عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 2010-02-15, 09:15 AM
طالب عفو ربي طالب عفو ربي غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2009-02-28
المشاركات: 716
افتراضي

العربية عبر التاريخ
فرضية تاريخية
إن العربية هي لغة آدم , أي إنها أم اللغات جميعا , وهذا القول يضعنا أمام أسئلة كثيرة , وعلينا أن نوفق بينه وبين المفاهيم التاريخية , فرب قائل يقول : إن المعروف تاريخيا أن الأنباط هم أول من نطق بالعربية . فكيف تنسبها إلى آدم عليه السلام ؟ وأين عاش آدم ؟
نفترض أولا بأن آدم عليه السلام قد عاش في الجزيرة العربية , جاء في " تهذيب تاريخ الطبري " : " قال قتادة : أهبط الله عز وجل آدم بالهند , وحواء بجدة , فجاء في طلبها حتى اجتمعا , فازدلفت إليه حواء , فلذلك سميت المزدلفة , وتعارفا بعرفات , فلذلك سميت عرفات , وعن ابن عباس قال : إن آدم شكا إلى الرب عندما أمره بالتوجه إلى البيت في مكة , فقال : لست أقوى عليه ولا أهتدي إليه , فقيض الله له ملكا فانطلق به نحو مكة (1) . وقال الفيروز آبادي في " القاموس المحيط " في مادة عرف : " وعرفات : موقف الحاج ذلك اليوم , وعلى اثني عشر ميلا من مكة , وغلط الجوهري فقال : موضع بمنى سميت لأن آدم وحواء تعارفا بها , أو لقول جبريل لإبراهيم عليهما السلام لما علمه المناسك : أعرفت ؟ قال : عرفت , أو لأنها مقدسة معظمة كأنها عرفت , أي : طيبت " (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صالح خريسات : " تهذيب تاريخ الطبري " ؛ تاريخ الأمم والملوك , ص 32 – 33 .
(2) الفيروز أبادي : مجد الدين محمد بن يعقوب المتوفي سنة 718 هـ , " القموس المحيط " ط2 .
وقوله غلط الجوهري يعني الإمام أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري في معجمه المشهور ب " كتاب الصحاح " الذي اختصره الإمام محمد بن أبي بكر الرازي وسماه " مختار الصحاح " وقد أهمل الرازي ذكر أسباب تسمية عرفات بهذا الاسم فلم يورده في المختار .
وسواء أصح لقاء آدم بحواء في المكان المسمى بعرفات أو لم يصح فإننا نفترض بأن ميلاد المجتمع الأول هو في أرض الجزيرة العربية , موطن العرب , وموضع أقدم بيت وضع للناس : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين " آل عمران : 96 .
ولعل النظر في هذه الآية يحمل على الاعتقاد بأن مكة بعينها هي موطن الإنسان الأول , وذلك أن أبا البشر آدم عليه السلام عبد الله تعالى مكلف بعبادة ربه عز وجل , والبيت هو المكان الذي يأوي إليه المكلفون لممارسة العبادة . ولما كان المجتمع الأول مجتمعا صالحا لأن آدم عليه السلام نزل إلى الأرض بعد أن تحققت توبة الله عليه " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم . قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون " البقرة : 37 – 38 , فمن المقبول عقلا في إطار فرضيتنا هذه أن يكون أول بيت للعبادة قد وضع لأول مجتمع من الناس على وجه الأرض .
وبغض النظر عمن قام ببناء البيت أول مرة فإن موضعه كان محددا قبل إبراهيم عليه السلام فعرفه الله عليه وأمره برفع قواعده منه : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا ... " البقرة : 127 .
وإبراهيم عليه السلام الذي سبق عهده رسالتي موسى وعيسى عليهما السلام جاء إلى مكة ليبني البيت الذي ستؤمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم نبي آخر الزمان بالحج إليه والطواف حوله , ألا يدعونا هذا إلى تركيز النظر على مكة ومكانتها عند الله تعالى ؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أطيبك من بلد وأحبك إلي , ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك " (1) !! وهل من مكان آخر أنسب منها لغيش آدم عليه السلام أول ساكني الأرض ومن أسجد الله له الملائكة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
(1) حديث صحيح , رواه الترمذي وابن حبان والحاكم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه , وانظر : الحديث رقم 5536 في صحيح الجامع تحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني .
وعند التفكر في المراحل الزمنية التي تتابعت بعد عصر سيدنا آدم عليه السلام , وكيف تزايدت أعداد الناس وانتشروا في الأرض . نجد الطوفان الذي غمر الأرض في عهد نوح عليه السلام . يقطع ذلك التفكير ويعود بالفكر إلى نقطة البداية مرة ثانية , عندما رست السفينة على الجودي .
إن نوحا عليه السلام هو أبو البشر الموجودين على هذه الأرض . فقد انتهت رسالته إلى قومه بطوفان غمر الأرض كلها وأغرق من عليها من البشر عدا من كان في السفينة " وقال نوح رب لا تذرعلى الأرض من الكافرين ديارا " نوح : 26 .
ويبدو والله أعلم أن من كان عليها من المؤمنين من غير أبناء نوح عليه السلام قد عاشوا ما شاء الله لهم بعد ذلك ثم ماتوا من غير أن يتناسلوا , قال الله تعالى : " وجعلنا ذريته هم الباقين " الصافات : 77 .
بناء على هذه الآية فإننا نتوقع أن أبناء النبي نوح عليه السلام قد عاشوا فترة من الزمن معا , تم خلاله الزواج بين أبنائهم وبناتهم وتزايدت ذريتهم .. ولكن أين عاشوا ؟
يقال أن الجودي جبل في شمال العراق , ولكن المكان الذي نري أنه احتضن البشرية لتنمو فيه من جديد هو مكة .
فها هي الحياة البشرية تعود إلى بدايتها بنواة صالحة هم نوح عليه السلام وأولاده , ويقبل الذوق الإيماني مجاورتهم لبيت الله الحرام في أحب أرض الله إلى الله , فلربما رست السفينة في شمال العراق , ثم أمر نوح عليه السلام وأولاده بالتوجه إلى مكة كما أمر إبراهيم عليه السلام من بعده بوضع زوجه وولده هناك .
ويعزز هذا الإفتراض أمران متلازمان : الهجرات البشرية المعروفة تاريخيا من الجزيرة العربية , وبدايات الحضارات الإنسانية .
فالمعروف أن الحضارة الإنسانية بدأت أول الأمر في الهلال الخصيب , وأن أقدم مدينة في العالم هي أريحا . والمعروف أيضا أن الهلال الخصيب تعرض إلى موجات بشرية مهاجرة من الجزيرة العربية , وأن أول تلك الموجات تركزت في جنوب العراق حيث بدأت هناك معرفة الإنسان بالكتابة .
لقد ترتب ظهور الحضارة على وجود الإنسان , ولما كان انبثاق الهجرات من الجزيرة سابقا , فإن المحصلة هي الاقتناع بوجود الإنسان أولا في الجزيرة العربية قبل غيرها .
ولكن لماذا كانت الهجرات البشرية من الجزيرة ؟ لقد تحولت أرض الجزيرة في العصور المتأخرة إلا القليل منها إلى صحاري جدباء تتخللها بعض الواحات , وذلك بسبب ما حل بالأقوام التي كانت تسكنها من غضب الله تعالى .
وهكذا فلم يعد بالإمكان للصحراء أن تستوعب السكان المتزايدين فكان البعض منهم يضطرون إلى الهجرة بما لديهم من المواشي بحثا عن الكلأ والماء في أماكن أكثر
خصبا .
وهكذا لم تشهد الصحراء بناء حضارة أو عمرانا كذلك الذي فيها قبل أن تتحول إلى صحراء كما كان في أرض عاد وثمود . فقد وصف القرآن إرم بأنها ذات العماد : " ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد " سورة الفجر : 6 – 7 .
