عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 2010-02-14, 09:11 AM
طالب عفو ربي طالب عفو ربي غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2009-02-28
المشاركات: 716
افتراضي

مقدمة



الحمد لله الذي خلق الإنسان , وعلمه البيان , وأنزل القرآن , فقوّم به اللسان , والصلاة والسلام على إمام المرسلين , وخاتم النبيين , النبي الأمي الصادق الأمين , الذي آتاه الله جوامع الكلم , وجعل أمته شاهدة على سائر الأمم .


أما بعد عزيزي القارئ ؛ فهذا كتاب اللغة العربية أصل اللغات كلها يأتيك عنوانه بخبره سريعا , وقد يدعوكم ذلك إلى التعجل في الحكم عليه , وسواء أكان حكمك الذي تصدره قبولا أم ردا , إقرارا أم إنكارا , فإن هذه المقدمة تستمهلك في إصدار ذلك الحكم , وتدعوك إلى متابعة السطور , حتى تستكمل رحلة القراءة , فتحكم له أو عليه , بعد إمعان النظر , وبخاصة في قسمه الثاني حيث تتجلى لك الكلمات المغتربات والبحث ينزع عن وجوههن تلك الأقنعة وعن رؤوسهن تلك القبعات , ويمنحهن أصالة النسب , ويردهن إلى عريق المحتد من كلام العرب . فينقلب إنكارك إقرارا , أو يتحول ريبك يقينا , أو لربما ازددت على قناعتك ثباتا واستقرارا .


يجئ هذا الكتاب في قسمين ؛ يتحدث الأول منهما عن نشأة اللغة وعن موطن آدم عليه السلام على الأرض ولغته , وعن أصالة العربية وتفرع لغات العالم منها , وعن ماهية اللغة وعلم اللغة واللهجات .


ويشتمل القسم الثاني على مجموعة من الكلمات الإنكليزية التي تم ترجيعها إلى العربية , والكلمات العربية التي ظهر بالبحث أنها أصل لتلك الكلمات , مع الشروح التوضيحية اللازمة ليسهل على القرئ الربط بين الكلمات الإنكليزية ومقابلاتها في العربية , وذلك إثباتا لصحة الفكرة القائلة بأن العربية هي أصل لكل اللغات .



القسم الأول



لابد من إعطاء الدراسة اللغوية شأنها الذي تستحقه في حياة الناس , لما للغة من أهمية في تلقي الفكر ونقل العلم والتعرف على السمات العامة والملامح الشخصية للأفراد والمجتمات والأمم .


وقد ظلت نشأة اللغة أمرا حير أهل اللغة منذ القدم , وقد أسهم علماء العربية الأول بالبحث في هذا الموضوع , فذكر أبوعلي الفارسي أن اللغة من عند الله علمها آدم عليه السلام واستشهد بقوله تعالى " وعلم آدم الأسماء كلها ...." البقرة : 31 . , بينما نسب تلميذه ابن جني نشأة اللغة إلى التواضع والاصطلاح ولم يقتنع بما قاله أستاذه , إلا أنه عاد مرة ثانية لما رأى من دقة العربية ولطفها وأيد ما ذهب إليه أستاذه أبوعلى , ولكنه وقف تأييده الكامل لهذا الرأي على توفر مزيد من الاقتناع بصحته , ولم يتخل عن القول بمبدأ نشوء اللغة بالتواضع والاصطلاح .



ولقد كان البحث اللغوي في السابق يتناول اللغة المنطوقة والكتابة نشأة وتطورا فقط ؛ وقد قام الهنود قديما بدراسة اللغة السنسكريتية من حيث أصوات الكلام والنحو , وكذلك فعل اليونان بلغتهم , وقام العرب بوضع المعاجم , ودرسوا مفردات اللغة العربية من حيث المعنى واللفظ , وقاموا بدراسة نحوية وصرفية مستفيضة , ولكن اللغة حظيت منذ القرن التاسع عشر بدراسة مفصلة على أيدي اللغويين الغربيين الذين قاموا بدراسات مقارنة بين اللغات الأوروبية والسنسكريتية , ثم نظروا إلى اللغة الإنسانية بشكلها الموسع ؛ الرمزي والمنطوق , وأسسوا مدارس لغوية كثيرة تبحث في الرموز التعبيرية وفي الكلام , وهكذا نشأ علم اللغة الحديث بفهومه العام الذي يبحث في اللغة كوسيلة تفاهم إنسانية وظاهرة اجتماعية .


وأرى أن اللغة إلهام من الله تعالى علمه لآدم عليه السلام , وأن اللغة التي تعلمها آدم من جل وعلا هي لغة الأرض الأولى , فقد كانت لغة آدم , ولغة أبنائه وأحفاده الذين تشكل منهم المجتمع البشري الأول .



ولما كانت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم هي القرآن بيانية في المقام الأول , إذ جاء كلام الله تعالى بألفاظ عربية في صورة آيات باهرة متحدية الإنس والجن إلى قيام الساعة أن يأتوا بمثلها , فقد حازت العربية الشرف ذاته الذي حازته لغة سيدنا آدم من الله سبحانه وتعالى , وخرجت كلتاهما من النبع ذاته , وهذا ما حملني على القول بأن اللغة العربية هي لغة آدم وأصل اللغات جميعا .



