عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 2011-09-10, 12:23 AM
الثوري الثوري غير متواجد حالياً
محاور
 
تاريخ التسجيل: 2007-08-24
المكان: أرض الله
المشاركات: 109
كتاب كتاب الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن ... مهم لكل إباضى يجب قراءته


الكتاب : الحيدة والاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن
المؤلف : الإمام عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم بن ميمون الكناني
الحيدة و الاعتذار في الرد على من قال بخلق القرآن

لأبي الحسن عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم بن ميمون الكناني المكي الكناني، المتوفى سنة 240

والمردود عليه هو عبد الرحمن بشر بن غياث بن أبي كريمة أبي المريسي المعتزلي المتوفى سنة 218

حققه وعلق عليه دكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، أستاذ لقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية

الناشر
مكتبة العلوم والحكم
المدينة المنورة
(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

ذكر ما جرى بين عبد العزيز بن يحيى رحمه الله وبين بشر المريسي:

قرأت على أبي عمر أحمد بن خالد في ربيع الآخر عام اثنين وخمسين وثلاثمائة، حدثنا أبو عمر وعثمان بن أحمد بن عبد الله السماك قال فنا أبو بكر محمد بن الحسن بن أزهر بن حسين القطايعي، قال: حدثني أبو عبد الله العباس بن محمد بن فرقد، قال: حدثني أبي محمد بن فرقد بهذا الكتاب من أوله إلى آخره، قال: قال عبد العزيز بن مسلم الكناني(1):
__________
(1) أما إسناد الإمام ابن بطة في كتاب الإبانة ورقة 160/ب المرفقة قال: باب ذكر مناظرات الممتحنين بين يدي الملوك الجبارين الذين دعو الناس إلى هذه الضلالة.
... قال: مناظرة عبد العزيز بن يحيى المكي لبشر بن غياث المريسي بحضرة المأمون - حدثنا أبو حفص محمد ابن رجاء قال ثنا أبو أيوب عبد الوهاب بن عمرو النزلي قال حدثني أبو القاسم العطاف بن مسلم قال حدثني الحسين بن بشر ودبيس الصائغ ومحمد بن فرقد قالوا: قال لنا عبد العزيز بن يحيى المكي الكناني... الخ.
(1/2)
اتصل بي وأنا بمكة ما قد أظهره بشر بن غياث المريسي ببغداد من القول بخلق القرآن، ودعاه الناس إلى موافقته على قوله ومذهبه وتشبيهه على أمير المؤمنين المأمون وعامة الناس وما قد دفع الناس إليه من المحنة، والأخذ في الدخول في هذا الكفر(1)
__________
(1) ذلك لأن القول بخلق القرآن كفر لأن القرآن كلام الله وهو صفة من صفاته، وصفاته من ذاته. ولكن علماء السلف يفرقون بين القول والقائل، فالقول قد يكون كفراً، أما القائل المعين فلا يحكم بكفره إلا بعد قيام الحجة عليه وإزالة الشبهة عنه، ومن هنا نجد إن العلماء حكموا على الجهم بن صفوان بالكفر لقيام الحجة عليه، وكذلك الحكم على غيره ممن قامت عليهم الحجة، وانظر هذه القاعدة العظيمة في هذا الباب من قول شيخ الإسلام ابن تيمية الفتاوى 12/466.
(1/3)
