عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 2011-04-07, 04:35 PM
د.أبو عمر د.أبو عمر غير متواجد حالياً
عضو جديد بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2011-04-03
المشاركات: 16
افتراضي

نعم يامولانا ,, لذلك فإن أهم الركائز التي يقوم عليها الفقه الاجتهادي في السياسة الشرعية:

1- فقه النصوص : فهى حجة الله على خلقه وشاملة لجميع الدين أصوله وفروعه
فالاجتهاد السياسي إنما يكون في غير المنصوص عليه، أو فيما كانت دلالته ظنية نظرية لا قطعية.

2- فقه المقاصد: لا شك أن شواهد الأحكام تدل على هذا المعنى بالاستقراء، وهو ما يقيم برهان صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان وحال.
وإن ما يمر ببلادنا من أحوال مستجدة سوف يفضي بأهل الشريعة وعلمائها إلى فتاوي تحقق المصالح وتنفي المفاسد، وتجمع بين النصوص والمقاصد، وتربط بين الجزئيات والكليات، وتجمع بين الأحكام، وعللها وحكمها.
والمتصدرون لمثل هذه المسائل الشائكة حين يُعمِلون هذه القاعدة وغيرها قد يخرجون بأحكام أو بفتاوي قد تستنكر بادي الرأي، لكنها قد تثبت عند المناقشة والموازنة والترجيح، كما انتهى إليه نظر عمر رضي الله عنه في إيقاف سهم المؤلفة قلوبهم، وتعطيل قطع يد السارق في المجاعة، ومنع الزواج بالكتابية، والإلزام بالطلقات الثلاث، والزيادة في حد الشرب إلى ثمانين... وغير ذلك من التصرفات العمرية التي تعتبر اجتهادًا مقاصديًّا مع أنه رضي الله عنه هو الذي أعمل النص الجزئي عند تقبيل الحجر الأسود، والاضطباع، والرَّمَل... وغير ذلك.
ومن قبل اجتهد مقاصديًّا بعض الصحابة فراعوا المقاصد فصلوا العصر في الطريق إلى بني قريظة، واجتهد غيرهم فلم يصلها إلا بعد العشاء في بني قريظة، فكان الأولون مع المقصد والمعنى، وكان الآخرون مع النص والمبنى، ولم يكن أحد الفريقين ينقصه الهدى أو التقى، ولكنه الاجتهاد البشري الذي قد يراعي جانبًا أكثر من جانب، والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خطَّأ أحد الفريقين، ولا ثرَّب على أحد من المجتهدين.
وإعمال تلك القواعد والأصول الحاكمة يكون باعتمادها إطارًا لمعالجة الوقائع والنوازل التي يحتاج في معالجتها إلى ورع دقيق، وفقه عميق، وفطنة وملكة صحيحة.
والنوازل السياسية وما تواجه به من تأصيل لأحكامها وتقعيد لمسائلها ينبغي أن يراعى فيه الفروق بين الضرورة الفردية، والضرورة الجماعية العامة، فالأولى مؤقتة، والثانية دائمة.
والأولى قد تتحقق بسهولة، ويتعرف على وجودها بيسر، والثانية لا تتحقق إلا بعد طول نظر، وفحص وبحث.
وفي جميع ما سبق تقصد الشريعة وأهلها إلى إخراج المكلف من داعية هواه إلى طاعة ربه ومولاه، وتحقيق الامتثال لقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
وكل من الفقيه المفتي، والسائل المستفتي عليه أن يحسن قصده، ويضبط قوله بضوابط الشرع المطهر.
أما المفتي فيعلم أنه يمارس صفة مركبة تبدأ بالتشخيص والتكييف الفقهي للمسألة، وتمر بتلمس الدليل، وعلاقاته بالواقع، ومن ثم تصدر الفتيا، ولا يتم إلا بعلم وعمل ودربة وتجربة ومشورة.
وليحذر المفتي والمستفتي من الوقوع تحت ضغط الواقع والمجتمع، أو التقديم بين يدي الله ورسوله بقول، أو رأي، وقد قال تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 119].

3-فقه الترجيح عند التعارض :
في حياة الناس اليوم تقابل وتعدد، وتشابك معقد بين المصالح والمفاسد والمنافع والمضار، حتى قلَّ أن تتمحض حسنة أو تصفو منفعة إلا ويشوبها ما يعكر عليها.