وردا على تساؤلات بشأن نسب العربية لآدم , فإن هذا الكتاب يفترض أن تكون الجزيرة العربية موطنا لآدم عليه السلام , ويفترض أحداثا تتفق والمنطق التاريخي , من ذلك انتشار الناس في هجرات جماعية متتالية في الأرض , ونشوء لهجات من العربية , وتحولها إلى لغات منفصلة مع الزمن وابتعاد الناس عن موطن اللغة الأم , ووجود فئة من الناس ظلت تحافظ دائما على اللغة الأصل كما هي حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم .



ثم يأتي الحديث عن ماهية اللغة باعتبارها وسيلة التعبير الأولى والأساسية , وعن الرموز كوسيلة تعبيرية , وكيف أن حياتنا تزخر بوسائل التعبير الرمزية , وعن انبثاق اللهجات من اللغة كعلم , وتأثر اللغة بأحوال الأفراد ، وتأثير الجماعات والبيئات على اللغة .



وتتشابه اللهجات فيما بينها بأساليبها التعبيرية وطرق لفظ الكلمات والأحرف وخروجها عن قواعد اللغة الأصلية . وذلك بسبب تماثل تركيب جهاز النطق البشري , وعليه فإن احتمالات التغيير في النطق الأول للحرف في اللغة العربية واحدة وتظل متكررة في اللهجات .



فللأرض لغة واحدة هي العربية وما عداها لهجات منبثقة منها . وعندما يبتعد قوم بلهجتهم عن اللغة الأصل تكتسب تلك اللهجة مع مرور الزمن الشخصية الاعتبارية كلغة , وعليه فالحديث عن اللغات الأخرى على أنها لغات هو من منطلق ما تعارف عليه الناس .



القسم الثاني



إن النظر المتعمق في اللغات والدراسة المقارنة بينها وبين العربية تكشف عن علاقة بين تلك اللغات والعربية لا تكون إلا بين الفرع والأصل , وقد تمت الدراسة المقارنة بين كلمات أحرف الإنكليزية L,D,C,S,A وبعضا من كلمات أحرف أخرى .



وبعد الدراسة تبين وجود علاقات مشابهة بين الكلمات الإنكليزية ومقابلاتها العربيات بالقدر الذي يؤكد انتساب الإنكليزية إلى العربية .


وإنني أضع هذا الجهد الذي بدأت به عام 1986 أمام القارئ الكريم , لأرجو أن أكون قد قدمت خدمة للغتنا العربية الجميلة , وللناطقين بها , وبرهانا على أصالتها يزيد أهلها اعتزازا بها وغيرة عليها , ويحثهم على مزيد من العمل لرفع شأنها وإعلاء مكانتها . وإني لأهيب بذوي الاختصاص من الباحثين والدارسين أن يبذلوا وسعهم في إثراء هذه الدراسة المعجمية , وإنجاز ما لم تحط به من إماطة اللثام عن عروبة ما تبقى من الكلام سواء في الإنكليزية أو في غيرها من اللغات .



وفي ختام هذه المقدمة أتقدم بالشكر إلى الأخ الدكتور جاسر أبي صفية على تعاونه الكريم وتفضله بتزويدي ببعض الكتب والمنشورات القيمة .


كما أتقدم بالشكر الجزيل إلى شقيقي العزيز صالح البوريني على جهده الصادق في إخراج هذا الكتاب ومساهمته الفعالة في ترتيب الأفكار والموضوعات ودعمه الكبير لإنجاز هذا العمل . والله الموفق لكل خير .



عبد الرحمن أحمد خليل البوريني




من الجهود السابقة في هذا الموضوع



في الوقت الذي انشغل فيه الباحث في إعداد كتابه هذا , وقبل خوضه غمار هذه الدراسة المعجمية , لم تكن ساحة البحث خالية ممن بحث في هذا الموضوع , وإنصافا للحقيقة , وتعزيزا للفكرة التي يطرحها هذا الكتاب , فإنني أذكر هنا ما وصل إليه اطلاعي وأحاط به إلمامي من الجهود السابقة والمواكبة لهذا العمل :


1 – كتاب " لإة آدم عطاء أبدي لبني آدم " . من تأليف : محمد رشيد ناصر ذوق .


2 – كتاب " اللغة الفرنسية لغة عروبية " , صور من تطور الكلمات , وكوة على التاريخ الضائع . تأليف : محمود عبد الرؤوف القاسم .


3 – Arabic . The Source Of all The Languages


By : Muhammad Ahmad Mazhar


Kraus reprint / Nedeln Liechtenstein 1972 .


4 – وقد نشرت مقالات وأبحاث بهذا الشأن , فقد نشر في مجلة : اللسان العربية – المجلد السابع – الجزء الأول – يناير 1970 م . وهي مجلة دورية للأبحاث اللغوية ونشاط الترجمة والتعريب في العالم العربي يصدرها المكتب الدائم لتنسيق التعريب في العالم العربي – جامعة الدول العربية – الرباط – المغرب الأقصى .


