هذا هو قانون الوجود كله .. التفاضل .. وحكمة هذا القانون واضحة . فلو كان جميع الناس يولدون بخلقة واحدة وقالب واحد ونسخة واحدة .. لما كان هناك داع لميلادهم اصلا . وكان يكفي ان نأتي بنسخة واحدة فتغني عن الكل .. وكذلك الحال في كل شيء .. ولانتهى الامر الى فقر الطبيعة وافلاسها .. وانما غنى الطبيعة وخصبها لايظهر الا بالتنوع في ثمارها وغلاتها والتفاوت في الوانها واصنافها .. ومع ذلك فالدين لم يسكت على هذا التفاوت بين الاغنياء والفقراء .. بل امر بتصحيح الاوضاع وجعل للفقير نصيباً من مال الغني . وقال ان هذا التفاوت فتنة وامتحان .. “ وجعلنا بعضكم لبعض فتنة اتصبرون “ سوف نرى ماذا يفعل القوي بقوته . هل ينجد بها الضعفاء او يضرب ويقتل ويكون جباراً في الارض ...؟ وسوف نرى ماذا يفعل الغني بغناه .. هل يسرف ويطغى ..؟ او يعطف ويحسن ..؟ وسوف نرى ماذا يفعل الفقير بفقره .. هل يحسد ويحقد ويسرق ويختلس .. او يعمل ويكد ويجتهد ليرفع مستوى معيشته بالشرع والعدل .. وقد امر الدين بالعدل وتصحيح الاوضاع بالمساواة بين الفرص .. وهدد بعذاب الاخرة وقال ان الاخرة ستكون ايضاً درجات اكثر تفاوتاً لتصحيح ما لم يجر تصحيحه في الارض . “ وللاخرة اكبر درجات واكبر تفضيلا “
وللذين يتهمون الإسلام بالرجعية السياسية نقول إن الإسلام أتى بأكثر الشرائع تقدمية في نظم الحكم . احترام الفرد في الإسلام بلغ الذروة .. وسبق ميثاق حقوق الإنسان وتفوق عليه .. فماذا يساوي الفرد الواحد في الإسلام إنه يساوي الإنسانية كلها . “ من قتل نفا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا “ . لا تغني المنجزات ولا الإصلاحات المادية ولا التعمير ولا السدود ولا المصانع .. إذا قتل الحاكم فردا واحدا ظلما في سبيل هذا الإصلاح ، فإنه يكون قد قتل الناس جميعا. ذروة في احترام الفرد لم يصل إليها مذهب سياسي قديم أو جديد .. فالفرد في الإسلام له قيمة مطلقة بينما في كل المذاهب السياسية له قيمة نسبية .. والفرد في الإسلام آمن في بيته .. وفي أسراره " لا تجسس ولا غيبة " آمن في ماله ورزقه وملكيته وحريته . كل شيء حتى التحية حتى إفساح امجلس حتى الكلمة الطيبة لها مكان في القرآن . وقد نهى القرآن عن التجبر والطغيان والإنفراد بالحكم . وقال الله للنبي " وهو من هو في كماله وصلاحيته " . “ وما أنت عليهم بجبار “ . “ فذكر إنما أنت مذكر .. لست عليهم بمسيطر “ . “ إنما المؤمنون إخوة “ . ونهى عن عبادة الحاكم وتأليه العظيم : “ لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله “ . “ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه “ . ونهى عن الغوغائية وتملق الدهماء والسوقة والجري وراء الأغلبية المضللة وقال أن : “ بل أكثر الناس لا يعلمون “ . “ بل أكثرهم لا يعقلون “ . “ أكثر الناس لا يؤمنون “ . “ إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون “ . " يكذبون " “ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل “ . ونهى عن العنصرية والعرقية : “ إن أكرمكم عند الله أتقاكم “ . “ هو الذي خلقكم من نفس واحدة “ .
