عرض مشاركة واحدة
  #42  
قديم 2012-07-09, 09:23 AM
محب الشيخ سليمان العلوان محب الشيخ سليمان العلوان غير متواجد حالياً
عضو نشيط بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2012-07-04
المشاركات: 174
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الجن والإنس لعبادته وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فلقد وصلني سؤال أحد الإخوان، يسأل فيه عن مسألة تلبس الجان، وهذا نص سؤاله:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إني أحبكم في الله عز وجل وأسأل الله أن يحفظكم.
أود أن أسأل عن قضية تلبس الجن للإنسان لوجود شخص عندنا يقول: أن هذه القضية لا أساس لها من الصحة بل هي عبارة عن وسسوسة فقط وشحنات زائدة في المخ (الصرع) فأرجو منكم أن تفيدوني للرد وأرجو من الشيخ أبي همام الأثري الرد عليه وجوزيتم خيراً..
السائل: أبو عبيد الله"
فأجبته بما يلي، أسأل الله أن يغفر له ولي:
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. وأحبك الله الذي أحببتنا فيه..
أخي السائل:
بما أن هذه المسألة قد كثر الأخذ والرد فيها هذه الأيام، وتكلم فيها من يحسن ومن لا يحسن من الأنام، وطرحت في الصحف والإذاعات والقنوات، وأشتد الخصام فيها عبر بعض الشاشات، استعنت بالله فراجعت نحو ألف صفحة مما سطره أهل العلم والدراية، حتى تمخض قلمي عن هذه الإجابة لمن أراد الهداية؛ فأقول:
ن الناس في هذه المسألة بين طرفي نقيض ووسط؛ فمنهم من يجعلها جميعها أمراض عضوية أو نفسية، ومنهم من يجعلها جميعها من قبيل المس والتلبس..
والحق وسط بينهما، فهناك ما يكون بسبب مرض عضوي، أو مرض نفسي، وهناك ما يكون بسبب مس أو سحر أو عين.. إلخ
فالأمراض ثلاثة أنواع:
1 – مرض عضوي.
2 – مرض نفسي.
3 – مرض روحي.
والثالث هو مس الجان، لبني الإنسان، وقد يكون سبباً للنوع الأول أو الثاني، أو لكليهما.. قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: "يجوز عندنا أن تكون هذه العلل كلها تنشأ في الأصل من توجّهات شيطانية، فإن عوالم المجرّدات –كالأرواح- لم تنكشف أسرارها لنا حتى الآن، ولعل لها ارتباطات شعاعية..".اهـ [التحرير والتنوير 2/550]. وهذا النوع هو الذي ينكره البعض.
وعلى قلة إطلاعي، وقصر باعي؛ فإني لم أر أحداً من علماء أهل السنة والجماعة ينكر مس الجن للإنس، أو دخول الجن في بدن الإنس، إلا بعض من شذ من المتقدمين كالإمام ابن حزم رحمه الله في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" 5/83.. وكان دليله على ما ذهب إليه عدم وجود الدليل فيما يزعم رحمه الله.
وإلا من شذ من المعاصرين كالشيخ محمد الغزالي في كتابه: "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، ولم يذكر دليلاً واحداً، لا من المنقول، ولا من المعقول، يبين استحالة دخول الجني في بدن الإنسي!
قال الشيخ الألباني –غفر الله له-: "لقد أنكر بعض المعاصرين عقيدة مسّ الشيطان للإنسان مسّاً حقيقياً، ودخوله في بدن الإنسان وصرعه إيّاه، وألف بعضهم في ذلك بعض التأليفات، وموَّهوا فيها على الناس..".اهـ [تحريم آلات الطرب ص165].
وقد تشبث الغزالي ومن لف لفه، بأئمة المعتزلة والعقلانيين وجعلهم سلفه! قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما، دخول الجن في بدن المصروع، ولم ينكروا وجود الجن؛ إذ لم يكن ظهور هذا من المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم كظهور هذا، وإن كانوا مخطئين في ذلك، ولهذا ذكر الأشعري في "مقالات أهل السنة والجماعة" أنهم يقولون: إن الجن يدخل في بدن المصروع".اهـ [مجموع الفتاوى 19/12].
فإثبات مس الجني للإنسي وإمكان دخوله فيه؛ هي عقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة".اهـ
وقال أيضاً: "وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك؛ فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك".اهـ [مجموع الفتاوى 24/277].
قال أبو همام: بل في الأدلة الشرعية ما يؤيد قول أهل السنة والجماعة، منها:
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة: 275].
