عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 2011-09-10, 01:11 AM
الثوري الثوري غير متواجد حالياً
محاور
 
تاريخ التسجيل: 2007-08-24
المكان: أرض الله
المشاركات: 109
افتراضي رد: كتاب الحيدة والاعتذار على من قال بخلق القرآن

قال المأمون: أحسنت يا عبد العزيز، قال عبد العزيز فقلت لبشر: استمع لما في مسألتك. فقال بشر: هاته، قال عبد العزيز وأما المفصل الذي لا يجوز صلته فقول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ}(1) هاهنا تم الكلام ثم يبتدي القاري فيقول: {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(2) فلو قال رجل للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله قطع الكلام عامدا كان كافرا حلال الدم لأنه زعم أن لله مثل السوء وشبهه جل ذكره
__________
(1) سورة النحل آية 60.
(2) سورة النحل آية 60.
(1/212)
بالذين لا يؤمنون بالآخرة وأدخله معهم في المثل السوء، فإذا فصل الكلام كما فصله الله ولم يصله بما لم يصله الله به فقال: للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء وقطع الكلام كان صادقاً وكان قد وقف على تمام الكلام وفصل ما فصل الله عز وجل ولم يصل ما فصل الله قال الله عز وجل: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى}(1) هاهنا تم الكلام ثم يبتدي القاري فيقرأ: {وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا}(2) فلو قال رجل: وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله وقطع
__________
(1) سورة التوبة آية 40.
(2) سورة التوبة آية 40.
(1/213)
عامدا كان كافرا حلال الدم لأنه قد أعظم الفرية على الله عز وجل وزعم أن الله قد أخبر أن كلمته سفلى مع كلمة الذين كفروا فشبه الله تعالى بالذين كفروا فإذا فصل الكلام من الصلة فقال وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ووقف على ذلك وقطع الصلة كان صادقا وكان فصل ما قد فصل الله عز وجل.
قال عبد العزيز: فأقبل علي المأمون فقال: أحسنت أحسنت يا عبد العزيز وقد أبلغت فلا تحتاج إلى زيادة، ثم أقبل على بشر فقال: يا بشر هل عندك شيء تحتاج تسأل عنه عبد العزيز أو تحتج به عليه فقد ظهرت حجته ووضح قوله عندنا. قال بشر: يا أمير
(1/214)
المؤمنين أطال الله بقاءك هذا يريد نص التنزيل بكل شيء يتكلم به أو يلفظ به وليس كل ما يتكلم به الناس ويحتجون به يجدونه في نص التنزيل وإنما يجدونه في التأويل وهذا لا يقبل التأويل ويبطل التفسير حتى كأنه كان يشاهد التنزيل وهذا ما لا أسوغه أنا للمناظرين ولا أطيقه للمتكلمين إذ كان الناس لا يجدون علم ما يختلفون فيه ويتنازعون من أمر دينهم في كتاب الله عز وجل بنص التنزيل ولو كان هذا كما يقول عبد العزيز لبطل التفسير كله وبقي الناس في حيرة من أمر دينهم والناس جميعا يوافقوني على قولي ويخالفون عبد العزيز.
(1/215)
قال عبد العزيز: فقلت يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك كل ما يتكلم به الناس من علم دينهم وما يختلفون فيه ويتنازعون فيه فهو موجود في القرآن وفي غيره من كتبه لقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}(1) وقوله: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ}(2) فليس من شيء يحتاج إليه يا أمير المؤمنين إلا وهو موجود في
__________
(1) سورة الأنعام آية 38.
(2) سورة الأعراف آية 144-145.
(1/216)
القرآن عقله من عقله وجهله من جهله.
قال عبد العزيز: فجثى محمد بن الجهم على ركبتيه وقال يا عبد العزيز زعمت أن كل شيء يتكلم به الناس ويحتاجون إلى معرفته موجود في كتاب الله بنص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير فأوجدنا أن هذا الحصير مخلوق أو غير مخلوق في كتاب الله تعالى بنص التنزيل ووضع يده على حصير مرمي/ كان تحتنا مبسوطاً في الإيوان فقلت له: نعم علي أن أوجدك ذلك. قال عبد العزيز فأقبلت عليه فقلت له: أخبرني عن هذا الحصير أليس هو من سعف النخل وجلود الأنعام؟ قال: بلى. قلت: فهل فيه شيء غير هذا؟ قال: لا. فقلت
(1/217)
له: هل هاهنا شيء غير هذا قال: لا. فقلت له بل هاهنا شيء صار به حصيرا يجلس عليه. قال وما هو؟ قلت: الإنسان الذي صنعه وألفه وأحكمه قال: نعم.

