وقفة اتعاظ من احتضار الطغاة، ...
وقفة اتعاظ من احتضار الطغاة، ..
وصفت سفيتلانا أليلويِيا (Svetlana Alliluyeva)، ابنة ستالين، في مذكراتها "عشرون رسالة إلى صديق"، آخر لحظات أبيها قبل خروج روحه، فكتبت: [..... بدأ وجهه يزداد اسودادًا. وكان نزاعه مع الموت رهيبًا. كان يختنق أمام نظرنا. وفي لحظة، قبل النهاية، فتح فجأة عينيه ليضم بنظره كل من كان حوله. كانت نظرة مخيفة، ما بين الجنون والغضب، وكان الرعب يَمْلأُه أمام الموت وأمام وجوه الأطباء المنحنين فوقه. ... وفجأة، - حصل ما لم أفهمه وما لا أفهمه حتى اليوم من دون قدرتي على نسيانه – رفع يده اليسرى، وكأنه يملي علينا أمرًا ما من فوق، وكأنه يلعننا].
لو اطلعت سفيتلانا أليلويِيا في القرآن و أحاديث الرسول محمد صلى الله عليه و سلم لوجدت تفسيرا محتملا للرعب و الجنون و الغضب الذي بدا على وجه أبيها، فقد وردت آيات عديدة و أحاديث نبوية في كيفية احتضار الكفار و المؤمنين، فالله يقول مثلا: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}(سورة الانعام)، أي، كما ذكر ابن كثير -بتصرف-، ترى الظالمين في سكرات الموت و غمراته و كرباته، و الملائكة محيطة بهم تبشرهم بالعذاب و الجحيم، و تضربهم (بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ) حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ)، تضربهم ضرب الإهانة و الرعب على وجوههم و أدبارهم {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}(سورة محمد)، ....
و إنه و إن كان لا يمكن الجزم بأنه يمكن التعرف عن طريق لمحات وجه المحتضر هل الملائكة تأخذ روحه بعنف أو لطف، و تبشره بالعذاب الأليم و الجحيم أو بجنات النعيم، إلا أن وصف سفيتلانا ستالين الدقيق لما بدا من أبيها عند الحشرجة، و بربط ذلك بما ارتكب ستالين من جرائم عظام في حياته، حيث عذب و قَتَّلَّ الملايين من الابرياء بأبشع الطرق، فإن لمحات الخوف الجنوني الذي بدا على ستالين عند احتضاره و كأنها تخبرنا بتواجد ملائكة شداد مخيفة تنزع النفس منه نزعاً، و كأن ألفاظ و معاني حديث الرسول صلى الله عليه و سلم تأخذ شكلا ملموسا على وجه ستالين و تتجسد في حركاته "... إِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوه،ِ مَعَهُمْ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ. قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ"(رواه أبو داود وأحمد)! ...
ثم بماذا كان يريد ستالين إخبار الحضور من الناس حول سرير موته لما "رفع يده اليسرى، و كأنه يملي عليهم أمرًا ما من فوق، وكأنه يلعنهم" (كما وصفت ابنته)؟ هل هو نداء لهم لينقدوه من ملك الموت؟ ألعنته لهم لأنه ظهر كذبهم و ضعفهم إذ لم يستطيعوا فعل شيئ لمنع نفسه من الخروج و الذهاب الى برزخ العذاب، و من ثم الى جهنم يوم الحساب؟ {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ، فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}(سورة الواقعة)، ... أو لعله (اي ستالين) كان يطلب ربه أن يرجعه للحياة ليقوم بأعمال صالحة تُكَفِّر عنه ما قام به من جرائم، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(سورة المؤمنون)، ... !؟
هكذا كان حال ستالين عند اللحظة صِفْر التي لا مفر لأي انسان منها، لحظة خروج النفس لتنتقل الى عالم البرزخ، عالم يقع بين الحياة الدنيا و الآخرة، عالم الانتظار المروع، ... ما أشده من عذاب نفسي و معنوي، حين تكون تعلم انك في غرفة انتظار تنتظر دورك للتعذيب، و خلال انتظارك تُعرض عليك من حين لآخر صور للمجزة التي ستعذب فيها، و للأدوات التي ستعذب بها، ... ! ... هكذا حال ستالين و أمثاله من الطغاة و الظالمين، ينتظرون في عالم البرزخ، و هم يعلمون من أول لحظة الاحتضار بالعذاب و الخزي الذي بشرتهم به الملائكة، يعلمون أن مصيرهم الى نار جهنم، دار عذابٍ لا يمكن للأحياء تصور أهوالها و عذابها و آلامها، ... و خلال انتظارهم في عالم البرزخ تُعرض عليهم صباح مساء النار التي تنتظرهم {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(سورة غافر)، ... ياله من خسران عظيم! ...
فانْهَى نفسكَ ايها الانسان عن الهوى و وطدها على طاعة الله، إنهها عن هوى الطغيان، هوى العصيان لأمر الله، هوى الظلم للعباد، .. إنهها لتنجو من الموت موتة الطغاة، و من الانتظار في البرزخ انتظار الطغاة، و من المآل الى ما يؤول له الطغاة! ... {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ، يوم يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ، وَبرزت الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ، فَأَمَّا مَنْ طَغَى ، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(سورة النازعات).
... ...
|