شروط وضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وﻻ عدوان إﻻ على الظالمين، وأشهد أن ﻻ إله إﻻ الله إله اﻷولين، واﻵخرين وقيوم السماوات واﻷرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين بالدين القويم، دين الحق والهدى الذي ﻻ يقبل الله من أحد دينا سواه، أمر بالتمسك به وحذر مما يخالفه فمن اتبعه فقد اتبع الهدى والنور، ومن أعرض عنه فقد ضل وشقى وكان من الخاسرين، فصلى الله وسلم وبارك على خاتم اﻷنبياء والمرسلين الذي جاء بالحق وأمر بتباعه ونهى عن الباطل وأمر باجتنابه، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة اﻹسﻼم وأوضح مفهومه بأنه شهادة التوحيد، وإقامة الصﻼة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، فمن جاء بأركان اﻹسﻼم وقام بها حق القيام فهو المسلم على رغم أنف من أبى ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه-:#«من صلى صﻼتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فﻼ تحقروا الله في ذمته» أخرجه البخاري في صحيحه: 1/ 153، برقم: 384. ، وفي رواية: فهو«المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم» صحيح البخاري: 1/ 153، برقم: 385. .
وبعد فهناك جملة من المسائل ينبغي التأكيد عليها قبل الخوض في غمار هذا الموضوع الهام والعظيم وخاصة في زماننا هذا الذي كثر فيه التكفير وإصدار اﻷحكام الكفرية جزاف دون بصيرة وعلم، ودون الرجوع إلى أهل العلم، ودون مراعاة للشروط والضوابط، والتأكد من انتفاء الموانع وأول هذه المسائل:
المسألة اﻷولى: اﻷمر بالتثبت قبل إصدار اﻷحكام:ولخطورة هذه المسألة فقد أمر الله -عز وجل- بالتثبت فيها قبل إصدار اﻷحكام على الناس قال سبحانه وتعالى:#﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَﻻَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّﻼَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾#[النساء: 94].
فقد أمر الله -عز وجل- المجاهدين في سبيل الله التثبت فيمن أشكل عليهم أمره ولم يعلموا حقيقة إسﻼمه و ﻻ كفره قال ابن جرير: "فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره فلم تعلموا حقيقة إسﻼمه وﻻ كفره وﻻ تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، وﻻ تتقدموا على قتل أحد إﻻ على قتل من علمتموه يقينا حربا لكم ولله ولرسوله"(17).
يقول اﻹمام محمد بن عبد الوهاب: "فاﻵية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف اﻹسﻼم قتل"(18)، وهذا الحكم عام فﻼ يجوز للمسلم رمي الناس بالكفر حتى يتبين من ذلك ويتثبت، "فالحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين اﻹسﻼم ودخوله في الكفر ﻻ ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم اﻵخر أن يقدم عليه إﻻ ببرهان أوضح من شمس النهار"(19).
المسألة الثانية: ما ورد من النهي عن التكفير وعواقب ذلك:من هذه اﻷحاديث ما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:#«إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما»(20)، وفي رواية:«أيما امرئ قال ﻷخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإﻻ رجعت عليه»(21).
قال ابن حجر -رحمه الله-: "والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك ﻷخيه المسلم وذلك قبل وجود فرقة الخوارج وغيرهم"(22).
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:#«ﻻ يرمي رجل رجﻼ بالفسوق وﻻ يرميه بالكفر إﻻ ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك»(23)، وعن ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:#«من لعن مؤمنا فهو كقتله ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله»(24) .
واﻷدلة المشتملة على الترهيب من تكفير المسلمين ووجوب صيانة أعراض المسلمين كثيرة: واﻷدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه يدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح فكيف إخراجه عن الملة اﻹسﻼمية إلى الملة الكفرية فإن هذه جناية ﻻ تعدلها جناية وجرأة ﻻ تماثلها جرأة وأين هذا المجترىء على تكفير أخيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:#«المسلم أخو المسلم ﻻ يظلمه وﻻ يسلمه»(26)، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:#«سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»(27)، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:#«إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام»(28)، وكم يعد العاد من اﻷحاديث الصحيحة واﻵيات القرآنية والهداية بيد الله -عز وجل-(29).