قال عبد العزيز: فقلت له قال الله عز وجل وقد ذكر الأنعام فقال: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ}(1) وأما السعف فإن الله ذكره فقال: {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ}(2) وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ}(3) فقد كمل
__________
(1) سورة النحل آية 5.
(2) سورة الواقعة آية 72.
(3) سورة المؤمنون آية 12.
(1/218)
خلق الحصير بنص القرآن بلا تأويل ولا تفسير، فهل عندك مثل هذا في خلق القرآن تذكره وتحتج به وإلا فقد بطل ما تدعونه في خلقه وصح ولم يزل صحيحا أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق من كل جهة. قال فصاح المأمون: يا محمد بن الجهم مالك وللكلام خل بين الرجل وصاحبه حتى يكلمه وأقبل على بشر فقال: يا بشر هل عندك شيء تناظر به عبد العزيز قبل أن نصرفه ونقوم فقد طال المجلس وصليت الظهر. فقال بشر: يا أمير المؤمنين عندي أشياء كثيرة إلا أنه يقول بنص التنزيل وأنا أقول بالنظر والقياس فليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني
(1/219)
بغيره فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقول بقولي ويقر بخلق القرآن الساعة فدمي حلال.
فقال المأمون: لهذا مجلس تناظرون فيه. قال عبد العزيز فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إن رأيت أن تأذن لي فأناظره كما سأل على جهة النظر والقياس وأدع مطالبته بالقرآن ونص التنزيل ويكون أمير المؤمنين أطال الله بقاءه الشاهد علينا والمحتفظ لكلامنا فإن أقام بشر علي الحجة كما زعم وأقررت بشيء مما قال ورجعت عن شي مما قلت/ فدمي حلال كما قال بشر ,إن ثبتت الحجة عليه من القياس والنظر كما ثبتت عليه من القرآن والسنة وشهد عليه
(1/220)
أمير المؤمنين بذلك فقد حل دمه بما شرط على نفسه.
قال عبد العزيز: فقال المأمون أنا الشاهد عليكما والحاكم بينكما فأوجزا واقتصرا ولا تطيلا فيخرج وقت الصلاة. قال عبد العزيز لبشر: أتسألني أم أسألك؟ فقال: سل أنت فطمع في هو وجميع أصحابه وتوهموا أني إذا خرجت عن التنزيل لم أحسن أن أتكلم بشيء غيره. قال عبد العزيز فقلت لشر: تقول إن كلام الله مخلوق. فقال: إن القرآن مخلوق، قال عبد العزيز فقلت له يلزمك واحدة من ثلاث لا بد أن تقول أن الله عز وجل خلق القرآن وهو عندي أنا كلامه في نفسه ، أو خلقه في غيره، أو خلقه
(1/221)
قائما بذاته ونفسه فقل ما عندك.
قال بشر: أقول إنه مخلوق وإنه خلقه كما خلق الأشياء كلها. قال عبد العزيز فقلت: يا أمير المؤمنين تركنا القرآن والسنن والأخبار عند هربه منها وناظرناه بالقياس والكلام لما ادعاه وذكر أنه يقيم الحجة علي به وإني أقر معه بخلق القرآن، فقد رجع بشر إلى الحيدة عن الجواب وانقطع الكلام فإن كان يريد مناظرتي على أنه يجيبني عما أسأله عنه وإلا فأمير المؤمنين أعلا عينا في ما يراه في صرفي فإنما يريد بشر أن يقع معه من لا يفهم فيحيد عن دينه ويحتج عليه بما لا يعقله فتظهر حجته عليه فيبيح
(1/222)
بذلك دمه.
قال فأقبل عليه المأمون فقال: أجب عبد العزيز عما سألك فقد ترك قوله ومذهبه وناظرك على مذهبك وما ادعيت أنك تحسنه وتقيم الحجة به عليه.
فقال بشر: قد أجبته ولكنه يتعنت. فقال له المأمون: يأبى عليك عبد العزيز إلا أن تقول واحدة من ثلاث.
قال : هذا بشر من مطالبته بالتنزيل ما عندي غير ما أجبت به.

قال عبد العزيز: فأقبل علي المأمون فقال يا عبد العزيز تكلم أنت في شرح هذه المسألة وبيانها ودع بشرا فقد انقطع عن الجواب من كل جهة.