لقد كانت أرض الجزيرة العربية أول الأمر خضراء خصيبة فيها الجنات والثمار والأنهار وكثير من أنواع الطير والحيوان : قال صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى يكثر المال , ويفيض , حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها منها , وحتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا (1) .
ومن المؤكد أن البلاد التي عاش فيها قوم عاد وقوم ثمود كانت جنات وعيونا , قال تعالى : " كذبت عاد المرسلين . إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون . إني لكم رسول أمين . فاتقوا الله وأطيعون . وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العامين . أتبنون بكل ريع آية تعبثون . وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . وإذا بطشتم بطشتم جبارين . فاتقوا الله وأطيعون . واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون . أمدكم بأنعام وبنين . وجنات وعيون " الشعراء : 123-134 . وقال سبحانه وتعالى في شأن ثمود : " كذبت ثمود المرسلين . إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون . إني لكم رسول أمين . فاتقوا الله وأطيعون . وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . أتتركون في ما هاهنا آمنين . في جنات وعيون . وزروع ونخل طلعها هضيم " الشعراء : 141-148 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه , وهو في صحيح الجامع بتحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني برقم 7429
لقد عاشت عاد في منطقة الأحقاف . قال تعالى : " واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " الأحقاف : 21 .
جاء في تفسير ابن كثير : " يقول تعالى مسليا نبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه : " واذكر أخا عاد " وهو هود عليه الصلاة والسلام , بعثه الله عز وجل إلى عاد الأولى , وكانوا يسكنون الأحقاف ؛ وهو الجبل من الرمل . قاله ابن زيد وقال عكرمة : الأحقاف : الجبل والغار , وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الأحقاف واد بحضرموت يدعى بوهوت تلقى فيه أرواح الكفار " .
وجاء في تفسير ابن كثير أيضا : " الأحقاف بحضرموت عند اليمن " (1) .
وجاء في لسان العرب في مادة حقف : " الحقف من الرمل : المعوج .... ,اما قوله تعالى : " إذ أنذر قومه بالأحقاف " فقيل هي من الرمال ؛ أي أنذرهم هناك . قال الجوهري : الأحقاف ديار عاد .
لقد كانت ديار عاد جنات وعيونا وذلك قبل أن ينزل الله بهم عقابه , وقد أصبحت بعد ذلك أحقافا لأن الريح التي سلطها الله عليهم قد دمرت كل شيئ , قال الله تعالى : " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم . تدمر كل شيئ بأمر ربها فأصبحو لا يرى إلا مساكنهم دذلك نجزي القوم المجرمين " الأحقاف : 24-25 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق .
لقد ظلت الريح تهب عليهم سبع ليال وثمانية أيام , قال الله تعالى : " كذبت ثمود وعاد بالقرعة . فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية . وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية . سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية . فهل ترى لهم من باقية " الحاقة : 4-8 .
كانت الريح إذا هبت على شيئ جعلته كالرميم , قال الله تعالى : " وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم . ما تذر من شيئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم " الذار يات : 41-42 .
أي أنها تكفي أن تأتي على الشيئ , تهب عليه , وتلامسه حتى تجعله كالرميم , أي الشيئ الهالك البالي . وريح كهذه الريح يكفي أن تلامس الإنسان , إن لم يكن مرة فبضع مرات حتى تهلكه , ولكنها ظلت مسخرة عليهم تهب سبع ليال وثمانية أيام . ظلت تهب فلم تذر شيئا في ديارهم إلا فتتته والله أعلم .
فهي في البداية قضت عليهم , قال تعالى : " فاصبحوا لا يرى إلا مساكنهم " الأحقاف : 25 .
ولكنها استمرت بعد موتهم تدمر كل شيئ , فهي تأتي على الشيئ فتجعله باليا كالرميم , ثم تأتي على ذلك كالرميم فتزيده تدميرا , فلو هبت على منطقة فيها الصخور وفيها الحجارة وفيها الحصى , فهل تراها تدمر الصخور وتترك الحجارة والحصى !! لقد ظلت تفتت كل شيئ حتى أصبح ذرات متحركة تنقلها الرياح من مكان إلى مكان .
