معاوية فهمي إبراهيم مصطفى
2019-07-28, 11:11 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-
(( البعد الأنساني للحج أفعل ولا حرج ))
افعل ولا حرج
هكذا كان يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
يوم الحج لأصحابه رضوان الله عليهم،
عندما كانوا يأتون إليه ويقول الواحد منهم،
فعلت كذا يا رسول الله ، ويقول الآخر فعلت كذا يا رسول الله،
فكان جواب الرسول قليل الكلام كثير المعنى،
«افعل ولا حرج»،
كأن الرسول أراد أن يعلم أصحابه أن يكونوا رفقاء رحماء بينهم،
وأراد ان يخفف عليه وعلينا مشقة الحج،
فهذا النُسك يجب أن يحفه الاخلاص لله،
ولا يعكر صفوه التكالب والتزاحم والجدال،
كأن الرسول يريد أن يؤكد معنى الآية الكريمة من سورة البقرة
«الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق
ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير
الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب»
(البقرة/197).
وهنا نلحظ أن الحق قد جمع بين ثلاث كلمات هي
الرفث والفسوق والجدال،
وهذه الكلمات تحمل بين طياتها كل فعل أو سلوك سيئ
يمكن ان يقوم به الإنسان،
والحق سبحانه قد نهى عن كل ذلك
بثلاثة حروف للنهي متعاقبة في الآية الكريمة،
كأن الحق يريد أن يقول لنا لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا،
تشديدا في النهي، حتى ننتهي عن كل ذلك في الحج ولا نفعله،
لأن كل هذه الأفعال والسلوكيات تضر بصاحبها
وتضر بمن حوله من الناس.
والرسالة التي أراد الله ورسوله إيصالها إلينا جميعا،
هي أن نذهب إلى الحج ولا ننسى ما أراد الله ورسوله،
وكثيرا ما نسمع ممن ذهب الى الحج عن التدافع الكبير بين الناس،
والتزاحم لأداء المناسك، ونسى الناس أو تناسوا،
أننا يجب ألا نتزاحم ولا نتصارع للوصول أولا،
فندفع الناس ومنهم كبار السن ومنهم من لا يملك صحة
أو جسما قويا ومنهم النساء والمرضى،
كل هؤلاء يجتمعون في الحج،
فيجب أن نكون رحماء رفقاء على بعضنا البعض،
لأن المعنى الأصيل لكل ما أراد الله ورسوله
يشمل البعد الإنساني قبل كل شيء،
لأنه لا معنى لعبادة تؤذي فيها الناس،
ولا معنى لعبادة تظهر فيها الفاحش والبذيء من الأقوال،
ولا معنى لعبادة يكون فيها الجدل العقيم حاضرا،
الذي لا يفضي الى شيء، بل هو جدل لمجرد الجدل،
ولا فائدة ولا طائل منه،
وكم أناس يذهبون هناك لكي يجادلوا ويفتعلوا المشاكل والقلاقل،
وكل ذلك الله ورسوله منه براء.
وهناك نقطة مهمة نؤكد عليها، هي الزحام والتدافع،
كما قلت آنفا، دائما ما نسمع عن ذلك،
ويقول من ذهب إنه رأى حجاجا يدفعون الناس
لكي يصلوا الى الكعبة أو مكان رمي الجمار
أو غيرهما من الأماكن التي تشهد زحاما،
لماذا ندفع بعضنا بعضا والله ورسوله قد يسرا علينا،
وأرادا لنا الخير؟
فقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم«افعل ولا حرج»
يشمل معنى التيسير، وهذا بدوره يرفع الحرج عن الناس،
ويجعلهم في سكينة وطمأنينة أثناء تأديتهم مناسك الحج،
فلا عجلة ولا تزاحم ولا رفث ولا فسوق ولا جدال،
كل هذا للتخفيف ورفع المشقة، ونسعى الى عكس ذلك،
وننسى أو نتناسى ما أمرنا الله ورسوله به،
فالأمر يحتاج الى وقفة لمراجعة ما نقوم به،
نعم أعداد الحجاج كبيرة، والزحام شديد،
ويقطع الناس آلاف الأميال، ويعانون مشقة السفر،
كل ذلك يجعلنا نفكر فيما نفعل،
فلو كانت السكينة والهدوء في أداء المناسك، لاستراح الحاج وأراح،
وأبعد عن نفسه كل ما يعكر صفو حجه،
ولو استحضرنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم
في الحديث الشريف ما معناه
«من حج فلم يرفث ولم يفسق عاد من حجه كيوم ولدته أمه»
أي بشرى أعظم من ذلك؟
مَنْ منا لا يحب أن يتطهر من الخطايا والذنوب
التي نحملها على كاهلنا كالجبال الراسيات؟
اللهم إنا نسألك أن تجعل حجهم حجا مبرورا،
ونسألك أن تهون عليهم السفر،
ويكونوا ممن أردت لهم الخير،
وممن قبلت حجهم،
ولا تجعلهم ممن يرفثون أو يفسقون أو يجادلون.
نتابع
افعل ولا حرج
وقفات تربوية من مدرسة الحج
فيما تغمر العالم الإسلامي فرحة أيام الحج ومناسكه
التي شرعها الله سبحانه وتعالى تطهيراً ورحمة لعباده،
تنطق الأقلام، وتسطر الحناجر، وقفات إيمانية وروحية وعلمية
وتربوية ، تنهل من مدرسة الحج نماذج وأفكار وعبر كثيرة.
فلا يوجد في الدين الإسلامي ركن أو نهج أو عمل،
إلا وكانت حكمة عظيمة وراءه، دبرها العزيز المنان،
ودروس لا تنتهي:
ومن هذه الوقفات التربوية التي كتبت الكثير من الأقلام عنها
دون أن تستطيع الإحاطة بأقل قليلها، أو تحديد معانيها ومرامها،
الدروس والعبر التي نتعلمها في مدرسة الحج،
وإن شئت فقل "جامعة الحج"،
فهي إشارات وإضاءات تبين روح الإسلام وعظمته.
