عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 2023-07-03, 03:46 PM
Nabil Nabil غير متواجد حالياً
مشرف قسم التاريخ الإسلامى
 
تاريخ التسجيل: 2009-08-07
المشاركات: 3,065
افتراضي الخلق الموزون والكتاب المكنون / إعداد: د. أحمد مُحمَّد زين المنّاوي

الخلق الموزون والكتاب المكنون

إعداد: الدكتور أحمد مُحمَّد زين المنّاوي



يقول اللَّه تعالى في محكم تنزيله في سورة الحجر:

{ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)}

اذهب إلى السوق واشتر قميصًا. قبل أن تفرد القميص الجديد لتتفحص تفاصيله ستقضي فترة من الوقت الممتزجة بملح الصبر وأنت تحرره من العديد من الأغلفة الورقية والبلاستيكية والدبابيس الحديدية، لدرجة لا تملك معها إلا أن تصف الحضارة التي وصلنا لها اليوم بأنها حضارة التكديس والتكييس!! بعد أن تحرر القميص من الأغلال العديدة التي تكبّله ستلقي بهذه الأغلال في سلة المهملات لكي تزيد بدورها في ظاهرة تلوث البيئة. كلما رجعنا بالتاريخ البشري إلى الوراء سنجد كوكب الأرض في حالة نقية نظيفة صحية تخلو من الملوثات، فنتمنى لو تحركت بنا عقارب الزمن إلى الوراء حتى ننعم بحياة صحية نظيفة عاشها أسلافنا.. هكذا كانت الأرض أنعم بها الله علينا نظيفة خالية من الملوثات فأفسدناها بفسادنا الذي طفح في البر وفاض إلى البحر.
ولما وصل الفساد في الأرض حدًّا مريعًا أخلّ بتوازنها ازداد اهتمام العلماء بشؤون البيئة؛ إذ أدركوا أهمية التوازن البيئي وأثره في حياة الإنسان والنباتات وكل الكائنات الحية، وما دفعهم إلى ذلك الخضم الضخم من الملوثات التي أفرزتها حضارة القرن العشرين بمصانعها العملاقة.
وكلمة { مَوْزُون } الواردة في خاتمة الآية الكريمة التي تصدّرت هذا المقال تحمل من المعاني ما لا يمكن حصره، منها ما علمناه، ومنها الكثير الذي لم نعلمه، وإذا علمنا ما علمناه فهمنا أسبابه والغاية منه، وهذا تمامًا ما هو كائن في التربة وهي الطبقة الرقيقة التي فرش بها الله سبحانه وتعالى القشرة الأرضية. فبعد أن تطور العلم بيئيًّا وجيولوجيًّا وعقب دراسات متأنية ودقيقة لتربة الأرض، وجد علماء الجيولوجيا في هذه التربة خلقًا عجيبًا وأنواعًا من الحياة الغريبة التي لم يجدوا لمعظمها أي تفسير، وبرغم ذلك تظل الحقيقة المؤكدة التي لا جدال حولها والتي مفادها أن الله عزّ وجلّ لم يخلق شيئًا عبثًا أو بصورة عشوائية، إذ لكل من المخلوقات سبب في وجوده ولكل منها فائدته ودور في حفظ التوازن البيئي.
يقول علماء الجيولوجيا: إن مترًا مكعبًا واحدًا من التربة التي تستخدم للزراعة يحتوي على ما يزيد على مئتي ألف من الديدان العنكبية، وعلى مئة ألف من الحشرات، وعلى ثلاثمئة من ديدان التربة العادية، فضلًا عن آلاف الملايين من الجراثيم، والكائنات المتناهية في الدقة، بل إن جرامًا واحدًا من التربة يحتوي على عدة مليارات من البكتيريا، مخلوقات متناهية في الصغر والدقة على شكل عصيات، وعلى شكل كريات، وعلى شكل لوالب، بعضها يحتاج إلى الأوكسجين، وبعضها لا يحتاج، وبعضها له أهداب تمكنه من الحركة وبعضها ليس له ذلك.
تقوم هذه الكائنات المتناهية في الدقة بوظائف مهمة وكبيرة تتناقض مع أحجامها شديدة الصغر. عرف العلماء بعض هذه الوظائف، بينما ظل الكثير منها سرًّا دفينًا يعلمه الله تعالى الخالق الخبير بشؤون خلقه وعباده.
انظر يا رعاك اللَّه إلى العمليات المحكمة والدقيقة التي يقوم بها بعض جنود ربك في المصنع الآتي الذي سبق النظام الرأسمالي في تخصيص العمل وتقسيمه: تتساقط الأوراق من فروع الأشجار، فتأتي الرياح لتوزعها على أنحاء التربة كافة، بعدئذٍ تأتي مليارات الكائنات المجهرية الدقيقة لتلتهمها، ولتصبح هي بدورها غذاءً صالحًا لكائنات أرقى منها، وهي البكتيريا. ولما كانت هذه العمليات الحيوية -التي تتم في ثلاث مراحل- تحتاج إلى الهواء داخل التربة؛ فإن الديدان تضطلع بهذه الوظيفة؛ إذ تفتح أنفاقًا في التربة بهدف تهويتها، وهو عمل تشارك فيه إلى جانب الديدان، القوارض، والأفاعي، وكل الكائنات التي تعيش تحت الأرض، والتي لولا عملها غير المرئي لبني البشر لانعدم الإنبات على سطح الأرض ولانتهت الحياة. وإلى جانب وظيفة تهوية التربة تفرز الديدان كميات مهولة من السماد من خلال التهامها حبيبات التراب. ولا يعلم إلا الله وحده سبحانه كم من الأطنان تنتجها الديدان في الهكتار الواحد! وكم من الأطنان من الأسمدة تنتجها الديدان في الكيلومتر المربع الواحد.