أما أن يشار إلى ديارهم في القرآن على أنها الأحقاف , فهو حال الذي أصبحت عليه تلك الجنات والأنهار بعد عذاب الله , أصبحت جبالا مستطيلة من الرمال لا تصلح للحياة فيها . قال الله تعالى : " وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد . وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود " . هود : 59-60 .
ولقد لقيت ثمود عقابها من الله كذلك , فها هي ديارها صحراء بعد أن كانت جنات وعيونا . إذ تقع مدائن صالح في المنطقة الشمالية من جزيرة العرب . وإن ظلت آثارها باقية للعبرة مع وجود بعض النباتات .
ربما لم يسلم في الجزيرة من العقاب غير مكة , وإن تأثرت تربتها بالجدب الذي أصاب ما حولها من المناطق : " ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون " الأحقاف : 27 . فلئن لم يلحق العقاب بمكة , فلا يستبعد أن تتأثر من حيث المناخ وخصوبة الأرض بما حولها من المناطق , فإن مفهوم تصريف الآيات يتعلق بانعكاس ذلك التصريف على من بقي من الناس في تلك المناطق ليعتبروا بما حصل لغيرهم ويرجعوا عما هم فيه من الضلال , ذلك أن تصريف الآيات هو تنويع للبراهين بأساليب مختلفة .
ونقول صرف الله الرياح : حولها من وجه إلى وجه . وما خصوبة الأرض وعدم خصوبتها ونزول الأمطار وانحباسها وإرسال الرياح وسكونها إلا لآيات من آيات اللع تعالى , وتصريف الآيات هو تغييرها من حال إلى حال والله أعلم .
" ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيئ قدير " فصلت : 39 .
"... واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون " الجاثية : 5 .
أرض الجزيرة بعد أن حل في أكثرها العقاب تحولت إلى صحاري قاحلة ليس فيها غير الواحات القليلة مما حدا بالناس فيها إلى الهجرة منها عندما ازداد عددهم .
لا أحد طبعا كان يرقب بداية هجرة تلك الموجات البشرية من الجزيرة العربية وكم منها ذهب إلى الجنوب فاستقر في جنوب الجزيرة أو عبر الساحل إلى إفريقيا , وكم منها ذهب إلى الشمال , وكم مر من الزمن بين بداية هجرتها وبدء هجرات الساميين . ولكن المؤرخين حددوا بدء هجرات الساميين بمنتصف الألف الرابع قبل الميلاد .
إن طبيعة الحياة في الصحراء من حيث قلة الماء وعدم خصوبة التربة إضافة إلى قلة خبرة المجتمعات الإنسانية الأولى في شؤون الزراعة , يجعلنا نجزم بأن القبائل المهاجرة من الجزيرة العربية قد كانت قبائل رعوية ترتحل دائما بحثا عن الكلأ من أجل مواشيها .
وقد تلقى الهلال الخصيب أولى الهجرات البشرية إلى الشمال , فكانت القبائل المهاجرة تتنازع ولا شك على الأماكن الخصيبة في الهلال الخصيب , حيث كانت المنازعات تنتهي دائما بهجرة من تلك الأماكن إلى أماكن أبعد عن جزيرة العرب وأكثر أمنا في الشمال والشرق والغرب .
النتيجة الطبيعية لذلك الترحال المستمر أن يعمر الإنسان كل أنحاء الأرض , وربما ركب البحر وساقته الرياح حيث يشاء الله إلى الأماكن البعيدة من الجزر والقارات التي ظلت مجهولة إلى عهد قريب .
استمرت الهجرات البشرية من جزيرة العرب إلى الشمال وذهب بعضهم إلى وادي النيل وذهب بعضهم الآخر جنوبا وعبر الساحل إلى إفريقيا واستقروا في الحبشة وأعالي النيل . وآخر الهجرات كانت تلك الهجرات التي خرجت من اليمن على أثر انهيار سد مأرب حوالي القرن السادس الميلادي , واستقر بعضها في مشارف الشام وأسس دولة الغساسنة , واستقر البعض الآخر في العراق وأسس دولة المناذرة , واستمر ذلك حتى ظهور الإسلام .
