عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 2011-09-10, 12:32 AM
الثوري الثوري غير متواجد حالياً
محاور
 
تاريخ التسجيل: 2007-08-24
المكان: أرض الله
المشاركات: 109
افتراضي رد: كتاب الحيدة والاعتذار على من قال بخلق القرآن


قال عبد العزيز: ثم أقبل علي المأمون فقال لي: الاسم، فقلت: عبد العزيز. فقال لي: ابن من؟ فقلت: ابن يحيى قال: ابن من؟ قلت: ابن ميمون الكناني. قال: وأنت من كنانه. قلت: نعم، يا أمير المؤمنين، فتركني ولم يكلمني هنيهة، ثم أقبل علي فقال: من أين الرجل، قلت: من الحجاز، قال: من أي
(1/26)
الحجاز، قلت: من مكة، قال: ومن تعرف من أهلها، قلت: يا أمير المؤمنين كل من بها من أهلها أعرفه إلا رجلا ضوى إليها وجاور بها من الغرباء فإني لا أعرفه، قال: فهل تعرف فلانا، هل تعرف فلانا حتى عد جماعة من بني هاشم كلهم أعرفهم حق معرفتهم، فجعلت أقول: نعم أعرفه، وسألني عن أولادهم وأنسابهم فأخبره من غير حاجة به إلى شي من ذلك، ولا مما تقدم من مسألتي وإنما يريد به إيناسي وبسطي للكلام، وتسكين روعتي وجزعي، فقوى بها ظهري، واشتد بها قلبي، واجتمع بها فهمي، وعلا بها جدي، وانشرح بها صدري، وانطلق بها لساني، ورجوت
(1/27)
بها النصر على عدوي.
قال عبد العزيز: فأقبل علي المأمون فقال: يا عبد العزيز إنه اتصل بي ما كان منك في قيامك في المسجد الجامع، وقولك إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وبحضرة الخلق على رؤوس الأشهاد، ومسألتك بعد ذلك الجمع بينك وبين مناظريك على هذه المقالة بحضرتي وفي مجلسي، والاستماع منك ومنهم، وقد جمعتك والمخالفين لك لتتناظروا بين يدي وأكون أنا الحكم فيما بينكم فإن تكن لك الحجة والحق معك تبعناك، وإن تكن لهم الحجة عليك والحق معهم عاقبناك. ثم أقبل المأمون على بشر المريسي فقال: يا بشر قم إلى عبد العزيز
(1/28)
فناظره وأنصفه.

قال عبد العزيز: فوثب إلي بشر من موضعه الذي كان فيه كالأسد يثب إلى فريسته، فجاء فانحط علي، فوضع فخذه الأيسر على فخذي الأيمن، فكاد أن يحطمها، واعتمد علي بقوته كلها. فقلت له: مهلا فإن أمير المؤمنين أطال الله بقاه لم يأمرك بقتلي ولا بظلمي، وإنما أمرك بمناظرتي وإنصافي، فصاح به المأمون تنح عنه، وكرر ذلك عليه حتى باعده مني.
قال عبد العزيز: ثم أقبل علي المأمون فقال: يا عبد العزيز ناظره على ما تريد واحتج عليه، ويحتج عليك، وسله ويسألك، وتناصفا في كلامكما، وتحفظا ألفاظكما، فإني مستمع
(1/29)
إليكما ومتحفظ ألفاظكما.
قال عبد العزيز: فقلت السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، ولكني أقول شيئا فإن رأى أمير المؤمنين أبقاه الله أن يأذن لي في ذلك فعلت. فقال: قل ما تريد. فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك إني رجل عربي، وفي كلامي دقة، ولم يسمع أمير المؤمنين أطال الله بقاه من كلامي شيئا قبل هذا الوقت، فجليل كلامي في سمع أمير المؤمنين دقيق، وبشر يا أمير المؤمنين كثير سماع أمير المؤمنين دقيق كلامه، فصار في سمع أمير المؤمنين جليلا، فإن رأى أمير المؤمنين أطال الله بقاه أن يأذن لي فأقدم شيئا من كلامي
(1/30)
في هذا المجلس ليقيس ما يدق بعده من كلامي على ما تقدم، ويعرف مذهبي في كلامي، ثم يجمعني ومن أحب لمناظرتي بعد هذا في أي وقت شاء.