وفي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم المجنون". [انظر: تفسير ابن عطية 2/480].
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "في هذه الآية دليلٌ على فساد إنكار من أنكر الصَّرع من جهة الجِنِّ، وزعم أنه من فِعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مَسٌّ، وقد مضى الردُّ عليهم فيما تقدَّم من هذا الكتاب".اهـ [الجامع لأحكام القرآن 4/391].
وقال العلامة ابن عاشور رحمه الله: "فتخبّط الشيطان المرءَ جعله إياه متخبّطاً، أي متحركاً على غير اتّساق. والذي يتخبّطه الشيطان هو المجنون الذي أصابه الصرع. فيضطرب به اضطرابات، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام..
والمسّ في الأصل هو اللمس باليد كقولها: "المَس مس أرنب"، وهو إذا أطلق معرفاً بدون عهد مسٍّ معروف دل عندهم على مسّ الجن، فيقولون: رجل ممسوس أي مجنون.
وإنما احتيج إلى زيادة قوله: (من المس) ليظهر المراد من تخبط الشيطان فلا يظنّ أنه تخبط مجازي بمعنى الوسوسة. و(مِن) ابتدائية متعلقة بيتخبطه لا محالة".اهـ [التحرير والتنوير 2/550].
وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف: 201].
قال العماد ابن كثير رحمه الله: "(إذا مسهم) أي أصابهم (طَيْفٌ) وقرأ آخرون: (طائف) وقد جاء فيه حديث، وهما قراءتان مشهورتان، فقيل: بمعنى واحد. وقيل: بينهما فرق. ومنهم من فسر ذلك بالغضب، ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه..".اهـ [تفسير القرآن العظيم 2/350].
وعن أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يجري من ابن آدمَ مجرى الدَّم) [متفق عليه].
قال الإمام القرطبي رحمه الله في رده على المعتزلة: "وقد أنكر هذا الخبرَ كثيرٌ من الناس، وأحالُوا رُوحينِ في جَسد، والعقلُ لا يُحيل سُلُوكهم في الإنس، إذ كانت أجسامهم رقيقةً بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم، ولو كانوا كِثافاً لصحَّ ذلك أيضاً منهم، كما يصحُّ دخولُ الطعام والشراب في الفراغ من الجسم، وكذلك الديدان قد تكونُ في بني آدم وهي أحياء".اهـ [الجامع لأحكام القرآن 2/282].
وقال الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "وبه يرد على من أنكر سلوكه في بدن الإنسان؛ كالمعتزلة".اهـ [الفتاوى الحديثية ص72].
وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع وإني أتكشف فادع الله لي. قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك). فقالت: أصبر. فقالت: إني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها. [متفق عليه].
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله بعد أن ذكر طرقاً للحديث: "وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتها أن الذي كان بأمّ زفر كان من صَرعِ الجن، لا من صرع الخلط".اهـ [فتح الباري 10/143].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تثاوب أحدكم فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخل)، وفي رواية: (فليضع يدهُ على فمه، فإن الشيطانَ يدخلُ مع التثاؤب). [أخرجه مسلم].
قال الإمام النووي رحمه الله: "قال العلماء: أمر بكظم التثاوب ورده ووضع اليد على الفم لئلا يبلغ الشيطان مراده من تشويه صورته ودخوله فمه وضحكه منه والله أعلم".اهـ [شرح صحيح مسلم 18/166].
وعن أبي اليسر كعب بن عمرو قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من التردِّي والهدم، والغرق والحريق، وأعوذ بك أن يتخبَّطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً)". [أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني].
قال القاضي رحمه الله: "أي من أن يمسني الشيطان بنزعاته التي تزل الأقدام وتصارع العقول والأوهام".اهـ [عون المعبود 4/241].
وعن أم أبان بنت الوازع بن زارع بن عامر العبدي عن أبيها: "أن جدها الزارع انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق معه بابن له مجنون –أو ابن أخت له- قال جدي: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن معي ابناً لي –أو ابن أخت لي- مجنون، أتيتك به تدعو الله له. قال: (ائتني به). قال: فانطلقت به إليه وهو في الركاب، فأطلقت عنه وألقيت عنه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين، وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أدنه مني، اجعل ظهره مما يليني). قال بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله؛ فجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض إبطيه، ويقول: (أخرج عدو الله، أخرج عدو الله). فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول، ثم أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، فدعا له بماء فمسح وجهه ودعا له، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل عليه". [أخرجه أبو داود، وأحمد، وغيرهما، وحسنه ابن عبد البر، وأقره المنذري في "مختصر السنن" 8/86، وجودَّه ابن حجر في "فتح الباري" 11/57، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/390: "رجاله ثقات".اهـ].