نشر في هذا العدد من المجلة في الصفحة 169 موضوع بعنوان :


" ميزة البيان في نشأة الإنسان أو : كيف نشأت اللغة في المجتمع البشري " للأستاذ خليل عبد الله , جاء في وفي صفحة " 190 " :


" العربية أم اللغات وأصلها الأصيل , وكل اللغات الآرية والسامية والحامية كان أصلها لهجات عربية تولدت عنها وتطورت فيما بعد بحسب البيئات والحاجيات ثم تعمقت كلغات مستقلة على مر العصور .


5 – وفي مجلة " منار الإسلام " التي تصدر في الإمارات العربية المتحدة – العدد السابع – السنة الثانية والعشرون – رجب 1417 هـ - 12 نوفمبر 1996 , نشر في الصفحة 92 حوار بعنوان : اللغة العربية ليست من اللغات السامية , وقد تم الحوار مع الدكتور فؤاد فخر الدين , وهو من أعلام المفكرين المسلمين في أندونيسيا .



جاء في ذلك الحوار عن اللغة العربية : " أميل إلى القول بأن اللغة العربية ليست من اللغات التي نشأت من اختلاط الإنسان بالمحيط الذي نعيش فيه , فهي ليست مأخوذة من أصوات الحيوانات والعالم المحيط المتحرك حوله , لأنها لغة كتاب الله , وهي من مصدر أصلي لا ريب فيه , وغير مقتبسة من لغات أخرى " ثم يقول : " فاللغة العربية هي لغة الله , وهي أول اللغات وأولها استعمالا على وجه البسيطة , ثم انتشرت مع نزول آدم عليه السلام وحواء من الجنة " .



6 – وفي الصفحة 106 من العدد نفسه من مجلة " منار الإسلام " نشر مقال للدكتور محمدالسقا عيد بعنوان : " تعريب الطب قضية لا يجوز أن تهدأ " جاء فيه : " وإيمانا مني بأن اللغة العربية هي أم اللغات الحية وبأنها بقية أمجادنا وكذلك جدول حضارتنا .. "



ثم يقول في المقالة نفسها في الصفحة 110 على لسان الدكتور محمد عبدالعزيز محمد رئيس قسم الرمد بجامعة الأزهر : " إن اللغة العربية ليست لغة حديثة , وإنما هي لغة قديمة قدم الدهر , وهي لغة القرآن , وحيث إن القرآن أنزل للناس كافة فلغته يجب أن تعرف للناس كافة , حيث إن العربية هي الأصل لجميع اللغات " .






فائدة الدراسة



هل تكفي دراسة مقارنة بين اللغة العربية والإنكليزية للتدليل على أن العربية هي أصل لغات العالم أجمع ؟! لا شك أن الجواب بالنفي هو الأقرب إلى الصواب , لأن الدراسة المعجمية المقارنة بين العربية والإنكليزية يمكن أن تقدم دليلا على أن الإنكليزية ترجع إلى العربية , أما اليابانية والصينية والحبشية وسائر اللغات فإن كلا مها بحاجة ولا شك إلى إجراء راسة مماثلة وشاملة للخروج بنتيجة , ولا شك أن هذا الجهد فوق طاقة آحاد الناس , فكيف بمن يتصدى له بمفرده ! إذن , ما الذي يمكن أن تفيده هذه الدراسة ؟



تتجلى فائدة هذه الدراسة – بعد أن تنجح في إثبات انتساب الإنكليزية إلى العربية –بفتح الطريق أمام البحث المقارن بين العربية وسائر اللغات , فإذا أثبتت أن الإنكليزية أصلها عربي فإن هذا الإثبات يترتب عليه أن تكون العائلة اللغوية التي نشأت منها الإنكليزية عربية الأصل أيضا . وإذا صح هذا فإن الباب يكون قد انفتح على مصراعيه لمزيد من النتائج المماثلة التي تتمخض عنها الدراسات المقارنة التي يمكن أن يجريها متخصصون لرد كلمات لغات أخرى بعيدة إلى العربية , وهكذا .


ويمكن أن نلخص فوائد البحث في هذا الموضوع بما يلي :



1 – تأكيد شخصية هذه اللغة وأصالتها وتميزها وهيمنتها على سائر اللغات في العالم .


2 – لفت أنظار المتخصصين إلى مزيد من الاجتهاد والبحث للكشف عن الجديد من طاقتها الجمالية والتعبيرية والبلاغية .


3 – استعادة ثقة الأمة بنفسها وتأكيد هويتها الثقافية والحضارية بين الأمم , لأن اللغة من أهم مقومات الأمة العزيزة الظافرة .


4 – بطلان كل الدعاوي المغرضة التي تنادي بالعدول عن العربية الفصحى إلى اللهجات العامية .


5 – لفت نظر العرب والمسلمين إلى منزلة لغتهم ورفعة شأنها وتشجيعهم على تأكيد ذلك واقعيا بجعلها لغة " العامة والخاصة على حد سواء " ولغة التعليم في كل مراحله .


6 - إظهار قوة ارتباط اللغة العربية الفصحى بالإسلام وأهميتها في خدمة حقائقه وتعاليمه , وبيان فضل القرآن في تأكيد أصالة اللغة العربية .


7 – نقض النظريات التي تنسب نشأة اللغة إلى الطبيعة , وتأكيد صحة التصور الإسلامي في نشوء اللغة .


8 – تأكيد عروبة الموطن الأول للإنسان .


