استمرار التقدم والفتح
... وعند انتهاء الشتاء وحلول الربيع سنة 95هـ تهيأ الجيش
الإسلامي لترك طليطلة ثم أوغل شمالاً ففتح مدن لاردة ووشقة
وطركونة وبرشلونة، كما فتح بلنسية وطرطوشة على الساحل
الشرقي للأندلس وفي هذا الوقت وصل مغيت الرومي مبعُوثاً من
جانب الخليفة الوليد عبد الملك يحمل إلى موسى بن نصير أمر
الخليفة بالقدوم إلى دمشق، ولكن فتح الأندلس لم يكن قد اكتمل
بعد، لذلك لاطف موسى مغيثاً وسأله إنظاره إلى أن ينفذ عزمه في
دخول بلاد جليقية واشتوريس ويكمل فتح الأندلس ويكون مغيث
شريكه في الأجر والغنيمة ـ أي يصبح له سهماً في القيمة ـ ففعل
مغيث ومشى في ركاب موسى إلى جليقية والأشتوريس ففتحها
وتعقب موسى وطارق فلولا القوط حتى اضطرّ هؤلاء إلى الفرار
إلى جبال كنتبرية في أقصى الشمال الغربي من الأندلس، ولما
تأخرت أخبار موسى قلق الخليفة الوليد على مصير الجيش الذي
مضى على وجوده في البعوث ما يقارب أربع سنين، لذلك أرسل
الوليد رسولاً ثانياً، فوصل الرسول الأندلس وموسى في مدينة لَكْ
بحُليقية يُوجَّهُ السرايا والبعوث التي بلغت صخرة بلاك التي تقع
في الشمال الغربي على البحر الأخضر ـ خليج بسكاي ـ من
المحيط الأطلسي، فاستجاب موسى إلى الرسول وعاد إلى طليطلة
ثم غادرها إلى قرطبة ومنها إلى أشبيلية حيث استخلف فيها ولده
عبد العزيز والياً واتخذ منها عاصمة للبلاد، ولكن أشبيلية لم
تمكث طويلاً عاصمة للبلاد وإنما استعيض عنها بقرطبة منذ عام
97هـ وظلت قرطبة مركز الديار الأندلسية حتى نهاية عهد
الخلافة في الأندلس، ويبدو أن موسى اختار اشبيلية عاصمة في
هذه المرحلة من تاريخ الأندلس لوقوع اشبيلية في منطقة
اشبيلية
تتساوى عندها احتمالات الخطر والسلامة، وواجبات الحفاظ على
البلاد وحمايتها، فهي لم تخرج إلى الأطراف بعيداً عن الوسط،ولم
تقترب من خطوط المواجهة مع الأعداء بعيداً عن بلاد المغرب
وإمداداتها.
رجوع موسى إلى عاصمة الخلافة دمشق
... غادر ركب موسى وطارق بن زياد الأندلس في ذي الحجة عام
95هـ يحمل معه الأسرى والغنائم الوفيرة والهدايا الثمينة
وغيرها من الكنوز، فلما بلغ طنجة ترك ابنه عبد الملك فيها
حاكماً، ثم انصرف منها إلى القيروان فأقرّ ابنه عبدالله الذي كان
القيروان
قد استخلفه في أثناء غيابه في الأندلس، ثم سار من هناك يريد
دمشق فوصلها في عام 96هـ .
