عرض مشاركة واحدة
  #16  
قديم 2010-01-23, 05:13 PM
أبو جهاد الأنصاري أبو جهاد الأنصاري غير متواجد حالياً
أنصارى مختص بعلوم السنة النبوية
 
تاريخ التسجيل: 2007-07-22
المكان: الإسلام وطنى والسنة سبيلى
المشاركات: 8,418
افتراضي

الأدلة القرآنية على حجية السنة النبوية

الحلقة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

رب يسر وأعن.

نواصل عرض الأدلة القرآنية على حجية السنة النبوية.

[ ثانياً ] : آيات قرآنية لا يمكن إدراك مقصدها إلا فى إطار من السنة النبوية:

إن تشريع الإسلام تشريع صالح لكل زمان ولكل مكان ولكل الأشخاص ، وتشريع بهذه المواصفات لابد أن يتسم بالكمال والشمول وأن يحتوى على قدر وافر من التفاصيل لأحكامه ، وعند الرجوع إلى القرآن الكريم نجد أنه قد جاء بالأحكام العامة دون الدخول فى التفاصيل ، وعندى أن إغفال القرآن الكريم لذكر تلك التفاصيل وإحالتها إلى السنة النبوية ، دليلٌ على حجيتها فى التشريع الإسلامى ، ذلك أن القرآن قد أمرنا بالاجتماع وعدم الفرقة ، قال تعالى : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [ الأنفال : 46 ] وعدم ذكر تفاصيل الأحكام سيؤدى – لا محالة – إلى الحاجة إلى كثرة إعمال العقل والنظر والاعتماد على الرأى دون النص ، الأمر الذى سيؤدى إلى وجود فجوة كبيرة بين الناظرين وبعضهم البعض.

وأذكر فى هذا المقام أننى سبق أن ناظرت منكراً للسنة فى مسألة تفاصيل أحكام الصلاة فأنكر ما أجمع عليه أهل السنة منذ عهد النبى – صلى الله عليه وسلم - إلى عهدنا هذا ، وجاء بمواصفات صلاة من عنده ، فزعم أن عدد الصلوات ثلاثة فروض فاسقط الظهر والمغرب ،وجاء بهيئة غير التى نعلم ، ثم حاورت منكراً آخر بعده بفترة قصيرة ، فاتفق مع الأول فى التثليث واختلف معه فى كل شئ ، حيث أسقط العصر والمغرب وجاء بهيئة غير التى نعلم وغير التى ذكره سلفه ، والمحصلة أنهما اتفقا على إنكار السنة ولم يتفقا على شئ بعد.

والدرس المستفاد من هذه الواقعة أن ترك السنة – حتماً – سيؤدى إلى الاختلاف فى الأحكام حداً نصل فيه إلى حد التنازع والتفرق ، فهذان منكران للسنة عندما تجنبا السنة وأعملا عقليهما فى القرآن بغير ضابط ولا مرشد أوقعها فى التعارض والاختلاف فما بالنا لو زاد المنكرون عن هذين ، ترى ماذا سيكون الحال؟!

وأبدأ - بحول الله وقوته – فى استعراض بعض الآيات القرآنية التى لا نستطيع أن ندرك مقصدها إلا فى إطار ضوابط من السنة النبوية. ولنعلم أن هذا الباب واسع لا قيد له ، وبحر شاسع لا ساحل له ، ولكننا سننزع منه نزعاً يسيراً لبيان المقصود ، ولتعلم أن ما فاتنا أكثر مما حصّلنا ، ويكفينا أن نعرض المنهج ومن استطاع أن يكمل الطريق ، فالله المستعان وهو من وراء القصد.

