عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 2011-09-10, 01:10 AM
الثوري الثوري غير متواجد حالياً
محاور
 
تاريخ التسجيل: 2007-08-24
المكان: أرض الله
المشاركات: 109
افتراضي رد: كتاب الحيدة والاعتذار على من قال بخلق القرآن


والذي تتعارفه العرب وتتعامل به في لغاتها وخطابها ومعنى كلامها ومخارج ألفاظها هو الذي جرت به سنة الله عز وجل في كتابه إذ كان إنما أنزل بلسانها واكتتب على تبيانها فخاطبهم الله عز وجل بما عقلوه وعرفوه ولم ينكروه ولم يكونوا يعرفون سواه وهو القول الموصل والمفصل.
(1/180)
فأرجع أنا وبشر يا أمير المؤمنين لما اختلفنا فيه من قول الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}(1) إلى سنة الله في كتابه في الجعلين جميعا، وإلى سنة العرب أيضا وما تتعارفه وتتعامل به، فإن كان من القول الموصل فهو كما قلت أنا إن الله جعله قرآنا عربيا، بأن صيره عربيا_ أي_ أنزله بلغه العرب ولسانها، ولم يصيره أعجميا فينزله بلغة العجم، وإن كان من القول المفصل فهو كما قال ولن يجد ذلك أبدا، وإنما دخل الجهل على بشر ومن قال بقوله يا أمير المؤمنين لأنهم ليسوا من العرب ولا
__________
(1) سورة الزخرف آية 3.
(1/181)
علم لهم بلغة العرب ومعاني كلامها، فتناولوا القرآن على لغة العجم التي لا تفقه ما تقول، وإنما تتكلم بالشيء كما يجري على ألسنتها، فكل كلامهم ينقض بعضه بعضا لا ينتقدون ذلك من أنفسهم، ولا ينتقده عليهم غيرهم لكثرته.
قال عبد العزيز: وسمعت الأصمعي عبد الملك بن قريب، وقد سأله رجل أتدغم الفاء في الياء؟ فتبسم الأصمعي وقبض على يدي وكان لي صديقاً، فقال لي أما تسمع، ثم أقبل على السائل وهو يتعجب من مسألته وقوله فقال له: تدغم الفاء في الياء في لغة إخواننا بني الأنباء- بني ساسان- يقولون: كيصبحت، فيدغمون الفاء
(1/182)
في الياء، أما العرب فلا تعرف هذا.
قال عبد العزيز: فاشتد تبسم المأمون من قول الأصمعي ووضع يده على فيه. قلت: وهذا الذي يأتينا به بشر يا أمير المؤمنين من لغة أصحابنا بني الأنباء_ بني ساسان.