وقد يكون التقابل بين المصالح فيقدم أولاها وأرجحها؛ فالضروري يقدم على غيره، والحاجي يقدم على التحسيني وما كان نفعه متعديًا يقدم على ما نفعه قاصر إذا كانا من رتبة واحدة.
وما كان أخرويًّا قدم على ما كانت منفعته دنيوية محضة، وما كان من المصالح كليًّا مقطوعا به قدم على الجزئي المتوهم، والواجب يقدم على المندوب عند التعارض، والفرض أفضل من النفل ولابد.
والواجب المضيق يقدم على الموسع، وآكد الواجبين يقدم عند التعارض.
وقد قال تعالى: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾[الزمر: 55]، ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾[الزمر: 18]. ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 271].
وقد علم النبي صلى الله عليه سلم معاذًا بأي شيء يبدأ أهل الكتاب وبما يثنِّي في دعوته، وقدم الفرائض في محبة الله على النوافل([57]).
وهكذا أيضًا عند تعارض المفاسد تدفع أعظمها فسادًا.
فإذا «دار الأمر بين درء مفسدتين وكانت إحداهما أكثر فسادًا من الأخرى فدرء العليا منهما أولى من درء غيرها، وهذا موضع يقبله كل عاقل، واتفق عليه أولو العلم».([58])
وكما أن القاعدة السابقة تنص على تقديم المصلحة الأرجح والأولى عند التعارض بين المصالح، فكذا عند تعارض المفاسد تدفع المفسدة الأكبر، ولا شك أن أعظم المكروهين أولاهما بالترك، فيرتكب أدنى المكروهين ضررًا ليتخلص به من أشدهما ضررًا([59]). فمطلوب الشريعة ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعًا. ([60])
أدلة القاعدة:
أولًا: القرآن الكريم:
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 217].
وجه الدلالة:
قال ابن تيمية في معنى الآية: «يقول الله عز وجل: وإن كان قتل النفوس فيه شر، فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك، فيندفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما». ([61])

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا، فقلت: والله يا رسول الله لَغيرُ هؤلاء كان أحقَّ به منهم. قال: «إنهم خيروني أن يسألوني بالفُحش، أو يبخِّلوني، فلست بباخل»([65]).
وجه الدلالة:
«الحديث فيه ارتكاب مفسدة لأجل أخرى؛ فإن القوم خيروه صلى الله عليه وسلم بين أمرين مكروهين لا يتركونه من أحدهما: المسألة الفاحشة، والتبخيل، والتبخيل أشدُّ، فدفع صلى الله عليه وسلم الأشدَّ بإعطائهم»([66]).
ومثل هذا تركه صلى الله عليه وسلم الصلاة على الغالِّ([67]) والمدين([68]) وتركه قتلَ المنافقين([69])، وهذا يدل بجلاء على صحة هذه القاعدة، وكثرة تطبيقاتها.
وفي تقريرها من جهة القواعد الأصولية والمقاصدية يقول العز بن عبد السلام: «وقد أمر الله بإقامة مصالح متجانسة، وأخرج بعضها عن الأمر إما لمشقة ملابستها، وإما لمفسدة تعارضها، وزجر عن مفاسد متماثلة، وأخرج بعضها عن الزجر، إما لمشقة اجتنابها، وإما لمصلحة تعارضها».([70])
وفي مثل النوازل السياسية قد يقال إذا تعارض الواجب مع المحظور أيهما يقدم؟
والجواب : أن يقال إن التعارض المقدر إذا كان بشكل مطلق أو كلي أو أغلبي وكان في محلٍّ واحدٍ أو حالٍ واحدةٍ فيقدم الأمر على النهي، ويكون ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي.
وأما ما يتعلق بالجزئيات من ذلك، كأن يتعارض فعل المأمور الجزئي مع ارتكاب المنهي الجزئي في محلٍّ واحد، فينبغي النظر في رتبة المأمور ورتبة المحظور، فإن كانت المفاسد المترتبة على فعل المحرم أعظمَ من مفاسد ترك الواجب احتُمِلت مفسدة ترك الواجب لدرء مفسدة فعل المحرم، وإن كانت مفسدة ترك الواجب أعظمَ ففعل المحرم أولى، وهذا له تعلق بالترجيح بين المصالح والمفاسد عند التعارض، وضوابط ذلك من الكلية والجزئية والتعدي والقصور.