1- قال تعالى : وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [ البقرة : 43 ، 83 ، 110م ] ، [ النساء : 77م ] ، [ النور : 56م ] ، [ يونس : 31 ] ، [ المزمل : 20ك ]. الصلاة هى الركن العملى الأول فى الإسلام ، وقد ورد ذكرها والحث عليها فى عشرات المواضع من القرآن الكريم ولم تنل عبادة من الاهتمام فى القرآن ما نالته الصلاة ، ورغم هذا نجد أن القرآن لم يشر من قريب أو بعيد إلى تفاصيل الصلاة ، اللهم إلا أوضاع الصلاة الرئيسية : القيام والركوع والسجود ، وكذا ثلاثة مواقيت فى اليوم والليلة : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ [ هود : 114 ]، هى أيضاً مواقيت عامة وغير محددة ، وعدا هذا لم يذكر القرآن مواضيع فى غاية الأهمية بدونها لن يكون هناك صلاة ككيفية بدء الصلاة ، وكيفية ختمها ، بحيث تتميز عما عداها من الأقوال والأفعال ، وأحكام الإمامة والجماعة وأركانها وشروط صحتها ومبطلاتها.

2- ولننظر إلى معضلة أخرى عندما نقرأ قوله تعالى : وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا [ المائدة : 58 ] المقصود بالنداء هنا هو الأذان ، وقد اكتفى القرآن – كعادته – بذكر أن هناك ثمة نداء إلى الصلاة ولم يذكر هيئة هذا النداء وماهية ألفاظه. ولكن السنة هى التى تقوم بهذا الدور الفريد فعن عبد الله بن زيد بن عبد ربه : لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب بالناقوس وهو له كاره لموافقته النصارى طاف بي من الليل طائف وأنا نائم رجل عليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس يحمله قال فقلت : يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال : وما تصنع به ؟ قال : قلت : ندعو به إلى الصلاة. قال : أفلا أدلك على خيرٍ من ذلك فقلت : بلى . قال تقول : الله اكبر …. (إلى نهاية الأذان )… قال : فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال : إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألْقِ عليه ما رأيت فإنه أندى صوتاً منك قال فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجرّ رداءه يقول : والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي أُرِي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد . رواه أحمد ( 15881 ) والترمذي ( 174 ) وأبو داود ( 421 ) و ( 430 ) وابن ماجه ( 698 ) .

3- ثم يقول تعالى : فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [ النساء : 103 ] نجد أن القرآن قد أحال على السنة كيفية ختم الصلاة ، ثم ها هو يأمرنا بذكر الله بعد الانتهاء منها ولم يوضح كيف نذكره ، بينما جاءت السنة ببيان هذا تفصيلياً فيما يعرف بأذكار ما بعد الصلاة وهى عبارة عن استغفار وتسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وبينت عدد كل منها : فالاستغفار يكون ثلاثاً والتسبيح والتحميد والتكبير يكون كلٌّ ثلاثاً وثلاثين ، والتهليل : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ) مرةً واحد.

كما تذكر الآية الكريمة أن الصلاة كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا والشئ الموقوت يكون له ابتداء وانتهاء ، فأين نجد ذلك فى كتاب الله؟ بينما لم يصلنا إلا من خلال ما ورد فى السنة النبوية ، فقد أخرج الإمام مسلم فى صحيحه (ح 610) عن أبى مسعود الأنصارى قال ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏نزل جبريل فأمّني‏.‏ فصليت معه‏.‏ ثم صليت معه‏.‏ ثم صليت معه‏.‏ ثم صليت معه‏"‏‏.‏ يحسب بأصابعه خمس صلوات‏.‏

وفيه أيضاً ‏(ح‏611‏)‏ عن عبدالله بن عمرو؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول‏.‏ ثم إذا صليتم الظهر فإنه وقت إلى أن يحضر العصر‏.‏ فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس‏.‏ فإذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق‏.‏ فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل‏"‏‏.‏

.وفيه كذلك ( ح 612) عن عبدالله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال‏:‏‏"‏وقت الظهر ما لم يحضر العصر‏.‏ ووقت العصر ما لم تصفر الشمس‏.‏ ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق‏.‏ ووقت العشاء إلى نصف الليل‏.‏ ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس‏"‏‏.‏

