عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 2010-04-16, 02:34 PM
طالب عفو ربي طالب عفو ربي غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2009-02-28
المشاركات: 716
افتراضي ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَᥓ

﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (إبراهيم‏:37)‏

هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل الثلث الأخير من سورة‏(‏ إبراهيم‏),‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها‏(52)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت باسم أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ تكريما لدوره في الدعوة إلي دين الله الخالق ـ وهو الإسلام ـ الذي علمه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ لأبينا آدم ـ عليه السلام ـ لحظة خلقه‏,‏ وأوحاه إلي عدد من أنبيائه ورسله نعلم منهم كلا من إدريس‏,‏ ونوح ـ عليهما السلام ـ ثم انحرف الناس عن ملة التوحيد الخالص فعبدوا الأصنام والأوثان وأشركوا بالله الواحد الأحد‏,‏ الفرد الصمد‏,‏ ما لم ينزل به سلطانا‏.‏ فبعث الله ـ تعالي ـ نبيه إبراهيم ليردهم إلي الإسلام من جديد‏.‏ ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية ومن ركائزها الإيمان بالله ـ تعالي ـ وملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله‏,‏ واليوم الآخر وبما فيه من بعث‏,‏ وحشر‏,‏ وحساب‏,‏ وجزاء‏,‏ ومن ركائزها الانطلاق من التوحيد الخالص لله ـ تعالي ـ إلي الإيمان بوحدة رسالة السماء‏,‏ وبالأخوة بين الأنبياء‏,‏ وبحقيقة الوحي وضرورته‏,‏ وبالأخوة بين الناس أجمعين‏.‏
وتناولت سورة‏(‏ إبراهيم‏)‏ من قصص الأنبياء قصة نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ مع قومه‏,‏ وذكرت بالمكذبين من الأمم السابقة علي بعثته من أمثال قوم نوح‏,‏ وعاد‏,‏ وثمود‏,‏ والذين أهلكهم الله ـ سبحانه وتعالي ـ بظلمهم حتي يكونوا عبرة لغيرهم‏,‏ كما تناولت عددا من مشاهد الآخرة ومصائر المشركين فيها حتي تكون درسا للناس أجمعين‏,‏ وتشير السورة الكريمة إلي عدد من نعم الله ـ تعالي ـ علي عباده الذين تفرقوا إلي مؤمن شاكر لأنعم الله وهم قلة‏,‏ وإلي كثرة كافرة جاحدة أو مشركة ظالمة مآلها جهنم وبئس المصير‏.‏
وتبدأ سورة‏(‏ إبراهيم‏)‏ بتوجيه الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ معظمة شأن القرآن الكريم بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ له‏:‏
﴿ الـر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ﴾ (‏ إبراهيم‏:1‏ ـ‏3).‏

وتنتقل الآيات إلي التأكيد علي أن الله ـ تعالي ـ لم يرسل من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم حقيقة هداية الله لهم في القضايا التي يعلم ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بعلمه المحيط عجز البشر عجزا كاملا عن وضع أي ضوابط صحيحة لأنفسهم فيها وهي ركائز الدين من العقيدة‏,‏ والعبادة‏,‏ والأخلاق‏,‏ والمعاملات‏,‏ ومن هنا كانت ضرورة الدين‏.‏ وتضرب الآيات المثل علي ذلك بقصة نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ مع قومه‏(‏ الآيات‏5‏ ـ‏8),‏ وتذكيره إياهم بأنباء عدد من الأمم السابقة عليهم من أمثال أقوام أنبياء الله نوح وهود وصالح ـ علي نبينا وعليهم من الله السلام ـ والذين من بعدهم ممن لا يعلمهم إلا الله ـ سبحانه وتعالي ـ وكيف قابلت الغالبية الساحقة منهم دعوة أنبياء الله ـ تعالي ـ بالكفر والرفض والصد والتشكيك‏,‏ وترد عليهم الآيات لتقول‏:‏
﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ ﴾ (‏ إبراهيم‏:11،12).‏
ويرد الكفار والمشركون علي رسول الله بصلف واستنكار بالغين‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات مهددة ومتوعدة بعقاب الله‏:‏
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِه عَذَابٌ غَلِيظٌ * مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ ﴾ (‏ إبراهيم‏:13‏ ـ‏18).‏
وبعد ذلك تنتقل الآيات‏(19‏ ـ‏23)‏ إلي استعراض عدد من آيات الله في الخلق والإفناء والبعث‏,‏ ووصف بعض مواقف المشركين في يوم القيامة من الذين أشركوا بهم‏,‏ ومن الشيطان الرجيم الذي أغواهم بذلك ثم تبرأ من شركهم‏,‏ وفي المقابل تعرض الآيات وصف جانب من إكرام الله ـ تعالي ـ لأهل الجنة في الجنة‏,‏ ثم تضرب المثل للإيمان بالشجرة الطيبة‏,‏ وللكفر بالشجرة الخبيثة وفي ذلك تقول‏:‏
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ (‏ إبراهيم‏:24‏ ـ‏27).‏