قال المأمون: أنا مشغول عن هذا بما يلزمني من أمر المسلمين، وإنما جمعتك ومخالفيك لما أظهرت من مخالفتك إياهم وذمك لمذهبهم، وادعائك الرد عليهم، ومسألتك الجمع (بينك) وبينهم ولست أجمعك وإياهم بعد هذا المجلس إلا عن مناظرة تجري بينك وبينهم فتحتاجون إلى عودة لاستمام ما بقي عليكما من المناظرة فأجمعكما لذلك.
(1/31)
قال عبد العزيز: فقلت في نفسي، هذا الذي سألت الله عز وجل أن يبلغنيه وعاهدته لأن بلغنيه لأقومن بحقه ولأذبن عن دينه بما يلهمني بتوفيقه صابرا محتسبا وإن عرضت على السيف والقتل حتى إذا بلغني الله ما أملته وأعطاني ما سألته، وأيدني بالمعونة، وكفاني المؤونة وعطف قلوب عباده علي، وصرف عني ما كنت أحاذر من سوء بادرة تكون قبل قيامي بحق الله تعالى، أأنقض عهده، وأخلف وعده، وأكفر نعمه، فيسخط علي ويخذلني ويكلني إلى نفسي، والله والله لا فعلت ولو تلفت نفسي.
(1/32)
قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين إني لم أتهيب المناظرة ولم أعجز عنها، وإنما أحببت أن أقدم في هذا المجلس شيئا من كلامي ليقف من بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاه ومن في مجلسه على معنى كلامي ودقته فلا يخفى عليهم بعض ما يجري بيننا. قال: فقال أمير المؤمنين المأمون لبشر: ناظر صاحبك على ما تريد.
قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك إن رأيت أن تأذن لي أن أتكلم بشي قد شغل قلبي قبل مناظرتي لبشر. فقال لي: تكلم بما شئت فقد أذنت لك.
(1/33)
فقلت: أسألك بالله يا أمير المؤمنين من بلغك إنه كان أجمل ولد آدم - صلى الله عليه وسلم -. فأطرق مليا، ثم رفع رأسه فقال: يوسف عليه السلام. فقلت: صدقت يا أمير المؤمنين- فوالله ما أعطي يوسف على حسن وجهه بعرتين، ولقد سجن وضيق عليه من أجل حسن وجهه بعد أن وقف على براءته بالشاهد الذي أنطقه الله عز ول بتصديقه وبيان قوله وبعد إقرار امرأة العزيز إنها هي راودته عن نفسه فاستعصم فحبس بعد ذلك كله لحسن وجهه، قال الله تعالى : {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى
(1/34)
حِينٍ}(1) فدل بقوله عز وجل أنه سجن بغير ذنب لعله حسن وجهه وليغيبوه عنها وعن غيرها، فطال في السجن جبسه حتى إذا عبر الرؤيا ووقف الملك على علمه ومعرفته اشتاق إليه، ورغب في صحبته فقال عز وجل: { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}(2) فكان هذا القول من الملك عندما وقف عليه من علم يوسف ومعرفته قبل أني يسمع كلامه، فلما دخل عليه وسمع كلامه وحسن عبارته صيره على خافي خزائن الأرض، وفوض إليه الأمور كلها وتبرأ منها وصار كأنه من تحت يده، فكان هذا
__________
(1) سورة يوسف آية 35.
(2) سورة يوسف آية 54.
(1/35)
الذي بلغه يوسف عليه السلام بكلامه وعلمه لا بجماله، قال عز وجل: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(1) ولم يقل أني حسن جميل، قال الله عز وجل: { وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}(2) فوالله يا أمير المؤمنين ما أبالي إن وجهي أقبح مما هو، وإني أحسن من الفهم والعلم أكثر مما أحسن.
__________
(1) سورة يوسف آية 55.
(2) سورة يوسف آية 56.