(1/223)
فقلت يا أمير المؤمنين سألته عن كلام الله عز وجل أمخلوق هو قال: نعم. فقلت له ما صح يلزمك في هذا القول وهو واحدة من ثلاث لابد منها أن تقول إن الله خلق كلامه في نفسه، أو خلقه في غيره، أو خلقه قائما بذاته. فإن قال إن الله خلق كلامه في نفسه فهذا محال لا يجد السبيل إلى القول به من قياس ولا نظر معقول لأن الله عز وجل لا يكون مكانا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصاً فيزيد فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه تعالى الله عن ذلك وجل وتعاظم.
(1/224)
وإن قاتل: خلقه في غيره فيلزمه في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره هو كلام الله لا يقدر أن يفرق بينهما فيجعل الشعر كلاما لله تعالى ويجعل قول الكفر والفحص وكل قول ذمه الله وذم قائله كلاما لله عز وجل وهذا محال لا يجد السبيل إليه ولا إلى القول به لظهور الشناعة والفضيحة على قائله تعالى الله عنه ذلك علوا كبيراً.
وإن قال: خلقه قائما بنفسه وذاته وهذا هو المحال الباطل الذي لا يجد إلى القول به سبيلا في قياس ولا نظر ولا معقول لأنه لا يكون الكلام إلا من متكلم كما لا تكون الإرادة إلا من مريد ولا
(1/225)
العلم إلا من عالم ولا القدرة إلا من قادر ولا رئي ولا يرى كلام قط قائم نفسه يتكلم بذاته وهذا مالا يعقل ولا يعرف ولا يثبت في نظر ولا قياس ولا غير ذلك فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقا ثبت أنه صفة لله عز وجل وصفات الله عز وجل كلها غير مخلوقة فبطل قول بشر يا أمير المؤمنين من جهة النظر كما بطل من جهة القرآن والتنزيل.
فقال المأمون: أحسنت يا عبد العزيز فقال بشر: تسأل عن غير هذه المسألة فلعله يخرج بيننا شيء يسمع فقلت نعم أنا أدع هذه المسألة وأسأل عن غيرها/ فقال: سل يا عبد العزيز.
(1/226)
قال عبد العزيز: فقلت لبشر: تقول إن الله كان ولا شيء، وكان ولما يفعل شيئا ولما يخلق شيئا. قال: بلى. فقلت له: بأي شيء حدثت الأشياء بعد إذ لم تكن شيئا أهي أحدثت أنفسها أم الله أحدثها؟ قال: الله أحدثها. فقلت له: فبأي شي أحدثها؟ قال: أحدثها بقدرته التي لم تزل. قلت له: صدقت أحدثها بقدرته أفليس تقول إنه لم يزل قادرا؟ قال: بلى. قلت له: فتقول إنه لم يزل يفعل؟ قال: لا أقول هذا. قلت له: فلا بد من أن يلزمك أن تقول إنه خلق بالفعل الذي كان عن القدرة وليس الفعل لأن القدرة صفة الله ولا يقال لصفة هي الله ولا هي
(1/227)
غير الله.
قال بشر: ويلزمك أيضا أن تقول إن الله لم يزل يفعل ويخلق وإذا قلت ذلك فقد أثبت أن المخلوق لم يزل مع الله سبحانه وتعالى.
قال عبد العزيز فقلت له: ليس لك أن تحكم علي وتلزمني مالا يلزمني وتحكي عني ما لم أقل إذ لم أقل إنه لم يزل فاعلا يفعل فيلزمني مثل ما قلت وإنما قلت إنه لم يزل الفاعل سيفعل ولم يزل الخالق سيخلق لأنه الفعل صفة لله عز وجل يقدر عليه ولا يمنعه منه مانع.
قال بشر: أنا أقول إنه أحدث الأشياء بقدرته فقل أنت ما شئت.
(1/228)
قال عبد العزيز: فقلت يا أمير المؤمنين قد أقر بشر أن الله كان ولا شيء معه وأنه أحدث الأشياء بعد أن لم تكن الأشياء بقدرته، وقلت أنا إنه أحدثها بأمره وقوله عز وجل عن قدرته فلم يخل يا أمير المؤمنين أن يكون أول خلق خلقه الله بقوله قاله أو بأرادة أرادها أو بقدرة قدرها فأي ذلك فقد ثبت إن هاهنا إرادة ومريد وقول وقائل ومقال وقدرة وقادر ومقدور عليه وذلك كله متقدم قبل الخلق وما كان قبل الخلق فليس هو من الخلق في شيء وكسرت والله يا أمير المؤمنين قول بشر ودحضت حجته إقراره بلسانه فقد كسرت قوله بالقرآن والسنة
(1/229)
واللغة العربية، والنظر والمعقول، ولم يبق إلا القياس، وأنا أكسره بالقياس إن شاء الله تعالى.
