عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 2015-04-28, 12:18 AM
فارووق فارووق غير متواجد حالياً
عضو فعال بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2015-04-08
المشاركات: 116
افتراضي الحكم الشرعي بين العقل و الوحي،...

الحكم الشرعي بين العقل و الوحي،...

كتبنا في مقالات سابقة -و من بينها مقال "العلمانية هي إخضاع الاحكام الشرعية لامتحان العقل و التجربة"- أن من الايمان الاستسلام لأمر الله و الخضوع له دون قيد أو شرط، سواء كانت للحكم الشرعي عِلَّة أم لا، فتَقَيد المؤمن بأوامر الله و نواهيه ليست لدواعي عقلية تُزَيِّن له الحكم الشرعي ليقبله، و لكن تَقَيده بأمر الله يجب أن يكون لدواعي إيمانية، اي إيمانه اليقيني بوجوب طاعة الله لانه هو الخالق الذي وهبنا نعمة الوجود، و لإيمانه بأن الخير كله و العدل كله و الصلاح كله و الحكمة كلها لا تكون إلا بتطبيق شرع الله، أما دور العقل فيقتصر على معرفة النصوص الشرعية و دراستها و فهمها و فهم مناط حكمها، و فهم الواقع فهما دقيقا حتى يتسنى إنزال حكم الله المتعلق به (اي المتعلق بالواقع)! ......

و أود أن أنبه الى أمر مهم و هو أن المسلم كثيرا ما يبحث عن حِكْمَة الله في الاحكام الشرعية، و هذا جائز، إلا أنه وجب إدراك أن الحكمة ليست هي العلة، فالحكمة عقلية من تدبر البشر و متعلقة بما يستقرأه كل انسان من احتمالات الفائدة و المنفعة أو درء المفاسد من خلال تطبيق حكم شرعي معين، و هذه الحكمة العقلية ليست هي قصد الله في إنزال حُكْمِه، اي ليست علة الحكم الشرعي، فالإنسان لا يستطيع، لا عقلا و لا شرعا، إدراك مقصد الله و علته لِحُكْمِه، إلا إذا أوحى بذلك هو نفسه سبحانه، ... كما أن الانسان لم يكن يعلم الحلال و الحرام قبل نزول الوحي على محمد صلى الله عليه و سلم، فجاء أمر الله ليحدد الحلال و الحرام،....
و لذلك قلنا أن علة الحكم الشرعي يجب أن تكون شرعية، اي من الوحي، تماماً كما أن الحكم الشرعي نفسه من الوحي! فالحكمة التي يبحث عنها المسلمون احيانا في بعض الاحكام الشرعية لا يجوز لها أن تُبطِلَ حكما شرعيا أو تُقِرّه، و لا أن تحسنه أو تقبحه، و انما البحث عن الحكمة في حكم شرعي هو من باب فضول الانسان و حب الاستطلاع و شغفه في حب معرفة كل شيء، ...
و محاولة إشباع حب الاستطلاع و المعرفة جائز إذا ضبط المسلم فضوله و حبه للاستطلاع، و لم يجعل بحثه عن الحكمة العقلية للحكم الشرعي أساسا يبني عليه إيمانه بالأحكام و قبوله أو رفضه لها، و لا يجعل الحِكمة العقلية التي توصل اليها هي علة الحكم الشرعي الذي أوحى به الله! ...

صحيح أن الله ما قضى بحكم شرعي إلا لِحكمةٍ معينة، لكن هذه الحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه، و لا يمكننا نحن إدراكها إلا إذا اخبرنا الله بها! ... أما الحكمة العقلية التي يستقرأها الانسان من حكم شرعي معين، و التي تختلف من انسان لآخر، فهذه ليست هي حكمة الله، و لا علة الحكم الشرعي و لا سبب نزوله ...