فقال بشر: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك يذمنا ويكفرنا ويقول إنا نحرف القرآن عن مواضعه، وهو قد وضع قدر القرآن وشأنه وسماه بأنقص اسم ووصفه بأخس صفة واقلها ولقد خالف بقوله كتاب الله عز وجل وحرفه عن مواضعه لأن الله عز وجل سماه كتابا عزيزا، وسماه كريما، وأخبر عنه إنه تام كامل بقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي
(1/183)
الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}(1). وسماه عبد العزيز موصلاً ومفصلاً، فخالف كتاب الله تعالى وصفته وذم ما مدح الله لأن الموصل عند العرب والعجم وسائر الخلق دون التام الصحيح الكامل، إذ كان الموصل عندهم جميعا الملفق الذي قد وصل بعضه ببعض ولف بعضه ببعض. فإذا أراد الرجل من العرب وغيرهم أن يضع من قدر الشيء قال: هو موصل وليس هو صحيح، فقد سمى كتاب الله اسما ناقصا وقال فيه إثماً وبهتاناً عظيماً، ولو قلت أنا هذا وما هو دونه لكان قد خطب وتكلم واستغاث بأمير المؤمنين وأخرجنا عن الإسلام وهو يقول
__________
(1) سورة الأنعام آية 38.
(1/184)
العظام ويحيل على العرب، وأمير المؤمنين أطال الله بقاه يحلم عنه بفضله وهو يتقوى بحلمه علينا.
قال عبد العزيز: فقلت لبشر: وهذا أيضا من جهلك بما في كتاب الله عز وجل، تذمني وتزعم إني سميت كتاب الله اسماً ناقصاً، وتغري بي أمير المؤمنين، وهو أعلم بما قلت وتكلمت مني ومنك وما قلت إلا ما قال الله عز وجل، وما نسبت إلا ما نسبه إليه وارتضاه له، وهو عند العرب الفصحاء كلام جيد صحيح مرتضى، وأنت تزعم أن كلام الله هو من ذاته مخلوق وتشبهه بكلام المخلوقين من الشعر وقول الزور وغيره، وتنكر عل أن سميته بما سماه الله
(1/185)
تعالى به.
فقال بشر: وأين سماه الله موصلا ومفصلا. قلت: في كتابه من حيث لا تفهمه ولا تعلمه فقال: هاته.
قال عبد العزيز: فقلت: قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(1) فهذه تسمية الله عز وجل لكلامه ووصفه له بنص التنزيل لا بتأويل ولا بتفسير وهو الذي اختاره لنفسه ولكلامه وارتضاه له، وقال: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}(2) فامتدحهم بصلة ما وصل وأثنى عليهم في غير آية من كتابه ووعدهم على
__________
(1) سورة القصص آية 51.
(2) سورة الرعد آية 21.
(1/186)
ذلك أحسن عدة وهي الجنة، وقال عز وجل: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}(1) فهذه مدحة الله وهذا ثناء الله، وهذا جزاء الله لمن وصل ما وصل. ولقد ذم الله عز وجل الذين قطعوا ما أمر الله بصلته وذمهم ولعنهم وجعلهم من الخاسرين فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ
__________
(1) سورة الرعد آية 22-24.
(1/187)
اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}(1) فهذا ذم الله لمن قطع ما وصل الله وما أمر بصلته وهو وعيد الله لهم بالنار.