وفى رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏وقت الظهر إذا زالت الشمس‏.‏ وكان ظل الرجل كطوله‏.‏ ما لم يحضر العصر‏.‏ ووقت العصر ما لم تصفر الشمس‏.‏ ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق‏.‏ ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط‏.‏ ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر‏.‏ ما لم تطلع الشمس‏.‏ فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة‏.‏ فإنها تطلع بين قرني شيطان‏"‏‏.‏

وفيه (ح 613) عن بريدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن رجلا سأله عن وقت الصلاة‏؟‏ فقال له : ‏"‏صل معنا هذين‏"‏ ‏(‏يعني اليومين‏)‏ فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن‏.‏ ثم أمره فأقام الظهر‏.‏ ثم أمره فأقام العصر‏.‏ والشمس مرتفعة بيضاء نقية‏.‏ ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس‏.‏ ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق‏.‏ ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر‏.‏ فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر‏.‏ فأبرد بها‏.‏ فأنعم أن يبرد بها‏.‏ وصلى العصر والشمس مرتفعة‏.‏ أخرها فوق الذي كان‏.‏ وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق‏.‏ وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل‏.‏ وصلى الفجر فأسفر بها‏.‏ ثم قال : ‏"‏ أين السائل عن وقت الصلاة‏؟‏‏"‏ فقال الرجل‏:‏ أنا‏.‏ يا رسول الله‏!‏ قال : ‏"‏ وقت صلاتكم بين ما رأيتم‏".‏

إلى غير ذلك من الأحاديث التى أفاضت فى شرح مواقيت الصلاة والمنتشرة فى دواوين السنة ، والتى أجملها النبى – صلى الله عليه وسلم – عندما قال : " وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " [ أخرجه ابن حبان فى صحيحه عن مالك بن الحويرث ].

ثم تأمل قول النبى – صلى الله عليه وسلم – فى الحديث الأول : " نزل جبريل فأمّني " أليس هذا هو عين ما قاله القرآن الكريم : عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ؟! [ النجم : 5 ]

4- وتستمر المسيرة مع الصلاة حيث يقول تعالى : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [ الأحزاب : 56 ] فما الفرق بين الصلاة لله والصلاة على النبى – صلى الله عليه وسلم - !؟ القرآن لا يجيب على هذا التساؤل ، ولكنه يحيل الإجابة على السنة. وسيعجز جهابذة منكرى السنة أن يجيبوا هذا التساؤل إذا ما أعرضوا عن السنة ، وستقع بينهم الاختلافات سحيقة الأعماق فى هذا الصدد!

5- ولا تزال الصلاة تنافح عن حجية السنة ، فيقول ربنا سبحانه : وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [ النساء : 101 ] لم يذكر القرآن كيف يكون القصر؟ هل بالتقليل من عدد الفرائض ؟ أم بتقليل عدد الركعات؟ أم بتخفيض زمن أدائها؟ أم القصر من حركات القيام والركوع والسجود؟ ما هو معيار القصر وما هى كيفيته؟ لن يجيب القرآن وسيحيل على السنة ، ترسيخاً لحجيتها.

6- وقبل أن نغادر أحكام الصلاة فى القرآن الكريم نجئ بقاصمة الظهر لمنكرى السنة فى شأن الصلاة ، قال تعالى : سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه [ البقرة : 142 - 143م ] فما هى القبلة التى كان عليها ؟ وأين الأمر القرآنى بتلك القبلة الأولى؟ إن كان ذلك أمراً قرآنياً فأين هو؟ وإذا جاز أن يأتى أمر آخر من خارج القرآن فهل هناك أولى من السنة بهذا؟!