أثر الهجرات القديمة على اللغة
من البديهي أن يكون أبناء آدم وأحفاده قد تعلموا لغته , وأن لغة المجتمع الإنساني الأول قد أفرزت مع الزمن لهجات متعددة , وأن القبائل التي تباعدت أماكن إقامتها بالانتشار في أرجاء الجزيرة وما حولها من البلدان لازدياد أعداد الناس , لم تكن لهجاتها يوما تخلو من التشابه .
وفي المراحل الزمنية التالية لعصر نوح عليه السلام , كانت لغة الناس هي لغة نوح عليه السلام , وهي إحدى اللهجات التي خرجت من اللغة العربية , وقد أفرزت بدورها لهجات جديدة بشكل مستمر .. وهكذا فالاعتقاد هو أن نبي الله إبراهيم عليه السلام كان يتكلم بلغة متسلسلة من العربية , كما كانت كذلك لغة قبيلة جرهم التي كانت تعيش قرب مكة حيث أرسل زوجه السيدة هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام ليعيشا هناك .
ولعل الفترة التي عاش فيها إسماعيل عليه السلام هي نقطة التحول المهمة في تاريخ اللغة العربية , فقد وهبه الله سبحانه وتعالى الفصاحة والبيان , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة " (1) .
لقد عاش عليه السلام في وسط قبيلة جرهم العربية . وتعلم لسانها , ولكن الله تعالى أمده بالفصاحة والبيان الذين صارا سمة كلام أبنائه وغيرهم من العرب حتى زمن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
وبابتعاد القبائل المهاجرة من الجزيرة العربية عن موطنها , وبمرور الزمن أخذت لهجاتها تبتعد شيئا فشيئا بكلماتها وأساليبها النطقية عن اللغة الأم حتى صارت إحداها تبدو وكأنها لغة جديدة .
بناء على هذا المفهوم فإن من المقبول الاعتقاد بأن لهجة قوم سبقوا غيرهم في الهجرة من الجزيرة موطن الإنسان الأول تكون أكثر بعدا واختلافا عن اللغة الأم من لهجات من هاجر بعدهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) رواه الشيرازي في " الألقاب " , وانظر : صحيح الجامع تحقيق الألباني , حديث رقم : 2581 .
وربما يبرز تساؤل : هل استمر خروج الموجات البشرية من شبه الجزيرة العربية ؟ ومتى كان توقفها ؟
بعد أن تتابعت هجرات الساميين إلى العراق والشام وصار الهلال الخصيب مقسما إلى دويلات وممالك , خفت الهجرة من الجزيرة التي ازدحمت بمن فيها من القبائل التي توزعت في الأرجاء الجنوبية والشرقية والشمالية منها , وظلت تتكلم العربية لاستمرار اتصالها بوطنها .
وكانت آخر الهجرات إلى الشمال هجرات المناذرة والغساسنة أيام الفرس في العراق والرومان في الشام . وظل الغساسنة والمناذرة على صلة بإخوانهم في الجزيرة الذين كانوا يصلون بسهولة إلى أطراف ملكهم في الشمال وإلى مدن اليمن في الجنوب .
من التاريخ المجهول إلى ذروة الكمال
يستطيع دارس اللغات السامية أن يلاحظ التقارب الشديد بين كلماتها وكلمات اللغة العربية , مما جعل بعض اللغويين يجزمون بانتساب العربية إلى اللغات السامية . والصحيح أن اللغات السامية متفرعة من العربية , لأن العربية هي هبة الله تعالى لآدم عليه السلام أبي الساميين وأبي البشر أجمعين .
وعندما لاحظ اللغويون التقارب بين العربية والحبشية ولغات وادي النيل كالنوبية قالوا بوجود أسرة اللغات السامية الحامية وانتسابها إلى أصل واحد .
