عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 2014-02-26, 11:32 AM
أبو عادل أبو عادل غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-05
المكان: المملكة المغربية
المشاركات: 703
افتراضي











خالد بن سعود الرشود
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
فإن من المعاملات التي ظهرت وانتشرت في المجتمع المسلم: بيع وشراء أسهم الشركات المساهمة حتى قلما تجد أحداً لا يتعاطى مثل هذه المعاملات وبناءً عليه توجهت أسئلة المستفتين إلى طلبة العلم فاجتهدوا فيها، وتعددت آراؤهم، واختلفت اجتهاداتهم حسب ما يأتي بيانه. ولكن مع ذلك ما زال السؤال مستمرًّا عن حكمها مع سابق علم المستفتي بأقوال المفتين، وكأنه لم يجد الجواب الذي يشفي ويكفي، خصوصاً مع ظهور التناقص في هذه الفتاوى. فبينما تحرم إحدى الشركات في وقت، إذا بها تحل في وقت آخر والعكس صحيح، فقد يشتري وقت الإفتاء بالجواز ثم تحرم. وخاصة مع كثير ممن يتحرى في أمر دينه، ويخاف على نفسه من المحرم أيًّا كان قدره.
وكنت إلى وقت قريب معرضاً عن الخوض في أحكام هذه الأسهم؛ لأن هناك من يقوم ببيان الحكم الشرعي فيها وله سابق فضل وعلم، كما أن طالب العلم لا يتجرأ على الفتوى مع أن غيره قد كفاه، ولكن ما فتئت هذه المسائل تعرض عليّ فأحيل الجواب على من تصدى لذلك من طلبة العلم، ولكن لاحظت إقبال عدد كبير من الناس على هذه الأسهم بناءً على هذه الفتوى، فلما تملكوا فيها حدث أمران عظيمان أوجبا إشكالاً عند كثير من المتعاملين ممن يتحرى الحلال في ما يكتسب، وهذان الأمران مرتبطان ببعضهما وأحدهما مترتب على الآخر:
الأول: الانهيار الشديد في سوق الأسهم مما ترتب عليه خسارة كثير من أهل الخير ممن شجعتهم تلك الفتاوى على دخول السوق المالي. فأشاروا تلميحاً أحياناً، وتصريحاً أحياناً أخرى إلى تلك الفتوى التي دفعتهم وسهلت لهم دخول هذا المجال. وبعضهم أظهر استنكاره الشديد من هذه الفتاوى التي تسببت في خسارته -في ظنه- مما دفعه إلى كيل التهم -في ضمن عدة جهات- إلى هؤلاء المفتين وتلك الفتاوى؛ خصوصاً مع وجود الأمر الثاني: ألا وهو اختلاف الفتوى في نفس الشركة، وانقلابها من الجواز إلى التحريم أو العكس فجعله يتأخر في بيعها حتى قل سعرها، أو يبادر إلى البيع وهي في طور ارتفاع السعر. فإن خسر فيها أوجب عليه ذلك إمساك أسهم هذه الشركة مع علمه بتحريمها بناءً على هذه الفتوى وإن لاح له المكسب فيها اضطر لبيعها قبل تحققه؛ خشية الوقوع في المحرم.
ولما سبق فقد رأيت -ولله الأمر من قبل ومن بعد- أن أكتب في هذه المسألة رأيي القاصر إبراءً للذمة ونصحاً للأمة وخروجاً من العهدة -خاصة مع تعلق حكم هذه المسألة بأحد الضروريات الخمس وهو المال- فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وبيان هذه المسألة يكون بأمور:
أولاً: يجب على المسلم ألا يتساهل فيما يكتسب وليعلم أنه مسؤول عن هذا المال؛ من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ لما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع..." وذكر منها: "وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه" رواه الترمذي وحسنه. كما أن أكل المال الحرام من المسائل الخطيرة والعياذ بالله التي ورد بشأنها الوعيد الشديد. روى الإمام أحمد (13919) بسند حسن عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: "يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت؛ النار أولى به. يا كعب بن عجرة الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها وبائع نفسه فموبقها". وهذا وعيد عظيم لمن تهاون في أكل المال الحرام فعلم من هذا أن على المسلم أن يراعي الله جل وعلا في هذا المال، وألا يتبع في كسبه هواه، بل يطلب الحق في تحليله وتحريمه، ولا يكن كالذي يبحث لنفسه غطاءً من زلة عالم أو خطأ مجتهد لأجل اكتسابه من غير حله.