المسألة الثالثة:
التحرز من تكفير المعين إﻻ بعد قيام الحجة المعتبرة عليه:
فالتكفير المطلق ﻻ يستلزم منه تكفير المعين إﻻ إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع.
يقول شيخ اﻹسﻼم ابن تيمية-رحمه الله-التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وان تكفير المطلق ﻻ يستلزم تكفير المعين إﻻ إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع يبين هذا أن اﻹمام أحمد وعامة اﻷئمة الذين أطلقوا هذه العمومات -أي التكفير المطلق- لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكﻼم بعينه، وقال-رحمه الله- والدليل على هذا اﻷصل الكتاب والسنة واﻹجماع واﻻعتبار(30).
ويقول في موطن أخر وهو يتحدث عن بعض الفرق: "وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضا للعلماء قوﻻن مشهوران وهم روايتان عن أحمد والقوﻻن في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم والصحيح أن هذه اﻷقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا وقد ذكرت دﻻئل ذلك في غير هذا الموضع لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وإنتفاء موانعه"(31).
فهناك فرق بين الحكم المطلق، والحكم على الفاعل، فرق بين أن تقول العمل أو القول الفﻼني كفر، وبين أن تقول فﻼن كافر فقد فعل أو قال كذا من أعمال الكفر، فالحكم المطلق هو بيان للحكم الشرعي، أما المعين فﻼ بد فيه من الشروط والموانع.والسلف الصالح كانوا يتحرزون من تكفير المعين إﻻ وفق ضوابط وقواعد معينة سيأتي الحديث عنها في هذا البحث إن شاء الله تعالى.فهذا اﻹمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- في فتنة خلق القرآن الكريم لم يكفر أحدً من الجهمية بعينه رغم أنهم امتحنوه وحبسوه وجلدوه وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الوﻻيات وقطع اﻷرزاق؛ بل دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدين عن اﻹسﻼم لم يجز اﻻستغفار لهم فإن اﻻستغفار للكفار ﻻ يجوز بالكتاب والسنة واﻹجماع وهذه اﻷقوال واﻷعمال منه ومن غيره من اﻷئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية.(32)
وهذه المسألة أعني تكفير المعين خطيرة لما يترتب عليها من أحكام فالمرء يكون به حﻼل الدم بعد أن كان معصوماً، فقد قال صلى الله عليه وسلم:#«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ﻻ إله إﻻ الله فمن قال ﻻ إله إﻻ الله عصم مني دمه وماله إﻻ بحقه وحسابه على الله»(33)، وكذلك تنتفي وﻻيته على ذريته، وتحرم زوجته، وامتناع التوارث بينهم، وعدم جواز ذبيحته، والصﻼة عليه إذا مات، والدفن في مقابر المسلمين، وعدم اﻻستغفار له، وغيرها من اﻷحكام.فالتحرز من تكفير المعين ﻻبد منه في هذه المسألة الخطيرة.
يقول اﻹمام الغزالي -رحمه الله-: "والذي ينبغي اﻻحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيﻼ فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد"(34).
المسألة الرابعة:
#ﻻ يكون أمر التكفير إﻻ من كان من أهل العلم عالماً بالموانع والشروط، فهو حكم شرعي اﻷصل فيه الرجوع إلى الكتاب والسنة فما دل على كفره الكتاب والسنة فهو كفر، وما دل على أنه ليس بكفر فليس بكفر، فﻼ يكفر إنسان حتى يقوم دليل الكتاب والسنة على كفره، وليس ذلك إﻻ لمن كان من أهل العلم العالم بشروط وموانع التكفير، فاﻷمر جد خطير، قد تطاول فيه كل من هب ودب من المبتدئين من طلبة العلم الشرعي وغيرهم.
وبعد هذه المقدمة التي كان ﻻبد منها قبل الشروع في المقصود نأتي للحديث عن ضوابط التكفير وشروطه التي ﻻ بد منها قبل الحكم على شخص بالكفر والردة.
|