اللغة العربية بناء على ما افترضنا هي لغة آدم عليه السلام وأم اللغات جميعا . هي اللغة وما عداها لهجات منبثقة منها . ولعل المؤرخين الذين قالوا إن العربية متولدة من النبطية قد لاحظوا تقاربا بين النبطية والعربية أكثر مما بين العربية واللهجات الأخرى .
لقداحتار المتخصصون في تاريخ اللغات في أمر العرب ولغتهم , وظلت جزيرة العرب لغزا يلفه الغموض في طريق الباحث عن بداية تاريخ العرب فيها أو بداية نشوء اللغة العربية .
يقول الدكتور حسن ظاظا في كتابه " الساميون ولغاتهم " حول أقدمية العرب في شبه الجزيرة : " ولو أننا ركزنا اهتمامنا على بحث الجانب الحضاري كله , من خلال دراسة مقارنة بين اللغة العربية واللغات القديمة , وهو بحث لم ينجز إلى الآن على جهة الاستقصاء والإحصاء , لرأينا العجب العجيب من حيث أقدمية العرب في منطقتهم هذه . ولو أننا إلى جانب ذلك عكفنا على عاداتهم وتقاليدهم في الجاهلية وعلى أسماء أصنامهم ومقدساتهم ؛ وعلى أمثالهم وأساطيرهم وخرافاتهم , لتبين لنا أن الجاهلية الأخيرة لم تكن إلا مرحلة ضئيلة جدا من حياة العرب في أميتهم هذه قبل الإسلام بزمن سحيق يصعب علينا الحدس ببدايته , ولو أننا بالإضافة إلى ذلك كله عنينا بجس باطن الأرض لأغراض غير التي ينشدها الباحثون عن النفط , فلربما أسفر ذلك عن كشوف تصحح معرفتنا بتاريخ العرب القدماء , وتزيدها دقة وتفصيلا " (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
(1) د . حسن ظاظا : الساميون ولغاتهم , دار المعرف بمصر / ص 162 .
وينقل الدكتور حسن ظاظا في الكتاب نفسه رأيا للمستشرق الفرنسي آرنست رينان حول رأيه في العرب واللغة العربية , يقول رينان : " إن وسط شبه الجزيرة العربية وهو موطن العرب الأصلي , لم يظهر في تاريخ الشرق القديم إلا متأخرا , ومع ذلك فإنه هنالك بالتحديد تستمر بفضل الحياة البدوية الميزات الأصلية للجنس السامي .
ففي القرن السادس بعد الميلاد يتراءى هناك عالم زاخر بالحياة وبالشعر وبالرقي الفكري في بلاد لم تعط حتى هذا التاريخ أية علامة على وجودها . فبدون سابقة ولا تمهيد نلتقي فجأة بفترة المعلقات وغيرها من الشعر الذي احتواه كتاب الأغاني ؛شعر فطري في مضمونه بينما هو من حيث الشكل في غاية الأناقة , ولغة منذ البداية تفوق في لطائفها أشد أنواع الكلام إمعانا في الثقافة , وألوان من الحصافة في النقد الأدبي , وفي البيان , تشبه ما تجده في أشد عصور الإننسانية إعمالا للفكر . فإذا ما وجدنا هذه الحركة تنتهي بعد قرن من الزمان بدين جديد , وبفتح نصف العالم ثم تعود من جديد فتنطوي في النسيان .. أفليس من حقنا إزاء ذلك أن نقول إن بلاد العرب , دون جميع البلاد , تشذ أكثر الشذوذ عن كل القوانين التي نحاول بمقتضاها تفسير تطو الفكر الإنساني ؟
ومن بين الظواهر التي اقترن بها هذا الانبثاق غير المنتظر لوعي جديد في الجنس البشري . ربما كانت اللغة العربية نفسها هي الظاهرة الأشد غرابة والأكثر استعصاء على الشرح والتعليل , فهذه اللغة المجهولة قبل هذا التاريخ , تبدو لنا فجأة بكل كمالها ومرونتها وثروتها التي لا تنتهي . لقد كانت من الكمال منذ بدايتها بدرجة تدفعنا إلى القول بإيجاز إنها منذ ذلك الوقت حتى العصر الحديث لم تتعرض لأي تعديل ذي بال . اللغة العربية لا طفولة لها , وليست لها شيخوخة أيضا ... , ولست أدري إذا كان يوجد مثل آخر للغة جاءت إلى الدنيا مثل هذه اللغة من غير مرحلة بدائية ولا فترات انتقالية ولا تجارب تتلمس فيها معالم الطريق " (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدكتور حسن ظاظا : الساميون ولغاتهم , ص 162-164 .