وتعاود الآيات الحديث عن كل من الكفار والمشركين وعن مصيرهم في الآخرة فتقول‏:‏
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾ (‏ إبراهيم‏:28‏ ـ‏30).‏
وفي المقابل تأمر الآية‏(31)‏ رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أن يذكر المؤمنين بالمحافظة علي إقامة الصلاة‏,‏ وعلي الإنفاق مما رزقهم الله سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم البعث الذي لا بيع فيه ولا خلال‏.‏
وتنتقل الآيات‏(32‏ ـ‏34)‏ إلي استعراض عدد من آيات الله ـ تعالي ـ في الخلق‏,‏ التي تشهد لجلاله بالألوهية والربوبية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ وبأنه ـ تعالي ـ هو الرزاق‏,‏ صاحب الفضل والنعم علي كل مخلوقاته‏,‏ وإن كان بنو الإنسان ـ في غالبيتهم الساحقة ـ من الظالمين لأنفسهم بسبب كفرهم بنعم ربهم عليهم‏.‏
ثم تعرض الآيات‏(35‏ ـ‏41)‏ إلي جانب من ابتهالات نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ لربه فتقول‏:‏
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ * الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ ﴾ (‏إبراهيم‏:35‏ ـ‏41).‏
وتنتقل سورة‏(‏ إبراهيم‏)‏ إلي الحديث مرة أخري عن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر أو بالشرك أو بالإغراق في المعاصي‏,‏ وتصف ذلهم في يوم الحساب موجهة الخطاب إلي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بأن الله ـ تعالي ـ مطلع علي جميع أمور كل عبد من عباده فتقول‏:‏
﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ * فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾ (‏ إبراهيم‏:42‏ ـ‏47).‏
وتختتم هذه السورة الكريمة بالإشارة إلي أهوال يوم القيامة بالتأكيد مرة أخري علي ذل المجرمين في هذا اليوم العصيب محذرة الناس من أهواله ومن أخطار الشرك بالله الواحد القهار فتقول‏:‏
﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ * وَتَرَى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وَجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ (‏ إبراهيم‏:48‏ ـ‏52).‏