ثانياً: علينا أن نعلم أن الحق في كل مسألة واحد لا يتعدد باتفاق أهل العلم -ممن يعتد بخلافه- كما علينا أن نعلم أن البشر خلقهم الله تعالى مختلفين في ألوانهم وأجسامهم ولغاتهم وتفكيرهم وعقولهم والاختلاف فيهم حاصل وهذا واقع لا مفر منه قال تعالى: "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" ولكن لا بد أن نعتقد بالضرورة -مع هذا- أن الحق مع أحد هؤلاء المختلفين علمه من علمه، وجهله من جهله. وإذاً لا يجوز أن تكون أقوالهم كلها حق، ولا يجوز أيضاً أن يخلو قول أحدهم من الحق إذ لا بد لكل عصر من قائم الله بالحجة. وأقرب الناس إلى الحق أقربهم إلى الكتاب والسنة وفهم السلف رضوان الله عليهم وأعملهم بالدليل الصحيح وليس العبرة في تمييز الحق كثرة العاملين أو القائلين بالقول أو قلتهم. يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "لا يغرك من الحق قلة السالكين ولا من الباطل كثرة الهالكين". وذلك لأن بعض الناس يعتبر الحق بفعل الأكثرية فيقول أكثرهم فعل كذا وأغلبهم عمل بكذا وهذا غير صحيح. فالعبد يسأل عن عمله ولا يسأل عن عمل غيره. فإذا تساهل المستفتي في طلب الحق كان عليه من الإثم بقدر تساهله.
ثالثاً: أن معنى السهم اصطلاحاً هو: جزء مشع من شركة تضم أعياناً ونقداً وعملاً أو بعضها؛ على الراجح من أقوال الفقهاء المعاصرين. وبناءً عليه يكون التملك في أي سهم من هذه الأسهم يعني أن يكون للمالك حصة مشاعة في جميع أعيان ونقود وأعمال وودائع الشركة المساهم بها.
رابعاً: أن الحكم على سهم شركة ما أنه نقي أو غير نقي لأجل تحديد جواز شراء أسهمها من عدمه مبدأ لا يصح من وجوه:
الأول: أن الشركة قد تقترض أموالاً طائلة بالربا فتبني بها أصولاً تجارية لها؛ كمصانعها ومنشآتها خلال سنين ماضية من عمرها إلا أنها قد تمر عليها سنة -أو ربع سنة- مالية لا تحتاج فيها إلى الاقتراض وبناء عليه تصدر قوائمها المالية الربع سنوية خالية من الاقتراض المحرم فهل يصح أن يطلق على هذه الشركة نقية لمجرد أنها لم تحتج إلى الاقتراض في ربع السنة الذي أصدرت فيه قوائمها المالية؟
الثاني: أنها قد تحصل على فوائد ربوية من ودائع مالية ثم تضخها في أرباح الشركة ثم بعد ذلك تضخ هذه الأرباح في رأس مال الشركة لتؤسس منشآت أو لتطوير عمل الشركة ونحوه وذلك خلال سنين من عمر الشركة، إلا أنها قد تمر عليها سنة مالية أو ربع سنة لا يوجد لديها ودائع مالية ذات فوائد فكيف يقال إن هذه الشركة نقية؟
الثالث: أن السهم المشترى هو عين تمثل حصة مشاعة من الشركة -كما سبق- ولا يصح اعتبار السهم يمثل فترة سنة واحدة أو ربع سنة، بل هو يمثل هذه الحصة لجميع أعمال وموجودات وأصول وودائع الشركة منذ تأسيسها وحتى وقت الشراء، وذلك لأن الإنسان إذا اشترى عيناً فلا يصح اعتبار هذا الشراء مخصوصاً بوقت، بل هو شامل للعين المباعة بعمرها الماضي ولهذا لو اشترى دابة أو دارا فبات مستحقة في أي وقت سابق للشراء فللمشتري ردها بهذا العيب. (انظر المغني4/319-320) فلو كان الشراء يمثل فترة معينة لم يكن للمشتري ردها بهذا العيب. وهذه مسألة من أوضح الواضحات لا تحتاج لمزيد بيان، وبناء عليه فإطلاق وصف النقاوة على الشركة لمجرد أن قوائمها المالية الربع سنوية خلت من تعاملات محرمة غير صحيح؛ لأن هذا الوصف لو صح فهو ينطبق على فترة من عمر الشركة، ولا ينطبق على الشركة ككل.