وعليه فلا بدَّ ولا غنى عن النظر في مراتب الأمر والنهي، والواجب والمحرم عند التعارض، فإذا تعارضت صغيرة مع واجب شرعي فليقدم الواجب -فضلًا عن ركن أو أصل من أصول الإيمان- وإذا تعارضت الكبيرة مع الواجب الذي هو من جنس الوسائل –مثلًا- فليقدم ترك مثله على ارتكاب مثلها.
فإن استوت الرتبتان بين الواجب والمحظور، أو نقصت رتبة الواجب، أو حصل تردد أو اشتباه فليعمل عندئذ بمذهب عامة الأصوليين من تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة، أو تقديم الامتناع عن ارتكاب المنهي عنه درءًا لمفسدته، ولو فَوَّتَ هذا تحصيلَ مصلحة الأمر.
على أنه لا اختلاف على أن ترك الحرام أولى من فعل ما يستحب، فإذا كان الدنو والقرب من الإمام وإدراك الصف الأول يوم الجمعة وفي الجماعة مستحبًّا متأكدًا فإن تخطي الرقاب يوم الجمعة محرم، فينهى عن ذلك، ولو فَوَّتَ المصلحة المترتبة على فعل المستحب.
ولأجل هذا قعّد الفقهاء: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وعند التعارض يقدم المانع على المقتضي، ودارت على هذا المعنى قواعد كثيرة منها:
1- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ([71]).
2- يختار أهون الشرين أو أخف الضررين([72]).
3- يُتَحَمَّلُ الضرر الخاص لدفع الضرر العام ([73]).
4- إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما([74]).
5- إذا اجتمع ضرران أسقط الأصغر الأكبر([75]).
وهذه القواعد مختلفة مبنًى مقتربة معنًى في الجملة، وهي متعلقة بالقاعدة الفقهية السابقة: «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ومتفرعة عن القاعدة الكلية الكبرى: «لا ضرر ولا ضرار».
وهي تدور حول المعنى الكلي العظيم والذي ابتنيت عليه الشريعة السمحة من تحصيل المصالح وتكميلها، ودفع المفاسد وتقليلها.
وتعتبر قاعدة: «يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام» مبنيةً على المقاصد الشرعية في مصالح العباد، استخرجها المجتهدون من الإجماع، ومعقول النصوص، وتعتبر قيدًا لقاعدة: «الضرر لا يزال بمثله»([76]).
فالشرع إنما جاء ليحفظ على الناس دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأنسابهم، وأموالهم، فكل ما يؤدي إلى الإخلال بواحد منها فهو مضرة يجب إزالتها ما أمكن، وفي سبيل تأكيد مقاصد الشرع بدفع الضرر الأعم بارتكاب الضرر الأخص، ولهذه الحكمة شُرِعَ حدُّ القطع حمايةً للأموال، وحدُّ الزنا والقذف صيانةً للأعراض، وحدُّ الشرب حفظًا للعقول، والقصاصُ وقتلُ المرتد صيانةً للأنفس والأديان، ومن هذا القبيل شُرِعَ قتلُ الساحرِ المضرِ، والكافرِ المضلِّ؛ لأن أحدهم يفتن الناس، والآخر يدعوهم إلى الكفر، فيتحمل الضرر الأخص ويرتكب؛ لدفع الضرر الأعم([77]).
ولأجل هذا جوز الفقهاء الحجرَ على المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس([78]).

رابعًا: فقه الواقع:
الشأن في كثير من قضايا السياسة الشرعية أن تتغير في واقعها وأن يتغير الحكم الشرعي الاجتهادي تبعًا لهذه التغيرات، ولذا فإن الأحكام الاجتهادية المبنية على أعراف معينة أو مصالح وعادات ما -لا ينكر تغيرها واختلاف الفتيا فيها باختلاف الأماكن والظروف والملابسات التي تكتنفها.
والفتوى تتغير في الأمور الاجتهادية بحسب التغير الطارئ على أهل الزمان صلاحًا أو فسادًا.