من ركائز العقيدة في سورة إبراهيم:
‏(1)‏ الإيمان بالله ـ تعالي ـ ربا واحدا أحدا‏,‏ فردا صمدا ـ بغير شريك ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ والإيمان بملائكته‏,‏ وكتبه‏,‏ ورسله ـ وعلي رأسهم خاتمهم أجمعين ـ والإيمان باليوم الآخر وبما فيه من أهوال البعث‏,‏ والحشر‏,‏ والحساب‏,‏ والجزاء‏,‏ ومنه الخلود في الجنة ونعيمها‏,‏ أو في النار وجحيمها‏.‏
‏(2)‏ اليقين بأن القرآن الكريم هو كلام رب العالمين الموحي به إلي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ‏,‏ وأن كل ما فيه حق مطلق‏,‏ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏.‏
‏(3)‏ التصديق ببشرية كل الأنبياء والمرسلين‏,‏ وعلي رأسهم النبي والرسول الخاتم ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ‏.‏
‏(4)‏ التسليم بأن لله ـ تعالي ـ ما في السماوات وما في الأرض‏,‏ وأنه ـ سبحانه ـ رب الكون ومليكه‏,‏ خالقه ومبدعه ومدبر كل أمر من أموره‏,‏ الملك الواحد القهار‏,‏ الشديد الانتقام‏,‏ الفعال لما يريد‏,‏ الغني الحميد‏,‏ العزيز الحكيم‏,‏ صاحب الصراط المستقيم‏,‏ الذي يهدي من يشاء برحمته‏,‏ ويضل من يشاء بعلمه ومشيئته‏.‏
‏(5)‏ الإيمان بأن الضالين من الكفار والمشركين الذين يستحبون الحياة الدنيا علي الآخرة‏,‏ ويصدون عن سبيل الله‏,‏ ويبغونها عوجا أعد الله ـ تعالي ـ لهم عذابا شديدا في نار جهنم وساءت مصيرا‏.‏
‏(6)‏ اليقين في أن بالشكر تدوم النعم وتزداد‏,‏ وبالكفر يتنزل عذاب الله الشديد علي الكافرين من العباد‏.‏
‏(7)‏ التصديق بكل ما جاء في القرآن الكريم من أخبار الأمم السابقة‏,‏ وبما أصاب المكذبين منهم من صور العقاب الإلهي‏,‏ ومن وصف للجنة ونعيمها‏,‏ وللنار وجحيمها‏.‏
‏(8)‏ الإيمان بضرورة التوكل علي رب العالمين حق التوكل‏.‏
‏(9)‏ التسليم بأن من كرامة الإنسان أن تترك له حرية اختيار الدين الذي يريد أن يدين به نفسه لله‏.‏
‏(10)‏ اليقين بأن الله ـ تعالي ـ هو خالق السماوات والأرض بالحق‏,‏ وخالق كل شيء‏,‏ وبأنه قادر علي إفناء خلقه‏,‏ والإتيان بخلق جديد‏,‏ وأن ذلك ليس علي الله بعزيز‏.‏
‏(11)‏ التصديق بأن الله ـ تعالي ـ يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏,‏ والقول الثابت هو شهادة أنه لا إله إلا الله‏,‏ وأن محمدا رسول الله‏.‏
‏(12)‏ التسليم بأن الشيطان للإنسان عدو مبين‏.‏


من الإشارات الكونية في سورة إبراهيم:
‏(1)‏ الإشارة إلي حقيقة أن لله ما في السماوات وما في الأرض‏,‏ والعلوم المكتسبة تحتم وجود مرجعية للكون في خارجه‏,‏ وأن هذه المرجعية مغايرة للكون مغايرة كاملة‏,‏ وتحكم كل صغيرة وكبيرة فيه‏.‏
‏(2)‏ تأكيد أن الله ـ تعالي ـ هو خالق السماوات والأرض‏,‏ والعلوم المكتسبة تثبت أن الكون ليس أزليا‏,‏ ولا أبديا‏,‏ بل له بداية يحاول العلماء تحديدها وكل ما له بداية لابد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية‏.‏
‏(3)‏ التعبير عن دورة الماء حول الأرض بوصف إنزاله من السماء‏,‏ وإلي إخراج الثمرات رزقا للعباد بإنزال الماء إلي الأرض‏.‏
‏(4)‏ وصف تسخير الفلك لتجري في البحر بأمر الله‏,‏ وتسخير الأنهار لتجري بالماء العذب‏,‏ وتكون وسطا ملائما لمختلف أنواع الحياة التي لا تحيا إلا فيه‏,‏ كما تحمل العباد وأمتعتهم وتجاراتهم من مكان إلي آخر‏,‏ وفي ذلك إشارة إلي تعدد نعم الله علي عباده‏.‏
‏(5)‏ تأكيد استجابة الله ـ سبحانه وتعالي ـ لدعوة نبيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ من أجل عمران مكة المكرمة‏,‏ وفيض خيرات الأرض إليها‏,‏ وقد تحققت هذه الدعوة بالفعل‏.‏
‏(6)‏ الإشارة إلي حتمية استبدال أرضنا بأرض جديدة‏,‏ واستبدال السماوات المحيطة بنا بسماوات غيرها‏,‏ والعلوم المكتسبة ترجح ذلك وتدعمه‏.‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك سأقصر حديثي في المقال القادم ـ إن شاء الله تعالي ـ علي النقطة السادسة من القائمة السابقة فقط‏.‏