الرابع: أن عمل التاجر قد لا يخلو من الشبهة أحياناً ومن المحرم أحياناً أخرى بقصد أو بغير قصد وهذا يتعارض مع لفظ النقاوة.
الخامس: أنه من خلال عملي في القضاء واطلاعي على كثير من ميزانيات الشركات والمؤسسات التجارية، وجدت أن هذه الميزانيات الصادرة عن مكاتب محاسبية قد لا تعبر بالضرورة عن جميع العمليات المالية كما هي في الواقع، ولو افترضنا أنها تعبر عن الواقع بصدق فإن المحاسب القانوني ليس له دراية بالشريعة وبالتالي. فإن الألفاظ التي يطلقها تمثل بصورة أساسية مصطلحات محاسبية تختلف بالمفهوم الشرعي بين محاسب ومحاسب آخر في كونها تمثل ربا أو لا؟ وهي أمور دقيقة لا تظهر في القوائم المالية الربع سنوية، ومثالها: كأن يكتب في الميزانية مثلاً: غرامات تأخير بمبلغ كذا وهذه الغرامات عند التمحيص ليست على تأخير أعمال، بل على تأخير سداد أموال مستحقة للشركة فهي فوائد أو ربا صريح بينما تظهر هذه الغرامات في القوائم المالية على أنها مطلوبات على الغير في ضمن ديون صحيحة للشركة على الغير وهذه من المسائل الشائعة لدى الشركات المساهمة، وعلى هذا فهي لا تحتسب من الأموال الربوية نتيجة لعدم التمحيص في الميزانيات المالية لكل شركة ومراقبتها من قبل عالم بالشريعة أضف إلى ذلك أن استيفاء فحص الميزانيات لهذه الشركات لكل بند وتمحيصه أمر عسير جداً ويحتاج لفرق محاسبية وشرعية خاصة مع كبر تعاملات الشركات المساهمة في المملكة، وبهذا يتبين أن إطلاق وصف النقاوة لمجرد الاطلاع على القوائم المالية الربع السنوية الأولية للشركات المساهمة غير صحيح.
الخامس: أنه من المعلوم شرعاً أن الله تعالى إذا حرم شيئاً أوجب اجتنابه كليًّا قليله وكثيره يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه" وأيضاً في المحرمات نهى عن اقترابها فضلاً عن فعلها قال تعالى" ولا تقربوا مال اليتيم" "ولا تقربوا الزنا" وقال صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا إن لكل ملك حمى ألا إن حمى الله محارمه" من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه ففي هذا الحديث أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم الاقتراب من المحرم حذراً من الوقوع فيه. وعليه فالربا قليله وكثيره سواء في الحرمة يدل لذلك ما رواه أحمد في المسند بسند صحيح عن عبد الله بن حنظلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية" وفي رواية في الخطيئة "وبناء عليه كيف يجوز شراء أسهم شركة جزء منها ربا ولو كان قليلاً فقليل المحرم وكثيره سواء؛ للحديث. وبالتالي فالشركة التي يمثل الربا فيها نسبة قليلة لا يجوز شراء أسهمها لأن السهم يشمل جميع أجزاء الشركة وتجويزه -ولو كان قليلاً- إقرار به ورضا وتعاطي للمحرم وهذا من المعلوم تحريمه.