قال عبد العزيز: وكان المأمون قد جلس منا مقعد الحاكم من الخصمين. فقال: هاته يا عبد العزيز وأوجز، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو كان بشر غلامان، وأنا لا أجد علمهما من أحد من الناس إلا من بشر، يقال لأحدهما خالد، وللآخر يزيد، وكان بشر غائبا عني فكتب إلي ثمانية عشر كتابا يقول في كل كتاب منها، أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب. وكتب إلي أربعة وخمسين كتابا ( يقول في كل كتاب)(1) أدفع إلى يزيد، ولم
__________
(1) من طبعة المجمع ص132.
(1/230)
يقل: يزيد غلامي، هذا الكتاب، ثم كتب إلي كتابا جمعهما فيه فقال: أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب، وإلى يزيد ولم يقل، يزيد غلامي.
ثم قدم بشر من سفره، فقال: أليس تعلم أن يزيد هذا غلامي؟ فقلت له: قد كتبت إلي أربعة وخمسين كتابا (تقول في كل كتاب منها)(1) أدفع هذا الكتاب إلى يزيد ولم تقل غلامي، ولم أسمعك تقول إنه أحد غلاميك، وأنا لا أجد علمه عن أحد غيرك. وكتبت إلي ثمانية عشر كتابا_ تقول في كل واحد منها_ أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب فعلمت إنه غلامك، ثم كتبت إلي كتابا جمعتهما فيه
__________
(1) من طبعة المجمع ص132.
(1/231)
فقلت: أدفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب، وإلى يزيد ولم تقل غلامي، فمن أين أعلم أن يزيدا غلامك وأنت لم تقل بي قبل هذا الوقت إنه غلامك وليس أعلم خبرهما من غيرك.
فقال بشر فرطت، فحلفت أنا إن بشرا فرط، وحلف بشر إني أنا فرطت حيث لم أعلم إن يزيدا غلامه من كتبه، فأينا المفرط يا أمير المؤمنين. فقال: بشر المفرط، فقال بشر أي شي هذا مما نحن فيه.
قال عبد العزيز: إن الله أخبر في كتابه عن خلق الإنسان في ثمانية عشر موضعا، ما ذكره في موضع منها إلا أخبر عن خلقه.
(1/232)
وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعا من كتابه فلم يخبر عن خلقه في موضع منها ولا أشار إليه بشي من صفات الخلق، ثم جمع بين القرآن والإنسان في موضع واحد وأخبر عن خلق الإنسان، ونفى الخلق عن القرآن. فقال عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ}(1) ففرق بين القرآن وبين الإنسان، فزعم بُشر يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل فرط في الكتاب، وكان يجب عليه أن يخبر عن خلق القرآن، وقال الله عز وجل {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}(2) فهذا كسر
__________
(1) سورة الرحمن آية 1-3.
(2) سورة الأنعام آية 38.
(1/233)
قول بشر في القياس والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال المأمون: أحسنت يا عبد العزيز، ثم أمر لي بعشرة ألاف درهم، فحملت بين يدي وانصرفت من مجلسه على أحسن حال وأجملها، قد أعز الله دين الإسلام وعز أهله وأذل الكفر وأهله فلله الحمد والشكر على نعمه كلها وعلى مننه وتوفيقه وتسديده.
قال عبد العزيز: فسر المسلمون جميعا بما وهبهم الله من إظهار الحق وقمع الباطل، وانكشف عن قلوبهم ما كان قد اكتنفها من الغم والهم والحزن وجعل الناس يجيئون إلي أفواجا حتى أغلقت بابي
(1/234)
واحتجبت عنهم خوفا على نفسي وعليهم من مكروه يلحقنا، فقالوا: لا بد أن تملى علينا ما جرى لنعرفه ونتعلمه، فتهيبت ذلك، وتخوفت سوء العاقبة، فلما ألحوا علي قلت: أنا أذكر بعض ما جرى مما لا يكون علي حجة في ذكره فرضوا بذلك، فأملين عليهم أوراقا يسيرة مقدار عشر أوراق مختصرة مما جرى لأقطعهم بها عني وعن ملازمة بابي، ولم يتهيأ لي شرح هذا كله لما تخوفت على نفسي مما يلحقني بعضه، وأنا أذكر ما لحقني بعد هذا المجلس وما جرى بسبب تلك الأوراق التي كتبها الناس عني في كتاب مفرد بعد هذا إن شاء الله تعالى(1)
__________
(1) إلى هنا آخر طبعة مركز شئون الدعوة.