والضلالة، ورهبة الناس وفزعهم من مناظرته، وإحجامهم عن الرد عليه بما يكسرون به قوله، ويدحضون به حجته ويبطلون به مذهبه، واستتار المؤمنين في بيوتهم وانقطاعهم عن الجمعات والجماعات، وهربهم من بلد إلى بلد، خوفا على أنفسهم وأديانهم، وكثرة موافقة الجهال والرعاع من الناس لبشر على مذهبه وكفره وضلالته، والدخول في بدعته، والانتحال لمذهبه، رغبة في الدنيا ورهبة من العقاب الذي كان يعاقب به من خالفه على مذهبه.
قال عبد العزيز بن يحيى: فأزعجني ذلك وأقلقني واسهر ليلي وأطال غمي وهمي فخرجت من بلدي متوجها إلى ربي عز
(1/4)
وجل أسأله سلامتي وتبليغي، حتى قدمت ببغداد فشاهدت من غلظ الأمر واحتداده أضعاف ما كان يصل إليه، ففزعت إلى ربي أدعوه وأتضرع إليه راغباً وراهباً، واضعا له خدي، وباسطاً إليه يدي، أسأله أرشادي وتسديدي، وتوفيقي ومعونتي، والأخذ بيدي وأن لا يسلمني ولا يكلني إلى نفسي، وأن يفتح لفهم كتابه قلبي، وأن يطلق لشرح بيانه لساني، وأخلصت لله عز وجل نيتي ووهبت له نفسي، فعجل تبارك وتعالى إجابتي، وثبت عزمي، وشجع وفتح لفهم كتابه قلبي، وأطلق به لساني، وشرح به صدري، فأبصرت رشدي بتوفيقه إياي، وأنست إلى معونته ونصره
(1/5)
وتأييده ولم أسكن إلى مشاورة أحد من خلق الله في أمري، وجعلت أستر أمري وأخفي خبري عن الناس جمعيا "خوفا " من أن يشيع خبري، ويعلم بمكاني فاُقتل قبل أن يُسمع كلامي، فأجمع رأي على إظهار نفسي وإشهار قولي ومذهبي على رؤوس الخلائق والأشهاد، والقول بمخالفة أهل الكفر والضلال والرد عليهم وذكر كفرهم وتبيين ضلالتهم، وأن يكون ذلك في مسجد الجامع في يوم الجمعة، وأيقنت أنهم لا يحدثوا على حادثة، ولا يعجلون عليه بقتل وغيره من العقوبة بعد إشهار نفسي، والنداء بمخالفتهم على رؤوس الخلائق إلا بعد مناظرتي والاستماع مني (
(1/6)
وكان ذلك كله بتوفيق الله عز وجل لي، ومعونته إياي).
قال عبد العزيز بن يحيى: وكان الناس في ذلك الزمان وذلك الوقت في أمرا عظيم، قد منع الفقهاء والمحدثون والمذكرون والداعون من القعود في الجامعين ببغداد وفي غيرهما من سائر المواضع، إلا بشر المريسي وابن الجهم، ومن كان موافقاً لهما على مذهبهما، فأنهم كانوا يقعدون يعني (الجهم بن صفوان الذي به تعرف الجهمية)(1)
__________
(1) هكذا في الأصل وجهم بن صفوان أبو محرز الراسبي مولاهم السمرقندي الكتاب المتكلم رأس الضلالة ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء وجدال كتب للأمير الحارث بن سريج التميمي وكان ينكر الصفات وينزه الباري عنها بزعمه، ويقول بخلق القرآن، ويقول إن الله في الأمكنة كلها، قال ابن حزم: كان يخالف مقاتلا في التجسيم وكان يقول: الإيمان عقد بالقلب وإن تلفظ بالكفر، قيل: إن مسلم بن احوز قتل الجهم لإنكاره أن الله كلم موسى، سنة 128 هـ سير أعلام النبلاء 6/26، ميزان الاعتدال 1/426، الملل والنحل 1/199، الفصل 4/204، الكامل 5/352، الخطط للمقريزي 2/249، 351، ولعل الصواب: ابن الجهم، كما ذكر في السطر السابق فإنه وبشر المريسي ومن وافقهما يعلمون الناس مذهب الجهم بن صفوان...الخ.
(1/7)
