عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 2020-09-15, 10:18 AM
Nabil Nabil غير متواجد حالياً
مشرف قسم التاريخ الإسلامى
 
تاريخ التسجيل: 2009-08-07
المشاركات: 3,061
افتراضي رد: سلسلة كلمات في القرآن الكريم / د. عثمان قدري مكانسي

سلسلة كلمات في القرآن الكريم (14)

الدكتور عثمان قدري مكانسي



الوفاة*

التفت إليّ أحد المصلين بعد انتهائنا من أداء صلاة الفجر – وكان رجلاً من عوام الناس – يقول متلهفاً : فاجأني جاري النصراني أمس بسؤال لا أعرف جوابه ، حين قال : كيف تقولون – معشر المسلمين – إن عيسى حيّ في السماء عند ربه ، والقرآن يعلن أنه ميت ؟ وقرأ علي قوله تعالى في سورة آل عمران :
{ إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)} ، وما دمنا أتباعه – كما يقول النصراني - فنحن ظاهرون فوقكم إلى يوم القيامة ، وأنتم الكافرون . إن الآية في قرآنكم تقول هذا .
ونظر صاحبي إليّ متحسراً متألماً قائلاً : لم أستطع الرد ، فأنا لا أعرف إلا أساسيات الدين ، وإيماني بالله راسخ ، لكنني أجهل كثيراً من الأحكام والمعاني الإسلامية .

قلت يا أخي ؛ أحسنت صنعاً حين سألتني فلم تترك للشيطان مسرباً يصل منه إليك ،
فأولا : لا يكون الرسوخ في الشيء إلا بالعلم به علماً تاماً يمنع الشك أن يأتيه . ويطرد الشيطان وأعوانه أن ينفذ إليك بأسئلة ومعانٍ تثير الشكوك والشبهات ،
وثانياً : فنحن أتباع عيسى الحقيقيون ، فهو عليه السلام يعلن بملء فيه أنه عبد لله ، وبشر رسول وكما قال سبحانه :
{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) ...} ،
وهم يؤلهونه ويفترون عليه وعلى أمه حين يجعلونه إلهاً وابن إله ، ويجعلون أمه مريم زوجة الإله – سبحان الله أن يكون له وزجة أو ولد ـ قال عز وجل : { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} (الجن) ،
وثالثاً : فعودتنا إلى ديننا والتزامنا به يجعلنا سادة البشر ، وما استعلاء النصارى وغيرهم إلا ببعدنا عن هدي الإسلام وشرعته .
ورابعاً : فالوفاة لا تعني الموت إلا بقرينة تؤكده .

المعنى اللغوي لكلمة توفـّاه الله :
استوفى مدته التي كتبها له ، عدد أيامه وشهوره وأعوامه في الدنيا . وفي القرآن آيات تدل على أن الوفاة غيرُ الموت إلا بقرينة – كما ذكرنا قبل قليل – وسنأتي ببراهين كثيرة وأدلة توضح المعنى وتوثـّقه .

ـ ففي قوله جل ثناؤه في سورة الأنعام : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60)} فالنوم كل ليلة غيبة مؤقتة تستريح الروح فيها لتعاود النفس نشاطها في النهار ، يقبض فيها الروح ثم يبعثها إلى اكتمال الأجل . إن الوفاة هنا - إذاً- غيبة للوح مؤقتة تعود حين يستيقظ المرء .

ـ وفي قوله تقدست أسماؤه في سورة الزمر :
{ اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} ففي الحالتين – الموت والنوم - قبض للروح ووفاة ( استيفاء ) وللموت أجل معدود . يقول ابن منظور في معجمه لسان العرب : " وأما توفي النائم فهو استيفاء وقت عقله وتمييزه إلى أنْ نام .

وعلى هذا نفهم الآية التي لوى النصراني معناها ، وفسرها كما يريد ، نفهمها بلغة العرب التي نزل القرآن بها أنه قبْضٌ دون موت . ولا بد من ملاحظة قوله تعالى : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقد أنقذه الله تعالى حين رفعه إلى السماء إذ دخل اليهود عليه يريدون قتله ، فنجّاه الله منهم . إن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يمت وهو في السماء ، دليل ذلك أسماءُ الفاعلين : ( رَافِعُكَ ، مُطَهِّرُكَ ، جَاعِلُ ) المضافة إلى الضمير الكاف للدلالة على الاستمرارية حين ينزل إلى الأرض ويقاتل المشركين ويكسر الصليب ويقتل الخنزير كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة :
ليهبطن الله عيسى بن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا ، يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، حتى لا يجد من يأخذه ، وليسلكن الروحاء حاجا أو معتمرا ، أو ليثنـّيـَنّ بهما جميعا " ويحكم بالإسلام ويحج بيت الله الحرام ويعتمر.