السادس: أنه لا يصح القول بأنه يمكن تطهير هذا السهم أو ذاك؛ لأسباب منها: أن النهي متوجه لعدم المقاربة فضلاً عن المقارفة ومتوجه لأخذه مع العلم بأنه ربا -كما مر- وهذا قد اشترى سهماً وأخذ مالاً مع علمه بما فيه من الحرمة فكيف يصح شراؤه والحالة هذه فضلاً عن تطهيره. ومنها أنه على التسليم بصحة هذا المبدأ وهو التطهير فإن السهم جزء من الشركة التي هي عبارة عن أعيان ونقود وهذه الأعيان والنقود المشاعة تمثل المعاملات المحرمة جزءاً مشاعاً منها أيضاً والمشاع لا يمكن تطهيره إلا إذا تعين والتعيين متعذر والحالة هذه -في الشركات المساهمة- فيتعذر تطهيره، كما لو تيقن النجاسة في ثوب وجهل موضعها فإنه يحرم الصلاة في هذا الثوب حتى يغسله جميعاً فهو هنا كذلك؛ فإذا اختلط المحرم اليسير بالحلال على وجه الشيوع حرم الحلال حتى يتميز الخبيث منه تميزاً يمكن إخراجه منه.
السابع: على التسليم بأن هذه الشركة أو تلك قد خلت معاملاتها من الربا جميعه سواء بالاقتراض أو الإيداع بالفوائد منذ بداية الشركة وحتى إصدار المفتي فتواه بأنها نقية، فإن خلوها من الربا لا يلزم منه خلوها من المعاملات المحرمة الأخرى غير الربا كالتأمين التجاري وخطابات الضمان غير المغطاة مع دفع الرسوم على تلك الخطابات بالنسبة والتناسب وبيوع الديون والبيع وشرط، والبيوع ذات الشروط الفاسدة وغيرها كثير مما يتعارض مع لفظ النقاوة المعبر عنه في الفتوى؛ علماً أن التحقق من صحة البيوع وعدم مخالفتها لا يمكن إلا بمباشرتها والاطلاع على عقودها، حيث إنه لا القوائم المالية ولا حتى الميزانيات التفصيلية تبين طريقة تعاطيها حتى يتسنى بيان حلها من حرمتها، والمقصود أنه لا يصح هذا الإطلاق (لفظ نقية) مع وجود ذلك.
الثامن: أن عبارة: شركة نقية تفيد القطع بذلك مع وجود احتمالات بإخفاء مجلس الإدارة بعض المعاملات المحرمة، أو أن المجلس يجهل تحريمها وكيف تفيد هذه العبارة القطع وعمل المفتي إنما يفيد الظن على أحسن الأحوال؟.
التاسع: أن مما يدل على اضطراب الفتوى بالنقية وعدمها هو تحول الشركات المستمر من وصف النقاوة إلى المختلطة والعكس بالعكس. وعلماء الأصول نصوا على أن من صحة العلة اطرادها، وهنا لم تطرد؛ إذ لا يوجد سبب لتحويلها من النقية إلى غيرها سوى ما يظهر في قوائمها المالية ربع السنوية وقد سبق بيان بطلان هذا العلة.
العاشر وهو أهمها: أنه إذا كان نظام الشركة الأساسي يبيح لمجلس الإدارة التعامل بالقروض التجارية والإيداع لدى البنوك بالفوائد المحرمة، كما هو حال كثير من الشركات المساهمة كيف يصح القول بأن هذه نقية؟ وهي عندها الاستعداد على تعاطي الربا بالقوة؛ هذا إذا سلمنا بأنها لم تقع فيه بالفعل.
ولهذا فإن العقود تبطل بالشروط المحرمة على القول الصحيح (الموسوعة الفقهية 30/239) ومما يزيد هذا القول قوة أن القائلين بصحة هذه العقود أوجبوا إبطال هذه الشروط على كل حال، ولكن الواقع أن المساهم العادي لا يمكنه ذلك. وبالتالي اجتمع القول على حرمة هذه الشركات مع وجود هذه الشروط.