ثم ذكر الله ما في القرآن من المفصل فقال عز وجل: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}(2) وقال عز وجل: {حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً
__________
(1) سورة البقرة آية 27.
(2) سورة هود آية 1.
(1/188)
عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(1) وقال عز وجل: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(2) وقال: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}(3) فهذا قول الله عز وجل وهذه أخبار الله وهذه تسمية الله وهذه نسبة الله عز وجل لكلامه وهذا اختيار الله عز وجل لكتابه ولكلامه وهذا ما ارتضاه الله ورضي به من قائله.
قال عبد العزيز: فأقبلت على أمير المؤمنين فقلت: يا أمير المؤمنين يزعم بشر أني سميت كتاب الله اسما ناقصا مذموما
__________
(1) سورة فصلت آية 1-3.
(2) سورة الروم آية 28.
(3) سورة الأنعام آية 98.
(1/189)
وإني ذهبت بقدره وسميته بما لم يسمه الله عز وجل، وإني أتيت بذلك إثما وبهتانا عظيما ويدعي علي الدعاوي وأنا حاضر معه، وإنما ينبغي له إذا تكلمت بشي يطالبني بإقامة الحجة والدليل على كل لفظة لفظت بها، فإن لم أفعل ذلك فليتكلم بما شاء ولقد أكذبه الله عز وجل في كتابه وذم قوله وأبطله بما أنزل الله في كتابه من ذكر الموصل والمفصل، وما قصد بشر يا أمير المؤمنين بقوله هذا إلا إلى تنقيص العرب كلها وذم كلامها ولغاتها، وما تتعامل به في خطابها، إذ كانت تسمي كلام الله تعالى موصلا ومفصلا، وتسمي كلامها مفصلا وموصلا،
(1/190)
وتختار هذه الأسماء لكلامها وترتضيها، وهي عندنا جميلة حسنة صحيحة المعنى لا خلاف بينهم.
قال بشر: ما تعرف العرب من هذا شيئا، وما أنت أعرف بلغة العرب مني، وكل شيء نسبته إلى العرب فهو مخالف لقولها ولغتها ومذهبها في كلامها.
قال عبد العزيز: فأقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك أنت بيت اللغة وأعلم خلق الله بلغة العرب وكلامها وما تتعارفه وتتعامل به في خطابها وأنت الحاكم بيننا فإن أكن تزيدت على العرب منذ اليوم في ما حكيته عن العرب أو نسبته إليهم أو عدلت عن سنتهم أو حدث عنهم وعن
(1/191)
مذهبهم وكلامهم وخطابهم ومخارج ألفاظهم فقد استحققت العقوبة من وجهين، أحدهما جرأتي على أمير المؤمنين أطال الله بقاه وقولي بين يديه، وحكايتي عن قومه ما يعلم خلافه مع علمي إنه أعلم خلق الله بذلك. والأخرى كذبي على سائر العرب وادعائي الباطل عليهم وأمير المؤمنين يشهد علي بكذبي وتزييدي وهو في حل وسعة من دمي ومن كل ما يعاقبني به، إن كان قد وقف على ذلك مني. وإن يكون بشر يا أمير المؤمنين قد تزيد في القول، وادعى علي الباطل كان أمير المؤمنين أعلا عينا بالرد عليه ومنعه من قول الزور والكذب.
(1/192)
فقال المأمون: ما قلت يا عبد العزيز منذ اليوم إلا ما تقوله العرب وما تتعارفه وتتعامل به، وما خرجت عن مذهبها، ولو عدلت عن ذلك ما سوغت(1) لك الكذب عليها.
قال عبد العزيز: فقلت: الله أكبر الله أكبر كذب بشر والله بشهادة أمير المؤمنين أطال الله بقاه_ لي عليه_ أفلحت ورب الكعبة أفلحت ورب الكعبة وظهر أمر الله وهم كارهون.
قال عبد العزيز: فقال بشر وعلى الخلق أن يتعلموا لغة العرب(2) وما تعبدنا الله بهذا، كل إنسان
__________
(1) في الأصل ورقة 30/ب سطر 8 سوغتك.
(2) في طبعة المجمع ص111: لغات العرب كلها ما تعبدنا الله بهذا.
(1/193)
يقول بلغته وبقدر معرفته، وما كلف الله الخلق فوق طاقتهم، ولا طالب أولاد العجم بلغة العرب.
قال عبد العزيز: فقلت لبشر: وكلف الله الخلق أن يتكلموا بما لا يعلمون حيث ادعيت العلم وتكلمت في القرآن العظيم وتأولت كتاب الله على غير ما عناه الله، ودعوت الخلق إلى إتباعك، وكفرت من خالفك وأبحت دمه، والله قد نهى الخلق جميعا فلم يحاش نبيا مرسلا ولا صديقا ولا عبدا مؤمنا أن يقولوا مالا يعلمون، فقال عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
(1/194)
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(1). وقال عز وجل لنوح عليه السلام: {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}(2) فقال نوح معتذرا إلى ربه معترفا بخطيئته مستغفرا منها: { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ}(3) وقال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