وعن يعلى بن مرة: "أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم معها صبي لها به لمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اخرج عدو الله، أنا رسول الله) قال: فبرأ.." الحديث، وفي رواية:
"ثم فغر فاه فنفث فيه ثلاثاً، وقال: (بسم الله، أنا عبد الله، اخسأ عدو الله)..". [أخرجه أحمد، وابن أبي شيبة، والطبراني، وابن عبد البر، وبمثله الدارمي في سننه 1/10-11، والبيهقي في "الدلائل" 6/24-26، وغيرهم، وجوّد إسناده المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/158، وصححه البقاعي في "نظم الدرر" 4/113، وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" 6/159: "إسناده جيد، ورجاله ثقات".].
وعن عثمان بن بشر قال: سمعت عثمان بن أبي العاص يقول: "شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسيان القرآن، فضرب صدري بيده فقال: (يا شيطان اخرج من صدرِ عثمان) –ثلاث مرات-، قال عثمان: فما نسيت منه شيئاً بعد؛ أحببت أن أذكره". [أخرجه ابن ماجة (3548)، والبيهقي في "دلائل النبوة" 5/308، والطبراني في "المعجم الكبير" 9/37/8347، وأبو نعيم في "الدلائل" ص400، والروياني في مسنده، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" برقم: (2918)].
قال شارح سنن ابن ماجة في "إهداء الديباجة" 4/615: "في حديث عثمان ابن أبي العاص دليل على أن الشيطان يصرع الإنسان ويتلبس به، ويؤذيه..".اهـ
وعن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي؛ قال: "مرّ ابن عمر برجلٍ من أهل القرآن ساقط، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط! ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم".اهـ [أورده الشاطبي في "الاعتصام" 1/276، وعزاه لأبي عبيد، وهو في "فضائل القرآن" له ص214، وانظر: "تفسير البغوي" 4/77، و"جامع الأصول" 2/467].
وقريب من هذا؛ ما أخرجه سعيد بن منصور في "التفسير" برقم: (95)، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" ص214، والبيهقي في "الشعب" برقم: (1900) وغيرهم، بإسناد صحيح عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما؛ قالت: "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم. قيل لها: فإن أناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خرَّ أحدهم مغشياً عليه! فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: "قلت لأبي: إن أقواماً يقولون: إن الجني لا يدخل في بدن المصروع. فقال: يا بني! يكذبون، هذا يتكلم على لسانه".اهـ [مجموع الفتاوى لابن تيمية 19/12، وزاد المعاد لابن القيم 3/84، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1/233، وآكام المرجان للشبلي ص134، ولقط المرجان للسيوطي ص93].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الجن تدخل في بني آدم والناس لا يرونهم، وإنما يرون جسد المصروع".اهـ [الجواب الصحيح 4/288].
بل حتى أهل الكتاب يوافقون أهل الحق في إثبات دخول الجن في بدن المصروع؛ جاء في سفر لاويين من العهد القديم 20/27: "من كان فيه جان؛ يقتل رجما بالحجارة!".اهـ
وقال الإمام البقاعي رحمه الله: "وفي الإنجيل من ذلك كثير جداً، قال في إنجيل متى ولوقا ومرقس، يزيد أحدهم على الآخر، وقد جمعت بين ألفاظهم:
وجاء –يعني: عيسى عليه الصلاة والسلام- إلى عبر البحر إلى كوة الجرجسيين. وقال في إنجيل لوقا: التي هي مقابل عبر الجليل، فلما خرج من السفينة استقبله مجنون. قال لوقا: من المدينة معه شياطين. وقال متى: مجنونان جائيان من المقابر رديئان جداً، حتى إنه لم يقدر أحد أن يجتاز من تلك الطريق، فصاحا قائلين: ما لنا ولك يا يسوع! جئت لتعذبنا قبل الزمان؟! قال لوقا: وكان يربط بالسلاسل والقيود ويحبس، وكان يقطع الرباط ويقوده شياطين كثيرة. وقال مرقس: فقال له: اخرج أيها الروح النجس! اخرج من الإنسان... [فـ]خرجت الأرواح النجسة...