9 – تأكيد منطقية ووجاهة الوحدة العربية والإسلامية القائمة على أساس أن اللغة عامل وحدة مصيري .


10 – إحترام الحرف العربي وعودته إلى مجده وسموه .


11 – وضع نتائج هذه الدراسة في خدمة الترجمة من العربية وإليها .




القسم الأول


تمهيد




خلق الله سبحانه الخلق بالحق والاتزان والتناسق فكان كل شئ بقدر " إنا كل شيئ خلقناه بقدر " القمر : 49 , " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " الملك : 3 , والتفاوت هو الاختلاف .


وكرم الله سبحانه الإنسان " ولقد كرمنا بني آدم " الإسراء : 70 , وليس هذا التكريم دليل نقص في أي شيئ آخر , فقد حاز كل شيئ خلقا حسنا " الذي أحسن كل شيئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين " السجدة : 7 . إنما هو تميز أعطاه الله لآدم عليه السلام وذريته من بعده . فما هو ذلك التكريم الذي خص الله سبحانه به الإنسان ؟ وإنه لتكريم عظيم لأن الله سبحانه هو الذي سماه تكريما .


إن الله سبحانه هو الذي يعلم حقيقة ذلك التكريم " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " إبراهيم : 34 , ولكن نستطيع أن نتلمس بعض هذا التكريم فأن يجعل الله للإنسان عقلا ؛ تخصيص له لم يحظ به غيره من الطير والحيوان " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " الرعد : 3 , وأن ينعم عليه بالنطق واللغة ؛ تكميل لدور العقل ليستطيع الإنسان أن يعبر عما لديه من أحاسيس , وأن ينقل للآخرين ما عنده من معان , فلا معرفة بلا عقل وفكر , ولا تفكير بلا لغة .


اللغة إذن هي الشيئ الأول والأهم الذي يجب أن يمتلكه الإنسان العاقل المفكر ليستطيع أن يحيا حياته الإنسانية الكريمة التي يرتضيها الله سبحانه له كسيد للأرض يعمرها وكعبد يطيع ربه ويؤدي شكره .



اللغة وعاء الفكر



لو أراد الإنسان أن يفكر بخالقه ووجوده لا حتاج فورا إلى كلمات : من وأين وكيف , أو كلمات تعنيها . فلو رفع رأسه ونظر عاليا وراح يبحث في ذهنه عن خالقه , عمن أوجده .. لكان بحاجة إلى كلمة تعني ما يعمل .. تفسر كل هذه المعاناة وتكون نهاية المطاف لذلك التفكير . ولو لم نعرفها لظل يبحث عن شيئ يقوله . وكلمة " من " تصل بعملية التفكير إلى نهايتها . نعم .. من هو ؟ من الخالق ؟ من صاحب الأمر ؟ من هذا الذي أبحث عنه ؟



ولو فكر في المكان الذي كان فيه قبل أن يوجد , لظل يسرح في خياله وتصوراته باحثا عن ترجمة لتفكيره . وكلمة " أين " في تساؤله تغنيه عن ذلك البحث الطويل . وكذلك لو تساءل عن الكيفية التي خلق بها فلن يهدأ له بال حتى يقول : كيف ؟ أو كلمة تعنيها .


كل سؤال بحاجة إلى جواب , ولكن يتعين قبل السؤال وجود كلمات تفسر الرغبة في المعرفة التي تدفع الذهن إلى البحث والتي إذا نطق بها صورت فورا حاجته ونقلته إلى موضع الحصول على الإجابة .



من الإمتهان للكرامة الإنسانية أن نتصور الإنسان المفكر وكل همه أن يحصل على طعامه وشرابه وبقية حاجاته الغريزية من دون أن تكون له روابط مع الكون والخالق , ومن دون أن يحدد موقفه من الموت والحياة والخير والشر والحق والباطل .



ترى .. كيف سيعيش إن لم يملك لغة يعبر بها عن كل معنى يرد في ذهنه , ويسني بها كل شيئ يراه ويسمعه ؟





اللغة إلهام أم اصطلاح ؟



لقد حاول الكثيرون منذ قديم الزمان وحتى عصرنا الحاضر تفسير وجود اللغة العربية وكيف نشأت , وساد عند العرب قديما رأي يقول بأن نشوء اللغة كان تواضعا واصطلاحا , وأن بدايات ذلك كالنشوء كانت أصواتا يجمعها الإنسان من هنا وهناك , فاعتقد به أهل اللغة على ما في هذا الرأي من مجانية للصواب وامتهان لكرامة الإنسان الأول الذي خلا ذهنه تماما من اللغة على حد زعمهم .



فهذا أبو الفتح عثمان بن جني يقول في كتابه " الخصائص " في باب القول على أصل اللغة العربية أإلهام هي أم اصطلاح : " هذا موضع محوج إلى فضل تأمل , غير أن أكثر أهل النظر – ويقصد ابن جني بهم علماء الكلام والمعتزلة على وجه الخصوص – على أن أصل اللغة العربية إنما هو تواضع واصطلاح , لا وحي وتوقيف "(1)


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


(1) نصوص من كتاب الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني , الدكتور عبده الراجحي .