لا حرج .. لا حرج
تيسيراً لا تعسيراً:
اليسر والسهولة ورفع المشقة سمة من سمات دين الإسلام،
وتظهر صور ذلك بينة في الحج،
ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص
رضي الله عنه عندما وقف النبي صلى الله عليه وسلم
في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه.
قال: ((فما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم
عن شيء قدّم ولا أخّر إلا قال: افعل ولا حرج))،
وكذلك الرخصة لذوي الأعذار
كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم
للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه
أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته،
والإذن للضعفة من النساء والصبيان بالإفاضة من مزدلفة ليلاً
ورمي جمرة العقبة قبل وقتها،
وغير ذلك من شواهد التيسير والبعد عن التعسير على الحجاج،
بل إن التخيير عند الأمر فيه من التيسير والتسهيل الشيء الكبير،
فأنت مخير في حجك بين التمتع والقران والإفراد،
ومخير بين الحلق والتقصير،
ثم أنت مخير في التعجل أو التأخر نهاية الحج،
ولا شك أن هذا درس عظيم لكل داعية ومربٍ ومعلم
وكل مسلم في اتباع التيسير والتخفيف لا التعسير والعنت
والمشقة على الآخرين عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:
(( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)).
■ وقف رسول الله (ص) فى حجة الوداع بمنى،
فجاءه رجل فقال: لم أشعر حلقت قبل أن أذبح..
فقال: اذبح ولا حرج..
وجاءه آخر فقال: لم أشعر نحرت قبل أن أرمى (أى الجمرات)..
فقال: ارمِ ولا حرج..
فما سُئل الرسول عن شىء قدم ولا أخر يومها
إلا قال: «افعل ولا حرج».
■ «افعل ولا حرج»
شعار عظيم يُعد مقصداً من مقاصد الشريعة..
وغاية من غاياتها العظمى.
ورمز لليسر والتيسير فى الإسلام..
إنه رمز للرفق بالناس وعدم التشديد عليهم
فى عباداتهم وفتاواهم وأحوالهم.
■ فهذا رسول الله أعظم الناس إيماناًً
لا يريد أن يشدّد على الناس فى تقديم بعض المناسك أو تأخيرها..
ويهتف بهتاف التيسير على رعيته «افعل ولا حرج»..
ولو اتخذ كل داعية وقائد ومفتٍ ومربٍّ من هذا
القول الجامع شعاراًً له ودثاراًً لصلاح أمر المسلمين.
■ اختاروا الأيسر لأنفسكم وأسركم وأبنائكم
وجماعاتكم ودولكم وشعبكم وأمتكم..
«فما خير رسول الله (ص) بين أمرين
إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً..
فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه»،
تدبروا هذا الحديث العظيم الصحيح
وتأملوا كلمة «إلا اختار أيسرهما»
كان يمكن أن يختار أشدهما أو أحوطهما أو أشقهما..
ولكنه اختار أيسرهما، شريطة ألا يكون فيه إثم أو مخالفة للشريعة.
■ افعل ولا حرج فى كل ما لم يأتِ به نص
وما دامت فيه مصلحة لك أو لأسرتك أو أمتك أو دولتك.
■ افعل ولا حرج ما دام بعيداً عن الإثم والمنكر..
فالأصل فى الأشياء الإباحة سوى العبادات، لأن الأصل فيها الحظر.
■ لو أدرك الحجاج معانى اليسر فى الشريعة
ما حدثت مشكلة واحدة فى الحج..
فهذه الفريضة العظيمة تجمع كل الجنسيات والألوان والأعراق
ويجتمع فيها فى مكان واحد ضيّق قُرابة ستة ملايين مسلم،
منهم المرأة الطفل والقوى والضعيف والحليم والغضوب
ومن يفهم فى الإسلام ومن لا يعرف عنه شيئاً.
■ فكيف يعامل بعضهم بعضاً إلا كما كان يناديهم
الرسول صلى الله عليه وسلم «السكينة السكينة»..
وكيف لا يخاصم بعضهم بعضاً إلا إذا تركوا الجدال،
والتزموا قوله تعالى
«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ
فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ».
■ إن تزاحم الحجاج الذاهبون والعائدون من رمى الجمرات
يؤدى إلى وقوع كثير من الحجاج تحت الأقدام
وموت الكثير من الحجاج .. وكل ذلك نتج عن تمسك بعض الفقهاء
بفتوى قديمة تقول بعدم جواز رمى الجمرات ليلاً،
وأنها ترمى بعد الزوال (أى الظهر) وحتى المغرب،
وهذا وقت قصير، خصوصاً فى الشتاء،
ويتزاحم فيه ملايين الحجاج فى وقت ومكان واحد
فتضيق الصدور وتحدث الكوارث..
وساعتها فقط يتذكر الجميع فقه الأزهر المتجدد،
الذى يبيح رمى الجمرات ليلاً.
■ إن فتوى الرمى ليلاً قال بها كثير من السلف..
ولكن المشكلة كانت فينا نحن أننا نميل إلى التشديد
أو الأخذ بالأشق والأحوط رغم مخالفة ذلك
لهدى النبى العظيم صلى الله عليه وسلم
الذى كان يهتف دائماً «يسّروا ولا تعسروا».