يقول عمر بن عبد العزيز: «تحدث للناس أقضية بحسب ما أحدثوا من الفجور»([79])، ويقول العزبن عبد السلام: «يحدث للناس في كل زمان من الأحكام ما يناسبهم»([80]).
- وقد غلَّظ عمر الدية في أسنان الإبل بالجناية في الشهر الحرام، وطلب القاضي أبو يوسف تزكية الشهود لتغير أهل الزمان وضعف الديانة وتفشِّي الكذب([81]).
- وكان عمر بن عبد العزيز يقضي في المدينة بشاهد واحد ويمين، فلما صار إلى الشام لم يقبل إلا شاهدين لما رآه من تغيرٍ عما عرفه من أهل المدينة([82]).
- وأجاز بعض الفقهاء التسعيرَ للحاجة إليه بسبب فساد أهل الزمان([83]).
- وكان بعض الفقهاء لا يعتبرون ذوي الأرحام من الورثة، فكانت أموالهم تذهب إلى بيت المال، فلما رأوا فساد الزمان وجور السلطان وعدم انتظام بيت المال أخذوا بالرأي الآخر فورثوهم([84]).
- ولما تغير الحال منع بعض أهل العلم من خروج النساء إلى المساجد ليلًا؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح([85]).
- ولما تحاقر الناس عقوبة الخمر اجتمع الصحابة على أن يبلغوا بها أخفَّ الحدود ثمانين جلدة([86]).
- وكما غلَّظوا خفَّفوا مراعاةً لفساد أهل الزمان، فقد ترك عمر نفي الزاني لما التحق ربيعة بن أمية بهرقل بعد نفيه بسبب الخمر([87]).
- وفي عهد عثمان أمر بالتقاط ضوال الإبل وبيعها على خلاف ما كان معمولًا به، حتى إذا جاء صاحبها أعطي ثمنها، بسبب فساد الذمم ونقص الأمانة، وتحقيقًا لقصد الشارع ([88]).
- وانتقل الحنفية في اعتبار المنافع أموالًا إلى مذهب الشافعية والحنابلة لتجرؤ الناس على الغصب، فأفتوا بتضمين الغاصب أجرة المثل عن تلك المنافع المغصوبة([89])، وذهب متأخروهم إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن لاختلاف العصر والأوان([90]).
وربما اختلفت الفتيا باختلاف المكان:
فالجناية في الحرم لا تكون كالجناية في غيره عند الشافعي وأحمد، ومال بعض المجتهدين إلى تغير الفتيا باختلاف الدار؛ فلا تقام الحدود عند الحنفية على من ارتكب موجبها في دار الحرب، لا في دار الحرب ولا دار الإسلام، وتقام عند غيرهم في دار الإسلام([91]).
كما تختلف الفتيا باختلاف أحوال المكلفين:
فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ في المباشرة والقبلة وهو صائم، ولم يرخص للشاب([92])؛ لأن الأول يملك نفسه بخلاف الثاني، ومن سأل عن القتل قبل أن يقتل قالوا له لا توبة لك، فإن قتل قيل له تب إلى الله.
وقد تتغير الفتيا باختلاف العلوم المعاصرة حتى أمكن تحديد ميراث الحمل وتقديره، واستفيد من العلوم الطبية الحديثة في حل إشكالات الخنثى وغيره.
وأبيح القصاص في العظام حيث لا يخشى التلف أو السراية، وأفتى الحنفية وبعض الحنابلة بأن الاستحالة في الأعيان النجسة مطهِّرة([93]).
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة الدالة على تغير الفتيا بتغير ما يحيط بها من ملابسات في الواقع.

خامسًا: فقه التوقع:
لئن كان فقه الواقع من أسس السياسة الشرعية، فإن فقه التوقع أيضًا من هذه الأسس التي عبر عنها فقهاؤنا تعبيرًا واضحًا في قواعد محكمة.
ولذا عبر عنها الشاطبي بقوله: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا» ([94]).
فيشمل الفعل ما هو أعم من الاعتقاد والقول، كما يشمل الواقع والمتوقع؛ لأنهم عبروا بالتعلق عما من شأنه أن يتعلق وإن لم يقع بعد، تسميةً للشيء باسم ما يؤول إليه([95]).