ويقول أيضا : " وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كله إنما هو من الأصوات المسموعات كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونزيب الظبي ونحو ذلك , ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد . وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل " .(1)



وقد اعتقد آخرون برأي آخر مفاده أن اللغة هي هبة من الله للإنسان , وقد نقل لنا ابن جني في الخصائص رأي أستاذه أبي علي الفارسي القائل بهذا المفهوم دونما تأييد لهذا الرأي : " إلا أن أبا علي رحمه الله قال لي يوما : هي من عند الله , واحتج بقوله تعالى : " وعلم آدم الأسماء كلها " , وهذا لا يتناول موضع الخلاف , وذلك أنه قد يجوز أن يكون تأويله : أقدر آدم أن واضع عليها , وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة . فإذا كان ذلك محتملا غير مستنكر سقط الاستدلال به " (2) .


إن ابن جني هنا لا يقبل رأي استاذه ويحيل تفسير الآية على أن الله تعالى أقدر آدم عليه السلام على المواضعة على اللغة ونسي أن المواضعة تتطلب مجتمعا من الناس , ولم يكن ذلك المجتمع كائنا بعد , لأن آدم عليه السلام هو أبو البشر .


ولكن ابن جني الذي شغله كثيرا التفكير في موضوع نشأة اللغة لم يخرج برأي قاطع في حقيقة نشوء اللغة فهو كما أيد تارة الرأي القائل بأنها تواضع واصطلاح يميل في تارة أخرى إلى الاعتقاد بصحة الرأي القائل بأنها إلهام من الله سبحانه : " واعلم فيما بعد , إنني على تقادم الوقت , دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع , فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي مختلفة جهات التغول على فكري . وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة , والكريمة اللطيفة , وجدت فيها من الحكمة والدقة , والإرهاف والرقة , ما يملك على جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر , فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله , ومنه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتابعه وانقياده , وبعد مراميه وآماده , صحة ما وفقوا لتقديمه منه , ولطف ما أسعدوا به وفرق لهم عنه . وانضاف ذلك إلى وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله عز وجل , فقوي في نفسي اعتقاد كونها توقيفا من الله سبحانه وأنها وحي " (3)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ


(1) المصدر السابق


(2) المصدر السابق


(3) نصوص من كتاب الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني , الكتور عبدع الراجحي .



ولكنه أحس بأن الاقتناع الكامل والأكيد بأنها هبة من الله يحتاج إلى المزيد من الإلإثبات والكثير من الدلائل القوية فظل معلقا حكمه بشأن اللغة بانتظار المزيد من التأييد لأي من الرأيين حول اللغة أهي توقيفية من الله أم أنها توفيقية اهتدى إليها الناس بأنفسهم , فهو يقول في كتابه الخصائص :


" ثم أقول في ضد هذا : كما وقع لأصحابنا ولنا , وتنبهوا وتنبهنا , على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة , كذلكم لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا – وإن بعد مداه عنا – من كان ألطف منا أذهانا , وأسرع خواطر وآجر أجنانا , فأقف بين تين الخلتين حسيرا , وأكاثرهما فأنكفئ مكثورا , وإن خطر خاطر فيما بعد , يعلق الكف بإحدى الجهتين , ويكفها عن صاحبتها , قلنا به , وبالله التوفيق "






أصل اللغة إلهام والاصطلاح مستحدث



للغة شأن خطير في حياة الناس , فهي بصورتيها : المكتوبة والمسموعة , بمكانة القلب من جسم الحضارة الإنسانية , فلا يمكن أن تقوم حياة اجتماعية بلا لغة , ولا شك أن تجريد المجتمع الإنساني من اللغة بمثابة الحكم عليه بالإعدام .



والصحيح أن اللغة إلهام من الله علمها آدم عليه السلام , والشاهد في ذلك ما جاء في القرآن الكريم حيث يقول سبحانه وتعالى : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون . وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم . قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " البقرة 30- 33 .



وهي بعد ذلك اصطلاح وتوفيق في ما يستجد في حياة الناس من جديد , إنها أصل يختزن كل طاقات النمو والتجدد والتنوع , إنها جذور ثابتة تخرج منها سيقان وأغصان وأوراق وأثمار .



فإذا كان آدم – عليه السلام – قد تعلم الأسماء كلها فقد تعلم اللغة , وكل كلمة هي اسم لما تعنيه .



وفي الآية السابعة والثلاثين من سورة البقرة إشارة إلى معرفة آدم عليه السلام بالكلام " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم " فكيف يتلقى الكلمات وهو يجهل الكلام !!



ويقول سبحانه وتعالى في أول سورة الرحمن : " الرحمن علم القرآن . خلق الإنسان , علمه البيان " الرحمن : 1-4 . والبيان لغة : الإفصاح والتبيين والتعبير عما لدى الإنسان من معان بكامل الوضوح . ولا يكون هذا إلا بلغة كاملة يستطيع أن يعبر بها الإنسان عن أغراضه .



أما أن يكون منشأ اللغة اصطلاحيا , فمعناه أن يتفق الناس عليها , كأن يقترح بعضهم الأسماء لمسمياتها ويوافق البعض الآخر على تلك الأسماء . ولكن , كيف اتفقوا على اقتراح الكلمات , وبأي وسيلة تم التفاهم بينهم ؟ إذا كان الناس في البداية – على حد قول أصحاب هذا الرأي – يجمعون اللغة من أصوات الحيوانات والطيور وما في الطبيعة كالرعد وأصوات الشلالات وسقوط الحجارة وصوت الريح وحفيف الأشجار , فكيف اتفقوا وقد كان الإنسان الأول لا يستطيع الكلام لأنه كان يفتقر إلى اللغة ؟!