نتابع
إتمام الحج بين (خذوا عني) و(افعل ولا حرج)
إِنَّ مِن شَعَائِرِ اللهِ الَّتي شَرَعَ تَعظِيمَهَا: حَجَّ بَيتِهِ الحَرَامِ،
تِلكُمُ العِبَادَةُ العَظِيمَةُ وَالقُربَةُ الجَلِيلَةُ،
الَّتي يَجِبُ عَلَى مَن أَهَلَّ بها أَن يُتِمَّهَا،
سَوَاءً فَرضًا كَانَ حَجُّهُ أَم نَفلاً،
قَالَ - سُبحَانَهُ : ﴿ وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمرَةَ للهِ ﴾
وَإِنَّ مِن شَرطِ إِتمَامِ الحَجِّ بَعدَ إِخلاصِهِ للهِ - سُبحَانَهُ -
أَن يَكُونَ وِفقًا لِمَا جَاءَ بِهِ مَن أُمِرنَا بِاتِّباعِهِ وَالتَّأَسِّي بِهِ
حَيثُ قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم))؛
إِذْ لا يُمكِنُ أَن يَتَبَيَّنَ مُرَادُ اللهِ مِنَ الأَمرِ بِإِتمَامِ الحَجِّ وَالعُمرَةِ إِلاَّ بِهَذَا،
وَمِن ثَمَّ فَقَد جَعَلَ العُلَمَاءُ الأَصلَ في المَنَاسِكِ التَّوقِيفَ وَالحَظرَ،
فَلا يَأتي الحَاجُّ بِشَيءٍ يَتَعَبَّدُ بِهِ إِلاَّ مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ
- عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - فَعَلَهُ،
وَلا يَترُكُ شَيئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ تَرَخُّصًا إِلاَّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ،
يُقَالُ ذَلِكَ في كُلِّ فِعلٍ مِن أَفعَالِ الحَجِّ، مِن جِهَةِ ابتِدَائِهِ وَانتِهَائِهِ،
وَمِن جِهَةِ كَيفِيَّتِهِ وَصِفَتِهِ، وَمِن جِهَةِ عَدَدِهِ وَمَا يَجِبُ فِيهِ.
ولعل الشعار الأكبر الذي يُرْفع في موسم الحج هو:
"خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"،
النسائي (4016)، والبيهقي: السنن الكبرى، (9307)
وإسناده صحيح
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكثير من المناسك لا نعلم الحكمة من ورائها، إنما هي توقيفيَّة؛
بمعنى أنه لا اجتهاد فيها، إنما نفعلها فقط تقليدًا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعًا لسُنَّته،
وهذا هو أحد المقاصد الكبرى للحج أو العمرة،
فنحن نتعلَّم فيهما كيف نتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
دون جدل أو نقاش؛ وذلك كما يقول الله عز وجل:
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
[النساء: 65].
فهذه التربية أحد أهمِّ مقاصد الحج أو العمرة؛
ومن ثَمَّ وجب علينا أن نحرص على معرفة
سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المناسك؛
حتى يتحقَّق هذا المقصود.
ولقد وضحت هذه الرؤية تمامًا لنا من موقفين
رأيناهما من الفاروق عمر -رضي الله عنه-
يكشف لنا أهمية الاتباع في هذه المناسك؛
الموقف الأول
فقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
أنه عندما استلم الحجر الأسود قال:
"أَمَا وَاللهِ! إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ
وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ"
البخاري (1528)، ومسلم (1270).
فهو هنا يكشف لنا عن نيته الواضحة في استلام الحجر،
وهي اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم،
حتى وإن لم يظهر له معنى معين، أو غاية محدَّدة.
والموقف الثاني
عندما ناقش مع نفسه مسألة "الرمل" في الأشواط الثلاثة الأولى
من طواف القدوم، فهذا الرمل -وهو الجري بخطوات متقاربة
وكأنها الخطوات العسكرية- قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم
المسلمين في عمرة القضاء؛ ليُثبت للمشركين الذين كانوا يحكمون
مكة آنذاك أن المسلمين ليس بهم مرض ولا وهن،
وكانت هناك إشاعة قد سرت في مكة؛ أن الضعف قد أصاب
المسلمين من جوِّ المدينة، فكان هذا هو الهدف من الرمل.
فرأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في زمان إمارته
أن الهدف الذي من أجله أُمروا بالرمل قد انتهى،
وصارت مكة إسلاميَّة؛ ومن ثَمَّ فيمكن تركه،
فقال:
"فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ؛ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ المُشْرِكِينَ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللهُ".
ولكنه عاد إلى أصل الاتباع وقال في خضوع:
"شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلاَ نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ"
البخاري (1528).
ويبرز لنا هكذا أن رحلة الحج أو العمرة ينبغي أن تكون
متوافقة مع سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
حتى تكون رحلة مقبولة بإذن الله.
ولكن هنا يبرز سؤال في غاية الأهمية،
وهو ماذا نعني بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
يُخطئ كثير من الناس عندما يظنون
أن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم
مقصورة على الأعمال التي قام بها
هو صلى الله عليه وسلم في حجته العظيمة
من العام العاشر من الهجرة؛
لأن الواقع أن مفهوم السُّنَّة أوسع من ذلك!
فالسُّنَّة كما يقول علماء الأصول:
هي كل قول أو فعل أو تقرير للرسول صلى الله عليه وسلم
فهي بذلك أشياء متعددة؛
(ابن عثيمين: مصطلح الحديث ص5 )
* فالرسول فعل شيئًا ما في حجه أو عمرته فصار هذا سُنَّة،
* وقال شيئًا آخر وإن لم يفعله، فصار هذا سُنَّة كذلك،
* ورأى بعضَ الصحابة يفعلون أمرًا فأقرَّهم عليه؛
فصار هذا سُنَّة -أيضًا- مع أنه لم يقله ولم يفعله.
* بل لا يُشترط أن يكون الإقرار بالتأييد أو الترحيب،
إنما يكفي السكوت؛ لأنه لن يسكت على باطل صلى الله عليه وسلم؛
ومن ثَمَّ لو سكت صار هذا بمنزلة الرضا منه،
ومن هنا صار سُنَّة كذلك.
ومن هنا فقد تتعدَّد صور السُّنَّة في المنسك الواحد،
وكل هذه الصور محمودة، وكلها نُؤجر عليها،
ولا مجال هنا للتلاوم بين الناس على فعل أمر دون أمر آخر،
فكل هذا داخل في إطار السُّنَّة.
* فعلى سبيل المثال،
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
بأفعال معينة يوم النحر مُرَتَّبة بترتيب خاصٍّ؛
فقد رمى ثم نحر ثم حلق ثم طاف طواف الإفاضة؛
فهذا فعله صلى الله عليه وسلم،
لكنه "قال" في الوقت نفسه لمَنْ عكس الترتيب:
"افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ"
البخاري (124)، ومسلم (1306)
فصار عكس الترتيب بهذا صورة من صور السُّنَّة،
وليس كما يظنُّ البعض صورة من صور
مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم،
وهو بذلك فعلٌ محمودٌ يُثاب عليه المرء،
ولا ينبغي أن ينظر إليه أحدٌ على أنه تنازل عن السُّنَّة،
فيُسمح به ولكنه غير مأجور،
فالواقع أنه صار بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم
من صميم السُّنَّة.