وسر كمال العربية الذي حير آرنست رينان وغيره من المؤرخين والدارسين يرجع إلى كمال مصدرها . فكمال المظهر يدل على كمال المصدر ؛ ألهمه فتكلم , وعلمه بها فتعلم , ووهبه البيان بها فأفصح وأبان .
كما افترضنا فإن الناس الذين كانوا يسكنون مكة وما حولها من بعد سيدنا إسماعيل عليه السلام ظلوا دوما يحافظون على اللغة العربية الفصحى ولا يتركون مجالا لتشويه ألفاظها . وهكذا كان الحال دائما إلى أن كان العصر الذي بعث فيه سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل فيه القرآن باللغة العربية .
وكانت مكة تمثل بؤرة التجمع العربي . وكانت تتاجر في رحلتين في السنة : إحداهما في الشتاء وتذهب جنوبا إلى اليمن والأخرى في الصيف وتذهب إلى الشمال . وباستمرار اتصال القبائل العربية ببعضها فقد تمت المحافظة على اللغة العربية إلى أن حان موعد الدين الجديد ( الإسلام ) .
وبعد ظهور الإسلام خرج العرب لنشره في العالم , وارتحل عدد من القبائل ليسكن في العراق والشام وأخذ الموالي من غير العرب يختلطون مع العرب وتوافد الناس من الشعوب الأخرى المسلمة على الجزيرة العربية , فبدأ اللحن يظهر على اللغة مما حمل العرب على القيام بخطوات للمحافظة على لغتهم , ومن ذلك : جمع القرآن , وقيام أبي الأسود الدؤلي بجمع اللغة فيما سمي من بعد بالنحو , وظهور المعاجم التي حوت كلام العرب .
وينبغي أن لا يفوتنا إذا أردنا أن نجري دراسة مقارنة بين كلمات العربية وبعض اللغات الأسيوية مثل الفارسية والتركية والأوردية والمالاوية أن نأخذ في الاعتبار مجريات تاريخية ودينية مرت بها تلك اللغات منذ انتشار الإسلام في آسيا واحتوت خلالها على عدد كبير من الكلمات العربية التي تتعلق بالدين .
ماهية اللغة ودراسة اللغات واحتكاكها
اللغة أصوات ورموز
اللغة هي الكلام , ولها صورتان : الصورة الصوتية وهي الكلام المنطوق ؛ والصورة المكتوبة وهي الكلام المرسوم .
ومفرد الكلام كلمة , وهي اللفظة التي يلفظها اللسان . ولما كان اللسان يلفظ الكلام سميت اللغة اللسان .
والمادة الأساسية في بناء الكلمات هي الأحرف المنطوقة , وهي وحدات صوتية تجمع معا في مجموعات صوتية هي الكلمات الملفوظة . وفي الكتابة فإن للوحدات الصوتية أشكالا رمزية تدل عليها هي الأحرف الهجائية .
وقد تختلف أشكال الحروف الهجائية وطرق كتابتها وقراءتها من لغة إلى أخرى , وقد تتشابه .
اللغة وسيلة التعبير الأولى والرئيسة عما لدى المتكلم من معان يود إبلاغها السامع أو القارئ . ولكن الحياة الاجتماعية اقتضت أن يزيد الناس من وسائل التعبير من أجل التفاهم فيما بينهم . ولئن كانت لغة ما تخص شعبا دون غيره أو أكثر فإن من وسائل التعبير ما هو عام يصلح لكل الناس مثل الإشارة الضوئية وعلامات المرور وشواخص الطرق ولكن لا بد من ترجمة تلك الوسائل والتعبير عنها باللغة .