وقد أشار علماء اللغة العرب قديما إلى قيام الأمرين : الإلهام أولا ثم الاصطلاح الذي فرضته الحاجة . فقد نسب ابن جني للأخفش قاعدة عامة في نشأة اللغة . يقول الأخفش : " وكيف تصرفت الحال وعلى أي الأمرين كان ابتداؤها فإنها لا بد أن يكون وقع أول الأمر بعضها ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه لحضور الداعي إليه فزيد إليها شيئا فشيئا " (1) .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ


(1) الدكتور حسام سعيد النعيمي : الدراسات اللهجية والصوتية عيد ابن جني ص270-273 .



لقد كانت اللغة الأولى مكتملة , ولكنها أقل عددا في مخزون الألفاظ من لغات اليوم لأنها كانت تتكون من كلمات تمثل جذور اللغات الحالية . ولما احتاج الإنسان إلى مزيد من الكلمات لتسمية الموضوعات والمكتشفات والأحوال الجديدة انبثق من تلك الجذور ما احتاج إليه من الكلام .



يفترض أن لغة الأرض الأولى كانت تحتوي على كلمات يسمى بها الناس ذكورا وإناثا , وأسماء أخرى للطيور والحيوانات وما في الأرض والسماء من شجر وحجر وشمس وكواكب , وكلمات يمكن أن تستعمل للتعبير عن علاقة الخلق بالخالق والناس بعضهم مع بعض ومع غيرهم من النبات والحيوان والطير , وعن موقف الإنسان من الماضي والحاضر والمستقبل , وعما يحب ويكره ويأمل وأسماء الأحوال كلها . والاتفاق والاصطلاح بين الناس أمر متوقع لما يستجد من كلمات فيما بعد مثل أسماء العلوم أو الأمراض أو الأدوية أو المصنوعات , فهي قد تكون متصلة نوعا ما بشكل غيف أو قوي بكلمات من أصول تلك اللغة . وإن كان الشئ أمرا معنويا أعطي كلمة مشتقة , ولا بد من صلة بين الكلمة الأم والمشتقة .



اللغة وسيلة العبادة



لقد كانت اللغة نعمة من الله أنعم بها على الإنسان ليكون بها قادرا على عبادته سبحانه وتعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " الذاريات : 56 , لأن التعبير بالكلام أول رد فعل بعد التفكر في ما يبصر الإنسان ويسمع .


فما حوله من جماد وأحياء سواء كان صغيرا معجزا في دقته , أو هائلا يبعث في نفسه الرعب , كلها تصيبه بالذهول والدهشة , وتدعوه في التفكر في ماهية المسموعات والمرئيات وأين هو من كل هذا , ولم كان هذا الكون وكل ما فيه ؟ بعد هذا التفكر يأتي الكلام ليترجم أحاسيسه في شواهد تعبيرية ثابتة تدل على هذا التفكر كلما نطق بها .


يستطيع الإنسان بالعقل والكلام أن يوجه العمل ويفسره , ويكون قادرا على أداء العمل الذي كلفه الله سبحانه به ويحقق الهدف الذي خلق من أجله وهو عبادة الخالق سبحانه " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " الذاريات : 56 .



وأول الشروط التي تتحقق بها العبادة هي المعرفة .. معرفة الخالق سبحانه وما خلق , فيدرك الإنسان أنه وما حوله من أحياء وجماد , مخلوقات , وأن الله خالق الكون كله , وأنه الإله الواحد الصمد الذي لا يكون التوجه إلا إليه , والرب الذي لا يعبد غيره .



علم الله آدم الكلام , وخاطبه وزوجه به وهو في الجنة , وما كان ليخاطبهما وهما يجهلان معنى خطابه " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " البقرة : 34 .



ولو لم يعص آدم ربه وشاء الله أن يبقى مع زوجه في الجنة لظل الكلام الذي تعلمه من الأهمية بمكان . فبه يذكر ربه . وبه يتقرب إليه .


وعلى ذلك فإن علاقته مع خالقه بعد نزوله إلى الأرض هي أهم شيئ في حياته . ولا مغالاة في الطعن بالفكرة التي تقول : إن الإنسان الأول كان يجهل اللغة لما في هذا الفرض من القطيعة بين الإنسان وربه . " قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " البقرة : 38 .



نتيجة حتمية :



أنطق الله سبحانه وتعالى أمنا حواء بلغة أبينا آدم , وقد علماها أبناءهما بعد أن هبطا إلى الأرض ليتعلمها بعد ذلك الأحفاد .



لغة آدم عليه السلام إذن هي لغة الأرض , لأنها لغة الشعب الأول من أبنائه . ويقود هذا الفهم إلى القول بما يترتب عليه , فلئن كانت تلك اللغة هي لغة الأرض , وأهل الأرض كلهم من نسل آدم عليه السلام , فلا بد أن تكون اللغات في العالم كله اليوم هي في الأصل لهجات خرجت من تلك اللغة .