وبالمعنى العلمي كان الإسلام تركيبا جدليا جامعا بين مادية اليهودية وروحانية المسيحية ، بين العدل الصارم الجاف الذي يقول : السن بالسن والعين بالعين . وبين المحبة والتسامح المتطرف الذي يقول : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر. وجاء القرآن وسطا بين التوراة التي حرفت حتى أصبحت كتابا ماديا ليس فيه حرف واحد عن الآخرة ، وبين الإنجيل الذي مال إلى رهبانية تامة ، ونادى القرآن بناموس الرحمة الجامع بين العدل والمحبة فقال بشرعية الدفاع عن النفس ولكنه فضل العفو والصفح والمغفرة . “ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور “ . وإذا كانت الرأسمالية أطلقت للفرد حرية الكسب إلى درجة استغلال الآخرين .. وإذا كانت الشيوعية سحقت هذه الحرية تماما .. فإن الإسلام قدم الحل الوسط . “ للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن “ . الفرد حر في الكسب ولكن ليس له أن يأخذ ثمرة أرباحه كلها .. وإنما له فيها نصيب .. وللفقير نصيب يؤخذ زكاة وإنفاقا من 2.5 في المائة إلى 90 % جبرا واختيارا .. وهذا النصيب ليس تصدقا وتفضلا وإنما هو حق الله في الربح .. وبهذه المعادلة الجميلة حفظ الإسلام للفرد حريته وللفقير حقه .
ولهذا أصاب القرآن كل الصواب حينما خاطب أمة الإسلام قائلا : “ وكذلك جعلناكم أمة وسطا “ . فقد اختار الإسلام الوسط العدل في كل شيء . وهو ليس الوسط الحسابي وإنما الوسط الجدلي أو التركيب الذي يجمع النقيضين " اليمين واليسار " ويتجاوزهما ويزيد عليهما .. ولذلك ليس في الإسلام يمين ويسار وإنما فيه " صراط " الاعتدال الوسط الذي نسميه الصراط المستقيم من خارج عنه باليمين أو اليسار فقد انحرف . ولم يقيدنا القرآن بدستور سياسي محدد أو منهج مفصل للحكم لعلم الله بأن الظروف تتغير بما يقتضي الاجتهاد في وضع دساتير متغيرة في الأزمنة المتغيرة ، وحتى يكون الباب مفتوحا أمام المسلمين للأخذ والعطاء من المعارف المتاحة في كل عصر دون انغلاق على دستور بعينه . ولهذا اكتفى القرآن بهذه التوصيات السياسية العامة السالفة كخصائص للحكم الأمثل .. ولم يكبلنا بنظرية وهذا سر من أسرار إعجازه وتفوقه وليس فقرا ولا نقصا فيه . وتلك لمسة أخرى من تقديمة القرآن التي سبقت كل التقديمات.
ونرد على القائلين بأن الدين جمود وتحجر .. بأن الإسلام لم يكن أبدا دين تجمد وتحجر وإنما كان دائما وأبدا دين نظر وفكر وتطوير وتغيير بدليل آياته الصريحة . “ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق “ . “ فلينظر الإنسان مم خلق .. خلق من ماء دافق .. يخرج من بين الصلب والترائب “ “ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت “ . أوامر صريحة بالنظر في خلق الإنسان وفي خلق الحيوان وفي خلق الجبال وفي طبقات الأرض وفي السماء وأفلاكها .. والتشريح والفسيولوجيا والبيولوجيا وعلم الأجنة . أوامر صريحة بالسير في الأرض وجمع الشواهد واستنباط الأحكام والقوانين ومعرفة كيف بدأ الخلق .. وهو ما نعرفه الآن بعلوم التطور . ولا خوف من الخطأ . فالإسلام يكافئ الذي يجتهد ويخطئ بأجر والذي يجتهد ويصيب بأجرين .