(1/235)
"آخر كتاب الحيدة" .
قال عبد العزيز الكناني: وكان خلق ظهري وأنا في مجلس أمير المؤمنين المأمون أناظر بشرا المريسي على ما سأذكره في هذا الكتاب رجل ممن يعرف بالكلام والنظر، فجعل كلما سكت بشر وانقطع يحرضه على الكلام، وإذا أردت أنا أن أتكلم لا يزال يهذي خلفي ويقرب رأسه من أذني ليسمعني ويدهشني ويقطعني بذلك عن حجتي، فشكوت إلى أمير المؤمنين ذلك فصاح به وباعده عني، فلما قلت لبشر: ما من شيء كان أو هو كائن مما يحتاج الناس إلى معرفته وعلمه إلا وقد ذكره الله عز وجل في كتابه عقله من عقله، وجهله من جهله، فإذا
(1/236)
ذلك الرجل يضرب يده على فخذه ويقول: يا سبحان الله تزعم أن كل ما هو كائن مما يحتاج إليه قد ذكره الله ما أعظم هذا وكيف يعلم ما هو كائن فيذكره؟

قال عبد العزيز: فالتفت إليه فقلت له أنت جهمي قدري أيضا وأنت تهذي دائما، ثم أقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إن هذا الذي شكوت إليك أذاه منذ اليوم. هو جهمي قدري قد جمع الأمرين من جهتين، ينكر أن يكون الله يعلم ما يكون قبل أن يكون، فقال المأمون: هذا قوله، فقلت له: إن رأى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه أن يأذن لي حتى أكذبه وأكسر قوله
(1/237)
وأدحض حجته وأبطل مذهبه بنص التنزيل الساعة.
فقال المأمون: لهذا وقت غير هذا ومجلس غير هذا تتكلم معه ومع غيره في القدر خاصة.
قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين ليس أطول إنما أحتج عليه بآية واحدة. فقال المأمون: قل ما تريد.
قال عبد العزيز فقلت له: أتنكر أن الله يعلم ما يكون فبل أن يكون. قال: نعم. أنا أنكر هذا. فقلت: والله يا أمير المؤمنين لقد علم الله ما لم يكن، ولا يكون أن لو كان كيف كان يكون. فصاح الرجل ما أجراك على الكذب الحمد لله الذي أخذك بلسانك.
(1/238)
فقال لي المأمون: أعد هذا الكلام يا عبد العزيز. فقلت له: نعم والله لقد علم الله ما لم يكن ولا يكون أن لو كان كيف كان يكون.
فقال لي المأمون: يا عبد العزيز هذا شيء تقوله من نفسك أو شيء تحكيه عن غيرك، فقلت له: هذا شيء أخبرنا به في كتابه الذي أنزله على نبيه- صلى الله عليه وسلم -، فقال لي المأمون: وأين ذلك من كتاب الله عز وجل.
قال عبد العزيز فقلت له: قال الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِفَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ
(1/239)
الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(1) في قولهم هذا، وهذا ما لم يكن ولا يكون لأنهم لا يردون لا هم ولا غيرهم، فأخبر عز وجل بعلمه السابق فيهم أن لو ردوا ما كانوا فاعلين، ولن يردوا أبدا، فهذا ما لم يكن ولا يكون أن لو كان كيف يكون.
فقال لي المأمون: أحسنت يا عبد العزيز، وما قلت في يومك هذا أحسن ولا أدق من هذا. فقلت: قد أكذبت والله أهل هذه المقالة وكسرت قولهم ودحضت حجتهم
__________
(1) سورة الأنعام آية 26-27.
(1/240)
وأبطلت مذهبهم بنص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير والحمد لله رب العالمين.
... تم كتاب الحيدة بعون الله تعالى وتوفيقه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وكان الفراغ من نسخه أواخر جماد الأولى سنة 1191 واحد وتسعين ومائة وألف. والله ولي التوفيق. -
(1/241)
__________________


[============================]

لو علمتَ ما فعل أهلُ الحديثِ
لسجدتَ للهِ شكراً أن جعلك من هذه الأمة.

فضيلة الشيخ / أبو إسحق الحويني
[============================]
رد مع اقتباس