من الإشارات العلمية والتاريخية في الآية الكريمة:
أولا‏:‏ في قوله تعالي‏:‏ ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ... ﴾:
في هذه الدعوة المخلصة التي أطلقها نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ إشارة إلي أن بعضا فقط من ذريته هم الذين أسكنوا في مكة المكرمة وهم ولده إسماعيل ـ عليه السلام ـ وذريته التي جاء منها خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله النبي العربي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ‏..‏ وكان الله ـ تعالي ـ قد أمر نبيه إبراهيم بوضع زوجه هاجر ورضيعها إسماعيل عند مكان البيت الحرام الذي كان قد تهدم‏,‏ وبقيت قواعده‏,‏ فجاء بهما إبراهيم ـ عليه السلام ـ من بلاد الشام إلي مكة المكرمة‏,‏ وأسكنهما في هذا الوادي غير ذي الزرع‏,‏ انصياعا لأمر الله ـ تعالي ـ‏,‏ ولم يكن بمكة يومئذ أنيس من الناس‏,‏ ولا ماء للشرب‏,‏ ولا زراعة ولا نبت إلا بعض الأشجار الشوكية‏.‏ فترك لهما إبراهيم جرابا فيه شئ من التمر‏,‏ وسقاء به قدر من الماء‏,‏ ثم قفل راجعا في طريقه إلي بلاد الشام‏,‏ فتبعته السيدة هاجر وهي تقول‏:‏ يا إبراهيم‏:‏ أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا ماء‏,‏ ولا شيء؟
ورددت مقولتها هذه مرارا‏,‏ وهو يلتفت إليها‏,‏ ولعلمها أنه نبي مرسل قالت له‏:‏ آلله أمرك بهذا؟ فأدار وجهه وأجابها بنعم‏,‏ وانطلاقا من إيمانها الفطري العميق بالله ـ تعالي ـ قالت‏:‏ إذن لا يضيعنا‏,‏ ثم رجعت إلي رضيعها‏,‏ وهي مطمئنة القلب‏,‏ طيبة النفس‏,‏ راضية بقدر الله ـ تعالي ـ واثقة في عظيم رحمته‏.‏ وانطلق نبي الله إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية‏(‏ المنعطف‏)‏ من وادي مكة استقبل بوجهه مكان البيت الحرام ورفع يديه إلي السماء داعيا بهذا الدعاء الكريم الذي سجلته الآيتان رقم‏(38,37)‏ من سورة إبراهيم‏.‏
ثم لم يلبث ما عند أم إسماعيل من ماء أن نفد‏,‏ وعطشت هي ورضيعها‏,‏ فانطلقت تجري حتى قامت علي أقرب جبل منها وهو الصفا لتنظر من فوقه هل تري أحدا قادما‏,‏ أو طيرا حافا بشيء من الماء‏,‏ ثم هبطت وسعت سعي المجهود حتى أتت المروة فقامت عليها‏,‏ فلم تر قادما‏,‏ وفعلت ذلك سبع مرات‏,‏ وتعظيما لهذا الموقف الكريم كانت فريضة السعي بين الصفا والمروة علي كل حاج ومعتمر‏.‏
وبنهاية الشوط السابع أرسل الله ـ تعالي ـ إليها جبريل ـ عليه السلام ـ مطمئنا ومستجيبا لطلبها الماء‏,‏ فضرب الأرض بجناحه أو بعقبه فتفجرت عين زمزم‏,‏ وفار منها الماء‏,‏ وفرحت السيدة هاجر بذلك فرحا شديدا‏,‏ وجعلت تملأ السقاء بالماء‏,‏ وتزم رأس العين حتى لا يتسرب ماؤها في أرض وادي مكة‏,‏ ومن هنا سميت باسم زمزم‏,‏ فقال لها جبريل ـ عليه السلام ـ‏:‏ "لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله‏,‏ يبنيه هذا الغلام وأبوه‏,‏ وإن الله لا يضيع أهله‏" (‏ رواه البخاري في صحيحة‏).‏