أما الحشرات (التي تشكل ثلثي الكائنات الحيوانية الحية) فيُعرف منها حاليًّا نحو مليونين من الأنواع، وهي منتشرة في كل مكان.. في قطبي الكرة الأرضية، وفي صحاريها، وأعماقها، وفي المياه العذبة، فضلًا عن وجودها في قمم الجبال، وفي كل بقعة من بقاع الكرة الأرضية.
وتتميز الحشرات بأنها تقاوم انقراض نوعها بتناسلها عن طريق البيض كثير العدد. فحشرة دودة القطن -على سبيل المثال- تبيض في القطعة الواحدة 400 بيضة، أما ذبابة الدروسوفيلا فإنها تنتج 25 جيلًا في السنة، ومن العجائب الإحصائية المدهشة أن عدد الحشرات في الكون يصل حدًّا يمكِّنها من تكوين جسر يصل بين الأرض والشمس إذا أمكن رصّها بجوار بعضها بعضًا، وكل هذه الأنفس يعلم اللَّه وحده مستقرها ومستودعها، ويرصد حركتها، ويحدد وظائفها ومهامها ويرزقها!
وهنا يتبادر السؤال التالي إلى الأذهان: مع كمياتها المهولة هذه فلماذا لا تسيطر الحشرات على الأرض؟! الجواب هو أن الطيور تصطاد تلك الحشرات وتتغذّى بها، كما أن البيئة غير المناسبة تبيد كثيرًا منها، بحيث يسود توازن بين الكائنات ساكنة الأرض من الأحياء بجميع أنواعها. ويتغذى بعضها ببعض، وبعضها يتطفل على غيره من النباتات والحيوانات، وبعضها يعيش على الجثث، وأخرى على أكاسيد المعادن والمركبات الكبريتية، وعلى العظام.
وهكذا اقتضت حكمة الخالق البديع سبحانه وتعالى بأن يسود توازن بين الكائنات الحية التي تقطن الأرض، لذلك نجد أن كل نوع من المخلوقات يتغذّى على نوع آخر في سلسلة غذائية محكمة دقيقة لو انقطعت أي واحدة من حلقاتها لانقرضت مخلوقات ولبغت أخرى على غيرها ما يقود في النهاية إلى فوضى عارمة في كوكب الأرض تؤدي إلى نهاية الحياة فيه.
إن الأرض ومن عليها وما عليها من مخلوقات أوجدها الله عزّ وجلّ وأتقن خلقها وأمدّها بموازين لا خلل فيها ولا خُسران. فإذا تأمّلت في الماء تجد أن الخالق العظيم أنزله بقدر، وهو ما يسميه علماء البيئة اليوم بالموازنة المائية. وإذا تأمّلت الهواء، تجده متوازنًا بمقادير محسوبة بدقة بالغة، فالنيتروجين 78% والأوكسجين 21%، والنباتات هي التي تحفظ لنا التوازن في نسب تكوين الهواء. وإذا تأمّلت في مكونات جسدك تجدها متوازنة في كل شيء! وإذا تأمّلت في الأرض، وجدتها تدور دورتين في آن واحد، دورة حول نفسها مرة كل يوم، ودورة حول الشمس مرة كل سنة، وكل دورة من هذه الدورات موزونة بحسابات لا تقديم فيها ولا تأخير. والأرض تبعد عن الشمس بمقدار موزون لا ينبغي له أن يزيد ولا ينقص، حيث قدّره العلماء بنحو مئة وخمسين مليونًا من الكيلومترات، وهو ما يسمح للأرض بتلقي قدر محدد وموزون من طاقة الشمس يتناسب تمامًا مع حاجات جميع الكائنات الحية على سطحها، من دون زيادة ولا نقصان. ولو اقتربت الشمس من الأرض إلى نصف المسافة التي بينهما الآن لتبخّر كل ما على الأرض من مياه، ولاحترقت جميع صور الحياة عليها، أما لو ابتعدت الأرض إلى ضعف المسافة التي تفصلها من الشمس الآن، لتجمدت جميع صور الحياة عليها!

-------------------------------------------
المصادر:
أوّلًا: القرآن الكريم.

ثانيًا: المصادر الأخرى:
• المنّاوي، أحمد مُحمَّد زين (2015)؛ قطوف الإيمان من عجائب إحصاء القرآن؛ طريق القرآن للنشر.
• النابلسي، محمد راتب؛ التربة وما تحتويه من كائنات؛ أُسترجع في تاريخ 7 ديسمبر 2015، من موقع موسوعة النابلسي للعلوم الإسلامية (https://nabulsi.com).
• بازرعة، علي سالم (2006)؛ سنريهم آياتنا في الآفاق؛ الرياض: دار طويق للنشر والتوزيع.
• طيارة، نادية (2009)؛ موسوعة الإعجاز القرآني في العلوم والطب والفلك؛ أبوظبي: مكتبة الصفا.

بتصرف وتلخيص عن موقع طريق القرآن
رد مع اقتباس