ويجتمع الناس إليهم فيعلمونهم الكفر والضلال وكل من أظهر مخالفتهم وذم مذهبهم، أو أتاهم بذلك أحضر، فإن وافقهم ودخل في كفرهم وأجابهم إلى ما يدعونه إليه وإلا قتلوه سراً، وحملوه من بلد إلى بلد، فكم من قتيلاً لم يُعلم به، وكم من مضروب قد ظهر أمره وكم ممن أجابهم واتبعهم على قولهم من العلماء خوفا على أنفسهم لما عرضوا على السيف والقتل أجابوا كرها، وفارقوا الحق عياناً، وهم يعلمون لما حذروا، من بأسهم والوقوع بهم.
(1/8)
قال عبد العزيز: فلما كان في الجمعة التي اعتزمت فيها على إظهار نفسي، وإشهار قولي، واعتقالي، صليت الجمعة بالمسجد الجامع بالرصافه من الجانب الشرقي بحيال القبلة والمنبر بأول صف من صفوف العامة، فلما سلم الإمام من صلاة الجمعة، وثبت قائما على رجلي ليراني الناس ويسمعوا كلامي، ولا تخفى عليهم مقالتي، وناديت بأعلى صوتي لأبني، وكنت قد أقمت أبني بحيالي عند الأسطوانة الأخرى، فقلت له: يا أبني ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله غير مخلوق.
(1/9)
قال عبد العزيز: فلما سمع الناس كلامي، ومسألتي لأبني وجوابه إياه هربوا على وجوههم خارجين من المسجد إلا يسير من الناس خوفاً على أنفسهم، وذلك أنهم سمعوا ما لم يكونوا يسمعون، وظهر لهم ما كانوا يخفون ويكتمون، فلم يستتم أبني الجواب حتى أتاني أصحاب السلطان، واحتملوني وأبني فأوقفوني بين يدي عمرو بن مسعدة(1) وكان قد جاء ليصلي الجمعة، فلم نظر إلى وجهي، وكان قد سمع
__________
(1) عمرو بن مسعدة بن سعيد بن صول الكاتب كنيته أبو الفضل، أحد وزراء المأمون توفي سنة سبع عشرة ومائتين. تاريخ بغداد 12/203 وفيات الأعيان 2/475.
(1/10)
كلامي ومسألتي لأبني، وجواب أبني إياي، فلم يحتج أن يسألني عن كلامي، فقال لي: أمجنون أنت؟ قلت: لا. قال: فموسوس أنت؟ قلت: لا. قال: أفمعتوه أنت؟ قلت: لا. أني لصحيح العقل جيد الفهم ثابت المعرفة والحمد الله كثيراً. قال: فمظلوم أنت؟ قلت: لا. فقال لأصحابه ورجالته: مروا بهما إلى منزلي.
قال عبد العزيز: فحملنا على أيد الرجال حتى أخرجنا من المسجد ثم جعلوا يتعادون بنا سحباً شديداً وأيدينا في أيد الرجال يمنه ويسره، وسائر أصحابه خلفنا وقدامنا، حتى صرنا إلى منزل عمرو بن مسعدة على تلك الحال العنيفة الغليظة،
(1/11)
فوقفنا على بابه حتى دخل، وأمر بنا فأدخلنا عليه وهو جالس في صحن داره على كرسي حديد، ووسادة عليه، فلما صرنا بين يديه، أقبل علي فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل مكة، فقال: ما حملك على ما فعلت بنفسك؟ قلت: طلب القربة إلى الله عز وجل وطلب الزلفة لديه. قال: فهلا فعلت ذلك سرا من غير نداء ولا إظهار لمخالفة أمير المؤمنين، أطال الله بقاه. ولكنك أردت الشهرة والرياء والتسوق لتأخذ أموال الناس. فقلت: ما أردت من هذا شيئا، ولا أردت إلا الوصول إلى أمير المؤمنين والمناظرة بين يديه لا غير ذلك. فقال: أو تفعل ذلك؟ قلت:
(1/12)