* ومثال آخر لتوضيح الصورة..
فقد بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة النحر
في المزدلفة حتى الصبح، ثم صلَّى الصبح،
ومكث عند المشعر الحرام يدعو حتى أسفر النهار جدًّا،
فانطلق إلى منى ليرمي الجمار،
لكنه في الوقت نفسه سمح لضعفة المسلمين
بالمغادرة بعد نصف الليل إلى الرمي،
فصارت المغادرة لهؤلاء الضعفة، ولمَنْ يرعى أمورهم،
ولصحبتهم التي لا تستطيع مفارقتهم،
صارت هذه المغادرة (سُنّة) عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يفعلها،
وصار المغادرون مأجورين على هذه المغادرة؛
لأنها حققت مصلحة معينة أقرَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو أدركنا هذه المعاني لقلَّت -إلى حدٍّ كبير-
الجدالات والمناظرات التي تقوم بين الحجاج
للوصول إلى أفضل الأعمال،
وقد ينتج عن هذه المناظرات خصومة وشقاق،
بينما الجميع في إطار السُّنَّة وهم لا يُدركون!
ولعلَّ أحد السائلين يتعجَّب من وجود
صور مختلفة للسُّنَّة في المنسك الواحد،
ولكن حقيقة الأمر أن هذا لون من ألوان الرحمة
في التشريع الإسلامي،
فهذا يجعل المنسك ميسَّرًا على كل الطاقات، وفي كل الظروف؛
فهذا يُناسبه أمر، وآخر يناسبه أمر غيره،
وهذه السعة والمرونة من أبرز مظاهر الرحمة في الشريعة
الإسلامية، كما أن هذا يُؤَدِّي إلى سهولة في استيعاب الأعداد
الهائلة في موسم الحج والعمرة.
ولك أن تتخيَّل أن الملايين التي تحج
سارت في حجِّها ككتلة واحدة في زمن واحد، في مكان واحد!
فإن هذا -لا شكَّ- سيقود إلى مهالك وكوارث،
لكن الله عز وجل ألقى في قلوب البعض أن يذهبوا إلى الرمي
في الوقت الذي ينحر فيه آخرون، ويحلق فريق ثالث،
بينما يذهب فريق رابع إلى الإفاضة والسعي..
وهكذا يحدث التقسيم الذي يُؤَدِّي إلى سلاسة الحجِّ،
وكل هؤلاء متوافقون مع السُّنَّة غير مفرطين،
وكلهم مأجور بإذن الله.
فما أروع هذا الدين! وما أرقى هذه الشريعة!
نتابع
شرح حديث .. افعل ولا حرج
يختلف الحج عن غيره من العبادات في بعض مباني القواعد الفقهية؛
إذ من المعلوم أن ترك واجب أو ركن عمداً في أي عبادة يبطلها،
وهذا مما يختلف فيه الحج عن غيره؛
فإن ترْك واجبٍ من واجبات الحج، أو ركن من أركانه لا يبطله،
حتى لو كان ذلك الترك عمداً،
وإنما يلزم بهذا الترك ما يلزم لتصحيح الحج أو الخروج منه،
إضافة إلى اختلافات أخرى ذكرها أهل العلم في هذا السياق.
واستناداً إلى ما تقدم، نحاول قراءة وفهم الحديثين التاليين،
وما جاء في معناهما من أحاديث:
الأول :
ثبت في "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه،
فجاءه رجل فقال: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح،
فقال: (اذبح ولا حرج)،
فجاء آخر فقال: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمي،
قال: (ارمِ ولا حرج)
فما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر
إلا قال: (افعل ولا حرج)
رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية ثانية،
أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم النحر،
فقام إليه رجل، فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا،
ثم قام آخر، فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا،
حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (افعل ولا حرج) لهن كلهن،
فما سُئل يومئذ عن شيء إلا قال: (افعل ولا حرج)
رواه البخاري ومسلم.
شرح مفردات الأحاديث :
* قول السائل: (لم أشعر) أي: لم أفطن، يقال: شعرت بالشيء شعوراً
إذا فطنت له؛ والشعور: هو العلم، وعلى هذا يكون المعنى: لم أعلم.
* قوله صلى الله عليه وسلم: (عن شيء) أي: مما هو من أعمال يوم
النحر، وهي: رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (افعل ولا حرج) معناه: افعل ما بقي
عليك، وقد أجزأك ما فعلته، ولا حرج عليك في التقديم والتأخير.
ما أفادته الأحاديث
موضوع هذه الأحاديث ورد في روايات مختلفة، وبصور مختلفة.
والمستفاد من مذاهب أهل العلم في فقه هذه الأحاديث أنها واردة في
أعمال يوم النحر خاصة، إذ جميع الروايات على اختلاف ألفاظها،
وردت بخصوص أعمال هذا اليوم، إذ في هذا اليوم -يوم النحر-
تكون أكثر أعمال الحج، فيكون فيه :
1- رمي جمرة العقبة (الكبرى)،
2- ونحر الهدي،
3- والحلق أو التقصير،
4- وطواف الإفاضة ؛
وعليه فلا تفيد مجمل هذه الأحاديث رفع الحرج في التقديم أو التأخير
في أعمال الحج كافة ؛
* فلا يصح مثلاً رمي الجمار قبل وقوف عرفة،
* ولا يصح طواف الإفاضة قبل الوقوف،
* ولا السعي للمتمتع قبل طواف الإفاضة كذلك.
والسنة المتفق عليها في ترتيب أعمال يوم النحر، هي:
* رمي جمرة العقبة،
* ثم نحر الهدي أو ذبحه،
* ثم الحلق أو التقصير،
* ثم طواف الإفاضة ؛
وقد أجمع العلماء على استحباب هذا الترتيب.