__________
(1) سورة الإسراء آية 36.
(2) سورة هود آية 46.
(3) سورة هود آية 47.
(1/195)
مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ}(1) يذمهم الله بهذا الخبر وذم فعلهم وطريقهم التي سلكوا، فقال بشر: أخطب حتى تشبع من الكلام ثم أخاطبك. قال عبد العزيز: فقلت يا أمير المؤمنين إن بشرا قد تحير في ضلالته، وعمي عن رشده، وبانت فضيحة قوله ومذهبه، وانقطع فما يأتي بحجة. فقال بشر:
__________
(1) سورة آل عمران آية 7.
(1/196)
ما انقطعت ولا تحيرت ولا بانت فضيحة مذهبي، وأنا على بينة من أمري، وما دعوت الناس ولا أدعوهم إلا إلى سبيل الرشاد ولا أنا ولا هم إلا على سداد وكل من خالفني فكافر حلال الدم.
قال عبد العزيز: فقلت يا أمير المؤمنين ما كان بقي على بشر غير هذا قد قال كما قال فرعون، ولجأ إلى سبيل فرعون فاتبعها وإلى سبيله فسلكها.
فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه ثم قال: كيف قلت يا عبد العزيز؟ فأعدت عليه القول فازداد تبسمه ثم قال: كيف قال بشر ما قال فرعون ولجأ إلى سبيل فرعون؟ فقلت له: لما قرأت على بشر القرآن وأوضحت السبيل
(1/197)
والبرهان ودللته على طريق النجاة، ونطقت بالحق الذي أنطقني الله به قال بشر إني لعلى بينة من ربي قال هو ما دعوت الناس إلا إلى سبيل الرشاد، وكذلك قال فرعون حين أنطق الله من وفقه لقول الحق قال عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ
(1/198)
كَذَّابٌ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا}(1) قلت: قال هذا المؤمن الحق الذي أنطق الله به لسانه وسدد به قوله وسمعه فرعون وقومه قال فرعون لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}(2) وكذلك بشر يا أمير المؤمنين حين سمعني أقول الحق وفقني الله إليه وأنطق به لساني، فقال: إني لعلى بينة من ربي وما دعوت الناس إلا إلى سبيل الرشاد فأجاب بمثل ما
__________
(1) سورة غافر آية 27-28.
(2) سورة غافر آية 29.
(1/199)
أجاب به فرعون عند سماع الحق واتبع سبيله وما عدل عنها فبشر مرة يتبع سبيل الشيطان ويأمر بما أمر به الشيطان وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}(1) ومرة يتبع سبيل اليهود في تحريف القرآن عن مواضعه، وقد قال الله عز وجل: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ}(2) إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ}(3) وقال: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ
__________
(1) سورة النساء آية 76.
(2) سورة النساء آية 46.
(3) سورة النساء آية 52.
(1/200)
بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ}(1) ومثل هذا كثير، ومرة يتبع سبيل الكفار في التسوية بين الناس وبين خلقه في خلق الأشياء، ومرة يتبع سبيل عبدة الأصنام في الحيدة عن الجواب وقد قال الله عز وجل: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}(2) ومرة يتبع سبيل فرعون والقول بمثل قوله وقد قال الله عز وجل: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}(3) وقال عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ
__________
(1) سورة البقرة آية 61.
(2) سورة غافر آية 25.
(3) سورة غافر آية 37.
(1/201)
الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}(1) وقال عز وجل: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}(2).
فقال بشر: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءكم إنما يتكلم ويخطب لينسي خصمه حجته ويشغله بغيرها، ولولا بسط أمير المؤمنين إياه لم يقدر يدير لسانه في فمه ولكنت ظاهرا عليه، ثم أقبل بشر علي وقال: لو خطبت إلى غد ما تركت مطالبتك بما قلت فدع عنك الهذيان وأقبل علي. قال عبد العزيز: فقلت له: تكلم بما شئت حتى أجيبك. فقال بشر: تعبد الله الخلق
__________
(1) سورة الأنبياء آية 18.
(2) سورة الإسراء آية 81.
(1/202)
أن يعرفوا الموصل والمفصل وما يضر الخلق أن لا يعرفوا ذلك ولا يتعلمونه.
فقال له المأمون: قد رجعنا إلى الكلام الأول.
فقال بشر: أدهشني بكلامه وخطبه عن تمام الكلام في هذا وهو يتوهم أنه كسر قولي بهذا المفصل والموصل الذي لا يحتاج إلى معرفته/ ولا يطالب أحد به.