نعم. ولذلك قصدت وبلغت بنفسي ما ترى بعد خروجي من بلدي وتغريري بنفسي مع سلوكي البراري أنا وولدي، رجاء تأدية حق الله عز وجل فيما استودعني من الفهم والعلم وما أخذ علي وعلى العلماء من البيان. فقال: إن كنت إنما جعلت هذا سببا لغيره إذا وصلت إلى أمير المؤمنين فق حل دمك بمخالفتك أمير المؤمنين. فقلت له: إن تكلمت في شيء غير هذا، أو جعلت هذا ذريعة إلى غيره فدمي حلال لأمير المؤمنين.
قال عبد العزيز: فوثب عمرو قائما على رجليه، وقال: أخرجوه بين يدي إلى أمير المؤمنين. قال: فأخرجت، وركب من الجانب الغربي وأنا بين
(1/13)
يديه وولدي يعدي بنا على وجوهنا، وأيدينا في أيدي الرجال حتى صار إلى أمير المؤمنين من الجانب الشرقي، فدخل وأنا في الدهليز قائم على رجلي، فأطال عند أمير المؤمنين، ثم خرج فقعد في حجرة له، وأمر بي فأدخلت عليه، فقال لي: قد أخبرت أمير المؤمنين أطال الله بقاه بخبرك وما فعلت، وما قلت وما سألت من الجمع بينك وبين مخالفيك من المناظرة بين يديه، وقد أمر أطال الله بقاه، بإجابتك إلى ما سألت وجمع المناظرين عن هذه المقالة إلى مجلسة أعلاه الله في يوم الاثنين الأتي وتحضر معهم ليناظروا بين يديه أيده الله ويكون هو
(1/14)
الحاكم بينكم.
قال عبد العزيز: فأكثرت حمد الله على ذلك وشكرته وأظهرت الشكر والدعاء لأمير المؤمنين، فقال لي عمرو بن مسعدة: أعطنا كفيلا بنفسك حتى تحضر معهم يوم الاثنين وليس بنا حاجة إلى حبسك.
فقلت له: أعزك الله أنا رجل غريب ولست أعرف في هذا البلد أحدا ولا يعرفني من أهله أحد، فمن أين لي من يكفلني، وخاصة مع إظهار مقالتي لو كان الخلق يعرفوني لتبرؤا مني، وهربوا من قربي وأنكروا معرفتي، قال: فنوكل بك من يكون معك حتى يحضك في ذلك اليوم، وتنصرف فتصلح من شأنك وتفكر في أمرك فلعلك أن ترجع عن غيك وتتوب من فعلك
(1/15)
فيصفح أمير المؤمنين عن جرمك، فقلت ذلك إليك أعزك الله فأفعل ما رأيت.
قال عبد العزيز: فوكل بي من يكون معي في منزلي وانصرفت.
... قال عبد العزيز: فلما كان يوم الاثنين، صليت الغداة في مسجدي الذي كان على باب منزلي، فلما فرغت من الصلاة إذ بخليفة عمرو بن مسعدة قد جاء ومعه خلق كثير من الفرسان والرجال فحملوني مكرما على دابة حتى صاروا بي على باب أمير المؤمنين فأوقفوني حتى جاء عمرو بن مسعدة فدخل فجلس في حجرته التي كان يجلس فيها، ثم أذن لي بالدخول عليه فدخلت. فلما صرت بين يديه أجلسني ثم قال لي: أنت مقيم على
(1/16)
ما كنت عليه، أو قد رجعت عنه، فقلت: بل مقيم على ما كنت وقد ازددت بتوفيق الله إياي بصيرة في أمري، فقال لي عمرو: أيها الرجل قد حملت نفسك على أمر عظيم وبلغت الغآية في مكروهها وتعرضت لما لا قوام لك به، من مخالفة أمير المؤمنين أطال الله بقاه، وادعيت ما لا يثبت لك به حجة على مخالفيك ولا لأحد غيرك، وليس وراءك بعد الحجة عليك إلا السيف، فأنظر نفسك وبادر أمرك قبل أن تقع المناظرة، وتظهر عليك الحجة، فلا تنفعك الندامة، ولا تقبل لك معذرة، ولا تقال لك عثرة، فقد رحمتك وأشفقت عليك مما هو نازل بك، وأنا استقبل
(1/17)