وأجمعوا كذلك على أن من قدم أو أخر شيئًا من أعمال يوم النحر،
فإنه يجزئه ذلك، ويصح منه،
بيد أنهم اختلفوا في وجوب الكفارة عليه،
فأوجبها بعضهم، ولم يوجبها آخرون.
والذي ذهب إليه جمهور أهل العلم
أنه لا شيء على من حلق قبل أن يرمي،
ولا على من قدم شيئًا أو أخره ساهيًا أو جاهلاً،
أو حتى متعمدًا مما يُفعل يوم النحر.
وقد رُويَ عن الحسن وطاوس أنهما قالا:
لا شيء على من حلق قبل أن يرمي؛
ورويَ عن عطاء بن أبي رباح قوله:
من قدَّم نسكًا قبل نسك فلا حرج.
ويؤيد قول الجمهور القائلين بعدم وجوب ترتيب أعمال يوم النحر،
قوله صلى الله عليه وسلم: (افعل ولا حرج)
إذ لو كان الحديث لرفع الإثم عن الساهي والجاهل فحسب،
لما كان له معنى حينئذ؛
لأن كل عبادة واجبة يتركها الإنسان، نسياناً أو جهلاً،
فإنه لا إثم عليه بتركها، وإن كان مطالباً بتعويض
ما أخلَّ فيه وقصَّر بحسب كل عبادة؛
بخلاف العامد، فإنه مع مطالبته بتعويض الخلل والنقص،
يلحقه الإثم لتركه الواجب أو الركن عمداً.
فإذا تبيَّن هذا،
علمنا أن قوله صلى الله عليه وسلم: (افعل ولا حرج)
لا يفيد فقط رفع الإثم عمن أخلَّ بترتيب أعمال يوم النحر،
سهواً أو جهلاً؛ إذ إن هذا معلوم في مبادئ الشريعة،
كما أنه غير مختص بأعمال يوم النحر،
بل يشمل كل من أخلَّ بعمل من أعمال الحج سهواً أو جهلاً،
فلا إثم عليه، وإن كان يجب عليه تدارك ذلك الخلل الحاصل،
بحسب ما جاء في الشريعة، كما سبق.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:
(افعل ولا حرج) يفيد أمراً زائداً على مجرد رفع الإثم،
وهو رفع ما يترتب على الإخلال بترتيب أعمال يوم النحر؛
فلا يجب على من أخلَّ بترتيب أعمال ذلك اليوم فدية
أو بدل أو غير ذلك، وإذا لم يلزم من الإخلال بهذا الترتيب شيء،
فإنه يستوي فيه العامد والساهي والجاهل؛
لأن الترتيب لو كان واجباً لكان من باب المأمورات الشرعية
التي لا تسقط بالنسيان أو الجهل.
وبه يُعلم أن الحديث دالٌ على سنية الترتيب في أعمال يوم النحر،
وأن الأفضل الإتيان بها وفق الترتيب النبوي،
ولا يلزم في ترك هذا الترتيب شيء.
أما ما جاء في بعض الروايات من كون السائل
كان جاهلاً بأحكام الحج،
فإن هذا لا يفيد أن رفع الحرج خاص بحالة الجهل؛
لأن وصف السائل بالجهل إنما كان لبيان
الواقع الذي حصل فيه السؤال،
وهو لا يفيد تقييد الحكم وقصره على تلك الحالة دون غيرها.
ومهما يكن، فإن هذا الحديث برواياته المختلفة والمتعددة،
يُعدُّ أصلاً في فقه أحكام الحج عموماً،
كما يعد دليلاً قويًّا في تصحيح كثير من أعمال الحج
التي تعرض وتطرأ لحجَّاج بيت الله الحرام خصوصاً؛
ففي الحديث فسحة وسعة من الأمر،
وهو ما يدل على يُسر هذه الشريعة،
وقصدها رفع الحرج عن العباد.
وصدق الله إذ يقول في محكم تنـزيله:
{وما جعل عليكم في الدين من حرج}
(الحج:87).
تقبل الله من الحجاج حجهم
وأرجعهم إلى أهاليهم سالمين غانمين
ومن العايدين وكل عام وأنتم بخير.
§§§§§§§§§§§§§§§
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-
(( البعد الأنساني للحج أفعل ولا حرج ))
افعل ولا حرج
هكذا كان يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
يوم الحج لأصحابه رضوان الله عليهم،
عندما كانوا يأتون إليه ويقول الواحد منهم،
فعلت كذا يا رسول الله ، ويقول الآخر فعلت كذا يا رسول الله،
فكان جواب الرسول قليل الكلام كثير المعنى،
«افعل ولا حرج»،
كأن الرسول أراد أن يعلم أصحابه أن يكونوا رفقاء رحماء بينهم،
وأراد ان يخفف عليه وعلينا مشقة الحج،
فهذا النُسك يجب أن يحفه الاخلاص لله،
ولا يعكر صفوه التكالب والتزاحم والجدال،
كأن الرسول يريد أن يؤكد معنى الآية الكريمة من سورة البقرة
«الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق
ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير
الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب»
(البقرة/197).
وهنا نلحظ أن الحق قد جمع بين ثلاث كلمات هي
الرفث والفسوق والجدال،
وهذه الكلمات تحمل بين طياتها كل فعل أو سلوك سيئ
يمكن ان يقوم به الإنسان،
والحق سبحانه قد نهى عن كل ذلك
بثلاثة حروف للنهي متعاقبة في الآية الكريمة،
كأن الحق يريد أن يقول لنا لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا،
تشديدا في النهي، حتى ننتهي عن كل ذلك في الحج ولا نفعله،
لأن كل هذه الأفعال والسلوكيات تضر بصاحبها
وتضر بمن حوله من الناس.