قال عبد العزيز: فقلت لبشر بل قد تعبد الله الخلق أن يعرفوا ذلك ويتعلمونه لئلا يصلوا ما فصل الله ويفصلوا ما وصل الله عز وجل.
قال : ما الحجة في ذلك والدليل على صدق قولك.
(1/203)
قال عبد العزيز: فقلت له أما سمعت ما قرأت عليك من كتاب الله وما تلوت عليك من الآيات المحكمات فيمن وصل ما أمر الله به أن يوصل ومن قطع ما أمر الله به أن يوصل وما وعد الله هؤلاء من حسنى وعقبى الدار، وما توعد الله به هؤلاء من اللعنة والعذاب وسوء الدار.
فقال بشر: دع ذكر ما مضى فمالك فيه حجة واحتج الساعة بشيء أفهمه.

قال عبد العزيز: فقلت له صدقت أنك ما فهمت ما مضى ولو فهمت ما قلت ما قلت، وأقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين إن في بعض ما مضى لكفآية وبلاغ ولكن بشر يزعم أنه لم يفهم شيئا مما مضى وأنا
(1/204)
أتكلم في ذكر المفصل والموصل من القرآن وأحتج للعرب في صحة لغاتها ومذاهبها في كلامها وخطابها.

قال عبد العزيز فقال المأمون: إن كان بشر لم يفهم ما مضى فكذلك لا يفهم إعادة ما يأتي فدع إعادة شيء قد مضى وظهرت لك الحجة فيه فإن هذا وقت الصلاة.
فقلت يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تأذن لي أن أتكلم بشيء لم أتكلم به في هذا المعنى أقيم به الحجة على بشر وأرجو أن يستحسنه أمير المؤمنين أطال الله بقاءه من غير إطالة الكلام. فقال: تكلم وأوجز.
(1/205)
قال عبد العزيز: فأقبلت على بشر فقلت: زعمت يا بشر إن الله لم يتعبد الخلق بمعرفة الموصل والمفصل فمن زاد فيه شيئا أو نقص منه كان كافراً. قال بشر: ما قلت هذا يا أمير المؤمنين وهو يدعيه علي.
فقلت له: اخبرني عمن قال إن الله عز وجل لم يتعبد الخلق بمعرفة شيء، من هذا أو غيره أو زاد فيه أو نقصه كان كافراً، أيكون صادقا أو كاذبا؟ فقال: كاذبا وإنما أقول كل شيء إذا زيد فيه أو نقص منه أو غير عما هو عليه كان فاعل ذلك/ كافرا لأن الله تعبد الخلق بمعرفته وعلمه.
فقلت له: قد وافقتني وأجبت نفسك عني وأقررت بما أنكرت.
(1/206)
فقال بشر: دع الكلام والتشبيه عنك وأقم الشاهد والدليل على ما تقول قال عبد العزيز فقلت له: قال الله عز وجل: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(1) فأخبر الله عز وجل أنه لا إله إلا هو وشهد بذلك لنفسه وشهدت له الملائكة وأولو العلم بمثل ذلك فلو قال رجل شهد الله أنه لا إله وقطع الكلام والصلة عامداً كان كافراً حلال الدم لأنه أعظم على الله عز وجل الفرية وأبطل
__________
(1) سورة آل عمران آية 18.
(1/207)
الربوبية وجحد أن يكون الله تعالى الها واستشهد ملائكته وأولو العلم على قوله، فإذا وصل الكلمة كما وصلها الله عز وجل فقال: شهد الله أنه لا إله هو والملائكة وأولو العلم كان صادقا وكان قد قال ما قال الله عز وجل وشهد به لنفسه وشهدت به الملائكة وأولو العلم وكذلك قوله تعالى: {اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}(1) وكذلك كل ما في القرآن من التهليل فعلى هذا المعنى من فصله من صلته وزاد فيه أو نقص منه كان كافراً، وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ
__________
(1) سورة آل عمران آية 2، وسورة البقرة آية 255.
(1/208)
يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}(1) لو أن رجلا قال: إن الله لا يستحيي وقطع الكلام عامداً كان كافرا لأنه زعم أن الله لا يستحيي، ومن قال هذا فقد أعظم الفرية إذ أخبر عن الله أنه أخبر عن نفسه أنه لا يستحيي فقد كفر وحل دمه بقوله هذا وكذلك قوله في سورة الأحزاب: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}(2) فلو قال رجل: والله لا يستحيي وقطع الصلة عامدا كان كافرا حتى يصل ما وصل الله في الحرفين فيقول في الأول أن يضرب مثلا ويقول
__________
(1) سورة البقرة آية 26.
(2) سورة الأحزاب آية 53.
(1/209)
في الآخر من الحق فيكون قد وصل ما وصل الله ولم يقطعه وإن لم يصله كان كافرا حلال الدم، وقال الله عز وجل: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}(1) فلو قال رجل: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها وقطع الصلة عامدا كان كافرا حلال الدم لأنه زعم أن الله لا يعلم الغيب، ومن زعم هذا فقد رد خبر الله عز وجل ورد قول الله عز وجل بشهادته لنفسه بعلم الغيب بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}(2) وقوله عز وجل: {عَالِمُ
__________
(1) سورة الأنعام آية 59.
(2) سورة الرعد آية 9.
(1/210)
الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ}(1) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(2) فمن قال إن الله لا يعلم الغيب فقد كفر وحل دمه، فإذا وصل ما وصل الله عز وجل ولم يقطعه فقال: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو كان صادقا وكان قد قال ما قال الله عز وجل ووصل ما وصل الله عز وجل ومثل هذا في القرآن كثير.
__________
(1) سورة الجن آية 26-27.
(2) سورة فاطر آية 38.
(1/211)
__________________


[============================]

لو علمتَ ما فعل أهلُ الحديثِ
لسجدتَ للهِ شكراً أن جعلك من هذه الأمة.

فضيلة الشيخ / أبو إسحق الحويني
[============================]
رد مع اقتباس