وتكون الوفاة موتاً بقرائن دالة عليه ، في القرآن الكريم أمثلة كثيرة نذكر بعضها :

1 - قوله سبحانه في سورة النساء :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ... (97)} ؟... والقرينة هنا حديث الملائكة مع الكفار الذين ظلموا أنفسهم وماتوا وهم كافرون ، فلا تكلم الملائكة البشر ولا سيما الكفار إلا بعد الموت ....

2 - قوله عز وجلّ في سورة الأنعام :
{ ... حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)}
فالقرينة هنا الموت نفسه ، والملائكة التي تقبض الأرواح .

3 - قوله جل ثناؤه في سورة يوسف :
{ ... تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}
فالقرينة في هذه الآية الرغبة في الموت على الإسلام وأن يلحق يوسف عليه السلام يالأنبياء قبله على ملتهم ودينهم .

4 - قوله تقدست أسماؤه في سورة الحج :
{ ... وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ... (5)}
فالدليل على أن الوفاة هنا موت أن البعض تطول أعمارهم حتى يصيبهم الخرف .

5 - وقوله تعالى في الآيات 27- 32 من سورة النحل ففيها تصوير بديع مخيف في استقبال زبانية العذاب للمشركين الذين ظلموا أنفسهم في جهنم مع التوبيخ والسخرية ، وتصوير بديع مفرح لاستقبال الملائكة مَن آمن استقبالاً طيباً فيدخلونهم الجنة معززين مكرمين :
{ .. إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ۚ بَلَىٰ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَـٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّـهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} .

نسأل الله أن يكتبنا في عباده الطيبين الذين يكرمهم في الفردوس وجنات النعيم .

6 - وقوله سبحانه في سورة البقرة في عدة الأرامل ، ولا تكون المرأة إرملة إلا حين يموت زوجها وتجب عليها العدة :
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ... (234)} .

وتُذكر كلمة الموت حين لا تكون قرينة دالة عليه ، والدليل على ذلك :

1 - قوله عز وجلّ في سورة سبأ حول حادثة موت سيدنا سليمان عليه السلام :
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ... (14)}
ولم يقل : فلما قضينا عليه الوفاة .. ما دلهم على وفاته ،

2 - وقوله جل ثناؤه في سورة الزمر :
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30)}
حين أخبرنا أنه لا بد من الموت ، وأن كل نفس ستذوقه , ولم يقل إنك متوفّى وإنهم متوفـَّون .

3 - في أواخر سورة المائدة تصوير لحوار جرى بين صاحب العزة سبحانه وبين عيسى عليه السلام يسمعه الخلائق كلها تثبيتاً لوحدانية الله وتبرئة لعيسى عليه السلام من دعوى الألوهية له ولأمه ، قال تقدست أسماؤه :
{ وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} .
وذكرت كلمة { تَوَفَّيْتَنِي } لأن الحديث عن الزمن الذي كان فيه عيسى في السماء قبل أن ينزل على الأرض ، وبمعنى آخر لم يكن قد مات بل كان حياً في السماء ، وما يموت إلا بعد نزوله إلى الرض ، ومحاربته الدجال ، وقتله في باب لد ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( ... أنه إذا خرج مسيح الضلالة الأعور الكذاب نزل عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ، واضعا يديه على منكبي ملكين ، فإذا رآه الدجال انماع كما ينماع الملح في الماء ، فيدركه فيقتله بالحربة عند باب لد الشرقي على بضع عشرة خطوات منه )
من موقع الدرر السنية ( الحديث صحيح )

والأمثلة كثيرة يمكن الرجوع إليها والاستيثاق منها ... والله أعلم .
* بتصرف بسيط جدا

آخر تعديل بواسطة Nabil ، 2020-09-15 الساعة 11:36 PM
رد مع اقتباس