وفي إنجيل متى: فلما خرج يسوع من هناك قدَّموا إليه أخرس به شيطان، فلما خرج الشيطان تكلم الأخرس، فتعجب الجميع...
ثم قال: حينئذ أتى إليه بأعمى به شيطان أخرس فأبرأه، حتى إن الأخرس تكلم وأبصر، فبهت الجمع كلهم...
وفيه بعد ذلك: فلما جاء إلى الجمع جاء إليه إنسان.. قائلاً له [كما] في إنجيل لوقا: يا معلم! ارحم ابني؛ فإنه يعذب في رؤوس الأهلة، ومراراً كثيرة يريد أن ينطلق في النار، ومراراً كثيرة في الماء. وفي إنجيل مرقس: قد أتيتك بابني وبه روح نجس، وحيث ما أدركه صرعه وأزبده وضرر أسنانه فتركه يابساً.. وفي إنجيل لوقا: وفيما هو جاءٍ به طرحه الشيطان ولبطه. وفي إنجيل مرقس: فلما رأته الروح النجسة من ساعته صرعته وسقط على الأرض مضطرباً مزبداً. ثم قال لأبيه: من كم أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه. ثم قال ما معناه: افعل معه ما استطعت، وتحنن علينا. فقال له يسوع: كل شيء مستطاع للمؤمن. فصاح أبو الصبي وقال: أنا أؤمن؛ فأعن ضعف إيماني. فلما رأى يسوع تكاثر الجمع انتهر الروح النجس، وقال: يا أيها الروح الأصم الغير ناطق! أنا آمرك أن تخرج منه ولا تدخل فيه. فصرخ ولبطه كثيراً وخرج منه، وصار كالميت، وقال كثير: إنه مات، فأمسك يسوع بيده وأقامه فوقف. وفي إنجيل متى: فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان وبرئ الفتى في تلك الساعة...
وقال في إنجيل مرقس: إنه كان يعلم في كفرناحوم مدينة في الجليل. قال: وكان في مجمعهم رجل فيه روح شيطان نجس، فصاح بصوت عظيم قائلاً: ما لنا ولك يا يسوع الناصري؟! أتيت لتهلكنا.. فنهره يسوع قائلاً: اسدد فاك واخرج منه. فأقلقته الروح النجسة وصاح بصوت عظيم وخرج منه. وفي إنجيل لوقا: فطرحه الشيطان في وسطهم وخرج منه ولم يؤلمه...
وفي إنجيل لوقا: .. فلما سمعت امرأة كانت بابنة لها روح نجس جاءت إليه.. وكانت يونانية صورية، وسألته أن يخرج الشيطان من ابنتها.. فقال لها..: اذهبي، قد خرج الشيطان من ابنتك. فذهبت إلى ابنتها فوجدت الصبية على السرير والشيطان قد خرج منها.
وفي إنجيل مرقس: إنه أخرج من مريم المجدلانية سبعة شياطين.
وفي إنجيل لوقا: وكان بعد ذلك يسير إلى كل مدينة وقرية ويركز ويكبر بملكوت الله ومعه الاثنا عشر ونسوة كن أبرأهن من الأمراض والأرواح الخبيثة: مريم التي تدعى المجدلانية التي أخرج منها سبعة شياطين...".اهـ
ثم قال الإمام البقاعي رحمه الله: "وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافياً؛ لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان".اهـ [نظم الدرر 4/114-122 باختصار وتصرف يسير].
وكذلك؛ فإن المشاهدة والعقل والحس، يثبتون مس الجن للإنس، وقد شاهدنا من ذلك أموراً، وباشرنا أموراً..
قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله: "يجوز –أي: عقلاً- للجن أن يدخلوا في الناس لأن الجن أجسام رقيقة فليس بمستنكر أن يدخلوا في جوف الإنسان في خروقه كما يدخل الماء والطعام في بطن الإنسان وهو أكثف من أجسام الجن".اهـ [مقالات الإسلاميين 2/108].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يتكلم الجني على لسان المصروع: إما بكلام من جنس كلام الأعاجم الذين لا يفقه كلامهم؛ كلسان الترك أو الفرس أو غيرهم، ويكون الإنسان الذي لبسه الشيطان عربياً لا يحسن أن يتكلم بذلك، بل يكون الكلام من جنس كلام من تكون تلك الشياطين من إخوانهم، وإما بكلام لا يعقل ولا يفهم له معنى".اهـ [الجواب الصحيح 2/341].