ومع فوران عين زمزم فاضت مياهها في الوادي‏,‏ وجاءتها الطيور من كل صوب وحدب معلنة عن وجود الماء‏.‏
وبينما أم إسماعيل ورضيعها في هذه الحال مر بالمنطقة ركب من قبيلة جرهم قادمين من الشام بتجارة لهم‏,‏ وهم في طريقهم إلي اليمن‏,‏ فرأوا طيورا تحوم حول وادي مكة فأدركوا أن عينا من الماء قد تفجرت فيه‏,‏ فأسرعوا الخطي إلي محط الطيور‏,‏ واستأذنوا أم إسماعيل بالنزول علي الماء فأذنت لهم‏,‏ وبعثوا إلي اليمن من أتاهم بأهلهم إلي وادي مكة الذي أصبح مقصدا للكثيرين بعد أن شاع خبر تفجر ماء زمزم فيه‏,‏ وتكاثر الناس في هذا الوادي وشعابه استجابة لدعوة نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام‏.‏

وبعد أن بلغ إسماعيل أشده تزوج من قبيلة جرهم زيجتين‏,‏ إحداهما بعد الأخرى‏.‏ ثم جاء أمر الله ـ تعالي ـ برفع القواعد من البيت‏,‏ فعاد إبراهيم إلي مكة المكرمة وتعاون مع ولده إسماعيل علي إعادة بناء الكعبة المشرفة ورفعها من قواعدها‏,‏ ولما تم لهما ذلك رجع إبراهيم إلي أرض فلسطين المباركة‏,‏ تاركا ولده إسماعيل يرعي بيت الله‏,‏ حتى أمره الله ـ تعالي ـ بدعوة قومه إلي دين الله‏,‏ وهو الإسلام العظيم الذي بعث به جميع أنبياء الله ورسله من قبل ومن بعد إلي بعثة النبي والرسول الخاتم ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي أنبياء الله ورسله أجمعين‏.‏
وعاش أهل هذه البلاد علي التوحيد حتى جاءهم أحد شياطين الإنس وكان يدعي عمرو بن لحي الخزاعي الذي أضلهم بعبادة الأصنام التي كان قد جلبها إليهم من بلاد الشام‏.‏ وكأي دعوة باطلة انتشرت عبادة الأصنام والأوثان‏,‏ وعبادة النجوم والكواكب‏,‏ وعبادة غيرها من الوثنيات المبتدعة انتشارا واسعا في جزيرة العرب ونسيت دعوة كل من إبراهيم وولده إسماعيل ـ عليهما السلام ـ وإن بقيت قلة نادرة من حنفاء العرب يذكرونها‏,‏ ولا يستطيعون الدعوة إليها وسط ركام الوثنيات المبتدعة‏.‏
وهنا قد يتصور البعض أن الله ـ تعالي ـ قد أمر إبراهيم ـ عليه السلام ـ بوضع زوجته هاجر ورضيعها إسماعيل عند البيت الحرام لكي يعيدا بناءه من القواعد بعد أن يبلغ إسماعيل أشده‏,‏ وهذا صحيح‏,‏ ولكن نضيف إلي ذلك أن من أهداف هذه الغربة أن يأتي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ من نسل نبي الله إسماعيل ـ عليه السلام ـ فيولد بمكة المكرمة أشرف بقاع الأرض علي الإطلاق ـ تلك البقعة المباركة التي خلقها الله ـ تعالي ـ أول ما خلق من اليابسة‏,‏ وأمر ملائكته ببناء أول بيت وضع للناس فيها استعدادا لمقدم أبينا آدم ـ عليه السلام بها‏,‏ فيلتقي أول النبوة بخاتمها‏,‏ تأكيدا علي وحدة رسالة السماء‏,‏ وعلي الأخوة بين الأنبياء وبين الناس جميعا‏,‏ وتأكيدا كذلك علي وحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ ولذلك أجري الله ـ تعالي ـ علي لسان نبيه إبراهيم قوله‏:‏

﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي ...﴾ ولم يقل إني أسكنت ابني أو ولدي‏.‏
ومن الدقة العلمية المطلقة التي يتميز بها القرآن الكريم ما جاء في هذا النص القرآني من قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏: ﴿..بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ...﴾ ولم يقل‏(‏ بواد غير ذي نبت‏)‏ وذلك لأن الزرع لا يتحقق إلا في الأماكن الآهلة بالسكان‏,‏ ومنهم من يقوم بالزراعة إذا توافرت شروطها من التربة الصالحة والماء‏,‏ والنبات كلمة عامة تشمل كل ما تنبته الأرض بالفطرة أو بالزراعة‏,‏ ولما لم يكن في وادي مكة‏,‏ أي ساكن ساعة أن وضع نبي الله إبراهيم زوجه أم إسماعيل ورضيعها عند قواعد الكعبة المشرفة فقد انتفت إمكانية وجود أية زراعة بها نفيا قاطعا ولذلك قال ـ تعالي ـ علي لسان نبيه إبراهيم‏:‏﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ...﴾ ووادي مكة حينئذ لم يكن به إلا بعض أشجار من السلم‏,‏ والسمر‏,‏ والروح‏,‏ وهي من الأشجار الشوكية التي لا تصلح إلا للوقود‏..‏
وفي قوله ـ تعالي ـ‏: ﴿...عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ...﴾ تأكيد علي قدم هذا البيت وحرمته انطلاقا من قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴾ (‏ آل عمران‏:96).‏


وانطلاقا من أقوال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ العديدة والتي منها‏:‏‏
(1)‏ " كانت الكعبة خشعة علي الماء فدحيت منها الأرض "‏(‏ الهروي ـ الزمخشري‏)‏‏
(2) "‏ دحيت الأرض من مكة‏,‏ فمدها الله ـ تعالي ـ من تحتها فسميت أم القرى " ‏(‏ مسند الإمام أحمد‏305/4) .‏
ويأتي العلم المكتسب ليؤكد هذه الحقيقة في أواخر القرن العشرين‏,‏ كما يؤكد قول كل من ابن عباس وابن قتيبة ـ رضي الله عنا وعنهم أجمعين وعن جميع عباد الله الصالحين ـ‏:‏ إن مكة المكرمة سميت باسم‏(‏ أم القرى‏)‏ لأن الأرض دحيت من تحتها لكونها أقدم الأرض‏.‏‏
(3)‏ " إن مكة حرمها الله‏,‏ ولم يحرمها الناس‏ " (‏ صحيح البخاري‏722/1).‏‏
(4)‏ " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض‏,‏ لا يعضد شوكه‏.‏ ولا ينفر صيده‏,‏ ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها "‏ (‏ صحيح البخاري‏,‏ ومسند أحمد‏).‏‏
(5)‏ " إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض‏,‏ فهي حرام بحرام الله إلي يوم القيامة " ‏(‏ مصنف عبد الرزاق‏140/5)‏
هذه الدقة العلمية المطلقة في هذا النص القرآني الكريم من مثل‏:﴿... أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي... ﴾, ﴿...بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ...﴾ ﴿...عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ...﴾ يضاف إليها إعجاز تاريخي في وصف هذه الواقعة التي كانت تفاصيلها قد محيت من ذاكرة الناس بعد مرور أكثر من ألفي سنة بين نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ‏
(‏ حوالي‏1861‏ ق‏.‏ م‏.‏ ـ‏1686‏ ق‏.‏ م‏)‏ وبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم‏(610‏ م ـ‏632‏ م‏).‏
ونص قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ في القرآن الكريم تشهد لهذا الكتاب العزيز بأنه لا يمكن إن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية‏,‏ في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتى يبقي القرآن الكريم شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين بأنه كلام رب العالمين‏,‏ وشاهدا للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة والرسالة‏.‏

