عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 2020-05-08, 03:36 AM
ايوب نصر ايوب نصر غير متواجد حالياً
مسئول الإشراف
 
تاريخ التسجيل: 2012-10-23
المشاركات: 4,830
افتراضي القديم و الجديد

"وقد فرغ الرافعيُّ -رحمه الله -من أمر النّاس إلى خاصّة نفسه، ولكنَّ الناس لا يفرغون من أمر موتاهم "
هكذا قال الاستاذ محمود محمد شاكر ، و هو يتكلم عن صفي قلبه الاستاذ الرافعي ، رحمهما الله ، و قد صدق ، فقد انقضت عقود طوال على ادبار الرافعي عن هذه الحياة الدنيا و اقباله على ربه ، و ليس معه من هذه الدنيا شيء ، بعدما فرغ من امرها و ما فيها من حق و باطل ، الا عمل يقدمه بين يديه ، يدفع به نفسه عن النار و يتزلف به الى الجنة ، و لكن الناس لم يفرغوا من امر الرافعي و ادبه ، فتراهم بين ناقد و مدافع و دارس .

انك ان نظرت في ادب الرافعي ، تجده اخلصه لشيء واحد و هو نقد الجديد و دعاته ، و تراه يتربص بهم و يقعد لهم كل مرصد ، فيسفه ارائهم و يحض من قدر دعوتهم ، حتى انه اصبح يقال " ان الخصومة بين الرافعي و بين ادباء عصره " بينما الرافعي لم يكن الوحيد الذي حمل لواء القديم و الدفاع عليه ، و مع ذلك تجد في بعض كتاباته و بعض دعواته انه يدعو الى الجديد و ينقم على القديم .

و انا اكتب هذه الاسطر ، على عجل مني ، في بيان هذا الامر و توضيح ما استشكل فيه ، و يكفي لذلك الجواب على سؤالين ، فاما احدهما فهو : ما هو الجديد الذي دعى اليه الرافعي ؟؟ واما الاخر : فما هو القديم الذي نقده االرافعي و لم يقبله ؟؟

و لكن ، و قبل ان ابسط الكلام في بيان ما اريد بيانه ، فانه حقيق بي ان اقدم بين يدي هذا كله امرا لابد من بيانه ، و هو ان المعركة بين القديم و الجديد ، لا تنحصر في مسالة الاسلوب ، و انما تتعداه الى ميادين اخرى ، منها الفصحى و العامية و الادب للادب و الادب للمجتمع ، و العربية و الفرعونية ، و النظرية الاقليمية و غيرها مما يرتبط ارتباطا وطيدا بامور الدين و الهوية ، و تدخل فيه السياسة و تحضر بشكل قوي .

فالرافعي حين يتسخط على القديم و يدعو الى الجديد ، كما يظهر للقاريء احيانا ، فانه يقصد بالقديم ما ساد من القرن التاسع الى انشاء المقتطف ، من ضعف الادب في جميع نواحيه، و سببه الاغراق في الصناعة البديعية و التقليد لمن نبغ فيها قبل هذه القترة ، فاعتبر الرافعي شعراء هذه الفترة لم ياتوا بمزيد على ما تركه اهل الحقبة المنتهية بنهاية المائة الثامنة ، و لهذا فان " شعراء هذه القرون (من بداية القرن التاسع الى ظهور البارودي و صبري و المقتطف ) ليسوا ممن ورائهم الا كالظل من الانسان : لا وجود له من نفسه " ، و هذه الفترة يا صاحبي كانت فترة ضعف على مستوى جميع العلوم العربية ، و اطرد فيها التقليد ،وساد ركون اهل هذه البقعة الممتدة من المحيط الى ما وراء الخليج الى الاطمئنان ، فلما اتت فترة الانبعاث و ارادوا القيام ، تحركت اليهم جحافل الجيوش من اوربة ، فوأدوا نهضتهم و قضوا على انبعاثهم ، و لكن قومي لا يعلمون .
و على العموم دعك من هذا و دعنا نرجع الى القديم الذي يتسخط عليه الرافعي ، فالرافعي ، كره من القديم ما قام على الاغراق في التقليد الصرف ، دون ان يبنى عليه شي او يضاف اليه شيء، " حتى لا ياتي المتاخر بمثال فيه الا وجدته بعينه لمن تقدم " و هذا مذموم على كل حال ، و لا يختلف في رفضه اثنان من العقلاء ، و هذا الذي ينقمه الرافعي على اهل هذه الفترة الممتدة من بداية القرن التاسع الى عصر البارودي و صبري و المقتطف ، هو نفسه الذي ينكره على دعاة الجديد ، لانهم اقاموا كتاباتهم على السطو على افكار الغربيين و تبني افكارهم ، من غير حظ من النظر او فسحة من النقد او قسط من الاضافة، فهو ضعف في ضعف كما ترى ، و لهذا رفض الرافعي ما دعى اليه دعاة الجديد .

اما الجديد الذي دعى اليه الرافعي ، و لم يكن وحده في هذه الدعوة ، فهو مخالف لما دعى اليه غيره من التقريب بين الفصحى و العامية و الفن للفن و الادب للادب و الادب المكشوف و الادب العامي و ترك الاسلوب البياني الى الاسلوب التلغرافي و غيرها من اوجه الخلاف بين المذهبين . فتجده يدعو الى الاستفادة من اساليب النقد الغربية و تجده يعجب بمدرسة ابولو و يعجب بالنوع القصصي و يحب ما اتبعه المجددون، و ليس التجديديون ، من اغراض في الشعر فقد انصرفوا عن المدح و الغزل الى الاهتمام بالامور الوطنية و الاجتماعية ، و هذا ضرب من الاغراض الشعرية لم يكن من قبل
و مرد ذلك الى ان العلوم عامة ذات طبيعة تراكمية ، فان اخرها يقوم على اولها ، و العلوم العربية و الاسلامية ،اكثر العلوم امتزاجا بهذه الطبيعة ، فان اللاحق ياخذ ما بناه السابق فيعرف منه و ينكر ، و يزيد فيه و ينقص منه ، وفق اصول ثابته لا تتغير ، هذه الاصول الثابتة التي لا تتغير هي التي اراد دعاة التجديد انكارها ، و انكار معها كل ما صلح عبر قرون متطاولة .

كتب : الخميس 12 رمضان 1441 (07/05/2020)
__________________
( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) الكهف 6

كل العلوم سوى القرآن مشغلة ..... إلا الحديث وعلم الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا ..... وما سوى ذاك وسواس الشياطين
رد مع اقتباس