والرسالة التي أراد الله ورسوله إيصالها إلينا جميعا،
هي أن نذهب إلى الحج ولا ننسى ما أراد الله ورسوله،
وكثيرا ما نسمع ممن ذهب الى الحج عن التدافع الكبير بين الناس،
والتزاحم لأداء المناسك، ونسى الناس أو تناسوا،
أننا يجب ألا نتزاحم ولا نتصارع للوصول أولا،
فندفع الناس ومنهم كبار السن ومنهم من لا يملك صحة
أو جسما قويا ومنهم النساء والمرضى،
كل هؤلاء يجتمعون في الحج،
فيجب أن نكون رحماء رفقاء على بعضنا البعض،
لأن المعنى الأصيل لكل ما أراد الله ورسوله
يشمل البعد الإنساني قبل كل شيء،
لأنه لا معنى لعبادة تؤذي فيها الناس،
ولا معنى لعبادة تظهر فيها الفاحش والبذيء من الأقوال،
ولا معنى لعبادة يكون فيها الجدل العقيم حاضرا،
الذي لا يفضي الى شيء، بل هو جدل لمجرد الجدل،
ولا فائدة ولا طائل منه،
وكم أناس يذهبون هناك لكي يجادلوا ويفتعلوا المشاكل والقلاقل،
وكل ذلك الله ورسوله منه براء.
وهناك نقطة مهمة نؤكد عليها، هي الزحام والتدافع،
كما قلت آنفا، دائما ما نسمع عن ذلك،
ويقول من ذهب إنه رأى حجاجا يدفعون الناس
لكي يصلوا الى الكعبة أو مكان رمي الجمار
أو غيرهما من الأماكن التي تشهد زحاما،
لماذا ندفع بعضنا بعضا والله ورسوله قد يسرا علينا،
وأرادا لنا الخير؟
فقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم«افعل ولا حرج»
يشمل معنى التيسير، وهذا بدوره يرفع الحرج عن الناس،
ويجعلهم في سكينة وطمأنينة أثناء تأديتهم مناسك الحج،
فلا عجلة ولا تزاحم ولا رفث ولا فسوق ولا جدال،
كل هذا للتخفيف ورفع المشقة، ونسعى الى عكس ذلك،
وننسى أو نتناسى ما أمرنا الله ورسوله به،
فالأمر يحتاج الى وقفة لمراجعة ما نقوم به،
نعم أعداد الحجاج كبيرة، والزحام شديد،
ويقطع الناس آلاف الأميال، ويعانون مشقة السفر،
كل ذلك يجعلنا نفكر فيما نفعل،
فلو كانت السكينة والهدوء في أداء المناسك، لاستراح الحاج وأراح،
وأبعد عن نفسه كل ما يعكر صفو حجه،
ولو استحضرنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم
في الحديث الشريف ما معناه
«من حج فلم يرفث ولم يفسق عاد من حجه كيوم ولدته أمه»
أي بشرى أعظم من ذلك؟
مَنْ منا لا يحب أن يتطهر من الخطايا والذنوب
التي نحملها على كاهلنا كالجبال الراسيات؟
اللهم إنا نسألك أن تجعل حجهم حجا مبرورا،
ونسألك أن تهون عليهم السفر،
ويكونوا ممن أردت لهم الخير،
وممن قبلت حجهم،
ولا تجعلهم ممن يرفثون أو يفسقون أو يجادلون.
نتابع
افعل ولا حرج
وقفات تربوية من مدرسة الحج
فيما تغمر العالم الإسلامي فرحة أيام الحج ومناسكه
التي شرعها الله سبحانه وتعالى تطهيراً ورحمة لعباده،
تنطق الأقلام، وتسطر الحناجر، وقفات إيمانية وروحية وعلمية
وتربوية ، تنهل من مدرسة الحج نماذج وأفكار وعبر كثيرة.
فلا يوجد في الدين الإسلامي ركن أو نهج أو عمل،
إلا وكانت حكمة عظيمة وراءه، دبرها العزيز المنان،
ودروس لا تنتهي:
ومن هذه الوقفات التربوية التي كتبت الكثير من الأقلام عنها
دون أن تستطيع الإحاطة بأقل قليلها، أو تحديد معانيها ومرامها،
الدروس والعبر التي نتعلمها في مدرسة الحج،
وإن شئت فقل "جامعة الحج"،
فهي إشارات وإضاءات تبين روح الإسلام وعظمته.
لا حرج .. لا حرج
تيسيراً لا تعسيراً:
اليسر والسهولة ورفع المشقة سمة من سمات دين الإسلام،
وتظهر صور ذلك بينة في الحج،
ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص
رضي الله عنه عندما وقف النبي صلى الله عليه وسلم
في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه.
قال: ((فما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم
عن شيء قدّم ولا أخّر إلا قال: افعل ولا حرج))،
وكذلك الرخصة لذوي الأعذار
كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم
للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه
أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته،
والإذن للضعفة من النساء والصبيان بالإفاضة من مزدلفة ليلاً
ورمي جمرة العقبة قبل وقتها،
وغير ذلك من شواهد التيسير والبعد عن التعسير على الحجاج،
بل إن التخيير عند الأمر فيه من التيسير والتسهيل الشيء الكبير،
فأنت مخير في حجك بين التمتع والقران والإفراد،
ومخير بين الحلق والتقصير،
ثم أنت مخير في التعجل أو التأخر نهاية الحج،
ولا شك أن هذا درس عظيم لكل داعية ومربٍ ومعلم
وكل مسلم في اتباع التيسير والتخفيف لا التعسير والعنت
والمشقة على الآخرين عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:
(( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)).
■ وقف رسول الله (ص) فى حجة الوداع بمنى،
فجاءه رجل فقال: لم أشعر حلقت قبل أن أذبح..
فقال: اذبح ولا حرج..
وجاءه آخر فقال: لم أشعر نحرت قبل أن أرمى (أى الجمرات)..
فقال: ارمِ ولا حرج..
فما سُئل الرسول عن شىء قدم ولا أخر يومها
إلا قال: «افعل ولا حرج».
■ «افعل ولا حرج»
شعار عظيم يُعد مقصداً من مقاصد الشريعة..
وغاية من غاياتها العظمى.
ورمز لليسر والتيسير فى الإسلام..
إنه رمز للرفق بالناس وعدم التشديد عليهم
فى عباداتهم وفتاواهم وأحوالهم.
■ فهذا رسول الله أعظم الناس إيماناًً
لا يريد أن يشدّد على الناس فى تقديم بعض المناسك أو تأخيرها..