ثانيا‏:‏ في قوله تعالي‏:‏ ﴿...ِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ …﴾:
هذا النص القرآني الكريم يمثل دعوة أطلقها أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ فتحققت ولا تزال تتحقق إلي اليوم‏,‏ وإلي ما شاء الله‏,‏ فمن الثابت تاريخيا أنه لم يكن في وادي مكة ساكن واحد زمن بعثة إبراهيم ـ عليه السلام ـ واليوم وصل تعداد سكانه المقيمين قرابة مليون نسمة‏,‏ ووصل أعداد الحجاج والمعتمرين إلي عشرات الملايين في كل عام‏.‏ ولا تزال قلوب الملايين من المسلمين تهفو لزيارة هذه البلدة المباركة سواء استطاعوا تحقيق ذلك أو لم يستطيعوه‏.‏ و‏(‏الفؤاد‏)‏ هو داخل القلب أو هو قلب القلب‏,‏ وجمعه‏(‏ أفئدة‏);‏ و‏(‏التفؤد‏)‏ هو التوقد شوقا ومحبة‏;‏ يقال‏:(‏ فأدت‏)‏ اللحم أي شويته حتى تمت تسويته‏;‏ ويقال‏:‏ لحم‏(‏ فئيد‏)‏ أي‏:‏ متقن الشوي إلي درجة التسوية الكاملة‏.‏ والتعبير القرآني‏(‏ فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم‏)‏ أي تسرع الخطي إليهم شوقا وتلهفا وودادا‏;‏ يقال‏:(‏ هوي‏)(‏ يهوي‏)(‏ هويا‏)‏ إذا أسرع في السير طلبا لشيء عظيم محبوب‏,‏ أو لأمر هام محبب إلي النفس‏.‏
وبالفعل استجاب الله ـ سبحانه وتعالي ـ لدعوة نبيه إبراهيم فبعد ان رفع البيت الحرام من قواعده هو وولده إسماعيل ـ عليهما السلام ـ وبدآ في الدعوة إلي دين الله انتشر الإسلام في جزيرة العرب وفيما حولها من بلدان‏,‏ وبدأت أفئدة المسلمين تهوي إلي حج بيت الله والاعتمار به حتي تجاوزت أعدادهم اليوم عشرات الملايين في كل عام‏,‏ وكانت دعوة إبراهيم ـ عليه السلام ـ‏: ﴿...ِفَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ …﴾ بشري انتشار الإسلام بين كل أجناس الأرض وهو ما تحقق بالفعل‏.‏

ثالثا‏:‏ في قوله تعالي‏:﴿...ِ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ…﴾:‏
هذا هو الجزء الثاني من دعاء نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ للبعض من ذريته الذين أسكنهم في مكة المكرمة عند بيت الله الحرام وقد استجاب الله ـ تعالي ـ لهذا الدعاء فرزق أهل هذا الوادي غير ذي الزرع ثمارا تجبي إليه من كل مكان ليكون ذلك عونا لهم علي طاعة الله‏,‏ وعلي الاستمرار في إعمار بيته الحرام‏,‏ وخدمة حجيج هذا البيت والمعتمرين به‏.‏ وكانت هذه الثمار تأتي في القديم من كل من بلاد الشام والهند والصين في رحلات متباعدة تحقيقا لقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:﴿...ِأَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ‏ (‏ القصص‏:57).‏
أما اليوم فيؤتي بالأرزاق إلي مكة المكرمة وإلي الجزيرة العربية كلها من جميع بقاع الأرض‏,‏ حتي لتجتمع فيها ثمرات الدنيا كلها علي مدار فصول السنة دون انقطاع‏.‏
فالحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمدلله علي بعثة النبي العدنان الذي ختم الله ـ تعالي ـ ببعثته الشريفة كل النبوات‏,‏ وبرسالته الخاتمة كل الرسالات السماوية‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏
رد مع اقتباس