وليس صحيحا ما يقال من أننا تخلفنا بالدين وتقدم الغرب بالإلحاد .. والحق أننا تخلفنا حينما هجرنا أوامر ديننا . وحينما كان المسلمون يأتمرون بهذه الآيات حقا كان هناك تقدم وكانت هناك دولة من المحيط إلى الخليج وعلماء مثل ابن سينا في الطب وابن رشد في الفلسفة وابن الهيثم في الرياضيات وابن النفيس في التشريح وجابر بن حيان في الكيمياء . وكانت الدنيا تأخذ عنا علومنا .. وما زالت مجمعات النجوم وأبراجها تحتفظ إلى الآن بأسمائها العربية في المعاجم الأوروبية وما زالوا يسمون جهاز التقطير بالفرنسية imbique ومنه الفعل imbiquer من كلمة أمبيق العربية.. ولم يتقدم الغرب بالإلحاد بل بالعلم . وإنما وقع الخلط مما حدث في العصور الوسطى من طغيان الكنيسة ومحاكم التفتيش وحجرها على العلم والعلماء وما حدث من سجن غاليليو وحرق جيوردانو برونو . حينما حكمت الكنيسة وانحرف بها البابوات عن أهدافها النبيلة فكانت عنصر تأخر .. فتصور النقاد السطحيون أن هذا ينسحب أيضا على الإسلام وهو خطأ .. فالإسلام ليس بابوية ولا كهنوت .. والله لم يقم بينه وبين المسلمين أوصياء ولا وسطاء . وحينما حكم الإسلام بالفعل كان عنصر تقدم كما شرحنا وكما يقول التاريخ مكذبا هذه المزاعم السطحية .
وآيات القرآن الصريحة تحض على العلم وتأمر بالعلم ولا تقيم بين العلم والدين أي تناقض : “ وقل رب زدني علما “ . “ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون “ . “ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم “ . جعل الله الملائكة وأولي العلم في الآية مقترنين بشرف اسمه ونسبته . وأول آية في القران وأول كلمة كانت " اقرأ " والعلماء في القرآن موعودون بأرفع الدرجات : “ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات “ . وتتكرر كلمة العلم ومشتقاته في القرآن نحوا من ثمانمائة وخمسين مرة . فكيف يتكلم بعد هذا متكلم عن تناقض بين الدين والعلم أو حجر من الدين على العلم . والنظر في الدين وتطوير فهمه مطلوب ، وتاريخ الإسلام كله حركات إحياء وتطوير .. والقرآن بريء من تهمة التحجير على الناس وكل شيء في ديننا يقبل التطوير .. ما عدا جوهر العقيدة وصلب الشريعة .. لأن الله واحد ولن يتطور إلى اثنين أو ثلاثة .. هذا أمر مطلق .. وكذلك الشر شر والخير خير .. لن يصبح القتل فضيلة ولا السرقة حسنة ولا الكذب حلية يتحلى بها الصالحون . وفيما عدا ذلك فالدين مفتوح للفكر والاجتهاد والإضافة والتطوير .
وجوهر الإسلام عقلاني منطقي يقبل الجدل والحوار ويحض على استخدام العقل والمنطق . وفي أكثر من مكان وفي أكثر من صفحة في القرآن نعثر على التساؤل .. " أفلا يعقلون " .. " أفلا يفقهون " . وأهل الدين عندنا هم " أولو الألباب " . “ شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون “ . “ أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها “ . احترام العقل في لب وصميم الديانة . والإيجابية عصبها والثورة روحها . لم يكن الإسلام أبدا خانعا ولا سلبيا . “ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم “ . “ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص “ .والجهاد بالنفس والمال والأولاد .. والقتال والثبات وعدم النكوص على الأعقاب ، ومواجهة اليأس والمصابة والمرابطة في صلب ديننا .
فكيف يمكن لدين بهذه المرونة والعقلانية والعلمية والإيجابية والثورة أن يتهم بالتحجر والجمود إلا من صديق عزيز مثل الدكتور القادم من فرنسا لا يعرف من أوليات دينه شيئا ولم يقرأ في قرآنه حرفا .
يتبع