الحادي عشر: أنه بناءً على حديث حنظلة رضي الله عنه السابق ذكره أن العبد لا يؤاخذ بعمل المحرم إلا بعد علمه بحرمته عند أخذه، فلذلك إذا قلنا بجواز هذه الشركات لأنها نقية وقد تصمن النظام الأساسي للشركة تجويز تعامل مجلس الإدارة بالربا أو بالمعاملات المحرمة عموماً، ثم أظهرت قوائمها المالية عدم تعاطيها الربا -وحكم بأنها نقية- بينما أخفى مجلس الإدارة المعاملات الربوية خاصة والمحرمة عامة، ثم تبين بعد الدخول فيها تلك المعاملات المحرمة فإن المساهم يأثم بالمساهمة في هذه الشركة ابتداءً بتعاطي أسهمها بيعاً وشراءً؛ وذلك لأنه ولو لم يعلم بأن هذه الشركة قد وقعت في الحرام عند شراء أسهمها إلا أنه أقرها على فعلها بالدخول فيها مع وجود هذه الشروط -التي تجيز الربا- فيها.
خامساً: بناء على ما سبق فقد اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم هذه الأسهم على أقوال أبرزها ثلاثة أقوال:
القول الأول: التفصيل بين الشركات النقية وغيرها.
فالتنقية تعتبر جائزة والمختلطة بعضهم أجازها إذا كانت نسبة الربا يسيره يمكن تطهيرها، وبعضهم منعها مطلقاً وهذا القول قد تضمنت الأوجه السابقة الجواب عليه.
القول الثاني: الجواز بشروط:
1- أن يكون النشاط مباحا.
2- ألا تكون نسبة القروض الربوية التي أخذتها الشركة أكثر من 30%.
3- ألا تكون نسبة الفوائد الربوية التي تتقاضاها الشركة من الودائع المصرفية أكثر من 5%.
4- ألا تكون نسبة النقود أكثر من 50% من رأس مال الشركة.
والرد التفصيلي على هذا القول قد يطول، ولكن أجمل الرد في حديث عبد الله بن حنظلة السابق ففيه أبلغ رد على هذا القول، حيث دل على أنه لا فرق بين قليل الربا وكثيره كما سبق بيانه.
القول الثالث: أنه يجوز التعامل بالأسهم مضاربة في كل الشركات المساهمة بشرط أن يكون النشاط مباحاً. وهذا القول وإن كان أضبط في العلة لكنه أوهى من ناحية الدليل حيث إن النهي إذا توجه إلى شيء كان النهي عن التملك عموما سواء اشتراه لأجل البيع والمضاربة فيه أو اشتراه لأجل غلته ولو صح هذا القول لجازت كثير من المحرمات أو التي بعضها محرم إذا كان شراؤها لأجل البيع.
الرأي الذي أرجحه في هذه المسألة:
إن العقد الذي يحكم بين المشتري للسهم والبائع له والشركة محل الشراء هو النظام الأساسي للشركة لذا فإن شراء السهم لا يخلو من ثلاثة أحوال:
الحال الأول: أن يكتتب في شركة جديدة بشراء أسهم التأسيس ففي هذه الحالة يجوز بشروط:
1- أن يكون النشاط مباحاً.
2- ألا يتضمن النظام الأساسي للشركة إعطاء مجلس الإدارة صلاحية التعامل المحرم.
وذلك لأن هذه الأسهم -المكتتب فيها في الشركات الجديدة التي لم يسبق لها مزاولة العمل- ليست شراء لعين قائمة، بل هي في الحقيقة دفع مال لأجل المتاجرة به. ويمثل هذا المال المدفوع حصة مشاعة من الشركة، بدليل أن هذه الأموال المكتتب بها تضخ في رأس مال الشركة الذي هو النواة لأعمالها.
وبناء عليه فإذا لم يوجد شرط يجيز لمجلس الإدارة تعاطي المعاملات المحرمة بقي الأمر على الأصل في أن المسلم الأصل فيه الأمانة، وأن المضاربه أمين بينما لوجد هذا الشرط أدى إلى إقرار المكتتب بالمحرم، فيحرم من هذا الوجه. لكن لو علم من أراد الاكتتاب بأن مجلس الإدارة ينوي الاقتراض الربوي فإنه في هذه الحالة يحرم الاكتتاب فيها بناء على عمله بنقض المضارب (مجلس الإدارة) للأصل المشار إليه أعلاه.