و كون الله هو الذي من حقه أن يحلل و يحرم، و ينظم علاقات الناس فيما بينهم، و ينظم كيفية إشباع الغرائز، فهذا ليس نابع فقط بسبب عدم إِلمامِ الانسان بحقيقة غرائزه و ما هو الأصلح لإشباعها و جهله لمآلات الانسان و المجتمعات، نفسيا و ماديا و روحيا، حين تُنظم علاقات الناس على منهج من وضع البشر، ... أقول ليس لهذا السبب فحسب لا يجوز أن يكون التشريع للبشر، و لكن السبب كذلك و ببساطة هو كون الانسان لا يستطيع عقلا أن يكون حَكَماً و مُشرِّعاً في مسائل هو طرف فيها و مصالحه مرتبطة بها و متضاربة معها،.....
فالكل يعلم أن من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر في القاضي إذا أراد أن يحكم في قضية، أن لا تكون له و لا لأحد من أقاربه و أصدقائه مصالح متعلقة بالقضية التي تُعْرض عليه، و إذا ما ثبت تضارب مصالح القاضي مع القضية التي يقضي فيها، سُحِبَتْ منه القضية و أوكلت لقاضي آخر تتوفر فيه شروط النزاهة و عدم الانحياز، هذا ناهيك عن الشروط الاخرى المهمة التي وجب توفرها في القاضي و من بينها العلم بالقوانين و مناطها و إدراكه للواقع الخ، ....

فإذا كان هذا حال القاضي في مسألة بين شخصين، فما بالك بقضايا كلية و تفصيلية للإنسان ككل، ... ما بالك بإنسان كله شهوات و شبهات يريد أن يكون قاضيا و حكماً على شهواته و شبهاته و يريد تنظيمها بنفسه؟ هنا ينطبق نفس الشرط الذي وضعناه على القاضي، و هو أنه لا يجوز للإنسان ان يكون قاضيا و حكما في مسائل هو طرف فيها و مصالحه متضاربة معها!! ...

فخذ مثلا شهوة الجنس التي تتحرك عند الانسان، كيف يُوكَل للإنسان نفسه ان يقضي في هذه المسالة؟ فشهوة الجنس ذاتها لا يمكن استخراج حكمٍ منها، فهي لا علاقة لها بالحكم على عمل انه قبيح أو حسن، و لا صالح أو طالح، هي شهوة فقط تتحرك و تريد الإشباع، و اقصى ما سيصل له عقل البشر هو انه يجب إشباعها بكل الطرق و الوسائل و مع اي انسان، شريطة أن يكون تراضي بين الطرفين!

و خذ مثلا التجارة و المال، فالإنسان يريد كسب المال و الربح، فكيف يكون هو نفسه حكماً على طرق كسب المال و يحدد الطريق الحلال من الحرام، إذا كان هو نفسه طرفا في هذه المسألة لأن غريزته تدفعه لحب المال و حب كسبه و تكديسه الخ، ...

و خذ مثلا السلطة، فالإنسان عنده غريزة التملك و من مظاهرها حب السيادة و الملك، فكيف يكون الإنسان حكماً يحدد كيفية تولي الانسان الحكم و رعاية شؤون الناس، و هو نفسه طرفا في هذه القضية إذ غريزته تدفعه لحب السلطة و الملك، ...

و قس على ذلك كل ما يتعلق بأفعال العباد، ...

فلذلك كان من الواجب عقلا أن يكون الحَكَمُ هنا طرف محايد لا مصلحة له البتة في كل افعال البشر و قضاياهم {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}(سورة الذاريات)، .... حَكَماً يكون له الى جانب ذلك علم و دراية بالإنسان و الحياة و بمآلات الافعال، ... فأليس الله هنا هو افضل الحاكمين، حاكِمٌ ذو العلم المطلق و الاستقلالية المطلقة عن الانسان و الحياة، .... {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(سورة الملك)، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}(سورة التين)، {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}(سورة العنكبوت)، ...
..
رد مع اقتباس