(1/36)
قال عبد العزيز: فقال لي المأمون وأي شي أردت بهذا القول، وما الذي دعاك إلى ذكر هذا؟ فقلت سمعت بعض من هاهنا يقول لأمير المؤمنين: يكفيك من كلامه قبح وجهه، فما يضرني قبح وجهي مع ما رزقني الله عز وجل من فهم كتابه، والعلم بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه، ثم قلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاه فقد رأيتك تنظر إلى هذا النفش وانتفاخ الجص وتذكره، وسمعت عمرا يعيب ذلك ويدعو إلى صانعه، ولا يعيب الجص، ولا يدعو عليه، فقال المأمون: العيب لا يقع على الشيء المصنوع، وإنما يقع
(1/37)
العيب على الصانع. قال: قلت: صدقت يا أمير المؤمنين، ولكن هذا يعيب ربي لم خلقني قبيحا فازداد تبسما حتى ظهرت (ثناياه).

قال عبد العزيز: فأقبل علي المأمون وقال: يا عبد العزيز: ناظر صاحبك فقد طال المجلس بغير مناظرة، فقلت: أمير المؤمنين أطال الله بقاك، كل متناظرين على غير أصل يكون بينهما يرجعان إليه إذا اختلفا في شي من الفروع، فهما كالسائر على غير الطريق، لا يعرف الحجة فيتبعها ويسلكها وهو لا يعرف الموضع الذي يريد فيقصده، ولا يدري من أين جاء فيرجع يطلب الطريق فهو على ضلال أبدا.
(1/38)
ولكننا نؤصل بيننا أصلا، فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى الأصل، فإن وجدناه فيه وإلا رمينا به ولم نلتفت إليه.
قال عبد العزيز: فقال لي المأمون: نعم ما قلت، فاذكر الأصل الذي تريد أن يكون بينكما، ويذكر أيضا هو مثله حتى تتفقا على الأصل فتؤصلاه بينكما.

قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك، أو أصل بيني وبينه ما أمرنا الله به واختاره لنا وأدبنا به وعلمنا ودلنا عليه عند التنازع والاختلاف، ولم يكلنا إلى أنفسنا ولا إلى اختيارنا.
(1/39)
فقال المأمون: وذلك موجود عن الله عز وجل. قلت: نعم يا أمير المؤمنين قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(1).
وهذا تعليم الله عز وجل وتأديبه واختياره لعباده المؤمنين وهو خير وأحسن ما أصله المتنازعون بينهم، وقد تنازعت أنا وبشر يا أمير المؤمنين فنحن نؤصل بيننا كتاب الله عز وجل وسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما أمرنا فإن اختلفنا في شيء من
__________
(1) سورة النساء آية 59.
(1/40)
الفروع رددناه إلى كتاب الله عز وجل، فإن وجدناه فيه وإلا رددناه إلى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإن وجدناه فيها وإلا ضربنا به الحائط ولم نلتفت إليه.
فقال بشر: وأين أمرنا الله أن نرد ما اختلفنا فيه إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - قلت: كأنك لم تسمع ما جرى وما ابتدأت به، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
(1/41)
تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(1)
قال بشر: فإنما أمر الله أن يرد إليه وإلى الرسول، ولم يأمرنا أن نرده إلى كتابه العزيز وإلى سنة نبيه عليه السلام.
قال عبد العزيز: هذا مالا خلاف فيه بين المؤمنين وأهل العلم إن رددناه إلى الله فهو إلى كتاب الله، وإن رددناه إلى رسوله بعد وفاته رددناه إلى سنته، وإنما يشك في هذا الملحدون، وقد روى هذا بهذا اللفظ عن ابن عباس(2) وعن جماعة من الأئمة(3)
__________
(1) سورة النساء آية 59.
(2) ابن كثير التفسير 3/304.
(3) ابن كثير التفسير 3/304.
(1/42)
الذين أخذ العلم عنهم رحمة الله عليهم.
قال عبد العزيز: فقال لي المأمون: فافعلا وأصلا بينكما يا عبد العزيز أصلا واتفقا عليه وأنا الشاهد بينكما إن شاء الله تعالى.
قال عبد العزيز: فقلت يا أمير المؤمنين: إنه من الحد في كتاب الله عز وجل جاحدا أو زائدا لم يناظر بالتأويل، ولا بالتفسير، ولا بالحديث.