وقال أيضاً: "إن الشياطين تلبس أحدهم بحيث يسقط إحساس بدنه، حتى إن المصروع يُضرب ضرباً عظيماً وهو لا يحس ولا يؤثر في بدنه".اهـ [مجموع الرسائل الكبرى 2/307].
وقال أيضاً: "كالمصروع الذي يُضرب ضرباً وجيعاً وهو لا يحس بذلك؛ لأن الضرب يقع على الجني".اهـ [مجموع الفتاوى 35/112].
وقال أيضاً: "الجني إذا دخل في الإنسي وصرعه وتكلم على لسانه؛ فإن الإنسي يتغير حتى يبقى الصوت والكلام الذي يسمع منه، ليس هو صوته وكلامه المعروف، وإذا ضرب بدن الإنسي؛ فإن الجني يتألم بالضرب ويصيح ويصرخ ويخرج منه ألم الضرب، كما قد جرب الناس من ذلك ما لا يحصى، ونحن قد فعلنا من ذلك ما يطول وصفه".اهـ [الجواب الصحيح 4/363، ومجموع الفتاوى 10/349].
وقال أيضاً: "كما يختلف الإنسان وحاله عند الكلام إذا حلّ فيه الجني، وإذا فارقه الجني؛ فإن الجني إذا تكلم على لسان المصروع ظهر الفرق بين ذلك المصروع وبين غيره من الناس، بل اختلف حال المصروع وحال كلامه وسمع منه من الكلام ما يعلم يقيناً أنه لا يعرفه، وغاب عقله بحيث يظهر ذلك للحاضرين، واختلف صوته ونغمته".اهـ [الجواب الصحيح 2/46-47].
وقال أيضاً: "فإنه يصرع الرجل؛ فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضرباً عظيماً لو ضرب به جمل لأثَّر به أثراً عظيماً، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب، ولا بالكلام الذي يقوله، وقد يجر المصروع وغير المصروع، ويجر البساط الذي يجلس عليه ويحول آلات، وينقل من مكان إلى مكان، ويجري غير ذلك من الأمور، من شاهدها أفادته علماً ضرورياً بأن الناطق على لسان الإنسي، والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان".اهـ [مجموع الفتاوى 24/277، وانظر: الجواب الصحيح 4/12].
وقال أيضاً: "وقد يخبرون –أي: الجن الصارعين- بأمور غائبة مما رأوه وسمعوه، ويدخلون في جوف الإنسان..".اهـ [النبوات ص399].
وقال الإمام البقاعي رحمه الله: "مشاهدة المصروع يخبر بالمغيبات، وهو مصروع غائب الحس، وربما كان يلقى في النار وهو لا يحترق، وربما ارتفع في الهواء من غير رافع؛ فكثير جداً لا يحصى مشاهده... إلى غير ذلك من الأمور الموجبة للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطين".اهـ [نظم الدرر 4/112].
وبعد؛ فإذا ثبت ذلك عندك –أخي السائل- بما سقناه لك من المنقول والمعقول، فلا تُعكر عليك شبهة القوم، التي مفادها: إذا صح أن الجن يدخل في بدن المصروع، فكيف يُصرع بعض الناس في رمضان، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشياطين تُصفد في رمضان –كما في الصحيحين-؟!
فيُجاب على هذه الشبهة من عدة أوجه:
الوجه الأول: آمنا به، كل من عند رسول ربنا صلى الله عليه وسلم، ذكر ابن أبي يعلى في "الطبقات" 1/185، والعليمي في "المنهج" 1/297: أن عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله سأل أباه عن كيفية التوفيق بين حديث تسلسل الشياطين في رمضان، ورؤية المجنون يُصرع في رمضان؟! فأجابه بقوله: "هكذا الحديث، ولا نتكلم في هذا".اهـ
الوجه الثاني: قد يكون المراد بالحديث تصفيد مردة الشياطين، لا كلهم. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وقال غيره: المراد بالشياطين بعضهم وهم المردة منهم، وترجم لذلك ابن خزيمة في صحيحه وأورد ما أخرجه هو والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن)، وأخرجه النسائي من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة بلفظ: (وتغل فيه مردة الشياطين)".اهـ [فتح الباري 4/147].
الوجه الثالث: قد يكون المراد بالحديث تصفيد الشياطين عن بعض الأمور لا كلها. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد من الشياطين مسترقو السمع منهم، وأن تسلسلهم يقع في ليالي رمضان دون أيامه، لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ، ويحتمل أن يكون المراد أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات وبقراءة القرآن والذكر".اهـ [فتح الباري 4/147].