اختلاف الألسن ووحدة الأصل اللغوي



قد يرى البعض أن هذه النظرية تتعارض مع قوله تعالى : " ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم .... " سورة الروم : 22 . لأن هذه الآية توجب وجود لغات عديدة للعالم لا لغة واحدة , قال ابن كثير " واختلاف ألسنتكم " يعني اللغات , فهؤلاء عرب وهؤلاء تتر ... إلى غير ذلكم مما يعلم الله من اختلاف لغات بني آدم " (1) .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


(1) مختصر تفسير ابن كثير للصابوني ج3 / ص 51 .



أقول : إنها لا تتعارض مع الآية , لآن اختلاف الألسن لا يعني وجود لغات متعددة أصلا , إنه استحداث لهجات جديدة لقوم كانوا يتكلمون لغة واحدة , وتخصص كل لهجة بأسلوب يميزها عن غيرها من الكلام , وانصراف كل القبائل أو المجتمعات في الأمة عن تبني اللغة القومية , وتحدث كل منها بلهجته الخاصة .



اختلاف الألسن هو في النهاية ابتعاد كل لهجة عن غيرها وابتعادها كلها عن اللغة الأصلية , وتحول اللهجة إلى لغة قومية جديدة لا تلبث أن تنبثق منها لهجات .... وهكذا .



تعدد اللغات بمفهومه النهائي إذن غير موجود في العهود الأولى من نشوئها . فاللغات في بداية نشوئها كانت أكثر تقاربا . كانت أشبه باللهجات ؛ وأوضح مثال على ذلك اللغات في أوروبا ؛ كالفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية .... فهي في واقعها الحالي لغات منفصلة تختلف كل منها عن غيرها . ولكنها كانت في الماضي أكثر تقاربا . فقد انبثقت من اللاتينية والجرمانية .



ونلفت الانتباه إلى مثال حي في عالمنا العربي . فالعرب المسلمون الذين انطلقوا فاتحين في صدر الإسلام كانوا يتكلمون العربية الفصحى .


ولكننا نرى اليوم لهجات تملأ علمنا العربي من مشرقه إلى مغربه . ولولا القرآن الكريم الذي يشدنا دائما إلى لغتنا الأصلية لكان في بلاد العرب اليوم لغات إقليمية متعددة .



لغة آدم عليه السلام هل كانت العربية ؟



ليس هناك دليل من الكتاب أو السنة يثبت أن لغة آدم عليه السلام هي اللغة العربية , ولذلك فإن أحدا لا يستطيع أن يجزم اعتمادا على النصوص بأنها كانت العربية أو لم تكن , فيجوز هذا ويحتمل ذاك , والله أعلم . وقد نزلت آيات القرآن من عند الله سبحانه باللغة العربية " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " الحجر : 9 . وهذا تشريف لها من الله سبحانه , وقد كانت لغة آدم مشرفة لأنها من الله أيضا . وقد حازت لغات المرسلين السابقين شرف نزول الوحي بها كذلك , فقد أرسل الله تعالى الأنبياء والرسل بألسنة أقوامهم " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم .. " إبراهيم : 4 , فكان الوحي ينزل بلسان القوم ليبلغهم رسولهم دين ربهم بلغتهم , ومعنى هذا أن شرف تنزل الوحي الرباني بالعربية قد نافس العربية فيه سائر اللغات التي نزل بها الوحي على أنبياء الأمم السابقة , ولكن الميزة التي ليست لغير العربية هي عالميتها التي فرضتها عالمية الرسالة , فطبيعة اللغة مستمدة من طبيعة الرسالة , والرسالة الإسلامية المحمدية رسالة الهداية للبشرية عامة " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا " سبأ : 28 , وقال عليه الصلاة والسلام : " .... وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " (1)


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ


(1) أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين والنسائي في سننه عن جابر .



ولا شك أن اللغة التي تختارها العناية الإلهية للبشرية جمعاء لتكون لغة الاتصال بالله عز وجل ولغة عبادته وذكره ودعائه من بين سائر اللغات لهي اللغة الأجدر بأن تكون أكمل اللغات وأجملها , وإن هذا ليشجع على الاعتقاد بأنها هي الأساس الأول لسائر اللغات , وكما كان بها البدء , صار بها الختام , فهي اللغة المختارة لكلام الله حين يوجه للخلق أجمعين , تشرق به آيات القرآن نورا وهدى للعالمين . ومع ذلك فإن هذا البحث لا يريد أن يتكئ على هذا الاستنتاج أو ذلك الاستئناس فيتخذه برهانا على أن لغة آدم عليه السلام كانت العربية , أو دليلا يعتمده أساسا في إثبات أصالة العربية وتفرع سائر اللغات منها , بل هو يفترض ذلك افتراضا ويجعل البرهنة عليه من مسؤولية الدراسة اللغوية المقارنة .



فبعد الدراسة المقارنة بين كلمات اللغة العربية وغيرها من اللغات يتضح مدى صحة أو عدم صحة هذا الاعتقاد . وإقامة الدليل على أن العربية هي أصل اللغات تحتاج إلى جهد يستوعب الأسر اللغوية كلها لرد كلماتها إلى الأصل العربي , فإذا تحقق ذلك فهو الدليل العملي الذي يغني عن ورود النصوص الصريحة فضلا عن تأويل النصوص العامة .