الحال الثاني: الاكتتاب في شركة قائمة (سبق لها العمل، وكانت مقفلة ثم طرحت جزءاً من أسهمها للاكتتاب –البيع-): فهذا يجوز بشروط ـ إضافة إلى الشروط السابقة:
1- أن ينص النظام الأساسي للشركة على أنه يجب أن تكون معاملات الشركة لا تخالف الشريعة الإسلامية، وذلك لما يأتي:
أ- إبراء لذمة المساهم من جميع أعمال الشركة السابقة والتي تخالف الشرع المطهر.
ب- يترتب عليه أنه لا يلزم المساهم التنقيب في ميزانيات الشركة ومتابعتها لأنه.
أولاً: قد يجهل التعامل مع هذه الميزانيات.
ثانياً: من العسير جدًّا أن يطالب كل مساهم ببحث شرعية كل ميزانية للشركة.
ثالثاً: إن الشركة المساهمة تعلن القوائم المالية مختصرة، ولا تعلن الميزانيات التفصيلية ففي ذلك إبراء لذمة المساهم عما يكون في الميزانيات التفصيلية من أمور محرمة.
ج- أنه بموجب هذا الشرط فإن أي عمل يقوم به مجلس الإدارة مخالف لهذا الشرط فإنه يتحمل إثمه كاملاً؛ لأنه -أي مجلس الإدارة- خان الأمانة بإخلاله بهذا الشرط. وبالتالي فلا يلحق المساهم من الأعمال المخالفة أي إثم قبل علمه بها
د- أنه بموجب هذا الشرط يكون للمساهم -ولو بسهم واحد- دور إيجابي في الشركة؛ حيث إن المساهم إذا نما إلى علمه مخالفة مجلس الإدارة لهذا الشرط فإنه يحق له مقاضاة مجلس الإدارة على هذا الإخلال، حتى لا يكون مقرًّا لهم على ما فعلوه.
2- أن يكون السعر عادلاً من جهة القيمة الدفترية للسهم: بمعنى أن يعكس القيمة الحقيقية للسهم بناء على القيمة الدفترية أي التي أظهرتها الميزانيات الصحيحة فلو كان فيه كذب أو خداع أو تدليس فإنه يحرم على بائع السهم أخذ الزيادة على القيمة الفعلية للسهم (لأن الأسهم المطروحة للاكتتاب كانت مملوكة لأحد الشركاء في الشركة ثم قام بيبعها بنظام الاكتتاب) كما أنه يثبت للمساهم إذا علم بالغبن خيار الغبن.
الحال الثالث: تداول الأسهم في السوق المالي بيعاً وشراء بقصد المضاربة أو الاستثمار فإنه يجوز بشروط ـ إضافة إلى الشروط السابقة - :
1- أن يكون السعر عادلاً من جهة القيمة السوقية للسهم، بحيث تكون القيمة السوقية للسهم مقاربة للقيمة الدفترية أو أعلى منها بشرط ألا يكون هذا العلو فاحشاً بحيث يظهر فيه المخاطرة بالبيع والشراء الذي يخرج هذا التعامل من التجارة إلى المقامرة. وهذه مسألة مهمة لا بد من التفطن لها؛ لأن المقامرة هي نوع من المخاطرة رغبة في الكسب الكثير والسريع في الوقت القصير، ويترتب عليها الخسارة السريعة والكثيرة في الوقت القصير، أيضاً قال ابن حجر المكي: سبب النهي عن الميسر وتعظيم أمره أنه من أكل أموال الناس بالباطل الذي نهى الله عنه بقوله: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}- ثم ذلك حديث: {من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق}. وقال: فإذا اقتضى مطلق القول –بالمقامرة- طلب الكفارة والصدقة المنبئة عن عظيم ما وجبت له أو سنت، فما ظنك بالفعل والمباشرة.