ومن الأسباب التي ذكرت في سبب استدعاء موسى إلى
دمشق تخوف الوليد على المسلمين أن يكونوا في أرض منقطعة،
ومحاطة بمناطق غير إسلامية وعلى اتصال بها، هي أقرب إليها
من العالم الإسلامي أو مراكز ارتباطه واستمداده وهو الذي رأيناه
عارض فتح الأندلس خوفاً على المسلمين أن يخوضوا المخاطر
ويركبوا المهالك حتى بين له موسى ألا داعي للخوف، ويرى
الكثير من المؤرخين أن موسى بن نصير لم يكن يعتزم التوقف
في فتوحاته عند هذا الحد وإنما كان يخطط لعبور جبال البرانس
واجتياح أوربا كلها والوصول إلى القسطنطينية وفتحها من جهة
الغرب لولا أن استدعاه الخليفة الوليد إلى دمشق وأمره بالتوقف
دمشق
بالفتح عند هذا الحد، ويؤكد المؤرخون أنه لو قد قدر لموسى بن
نصير أن يمضي قدماً في مشروعه هذا لتغير شكل النظام الدولي
تماماً ولقضى على القوى غير الإسلامية، ذلك أنهم باستقرائهم
النظام الدولي وقتئذ فإنهم يؤكدون أن احتمالات نجاح مشروعه
هذا كانت عالية جداً، إذا لم تكن الظروف مواتية لنجاحه مثلما
كانت مواتية وقتها، فمملكة الفرنجة كانت مشغولة وقتها
بصراعاتها مع الممالك الأخرى ولم يكن هناك كيان سياسي واحد
في أوربا كلها يعادل قوة الدولة الإسلامية أو حتى بدايتها، ويشير
هؤلاء المؤرخون إلى أنه لما قدر للمسلمين في هذه المنطقة قائد
كفء بعد عشرين عاماً من ضياع هذه الفرصة كانت الظروف
الدولية قد تغيرت لغير صالح المسلمين، فلما حاول هذا القائد
إحياء مشروع موسى بن نصير هزم هزيمة ضخمة تدخل في
تاريخ العلاقات الدولية بوصفها نقطة تحول وهي معركة بلاط
الشهداء، وقد تكرست الآثار السلبية لعدم استكمال موسى بن
نصير لمشروعه بفشل حصار المسلمين للقسطنطينية بعد ذلك
بسنوات قليلة وهو ما أغلق أوربا أمام المسلمين من الشرق بعد
أن كانت قد أُغلقت أمامهم من الغرب، ولقد فشل المحللون في
تفسير سبب استدعاء الخليفة الوليد لموسى بن نصير، فبعضهم
قائل إنه أشفق على المسلمين من مخاطر هذا المشروع البحري،
وبعضهم الآخر يؤكد أن الخليفة إنما خاف على سلطانه من
تصاعد نفوذ وقوة موسى بن نصير وسواء صحت هذه التفسيرات
أو أخطأت، فإن ما حدث بالفعل بعد استدعاء موسى بن نصير إلى
دمشق، هو تقويض هدف مصيري للأمة أضاعت فيه فرصة ثمينة
في فتح أوربا وجعلها تحت نفوذ الدولة الإسلامية.
وقد وصف الذهبي موسى بن نصر بقوله: الأمير الكبير، أبو عبد
الرحمن اللخمي، متولي إقليم المغرب، وفاتح الأندلس، قيل: كان
مولى امرأة من لخم، وقيل: ولاؤه لبني أمية. وكان مهيباً ذا
رأي وحزم، وكان من اصحاب الهمم الكبيرة فقد قال مرّة: والله لو
انقاد الناس لي، لقدتهم حتى أُوقعهم على رُومية ثم ليفتحنها
الله على يدي، وكان موسى بن نصير بوسعه أن يستقل على
الخلافة ويقيم ملكاً له ولأولاده في المغرب والأندلس، ولكن
إيمانه العميق بتعاليم الإسلام وتمسكه والتزامه بها جعله لا يفكر
بذلك حتى إن يزيد بن المهلب ابن أبي صفرة سأله عن ذلك فقال
موسى: والله لو أردت ذلك ما نالوا من أطرافي طرفاً، ولكني آثرت
الله ورسوله، ولم نر الخروج عن الطاعة والجماعة، وقد توفي
موسى بن نصير رحمه الله تعالى وهو متجه للحج برفقة الخليفة
سليمان بن عبد الملك في المدينة المنورة ـ على سكانها أفضل
الصلاة والسلام ـ أو في وادي القرى ((العُلا ، حاليا) أواخر سنة
