتّى يخرجَ في عِراضهم الدّجال».
قال:العلامة الألباني قوله رحمه الله : (عراضهم ) . جمع عرض , بفتح وسكون ,
بمعنى الجيش العظيم .
فالحذر الحذر من فتنتهم وشبهاتهم فكم من فتنة خطفت قلبا متيقظا في لحظة غفلة
فاورثته بعد اليقظة غفلة وبعد الحياة موتا , وبعد الهدي ضلالا ,
لمخالفته امر النبي صلي الله عليه وسلم في احاديث كثيرة باجتناب اهل البدع والاهواء ,
وهدي السلف الصالحين الذين كانوا يجتنبون اهل البدع وشبهاتهم لا يجالسوهم
وقد قال الامام احمد رحمه الله في قول الله عز وجل
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم )
(أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ".
والله المستعان
مقتبس من مقال