فقال المأمون: وبأي شي تناظره، قلت: بنص التنزيل كما قال عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا
(1/43)
إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}(1) وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}(2) وقال حين أدعت اليهود تحريم أشياء لم تحرم عليهم: {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(3) وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي
__________
(1) سورة الرعد آية 30.
(2) سورة الأنعام آية 151.
(3) سورة أل عمران آية 93.
(1/44)
لِنَفْسِهِ}(1).
فإنما أمر الله نبيه بالتلاوة، ولم يأمره بالتأويل، وإنما يكون التأويل لمن أقر بالتنزيل، وإما من الحد في التنزيل فكيف يناظر بتأويله. فقال لي المأمون: ويخالفك في التنزيل، قلت: نعم ليخالفني، أو ليدع قوله ومذهبه ويوافقني.
قال عبد العزيز: ثم أقبلت على بشر فقلت: يا بشر ما حجتك أن القرآن مخلوق، وانظر إلى أحد سهم في كنانتك فارمني به، ولا تحتاج إلى معاودتي بغيره.
فقال: تقول القرآن شيء أم غير شيء، فإن قلت إنه شيء أقررت إنه مخلوق إذ كانت الأشياء مخلوقة بنص التنزيل، وإن
__________
(1) سورة النمل آية 92.
(1/45)
قلت إنه ليس بشيء فقد كفرت لأنك تزعم أنه حجة الله على خلقه وإن حجة الله ليس بشيء.
قال عبد العزيز: فقلت لبشر ما رأيت أعجب من هذا تسألني وتجيب نفسك عني وتكفرني ولم تسمع كلامي ولا قولي فإن كنت سألت لأجيبنك، فاسمع مني فأني أحسن أن أجيب عن نفسي واحتج عن مقالتي ومذهبي، وأن كنت إنما تريد أن تخطئني وتتكلم لتدهشني وتنسيني حجتي فلن أزداد بتوفيق الله إياي إلا بصيرة وفهما، وما أحسبك إلا وقد تعلمت شيئا أو سمعت قائلا يقول هذه المقالة التي قلتها أو قرأتها في كتاب فأنت تكره أن تقطعها حتى تأتي على آخرها.
(1/46)
قال عبد العزيز: فأقبل المأمون ( على بشر) فقال: صدق عبد العزيز، اسمع منه جوابه ورد عليه بعد ذلك بما شئت من الكلام، ثم قال لي: تكلم يا عبد العزيز وأجب عما سألك عنه.
قال عبد العزيز: سألت عن القرآن أهو شيء أم غير شيء، فإن كنت تريد هو شيء إثباتا للوجود ونفيا للعدم(1) فهو شيء، وإن كنت تريد أن الشيء اسم له وأنه كالأشياء فلا.
فقال بشر: ما أدري ما تقول ولا أفهمه ولا أعقله ولا أسمعه، ولا بد من جواب يفهم ويعقل أنه شيء يعقل أو غير شيء.
__________
(1) فتح الباري 13/402.
(1/47)
قال عبد العزيز: صدقت إنك لا تفهم ولا تعقل ولا تسمع ما أقول ولقد وصفت نفسك بأقبح الصفات، واخترت لها أذم الاختيارات، ولقد ذم الله عز وجل في كتابه من قال مثل ما قلت: أو كان بمثل ما وصفت به نفسك، فقال الله عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}(1) وقال عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ
__________
(1) سورة الأنفال آية 22-32.
(1/48)
أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(1) وقال عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}(2). ومثل هذا في القرآن كثيرا جدا، ولقد امتدح الله عز وجل في كتابه أقواما
__________
(1) سورة الزخرف آية 40.
(2) سورة البقرة آية 16-18.
(1/49)
بحسن الاستماع وأثنى عليهم أحسن الثناء فقال: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(1) وقال عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ}(2) وقال عز وجل: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}(3) وقال عز وجل:
__________
(1) سورة الزمر آية 18.
(2) سورة المائدة آية 83.
(3) سورة البقرة آية 285.
(1/50)
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى ُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ}(1) ومثل هذا في القرآن كثير، فما اخترت لنفسك ما اختاره الرسول، ولا ما اختاره المؤمنون، ولا ما اختاره أهل الكتاب، ولا ما اختاره الجن لأنفسهم.