ويهتف بهتاف التيسير على رعيته «افعل ولا حرج»..
ولو اتخذ كل داعية وقائد ومفتٍ ومربٍّ من هذا
القول الجامع شعاراًً له ودثاراًً لصلاح أمر المسلمين.
■ اختاروا الأيسر لأنفسكم وأسركم وأبنائكم
وجماعاتكم ودولكم وشعبكم وأمتكم..
«فما خير رسول الله (ص) بين أمرين
إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً..
فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه»،
تدبروا هذا الحديث العظيم الصحيح
وتأملوا كلمة «إلا اختار أيسرهما»
كان يمكن أن يختار أشدهما أو أحوطهما أو أشقهما..
ولكنه اختار أيسرهما، شريطة ألا يكون فيه إثم أو مخالفة للشريعة.
■ افعل ولا حرج فى كل ما لم يأتِ به نص
وما دامت فيه مصلحة لك أو لأسرتك أو أمتك أو دولتك.
■ افعل ولا حرج ما دام بعيداً عن الإثم والمنكر..
فالأصل فى الأشياء الإباحة سوى العبادات، لأن الأصل فيها الحظر.
■ لو أدرك الحجاج معانى اليسر فى الشريعة
ما حدثت مشكلة واحدة فى الحج..
فهذه الفريضة العظيمة تجمع كل الجنسيات والألوان والأعراق
ويجتمع فيها فى مكان واحد ضيّق قُرابة ستة ملايين مسلم،
منهم المرأة الطفل والقوى والضعيف والحليم والغضوب
ومن يفهم فى الإسلام ومن لا يعرف عنه شيئاً.
■ فكيف يعامل بعضهم بعضاً إلا كما كان يناديهم
الرسول صلى الله عليه وسلم «السكينة السكينة»..
وكيف لا يخاصم بعضهم بعضاً إلا إذا تركوا الجدال،
والتزموا قوله تعالى
«الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ
فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ».
■ إن تزاحم الحجاج الذاهبون والعائدون من رمى الجمرات
يؤدى إلى وقوع كثير من الحجاج تحت الأقدام
وموت الكثير من الحجاج .. وكل ذلك نتج عن تمسك بعض الفقهاء
بفتوى قديمة تقول بعدم جواز رمى الجمرات ليلاً،
وأنها ترمى بعد الزوال (أى الظهر) وحتى المغرب،
وهذا وقت قصير، خصوصاً فى الشتاء،
ويتزاحم فيه ملايين الحجاج فى وقت ومكان واحد
فتضيق الصدور وتحدث الكوارث..
وساعتها فقط يتذكر الجميع فقه الأزهر المتجدد،
الذى يبيح رمى الجمرات ليلاً.
■ إن فتوى الرمى ليلاً قال بها كثير من السلف..
ولكن المشكلة كانت فينا نحن أننا نميل إلى التشديد
أو الأخذ بالأشق والأحوط رغم مخالفة ذلك
لهدى النبى العظيم صلى الله عليه وسلم
الذى كان يهتف دائماً «يسّروا ولا تعسروا».
نتابع
إتمام الحج بين (خذوا عني) و(افعل ولا حرج)
إِنَّ مِن شَعَائِرِ اللهِ الَّتي شَرَعَ تَعظِيمَهَا: حَجَّ بَيتِهِ الحَرَامِ،
تِلكُمُ العِبَادَةُ العَظِيمَةُ وَالقُربَةُ الجَلِيلَةُ،
الَّتي يَجِبُ عَلَى مَن أَهَلَّ بها أَن يُتِمَّهَا،
سَوَاءً فَرضًا كَانَ حَجُّهُ أَم نَفلاً،
قَالَ - سُبحَانَهُ : ﴿ وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمرَةَ للهِ ﴾
وَإِنَّ مِن شَرطِ إِتمَامِ الحَجِّ بَعدَ إِخلاصِهِ للهِ - سُبحَانَهُ -
أَن يَكُونَ وِفقًا لِمَا جَاءَ بِهِ مَن أُمِرنَا بِاتِّباعِهِ وَالتَّأَسِّي بِهِ
حَيثُ قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُم))؛
إِذْ لا يُمكِنُ أَن يَتَبَيَّنَ مُرَادُ اللهِ مِنَ الأَمرِ بِإِتمَامِ الحَجِّ وَالعُمرَةِ إِلاَّ بِهَذَا،
وَمِن ثَمَّ فَقَد جَعَلَ العُلَمَاءُ الأَصلَ في المَنَاسِكِ التَّوقِيفَ وَالحَظرَ،
فَلا يَأتي الحَاجُّ بِشَيءٍ يَتَعَبَّدُ بِهِ إِلاَّ مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ
- عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - فَعَلَهُ،
وَلا يَترُكُ شَيئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ تَرَخُّصًا إِلاَّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ،
يُقَالُ ذَلِكَ في كُلِّ فِعلٍ مِن أَفعَالِ الحَجِّ، مِن جِهَةِ ابتِدَائِهِ وَانتِهَائِهِ،
وَمِن جِهَةِ كَيفِيَّتِهِ وَصِفَتِهِ، وَمِن جِهَةِ عَدَدِهِ وَمَا يَجِبُ فِيهِ.
ولعل الشعار الأكبر الذي يُرْفع في موسم الحج هو:
"خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"،
النسائي (4016)، والبيهقي: السنن الكبرى، (9307)
وإسناده صحيح
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكثير من المناسك لا نعلم الحكمة من ورائها، إنما هي توقيفيَّة؛
بمعنى أنه لا اجتهاد فيها، إنما نفعلها فقط تقليدًا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعًا لسُنَّته،
وهذا هو أحد المقاصد الكبرى للحج أو العمرة،
فنحن نتعلَّم فيهما كيف نتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
دون جدل أو نقاش؛ وذلك كما يقول الله عز وجل:
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
[النساء: 65].
فهذه التربية أحد أهمِّ مقاصد الحج أو العمرة؛
ومن ثَمَّ وجب علينا أن نحرص على معرفة
سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المناسك؛
حتى يتحقَّق هذا المقصود.