7- وفى شأن الزكاة يقول ربنا جل وعلا : وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج : 24-25] فكم يبلغ مقدار هذا الحق المعلوم؟ وكيف يوصف بأنه معلوم ولم يُذكر مقداره أصلاً؟! وتأمل قوله تعالى : أموالهم حيث جاء بها على سبيل الجمع ، فهو إذن يتحدث عن أجناس شتى ومختلفة من المال ، فالذهب مال ، والفضة مال ، والماشية ، والإبل ، والأغنام ، والماعز ، كلها من صنوف المال ، فهل يستوى ذلك الحق المعلوم من الذهب مع مثيله من الفضة ، وهل يستوى هذان مع الآخر الخاص بالماشية والإبل والأغنام والماعز؟

وماذا عن الأرض والزرع؟ أليست هى الأخرى من جنس المال ، ومن ضمن الثروات؟ فما مقدار الحق المعلوم منها؟ ولماذا لم يفصله القرآن الكريم؟ وهل يستطيع أى إنسان مها أوتى من البلاغة أو الفصاحة أو البيان أن يدرك هذا الحق المعلوم من هذه الأموال من كتاب الله دون الرجوع إلى السنة؟!

8- ولعل مناسك الحج وشعائره الكثيرة والمتنوعة ، والتى جاءت إجمالية فى القرآن الكريم ومفصلةً فى السنة ، قد رفعت حجية السنة إلى مكانة عالية متمايزة حيث قال النبى – صلى الله عليه وسلم - :" خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا " [ السنن الكبرى للبيهقى ]. فعندما يقول ربنا سبحانه وتعالى : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [ البقرة : 196 ] ويقول : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [ القرة : 158 ] فمن ذا الذى يخبرنا بالفرق بين الحج والعمرة من القرآن الكريم؟! ثم أن الله أمرنا بإتمام الحج والعمرة ولم يخبرنا سبحانه – فى القرآن الكريم – بمعيار هذا التمام.

9- وعندما يقول تعالى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ البقرة : 189 ] فما الحكمة من الربط بين الحج وإتيان البيوت من ظهوروها؟! وما حكمة تحريم إتيان البيوت من ظهورها فى هذا الموضع بالذات؟! هذا يسمى فى علوم القرآن بعلم المناسبة ، أى مناسبة الآيات مع بعضها ومناسبة الفقرات المختلفة ظاهرياً مع بعضها البعض ، وهذا العلم لا يدرك إلا بالسنة.

فهذه الأسئلة وغيرها لا يمكن الإجابة عنها بالنظر إلى القرآن وحده مستقلاً عن السنة ، ولكن يسهل علينا فهمها إذا طالعنا الحديث الذى رواه البخارى (ح 4512) عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتَوْا البيت من ظهره، فأنزل الله وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا . "وكذا رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كانت الأنصار إذا قدموا من سَفَر لم يدخل الرجل من قبل بابه، فنزلت هذه الآية." ، " وقال الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدُهم سَفرًا وخرج من بيته يُريد سفره الذي خرج له، ثم بدا له بَعْد خُروجه أن يُقيم ويدعَ سفره، لم يدخل البيت من بابه، ولكن يتسوّره من قبل ظهره، فقال الله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى الآية.

وقال محمد بن كعب: كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت، فأنزل الله هذه الآية. وقال عطاء بن أبي رباح: كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويَرَوْنَ أن ذلك أدنى إلى البر، فقال الله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا " قاله ابن كثير.

10- ويقول تعالى : إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [ التوبة : 136] ولم يسم لنا هذه الأربعة الحرم ، ألم يقل ربنا : وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [ الإسراء : 12] فأين تفصيل ذلك فى كتاب الله؟! فهل يُكذّب هؤلاء اللاقرآنيين ربنا؟! ولكن الإجابة هنا فى السنة النبوية ، فيما أخرجه الإمام البخارى فى صحيحه عن أبى بكرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" [ البخارى ح (3197 ، 4662 ، 4406 ، 5550 ، 7447) ، مسلم ح (1679)].

11- وفى الحج أيضاً يقول تعالى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة : 197] رغم أن القرآن، يصف توقيت الحج بأنه أشهر معلومات إلا أنه لم يذكر ما هى هذه الأشهر المعلومات ، ولم يسمها لنا بل تركها للسنة لتخبرنا بها . قال ابن عمر: هي شوال، وذو القَعْدة، وعشر من ذي الحجة وقد علقه البخاري بصيغة الجزم وقد روى موصولا عند ابن جرير الطبرى فى تفسيره والحاكم فى مستدركه بإسناد صحيح. وعلى هذا أجمع جمهور العلماء وكافة أهل الإسلام اتباعاً لسنة النبى صلى الله عليه وسلم.