فأي مخاطرة أعظم من أن تشتري سلعة تعرف في قرارة نفسك أن سعرها هذا يفوق سعرها الحقيقي مرات عديدة، وأي أكل أموال بالباطل أعظم من إيهام الناس بالربح لأجل أن يشتري غيره السهم وهو في حال ارتفاع، ثم يضطره لأن يبيعه بأقل. ولو اشتراه بسعره الحقيقي (القيمة الدفترية) أو قريباً منها على أقل الأحوال لم يترتب عليه مخاطرة أنه حتى لو انخفض فسيعود إلى ما كان عليه بناء على العرض والطلب أما إذا كان السعر مبالغاً فيه فهذا سيؤدي إلى خسارة فادحة عند الانخفاض -الوصول إلى السعر الحقيقي- وهو الذي حدث في الآونة الأخيرة عندما انخفضت أسعار الأسهم ورجعت إلى قريب من أقيامها الحقيقية، حيث خسر كثير من المساهمين جزءاً كبيراً من أموالهم، بل إن بعضهم خسر روحه، بل تسبب بظهور العداوة وقتل بعض الناس لبعض بسبب هذه الأمور؛ لذلك فإنه عند ارتفاع السعر فوق القيمة الحقيقة بكثير فشراء السهم نوع من القمار الذي هو نوع من الميسر قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون* إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون".
ويقول ابن القيم رحمه الله ـ في كلام معناهـ : إذا اشتبه عليكم حكم مسألة فانظر إلى ما تنتهي إليه. فإنه سيتبين لك حكمها.
ومن ينظر إلى نهايات سوق الأسهم يعلم مقدار المخاطرة فيها التي تتضمن المقامرة ولو قلنا إنها ليست بميسر أو قمار فهي على أقل الأحوال فيها شبهة القمار مما ينبغي الحذر منه.
2- ألا يكون الشراء -أو طلب الشراء- بقصد رفع السعر والتغرير بالناس؛ لأن هذا نوع من الخداع والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "الخديعة في النار" كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش وهو الزيادة في سعر السلعة بقصد التغرير والخداع لغيره، وقال ابن أبي أوفى رضي الله عنه: "الناجش آكل ربا خائن" رواه البخاري. وهذا حق. فالناجش إنما يريد رفع سعر السلعة لأجل الزيادة الناتجة عن هذا الارتفاع فهذا رباها. وأما الخيانة فهو مؤتمن على إعطاء الحقيقة في قيمة السلعة إلا أنه خان الأمانة، وأعطى السلعة قيمة تخالف حقيقتها.
وختاماً: فلا بد من التنبيه إلى أمور:
1- قد يقول قائل بأن هذه الفتوى فيها تضييق على الناس أو نحوه... وأقول بأن الواجب معرفة الحق بدليله، ولذلك لا يجوز للمفتى اعتقاد الحكم ثم بناء الدليل عليه بل الواجب اتباع الدليل للوصول إلى الحق. لذلك فإن المفتي إذا نظر لما قد يدعيه البعض من أنه حاجة لا بد منها فإنه سينظر للحكم على أنه جائز قبل النظر في الدليل، وهذا خطأ في مبدأ النظر يخل بالوصول إلى معرفة الحق.
لهذا أولاً يجب أن نعرف حكم المسألة بناء على الأدلة ثم ننظر هل هناك ضرورة تبيحها إن كان محرماً؟ فإن لم يكن ثمة ضرورة فلم تأتي الشريعة بإباحة الحاجات إذا كانت محرمة، بل لم يجعل الله تعالى للناس حاجة للمحرم ولو تفكرنا في تداول الأسهم فليس للناس بها حاجة، بل ربما يكون بها ضرر بالغ عليهم. وإنما يستفيد منها المتنفذون وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة الذين يوهمون الناس بتحقيق الربح وهم في الحقيقة الرابحون الحقيقيون، كالربا الذي يستفيد منه أصحاب رؤوس المال ويظلم به المدينين، وبالتالي فلا حجة لمن يدعي الحاجة وغيرها.
2- على هيئة سوق المال إلزام الشركات المساهمة بنشر النظام التأسيسي للشركة بأي وسيلة كانت، فأقل حقوق المساهم هو أن يطلع على النظام التأسيسي للشركة التي يريد أن يساهم بها.
3- على رؤساء مجالس الإدارات في الشركات مراقبة الله تعالى في أعمال هذه الشركات، والحذر من المعاملات المحرمة التي توجب محق بركة العمر والمال والولد والعياذ بالله.
4- ليعلم المسلم أنه مأمور باتباع الحق الذي ظهر له وليحذر من اتباع الهوى، فإن ترك الدليل الشرعي يوجب اتباع الهوى لا محالة قال تعالى: "فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم" (القصص).
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________________








رد مع اقتباس