إذا اقتربت من إشارة ضوئية وقد ظهر النور الأحمر , وقفت لأنك فهمت أن الضوء الأحمر يقول لك قف . ومن لافتات وإشارات عند المنعطفات تعرف وأن تقود السيارة بأي اتجاه تسير وأي الشوارع التي لا يسمح بالمرور فيها
وهكذا فحياتنا تزخر بمثل هذه الرموز التي تهدف كلها إلى توصيل المعلومات لمن يراها أو يسمعها . فهي أساليب تعبيرية . واستعمال مثل هذه الأساليب ليس وليد العصر , بل هو قديم قدم المجتمعات الإنسانية , فكان الطبل والبوق وسيلتين تعبيريتين تنقلان للناس إعلان الحرب , وكانت الرياش وما يلبس أثناء الحرب تميز الجند عن القادة وعن سائر الناس .
كل وسائل الاتصال الرمزية تسهل على الناس توصيل المعلومات والحصول عليها , ولكن فهمها لا يتم إلا بترجمتها للذهن بالكلام , ولو أراد شخص ِأن يشرح سبب وقوفه عند إشارة المرور الحمراء لقال : وقفت لأن معناها ( قف ) , وتصور هذه الكلمة في كل لغة بحسب أشكال حروفها , أما المعنى فواحد وهو الأمر بالوقوف .
لقد سارت اللغة الرمزية أو الوموز التعبيرية جنبا إلى جنب مع اللغة المنطوقة , وقد عرفتها المجتمعات البشرية القديمة , بل نستطيع القول إن الرموز التعبيرية في تلك المجتمعات قد كانت كثيرة الاستعمال كبيرة الأثر , وقد أملتها على الناس ظروف الحياة الاجتماعية , فالعلاقات الإجتماعية تفرض سرعة الاتصال وتوصيل المعلومات , فعلى صعيد الحياة القبلية , لم يكن من السهل إبلاغ جميع أفراد القبيلة سريعا بما يطرأ من أمور بالغة الأهمية فاستخدم الطبل ليكون أداة إعلامية , فإذا ما ضرب بلغ صوته أسماع القبيلة كلها , فأسرع أفرادها بالحضور. ولم يكن شأن أهم من تعرض القبيلة إلى غزو خارجي , فكان الطبل وسيلة الإعلام التي تجمعها بسرعة . والزواج قضية اجتماعية كبيرة , إنه إعلان عن بداية لتشكيل أسرة جديدة تنجب فيزيد عدد أفراد القبيلة , وتمدها بقوة شبابية جدبدة , والزواج يزيد من تقارب عناصر القبيلة . إنه موضوع يحتاج إلى مراسم خاصة صارت فيما بعد رموزا تدل على العرس .
ولكن لغة الكلام قد سبقت لغة الرمز , وإلا فكيف نفسر عناصر الرموز , فيجب أن يعرف الناس قبل وجود طبول الحرب معنى كلمة طبل وحرب وعدو , وأن يعرفوا قبل إقامة مراسم الزواج معنى كلمة عروس وزواج وأبناء .
وظل الرمز لغة لا بد منها , لأنه وسيلة التعبير والاتصال عبر المسافات البعيدة وقطاعات المجتمع المختلفة , وكما كان معلما اجتماعيا في الماضي فقد ظل مظهرا بارزا من مظاهر المجتمع الحديث له دور كبير في تنظيم الحياة العصرية , فكما تلعب الأعلام دورا كبيرا في التمييز بين الدول والجيوش والمنظمات الدولية ويحتل الشعار مكانا مرموقا في التعريف بالشركات والمؤسسات تقوم الموسيقى والأصوات والإشارات باليد وباللافتات والألوان والمصابيح الكهربائية والأزياء بدور يغطي معظم الحياة الاجتماعية وينظمها .
رد مع اقتباس