وعليه فإن إهمال النظر إلى المآلات من حيث إفضاء الأفعال والتصرفات إلى نقيض المقصود الذي شُرِعَتْ له يُرتب أنواعًا من الخلل
وبناءً على ذلك فإن المجتهد الناظر في هذه المسائل -لا سيما المستجدة والنازلة- عليه أن يراعي مآلات الأفعال، ونتائجها بما يتفق مع مقصد الشارع من تشريع تلك الأفعال والتصرفات، فإذا كان الفعل في مآله لا يتفق مع مقصد الشارع منعه المجتهد ابتداءً قبل وقوعه؛ لأن «الدفع أسهل من الرفع» ([96]).
وهذه القاعدة تتطلب من المجتهد أن يكون دقيقَ النظر عميقَ البحث، وقد علَّق الشاطبي على أهمية الدربة على هذا المعنى فقال: «وهو مجال للمجتهد صعبُ المورد، إلا أنه عذبُ المذاق، محمودُ الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة»([97]).
أدلة القاعدة:
أولًا: القرآن الكريم:
1- مجموعة الآيات المستدَلُّ بها على قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108].
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 110] ونحوها من الآيات، فهي تنهى عن أفعال معينة تؤول عاقبتها إلى عكس مقصودها من تعظيم الله تعالى.
2- مجموعة الآيات التي ترشد إلى اعتبار المآل بدليل ربط الشارع بين الأحكام ونتائجها العملية، نحو:
قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21].
وقوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
وقوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179] فهذه الآيات ترشد إلى اعتبار مآل هذه التصرفات والأفعال بشكل مباشر في تحصيل التقوى، وحصول أمن المجتمعات، وتحقق الحفاظ على حياة الناس.
3- مجموعة الآيات التي تبين اعتبار المآلات بشكل خاص، ومنها قوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف: 79].
وجه الدلالة:
لا شك أن إعطابَ السفينة أو إلحاقَ ضررٍ بها ينبغي منعه ودفعه؛ لكونه مضرَّةً ومفسدةً، لكن لما لُوحظ مآلُ هذا الفعلِ من نجاةِ السفينةِ من الملِكِ الظالم كان هذا الإضرارُ محمودًا من جهةِ مآله، ومشروعًا من جهة نتيجته.
4- قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 4].
وجه الدلالة:
قد يجلد من رأى الزنا بعيني رأسه فشهد به من غير أن يأتي عليه بأربعة شهداء، وهذا في ذاته ضررٌ ومفسدةٌ إلَّا أنها لـمَّا حفظتِ الأعراضَ ومنعت من إشاعة الفاحشة أو تشويه الشرفاء، فقد جاء هذا الاحتياطُ في عدد الشهود، وإقامة حدِّ القذف على من قذف؛ للمآل المرجو من حفظ المجتمع المسلم أن تُستعلَنَ فيه الفاحشةُ، أو تُنتهكَ فيه أعراضُ المؤمنين بالبهتان.
ثانيًا: السنة المطهرة:
- الأحاديث المستدل بها على قواعد تعارض المصالح والمفاسد وتدافعها مثل:
1- حديث بول الأعرابي في المسجد، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن قطع بوله([98])؛ لما يؤول من انتشار النجاسة وحصول النفرة.
2- وحديث امتناعه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين؛ لئلا يتحدث الناسُ أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه!([99])، ونحو ذلك.
3- وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «خيار أئمتكم الذين تُحبونهم ويُحبونكم، وتُصَلُّون عليهم ويُصَلُّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تُبغضونهم ويُبغضونكم، وتَلعنونهم ويَلعنونكم». قالوا: قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: «لا ما أقاموا فيكمُ الصلاةَ، لا ما أقاموا فيكمُ الصلاةَ، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فَلْيَكْرَهْ ما يأتي من معصية الله، ولا يَنْزِعَنْ يدًا من طاعة»([100]).
وجه الدلالة:
في الخروج على الظالم مصلحةُ عزله وتوليةُ العدلِ، وإشاعةُ الصلاحِ، وإزالةُ الفسادِ، إلَّا أنه لما يؤول إليه ويفضي من استباحة دماء أهل الإسلام، وحصول الفتن في مجتمعات المسلمين، وغيرِ ذلك من أسبابٍ -أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة، وعدمِ منابذتِهم أو الخروجِ عليهم.