97هـ وعمره ثمان وسبعون سنة أو يزيد (في سنة 97هـ)، وقال
صاحب معالم الإيمان: توفي بالمدينة متوجهاً إلى الحج وكان قد
المدينة المنورة
سأل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة أو يموت بالمدينة فأجاب الله
دعاءه، وصلى عليه مسلمة بن عبد الملك لقد كانت الدنيا وما
فيها صغيرة ولا قيمة لها عند موسى بن نصير ويرجع الفضل في
ذلك إلى الله ثم نصيحة العالم الجليل أبو عبد الله علي بن رباح
اللخمي لموسى بن نصير، فقد أورد صاحب كتاب رياض النفوس
أن موسى بن نصير لما وصل من الأندلس إلى القيروان قعد يوماً
في مجلسه، فجاءه العرب يسلمون عليه، فلما احتفل المجلس
قال: إنه قد صحبتني ثلاث نعم: أما واحدة فإن أمير المؤمنين كتب
إلى يهنئني في كتابه وأمر بقراءة الكتاب، فهنيء بذلك وأما
الثانية فإن كتاب ابني قدم علي بأنه فتح له بالأندلس فتح عظيم،
وأمر بالكتاب فقريء فهنيء بذلك، وكان علي بن رباح ساكت
فقال له موسى: مالك يا علي لا تتكلم؟ فقال: أصلح
الله الأمير، قد قال القوم فقال: وقل أنت أيضاًَ. فقال: أنا أقول ـ
وأنا أنصح القائلين لك ـ إنه ما من دار امتلأت حبرة إلا امتلأت
عبرة، وما انتهى شيء إلا رجع، فارجع قبل أن يرجع بك، فانكسر
موسى بن نصير وخشع وفرق جواري عدة.. وقال صاحب
الرياض: ونفعه الله عز وجل بموعظة أبي عبد الله بن رباح،
فصغرت عنده الدنيا وما فيها ونبذها وانخلع مما كان فيه من
الإمارة، فرضي الله عن التابعي الجليل، والإداري الحازم، والبطل
المغوار، والقوي الأمين، القائد الفاتح، موسى بن نصير اللخمي
الذي فتح المغرب الأقصى، واستعاد فتح المغرب الأوسط، وأنه
دعم الفتح الإسلامي في الشمال الإفريقي وأنه فتح الأندلس وقسماً
من جنوب فرنسا وأنه كان من أعظم قادة الفتح الإسلامي، لقد
مات موسى بن نصير بعد أن ملأ جهاده ـ بقيادة المد الإسلامي
المبارك ـ وديان المغرب الإسلامي ((الشمال الإفريقي
والأندلسي)) وجباله وسهوله وهضابه ووجه دعاة الحق لإسماع
ساكنيه دعوة الإسلام الخالدة، فكانت سبباً في إخراجهم من الكفر
إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، أما
ترى معي موسى وهو يجوب الصحاري والوديان والسهول
والجبال وقد سلخ من سني عمره خمساً وسبعين سنة ممتطياً
جواده يتحرك في أعماقه إيمان بالله العلي القدير قد دفعه للجهاد
والدعوة والعلم والتربية وأحكام أمور الدولة رغم ما علا رأسه
من الشيب الوقور، منقاد لإصرار العقيدة السمحة، وهمة الإيمان
الفتي، التي كانت سبباً في كل خير أصاب المسلمين
أما عن البطل الكبير طارق بن زياد، فلا نكاد نعرف عما حدث له
بعد وصوله دمشق غير أن رواية تذكر رغبة سليمان في تولية
طارق الأندلس، وبعد ذلك قضى آخر أيامه مغموراً فهل عاد إلى
المغرب والأندلس؟ أم بقي في دمشق ولا يستبعد أن يكون عاد
إلى الأندلس أو المغرب، كان طارق من البربر وعامّة جنوده
كذلك، فيهم شجاعة وإقدام، فقد تربوا في أحضان الإسلام وعلى
تعاليم القرآن الكريم وأصبحوا أصحاب رسالة خالدة صنعت منهم
الأبطال، وقدموا في سبيل دينهم وعقيدتهم الغالي والنفيس، بل
نجزم بأن الجيوش الإسلامية الضاربة التي اصطدمت بالأسبان
اعتمدت بعد الله على إخواننا من البربر الذين اندفعوا خلف طارق
في سبيل هذا الدين ونشره، إن العقيدة الإسلامية صهرت
المنتسبين إليها عرباً وعجماً في رحاب الإسلام العظيم.
|