12- ويقول تعالى : وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [ البقرة : 198] كسابقتها ، حيث يذكر القرآن أن هناك أيام معدودات ثم يعرض عن تحديدهن ، فتأتى السنة لتخبر أن هذه الأيام المعدودات عدتها ثلاثة أيام ، وهى أيام التشريق : الحادى عشر والثانى عشر والثالث عشر من شهر شوال ، ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بالسنة المحمدية.

13- ثم يقول تعالى : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة : 199] ونحن نسأل : من أين يفيض الناس؟ ألا يعد هذا إحالة من القرآن إلى ما تعارف عليه الناس من أمر دينهم وما تلقوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم؟!

14- ويقول تعالى : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ المائدة: 38 ] وهنا نقع فى إشكاليات كثيرة لا يمكن أن نحيط بها إلا من خلال السنة من ذلك : ما هو القدر الذى يتم فيه القطع؟ ومن أين تقطع اليد : أمن الرسغ؟ أم من المرفق؟ أم من الكتف؟ فاليد تطلق على كل ذلك. وأى يد تُقطع اليمنى أم اليسرى؟ وماذا نفعل عند تعدد السرقات؟

إذا أراد المنكر للسنة أن يجيب عن السؤال الأول : ما هو القدر الذى يتم فيه القطع؟ فسيضطر أن يقول بالقطع ولو فى عقال غنم ، ولاشك أنه بهذا سيخالف قوله تعالى : وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى : 30].

ولكن سنة النبى – صلى الله عليه وسلم – جاءتنا بالنور والهدى والسراج المنير فقال صلى الله عليه وسلم : " تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا " [ أخرجه صحيح البخاري برقم (6789) ومسلم (1684)] كما بينت أحاديث أخرى أن القطع يكون من الرسغ ويبدأ فى الأولى باليد اليمنى ثم فى الثانية من الرجل اليسرى ثم فى الثالثة من اليد اليسرى ثم الرابعة من اليد اليمنى ثم فى الخامسة القتل.

وبعدُ ، فهذا غيض من فيض ، وقليل من كثؤ ، وهو جهد المقل ، ولعل المنهج الذى نريد أن نقدمه من خلال هذه الحلقة من سلسلة الأدلة القرآنية على حجية السنة النبوية يصلح لأن نعممه على مئات - إن لم يكن آلاف - الآيات القرآنية والتى من خلالها يتضح لنا أن هناك جملة كبيرة من آيات القرآن الكريم لن نتمكن من فهمها وإدراك معانيها إلا فى إطار بيان وتوضيح وتفسير من السنة النبوية.

وكل ما ذكرته هنا هو مجرد أمثلة لمنهج متكامل يستحق أن نؤصله لنستخرج جيش وحشد من الأدلة التى ندمغ بها رؤوس من ينكرون سنة النبى محمد بن عبد الله صلوات ربى وسلامه عليه.
والحمد لله رب العالمين.
__________________
قـلــت :
[LIST][*]
من كفر بالسـّنـّة فهو كافر بالسنة وكافر بالقرآن ، لأن الله تعالى يقول : (( وما آتاكم الرسول فخذوه )).
[*]
ومن كذّب رسولَ الله ، فهو كافر بالسنة وكافر بالقرآن ،لأن القرآن يقول : (( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى )).
[*]
ومن كذّب أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو كافر بالسنة وكافر بالقرآن ، لأن الله سبحانه يقول فيهم : (( رضى الله عنهم ورضوا عنه )).
[*]
ومن كذّب المسلمين فهو على شفا هلكة ، لأن القرآن يقول : (( يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )) والنبي - صلى الله عليه وسلم يقول : ( من قال هلك الناس فهو أهلكهم ).
[/LIST]
رد مع اقتباس