أمير المؤمنين أطال الله بقاه وأساله الصفح عن جرمك وعظيم ما كان منك، إن أظهرت الرجوع عنه، والندم على ما كان منك، وآخذ لك الأمان منه أيده الله والجائزة، وإن كانت لك ظلامة أزلتها عنك، وإن كانت لك حاجة قضيتها لك، فإنما جلست رحمة لك مما هو نازل بك بعد ساعة إن أقمت على ما أنت عليه، ورجوت أن يخلصك الله على يدي من عظيم ما أوقعت بنفسك فيه، فقلت له: ما ندمت أعزك الله ولا رجعت، ولا خرجت عن بلدي، وغررت بنفسي إلا في طلب هذا اليوم، وهذا المجلس رجاء أن يبلغني الله ما أؤمل من إقامة الحق فيه، وما توفيقي إلا
(1/18)
بالله عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل.
قال محمد بن الحسن(1) سمعت أبا عبدا لله(2) يقول: قال لي أبي(3) جاء عبد العزيز إلى أبي عبدا لله أحمد بن حنبل رضي الله عنه وهو في الحبس فقال: إن هذا الأمر الذي أنت فيه ليس تطيقه على دقته، فاذكرني فبعث إليه أبو عبد الله أنا قد وقعت، وأخاف أن أذكرك فأشيط بدمك، فيكون قتلك على يدي، فأقتل أنا أحب إلي، فانصرف بسلام.
__________
(1) هو ابن الأزهر.
(2) أبو عبد الله، هو العباس بن محمد بن فرقد.
(3) هو محمد بن فرقد، وهؤلاء جميعاً ورد ذكرهم في إسناد الكتاب.
(1/19)
قال عبد العزيز: فقام عمرو بن مسعدة على رجليه، وقال: قد حرصت في كلامك جهدي، وأنت حريص مجتهد في سفك دمك وقتل نفسك، فقلت له: معونة الله أعظم، والله عز وجل ألطف من أن يسلمني ويكلني إلى نفسي، وعدل أمير المؤمنين أطال الله بقاه أوسع من أن يقصر عني، وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال عبد العزيز: وأمر بي فأخرجت إلى الدهليز الأول، ومعي جماعة موكلون بي، وكان قد تقدم إلى سائر بني هاشم ممن يحضر مجلس أمير المؤمنين أطال الله بقاه، أن يركبوا ووجه إلى الفقهاء والقضاة والموافقين لهم على
(1/20)
مذهبهم. وسائر المتكلمين، والمناظرين أن يحضروا دار أمير المؤمنين، فأمر القواد والأمراء أن يركبوا في السلاح كل ذلك ليرهبوني بهم. ومنع الناس من الانصراف إلى أن ينقضي المجلس، فلما اجتمع الناس وتأهبوا ولم يتخلف منهم أحد ممن يعرفون بالكلام والجدال، أذن لي في الدخول، فلم أزل أنقل من دهليز إلى دهليز حتى صرت إلى الحاجب (صاحب) الستر الذي على باب الصحن، فلما رآني أمر بي فأدخلت إلى حجرته، ودخل معي فقال لي: إن احتجت إلى أن تجدد طهرا فافعل، فقلت: لا حاجة لي بذلك، فقال: صل ركعتين قبل دخولك، فصليت أربع ركعات
(1/21)
ودعوت الله وتضرعت إليه، فلما فرغت، أمر من كان بحجرته فخرج من الحجرة ثم تقدم إلي فقال لي وهو يسارني: يا هذا إن أمير المؤمنين بشر مثلك رجل من ولد آدم، وكذلك كل من يناظرك بحضرته فهو بشر مثلك، فلا تتهيبهم، واجمع فهمك وعقلك لمناظرتهم، وإياك والجزع، واعلم علما يقينا أنه إن ظهرت حجتك عليهم انكسروا وانقطع كلامهم عنك، وأذللتهم وغلبتهم ولم يقدروا على ضر ولا مكروه وصار أمير المؤمنين أطال الله بقاه وسائر الأولياء والرعية معك عليهم، وإن ظهرت حجتهم عليك أذلوك وقتلوك وأشهروك وجعلوك للخلق عبرة، فأجمع همتك
(1/22)
ومعرفتك ولا تدع شيئا مما تحسنه وتحتاج إليه أن تتكلم به خوفا من أمير المؤمنين أو من أحد غيره وتوكل على الله واستخر الله ، وقم فادخل.

