ثانيًا: الجانب الشَّرعي:
مِن المقرَّر لدَى العلماء أنَّ من أهمِّ الشروط التي يجب أن تتحقَّق في الخﻼفة اﻹسﻼميَّة على منهاج النبوَّة -مع اشتراطِ اﻹسﻼمِ، والبلوغِ، والعقلِ، والحريَّةِ، والذُّكوريَّةِ، والعدالةِ، والقرشيَّةِ: شَرْطَي المشورة والتمكين.
أمَّا المشورة:
فهي مشورةُ أهل الحَلِّ والعَقْد والشوكة من العلماء والوجهاء، والقادة وأهل الرأي والمشورة، القادِرين على عَقْد اﻷمور وحَلِّها، الذين يكون الناسُ - من أهل الدِّين والدنيا - تبعًا لهم، وليس أهلُ الحَل والعَقد مجموعةً من الناس تختارهم جماعةٌ من جماعات المسلمين، جهاديَّة كانت أو غير جهاديَّة، ثم يُطلقون عليهم مسمَّى (أهل الحَل والعَقد)
ثم يُقال لهم:
هل تُبايعون فﻼنًا خليفةً على المسلمين؟
فيقولون: نعم!
فليس كلُّ من أُطلق عليهم مسمَّى أهل الحَلِّ والعَقد يكونون فِعلًا أهلَ حَلٍّ وعَقد؛ فاﻷسماء ﻻ تُغيِّر من حقيقة المسمَّيات شيئًا؛ جاء في صحيح البخاريِّ عن عُمرَ رضي الله عنه أنَّه قال: ((مَن بايع رجلًا عن غير مشورةٍ من المسلمين، فﻼ يُبايَع هو وﻻ الذي بايَعَه؛ تغِرَّةَ أن يُقتلَا))، أيْ: حذرًا أن يُقتلَا.
قال الحافظ ابنُ حجر رحمه الله في [الفتح] (12/150): (فيه إشارةٌ إلى التحذير من المسارعة إلى مِثل ذلك، حيث ﻻ يكون هناك مثلُ أبي بكر؛ لِمَا اجتمع فيه من الصِّفات المحمودة، من قِيامه في أمْر الله، ولِينِ جانبه للمسلمين، وحُسنِ خُلُقه، ومعرفتِه بالسِّياسة، وورعِه التامِّ، ممَّن ﻻ يوجد فيه مثلُ صِفاته، ﻻ يُؤمَنُ مِن مبايعته عن غيرِ مشورةٍ اﻻختﻼفُ الذي يَنشأ عنه الشَّرُّ).
واﻹمامة إنْ كانتْ إمامةً صغرى على بلد، فلكلِّ بلدٍ أهلُ حَلٍّ وعَقد وشوكة من عُلمائه ورؤسائه، وهذا - كما سبَق - يكون في حاﻻت العجز واﻻضطرار، ولَأَنْ يَحكُم كلَّ قُطر حاكِمٌ مسلمٌ خيرٌ من أن يُترَك الناسُ فوضى ﻻ سُراةَ لهم، أمَّا إنْ كانت إمامة عُظمى، وخِﻼفة إسﻼميَّة، فﻼ تنعقد إلَّا بمشورة جمهور أهل الحَلِّ والعقد في جميع أقطار المعمورة.
قال اﻹمام أبو يعلى في [اﻷحكام السلطانية] (1/23): (ﻻ تنعقد إلَّا بجمهور أهل الحَلِّ والعَقْد)، وقرَّر ذلك شيخُ اﻹسﻼم ابن تيميَّة في [منهاج السُّنة] (1/526) -وهو يردُّ على بعضِ أهل الكﻼم الذين يرَوْن انعقاد اﻹمامة باﻷربعة والثﻼثة ودون ذلك -؛ إذ قال: (ليس هذا قولَ أئمَّة أهل السُّنة، وإنْ كان بعض أهل الكﻼم يقولون:
إنَّ اﻹمامة تنعقِد ببيعةِ أربعة، كما قال بعضُهم: تنعقد ببيعة اثنين.وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليستْ هذه أقوالَ أئمَّة السُّنة، بل اﻹمامة عندهم تثبُت بموافقة أهل الشَّوكة عليها، وﻻ يَصير الرجلُ إمامًا حتى يوافقَه أهلُ الشوكة عليها، الذين يحصُل بطاعتهم له مقصودُ اﻹمامة؛ فإنَّ المقصودَ من اﻹمامة إنَّما يحصُل بالقُدرة والسُّلطان، فإذا بُويع بيعةً حصلَتْ بها القدرةُ والسُّلطان، صار إمامًا).
بل إنَّ اﻹمام أحمد رحمه الله نُقل عنه - في إحدى رِوايتيه - أنَّها تنعقد باﻹجماع، فقال: (مَن وَلِي الخﻼفة، فأجمع عليه الناسُ ورَضُوا به، ومَن غلبهم بالسَّيف حتى صارَ خليفةً، وسُمِّي أميرَ المؤمنين، فَدَفْعُ الصَّدقاتِ إليه جائزٌ، بَرًّا كان أو فاجرًا).
وقال في رواية إسحاق بن منصور ، وقد سُئِل عن حديث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن مات وليس له إمامٌ، مات مِيتةً جاهليَّة))
ما معناه؟
فقال: تَدْري ما اﻹمام؟
اﻹمامُ الذي يُجمع عليه المسلمون، كلُّهم يقول: هذا إمام؛ فهذا معناه)
انظر: [منهاج السُّنة النبويَّة] (1/530).
وها هنا لفتةٌ مهمَّة، وهي التفريق بين بَيعة فِئام من الناس لرجُل منهم، وبين انعقاد اﻹمامة له، وجعْله خليفةً على المسلمين أجمْع، واستحقاقه لﻺمامة؛ قال شيخُ اﻹسﻼم ابن تيميَّة في [منهاج السنة النبوية] (1/531):
(لو قُدِّر أنَّ عُمرَ وطائفةً معه بايعوه - يعني: أبا بكر - وامتنع سائرُ الصَّحابة عن البيعة، لم يَصِرْ إمامًا بذلك، وإنما صار إمامًا بمبايعة جمهور الصَّحابة، الذين هم أهلُ القُدرة والشوكة؛ ولهذا لم يَضُرَّ تخلُّفُ سعدِ بن عُبادة؛ ﻷنَّ ذلك ﻻ يَقدَح في مقصودِ الوﻻية؛ فإنَّ المقصود حصولُ القُدرة والسُّلطان اللَّذين بهما تحصُل مصالحُ اﻹمامة، وذلك قد حصَل بموافقة الجمهور على ذلك.فمَن قال: إنَّه يصير إمامًا بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة، وليسوا هم ذَوي القُدرة والشوكة، فقد غلِط؛ كما أنَّ مَن ظنَّ أنَّ تخلُّفَ الواحد أو اﻻثنين والعَشرة يضرُّه، فقد غلِط).
آخر تعديل بواسطة مناظر سلفي ، 2014-10-02 الساعة 06:48 AM
|