الوجه الرابع: قد يكون المراد بالحديث المجاز لا الحقيقة، قال الإمام النووي رحمه الله: "ويحتمل أن يكون المراد المجاز، ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم ليصيرون كالمصفدين، ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء، ولناس دون ناس".اهـ [شرح صحيح مسلم 7/264].
الوجه الخامس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشياطين)، ولم يقل: (الجن)، فالتصفيد للكفار من الجن، ويبقى الفساق والمبتدعة من الجن غير مصفدين.
وهؤلاء –أعني الفساق والمبتدعة- قد يصولون على الإنسي ويعتدون عليه فيصرعونه، كما هو الحال في الفساق والمبتدعة من الإنس، قد يصول ويعتدي أحدهم على غيره في رمضان!
جاء في المعيار المعرب 1/425-426 أنه سئل الشيخ أبو الحسن القابسي عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشياطين تصفد في رمضان)، ونحن نجدها توسوس في رمضان، ونجد من المسلمين من يعصي في رمضان.
فأجاب بأن قال: "قد يوسوس وهو مصفد. ثم قال: كنت بالمنستير في بعض الرمضانات، وكان بها رجل من أهل القرآن، وكانت به عرضة تصرعه. قال الشيخ: فأنا جالس حتى أتوني فقالوا لي: صرع فلان. ثم سألوني عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في تصفيد الشياطين، فقال: قلت لهم: الحديث حق، وما يصيب الإنسان في هذا عيان؛ فيحتمل، والله أعلم، أن يكون معنى قوله عليه السلام: وصفدت الشياطين؛ أي: كفرة الجن الذين يسمون شياطين، وأن المؤمنين من الجن لا يصفدون، فيكون الوسواس وتزيين المعاصي إنما يقع من فساق الجن ومن دونهم المسلمون منهم ويعدونها معاصي، مؤمنو المسلمين يعصون؛ فكيف بمؤمني الجن، الكفار منهم يصفدون دون المؤمنين لأنه عليه السلام لم يقل: وصفدت الجن! إنما اختص الشياطين. قيل له: إن بعض الناس قال فيه تصفد عن بعض الأعمال دون بعض. فقال: القول بأن معناه يحتمل بعض الشياطين دون بعض أولى، وأولى من هذا أن يقال: لا علم لنا، قد قالها النبي صلى الله عليه وسلم رواها عنه العلماء؛ لأنه إذا لم يذكر لنا المعنى قد يحتمل أن يكون المعنى غير ما قلناه مما هو خير وأحسن مما تأولناه".اهـ
الوجه السادس: قد يكون صرع من صُرع من الإنس في رمضان من قبيل صرع الأخلاط، لا من قبيل صرع الجن؛ فإن الصرع صرعان.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء؛ في سببه وعلاجه.
وأما صرع الأرواح؛ فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدافع آثارها، وتعارض أفعالها وتُبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه، فذكر بعض علاج الصرع، وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة، وأما الصرع الذي يكون من الأرواح؛ فلا ينفع فيه هذا العلاج.
وأما جهلة الأطباء وسَقَطُهم وسِفلَتُهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة؛ فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا؛ فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها..
وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم".اهـ [زاد المعاد 4/66-67، باختصار].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "انحباس الريح قد يكون سبباً للصرع، وهي علة تمنع الأعضاء الرئيسية عن انفعالها منعاً غير تام، وسببه ريح غليظة تنحبس في منافذ الدماغ، أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصباً بل يسقط ويقذف الزبد لغلظ الرطوبة.
وقد يكون الصرع من الجن، ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم، إما لاستحسان بعض الصور الإنسية، وإما لإيقاع الأذية به.
والأول: هو الذي يثبته جميع الأطباء ويذكرون علاجه.
والثاني: يجحده كثير منهم، وبعضهم يثبته ولا يعرف له علاجاً، إلا بمقاومة الأرواح الخيرة العلوية لتندفع آثار الأرواح الشريرة السفلية وتبطل أفعالها. وممن نص منهم على ذلك؛ بقراط، فقال لما ذكر علاج المصروع: هذا إنما ينفع في الذي سببه أخلاط، وأما الذي يكون من الأرواح فلا".اهـ [فتح الباري 10/142]. والله أعلم". انتهت الإجابة بحمد الله وفضله وطوله..
والحمد لله الذي تتم به الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
وكتب: أبو همام بكر بن عبد العزيز الأثري
29/2/1432هـ - 2/2/2011م
رد مع اقتباس