فقلت له: جزاك الله خيرا فقد أديت النصيحة وسكنت الروعة وآنست الوحشة، وخرج، وخرجت معه إلى باب الصحن.
قال عبد العزيز: فشال الستر، وأخذ الرجال بيدي وعضدي وجعل أقوام يتعادون بي، وأيديهم في ظهري وعلى عنقي، فجعلت أسمع أمير المؤمنين وهو يقول: خلو عنه خلو عنه، وكثر الضجيج من الحجاب والأولياء بمثل ذلك، فخلي عني وقد كاد عقلي أن يتغير من شدة الجزع وعظيم ما رأيت من ذلك الصحن
(1/23)
من السلاح والرجال، وقد انبسطت الشمس عليهم، وملأ الصحن صفوفا، وكنت قليل الخبرة بدار أمير المؤمنين، ما رأيتها قبل ذلك ولا دخلتها، فلما صرت على باب الإيوان، وقفت هناك فسمعته يقول: قربوه قربوه، فلما دخلت من باب الإيوان وقعت عيني عليه، وقبل ذلك لم أتبينه لما كان على باب الإيوان من الحجاب والقواد، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: أدن مني، فدنوت منه، ثم قال: أدن مني زاده تكرارا، وأنا أدنو منه خطوة خطوة، حتى صرت في الموضع الذي يجلس فيه المناظرون، ويسمع كلامهم، والحاجب معي
(1/24)
يقدمني، فلما انتهيت إلى الموضع. قال لي المأمون: أجلس فجلست.
قال عبد العزيز: فسمعت رجلا من جلسائه يقول وقد دخلت من الإيوان: يا أمير المؤمنين يكفيك من كلام هذا قبح وجهه، لا والله ما أريت خلق الله قط أقبح وجها منه، فسمعته يقول هذا وفهمت كلامه كله ورأيت شخصه على ما بي من الروعة والجزع والخوف، وجعل ينظر إلي وأنا ارتعد وانتفض، فأحب أن يؤنسني وأن يسكن عني ما قد لحقني وأن ينشطني، فجعل يكثر كلام جلسائه ويكلم خليفته عمرو بن مسعدة، ويتكلم بأشياء كثيرة مما لا يحتاج أن يتكلم بها يريد بذلك كله إيناسي، وجعل
(1/25)
يطيل النظر إلى الإيوان، ويدير طرفه فيه، فوقعت عينه على موضع من نقش الجص قد انتفخ، فقال: يا عمرو أما ترى هذا الذي قد انتفخ من هذا النقش، وسيقع فبادره في يومنا هذا، فقال عمرو: قطع الله يد صانعه، فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا.
__________________


[============================]

لو علمتَ ما فعل أهلُ الحديثِ
لسجدتَ للهِ شكراً أن جعلك من هذه الأمة.

فضيلة الشيخ / أبو إسحق الحويني
[============================]
رد مع اقتباس