ضوابط الاجتهاد بالنظر في المآلات:
ومما ينبغي الالتفات إليه في هذه القاعدة: ضوابطُ الاجتهاد بالنظر في المآلات، ومن ذلك([101]):
1 - تَرَجُّحُ حصولِ المآل سواء أكان مصلحة أم مفسدة، وذلك بغلبة الظن على أقل تقدير.
2- أن يكون النظر على وفق مقاصد الشريعة.
3- أن يكون المآل المتوقع منضبطًا في علته وحكمه.
ومن القواعد الفقهية التي ترتبط بهذا المبدأ: قاعدة «من استعجل شيئًا قبل أوانه عُوقب بحرمانه»([102])، وقاعدة «ما قارب الشيءَ يُعطَى حُكْمَه»([103]).

________________

([57]) أخرجه: البخاري (1458)، ومسلم (19) من حديث معاذ رضي الله عنه.
([58]) شرح الكوكب المنير، لابن النجار، (4/447-448).
([59]) إغاثة اللهفان، لابن القيم، (2/142).
([60]) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (23/343).
([61]) مجموع الفتاوي، لابن تيمية، (10/513).
([62]) أخرجه: البخاري (3603)، ومسلم (1843).
([63]) أخرجه: البخاري (3792)، ومسلم (1845).
([64]) الاستقامة، لابن تيمية، (1/35-36).
([65]) أخرجه: مسلم (1056).
([66]) الاستقامة، لابن تيمية، (2/266).
([67]) أخرجه: ابن ماجه (2848) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
([68]) أخرجه: البخاري (2298)، ومسلم (1619) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([69]) أخرجه: البخاري (3518)، ومسلم (2584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
([70]) قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، (1/7).
([71]) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص96)، شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص199).
([72]) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص87)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص98).
([73]) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص96)، شرح القواعد الفقهية، للزرقا، (ص197).
([74]) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص87)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص98).
([75]) إيضاح المسالك، للونشريسي، (ص95).
([76]) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص86)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص96).
([77]) الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، للبورنو، (ص 206). ([78]) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص87).
([79]) المنتقى شرح الموطأ، للباجي، (8/64).
([80]) البحر المحيط، للزركشي، (1/166).
([81]) بدائع الصنائع، للكاساني، (6/270).
([82]) إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/85).
([83]) الطرق الحكمية، لابن القيم، (2/638 - 639).
([84]) نهاية المحتاج، للرملي، (6/11-13)، حاشية الدسوقي، (4/468).
([85]) روي ذلك عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما في البخاري (869)، ومسلم (445).
([86]) أخرجه: مسلم، (1706)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
([87]) السنن الكبرى، للنسائي، (5166).
([88]) المنتقى شرح الموطأ، لأبي الوليد الباجي، (8-70-72).
([89]) المبسوط، للسرخسي (11/78-79)، المدخل الفقهي العام، لمصطفى الزرقا، (945 - 946).
([90]) نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، لابن عابدين ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، (2/125-126).
([91]) الرد على سير الأوزاعي، لأبي يوسف، (ص80-83)، تبيين الحقائق، للزيلعي، (3/267).
([92]) أخرجه: أحمد، (2/185).
([93]) البحر الرائق، لابن نجيم، (1/239)، حاشية ابن عابدين، (1/534)، المغني، لابن قدامة، (1/97).
([94]) الموافقات، للشاطبي، (4/194).
([95]) نهاية السول، للإسنوي، (1/53).
([96]) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص138).
([97]) الموافقات، للشاطبي، (4/195).
([98]) أخرجه: البخاري (6025)، ومسلم (284) -واللفظ له- من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
([99])أخرجه: البخاري (3518)، ومسلم (2584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
([100]) أخرجه: مسلم (1855).
([101]) فقه النوازل للأقليات المسلمة، د. محمد يسري، (1/487-488).
([102]) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص152)، الأشباه والنظائر، لابن نجيم، (ص184).
([103]) الأشباه والنظائر، للسيوطي، (ص178)، المنثور، للزركشي، (3/144).
رد مع اقتباس