خصوصية العربية في بيانها واستقامتها



القرآن الكريم كما نعلم هو المعجزة التي أعطاها الله لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لتكون دليلا على صدق نبوته , وكانت اللغة العربية هي ميدان الإعجاز : " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " الإسراء : 88 . بل قد جعل الله سبحانه التحدي ولو بسورة واحدة : " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله .... " البقرة : 23 .



بيانها :



وقد ورد ذكر اللسان العربي في القرآن من باب التركيز على الخصوصية التي تمتعت بها اللغة العربية بالمقارنة مع غيرها من اللغات : " نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين " الشعراء : 193-195 . فإذا كانت كلمة " عربي " هي التمييز باعتبار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عربيا وقومه الذين أرسل فيهم هم أيضا عرب , لأن الله سبحانه كان يرسل النبي بلسان قومه : " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " إبراهيم : 4 , فإن كلمة " مبين " هي وصف اللسان العربي الواضح .



وإذا نظرنا في هاتين الآيتين : " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " يوسف : 2 , لوجدنا أن كلمة " عربي " في الآيتين تتعدى كونه تحديدا لنوع اللغة التي نزل بها القرآن لآن هذا أمر مفهوم , ومن البديهي أن يكون عربيا لأن النبي منهم ولا بد من أن يرسله الله بلسانهم . لابد إذن من أن تكون كلمة " عربيا " قد احتوت معاني أخرى . إنني أرى فيها إشارة خاصة إلى ما في العربية من بيان ووضوح يمكن قارئ القرآن المتدبر لآياته من أن يعقل وفهم القرآن : " وهذا لسان عربي مبين " النحل : 103 .



استقامتها :



واللغة العربية هي اللغة الصحيحة : " قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون " الزمر : 28 .



وما دام القرآن " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " فصلت : 42 , فمن المؤكد أن يكون غير ذي عوج . واللغة العربية هي الأنسب لقرآن غير ذي عوج , واعوجاج اللسان هو انحرافه عن المسار الصحيح , ذلك المسار الذي يتحقق به البيان ؛ فلا شك أن اللسان العربي المبين إنما يحافظ على هذه الخصوصية ما دام مستقيما على المسار الصحيح من غير انحراف ولا اعوجاج , ولا خروج عن المخارج المقررة الثابتة المعروفة الشاملة المستوعبة لإمكانات الإنسان الصوتية أو النطقية . ويمكن أن يكون مصطلح " عروبة اللسان " مرادفا تماما لمصطلح " استقامة اللسان " الذي عكسه " انحراف اللسان " المسمى عجمة , والذي ينتح عنه الاشكال أو التباس الفهم أو نقص البيان . فالكلام الإنساني بهذا الاعتبار قسمان : كلام واضح تقوم به عروبة اللسان وينطق به اللسان العربي المبين , وكلام ناقص الوضوح قاصر البيان تنوء به العجمة ويجهد به اللسان الأعجمي .




إذن , فهي العربية الواضحة التي نفهم وضوحها من اسمها . نقول : أعرب عن رأيه : أي أوضحه وبينه , وكل ما عداها أعجمي : " أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هذى وشفاء " فصلت : 44 .



ودليل وضوح العربية التفصيل : " كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " فصلت : 3 , وما عداها من اللغات يخلو من هذا التفصيل وذلك الوضوح : " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته " فصلت : 44 . والأعجمية هنا لا تعني لغة بعينها , إنها كلمة تطلق على كل لغة غير العربية الفصحى .



كل لغات البشر تؤدي وظيفة التعبير عما في ذهن المتكلم من معان , واستيعاب المستمع لمعاني ما يتلقى من كلام يتوقف على معرفته بهذا الكلام . وقد تتميز لغات كثيرة بميزات تعبيرية مختلفة ومتفاوته فيما بينها . ويتحمس أهل اللغة كل للغته . ولو سألت أهل اللغات وأصحاب الدراية بها ليخبروك عن أحسنها وأجودها وقالوا رأيهم لكان حكم الله سبحانه هو الأصوب والأصدق بهذا الشأن . فقد حكم سبحانه بأفضلية اللغة العربية على غيرها وتميزها بالخصوصية التي لا تكون لسواها , فهي اللغة المبينة الموضحة : " نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين " الشعراء : 193-195 . وهي اللغة الصحيحة التي لم تشوهها اللهجات :" قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون " الزمر : 28 . وهي اللغة السليمة وغيرها ينوء بالعجمة : " أأعجمي وعربي " فصلت : 44 , والعجمة في اللغة هي الإبهام وعدم الإفصاح في الكلام , كيف لا وهي وحدها المناسبة لقرآن مفصل !!: " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته " فصلت : 44 , ترى هل هناك أنسب من هذه اللغة الشريفة السليمة ذات البيان والاستقامة والتفصيل لإعطائها آدم عليه السلام ؟



إن المسلم المؤمن بربه , وبأن القرآن كتاب الله الكريم , أقرب إلى الاقتناع بأن اللغة العربية هي لغة آدم عليه السلام : " خلق الإنسان . علمه البيان " الرحمن : 3-4 .






يتبع
رد مع اقتباس