__________
(1) سورة الأحقاف آية 29-30.
(1/51)
قال عبد العزيز: قال المأمون: دع هذا يا عبد العزيز وارجع إلى ما كنت فيه، وبين ما كنت فيه، واشرحه، واحتج لنفسك، فقلت: يا أمير المؤمنين: إن الله عز وجل أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه إذ كان كلامه من صفاته فلم يتسم بالشيء ولم يجعل الشيء أسمائه ولكنه دل على نفسه أنه شيء وأكبر الأشياء إثباتا للوجود ونفيا للعدم(1)، وتكذيباً منه للزنادقة، والدهرية، ومن تقدمهم ممن جحد معرفته وأنكر ربوبيته من سائر الأمم فقال عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً
__________
(1) فتح الباري 13/402.
(1/52)
ُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ}(1) فدل على نفسه أنه شيء ليس الأشياء، وأنزل في ذلك خبرا خاصا مفردا لعلمه السابق أن جهما وبشرا ومن قال بقولهما سيلحدون في أسمائه ويشبهون على خلقه، ويدخلونه وكلامه في الأسماء المخلوقة، قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ َهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(2) فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة بهذا الخبر تكذيبا لمن الحد في كتابه، وافترى عليه، وشبهه بخلقه، قال عز وجل: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ
__________
(1) سورة الأنعام آية 19.
(2) سورة الشورى آية 11.
(1/53)
بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي َسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ}(1) ثم عدد أسماءه في كتابه ولم يتسم بالشيء ولم يجعله أسما من أسمائه، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة)(2)
__________
(1) سورة الأعراف آية 180.
(2) خ/ الدعوات، فتح الباري 11/214 ح6410، والتوحيد فتح الباري 13/377 ح7392.
(1/54)
ثم عدها فلم نجده جعل الشيء اسما لله عز وجل، ثم ذكر جل ذكره كلامه نفسه ودل عليه بمثل ما دل على نفسه ليعلم الخلق أنه من ذاته وأنه صفة من صفاته، فقال الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ}(1) فذم الله اليهودي حين نفى أن تكون التوراة شيئا، وذلك أن رجلا من المسلمين ناظر رجلا من اليهود بالمدينة، فجعل المسلم يحتج على اليهودي من
__________
(1) سورة الأنعام آية 91.
(1/55)
التوراة بما علم من صفة النبي- صلى الله عليه وسلم - وذكر نبوته فيها حتى أثبت نبوته - صلى الله عليه وسلم - من التوراة فضحك اليهودي وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله عز وجل تكذيبه، وذم قوله، وأعظم فريته حين جحد أن يكون كلام الله شيئا، ودل بذلك على أن كلامه شيء ليس كالأشياء، كما دل على نفسه أنه شيء ليس كالأشياء ثم قال في موضع أخر: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}(1) فدل بهذا الخبر أيضا على
__________
(1) سورة الأنعام 93.
(1/56)
أن الوحي شي بالمعنى، وذم من جحد أن كلام الله شيء فلما أظهر الله عز وجل اسم كلامه لم يظهره باسم الشيء فيلحد الملحدون في ذلك ويدخلونه في جملة الأشياء المخلوقة، ولكنه أظهره عز وجل باسم الكتاب والنور والهدى ولم يقل قل من أنزل الشيء الذي جاء به موسى، فيجعل الشيء اسما لكلامه، وكذلك سمى كلامه بأسماء ظاهرة يعرف بها، فسمى كلامه نورا وهدى، وشفاء، ورحمة، وحقا، وقرآنا، وأشباه ذلك لعلمه السابق في جهم وبشر ومن يقول بقولهما إنهم سيلحدون في أسمائه وصفاته التي هي من ذاته وسيدخلونها في الأشياء المخلوقة.
(1/57)
__________________


[============================]

لو علمتَ ما فعل أهلُ الحديثِ
لسجدتَ للهِ شكراً أن جعلك من هذه الأمة.

فضيلة الشيخ / أبو إسحق الحويني
[============================]
رد مع اقتباس