ولقد وضحت هذه الرؤية تمامًا لنا من موقفين
رأيناهما من الفاروق عمر -رضي الله عنه-
يكشف لنا أهمية الاتباع في هذه المناسك؛
الموقف الأول
فقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
أنه عندما استلم الحجر الأسود قال:
"أَمَا وَاللهِ! إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ
وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ"
البخاري (1528)، ومسلم (1270).
فهو هنا يكشف لنا عن نيته الواضحة في استلام الحجر،
وهي اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم،
حتى وإن لم يظهر له معنى معين، أو غاية محدَّدة.
والموقف الثاني
عندما ناقش مع نفسه مسألة "الرمل" في الأشواط الثلاثة الأولى
من طواف القدوم، فهذا الرمل -وهو الجري بخطوات متقاربة
وكأنها الخطوات العسكرية- قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم
المسلمين في عمرة القضاء؛ ليُثبت للمشركين الذين كانوا يحكمون
مكة آنذاك أن المسلمين ليس بهم مرض ولا وهن،
وكانت هناك إشاعة قد سرت في مكة؛ أن الضعف قد أصاب
المسلمين من جوِّ المدينة، فكان هذا هو الهدف من الرمل.
فرأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في زمان إمارته
أن الهدف الذي من أجله أُمروا بالرمل قد انتهى،
وصارت مكة إسلاميَّة؛ ومن ثَمَّ فيمكن تركه،
فقال:
"فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ؛ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ المُشْرِكِينَ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللهُ".
ولكنه عاد إلى أصل الاتباع وقال في خضوع:
"شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلاَ نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ"
البخاري (1528).
ويبرز لنا هكذا أن رحلة الحج أو العمرة ينبغي أن تكون
متوافقة مع سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
حتى تكون رحلة مقبولة بإذن الله.
ولكن هنا يبرز سؤال في غاية الأهمية،
وهو ماذا نعني بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
يُخطئ كثير من الناس عندما يظنون
أن سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم
مقصورة على الأعمال التي قام بها
هو صلى الله عليه وسلم في حجته العظيمة
من العام العاشر من الهجرة؛
لأن الواقع أن مفهوم السُّنَّة أوسع من ذلك!
فالسُّنَّة كما يقول علماء الأصول:
هي كل قول أو فعل أو تقرير للرسول صلى الله عليه وسلم
فهي بذلك أشياء متعددة؛
(ابن عثيمين: مصطلح الحديث ص5 )
* فالرسول فعل شيئًا ما في حجه أو عمرته فصار هذا سُنَّة،
* وقال شيئًا آخر وإن لم يفعله، فصار هذا سُنَّة كذلك،
* ورأى بعضَ الصحابة يفعلون أمرًا فأقرَّهم عليه؛
فصار هذا سُنَّة -أيضًا- مع أنه لم يقله ولم يفعله.
* بل لا يُشترط أن يكون الإقرار بالتأييد أو الترحيب،
إنما يكفي السكوت؛ لأنه لن يسكت على باطل صلى الله عليه وسلم؛
ومن ثَمَّ لو سكت صار هذا بمنزلة الرضا منه،
ومن هنا صار سُنَّة كذلك.
ومن هنا فقد تتعدَّد صور السُّنَّة في المنسك الواحد،
وكل هذه الصور محمودة، وكلها نُؤجر عليها،
ولا مجال هنا للتلاوم بين الناس على فعل أمر دون أمر آخر،
فكل هذا داخل في إطار السُّنَّة.
* فعلى سبيل المثال،
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
بأفعال معينة يوم النحر مُرَتَّبة بترتيب خاصٍّ؛
فقد رمى ثم نحر ثم حلق ثم طاف طواف الإفاضة؛
فهذا فعله صلى الله عليه وسلم،
لكنه "قال" في الوقت نفسه لمَنْ عكس الترتيب:
"افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ"
البخاري (124)، ومسلم (1306)
فصار عكس الترتيب بهذا صورة من صور السُّنَّة،
وليس كما يظنُّ البعض صورة من صور
مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم،
وهو بذلك فعلٌ محمودٌ يُثاب عليه المرء،
ولا ينبغي أن ينظر إليه أحدٌ على أنه تنازل عن السُّنَّة،
فيُسمح به ولكنه غير مأجور،
فالواقع أنه صار بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم
من صميم السُّنَّة.
* ومثال آخر لتوضيح الصورة..
فقد بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة النحر
في المزدلفة حتى الصبح، ثم صلَّى الصبح،
ومكث عند المشعر الحرام يدعو حتى أسفر النهار جدًّا،
فانطلق إلى منى ليرمي الجمار،
لكنه في الوقت نفسه سمح لضعفة المسلمين
بالمغادرة بعد نصف الليل إلى الرمي،
فصارت المغادرة لهؤلاء الضعفة، ولمَنْ يرعى أمورهم،
ولصحبتهم التي لا تستطيع مفارقتهم،
صارت هذه المغادرة (سُنّة) عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يفعلها،
وصار المغادرون مأجورين على هذه المغادرة؛
لأنها حققت مصلحة معينة أقرَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو أدركنا هذه المعاني لقلَّت -إلى حدٍّ كبير-
الجدالات والمناظرات التي تقوم بين الحجاج
للوصول إلى أفضل الأعمال،
وقد ينتج عن هذه المناظرات خصومة وشقاق،
بينما الجميع في إطار السُّنَّة وهم لا يُدركون!
ولعلَّ أحد السائلين يتعجَّب من وجود
صور مختلفة للسُّنَّة في المنسك الواحد،
ولكن حقيقة الأمر أن هذا لون من ألوان الرحمة
في التشريع الإسلامي،
فهذا يجعل المنسك ميسَّرًا على كل الطاقات، وفي كل الظروف؛
فهذا يُناسبه أمر، وآخر يناسبه أمر غيره،
وهذه السعة والمرونة من أبرز مظاهر الرحمة في الشريعة
الإسلامية، كما أن هذا يُؤَدِّي إلى سهولة في استيعاب الأعداد
الهائلة في موسم الحج والعمرة.
ولك أن تتخيَّل أن الملايين التي تحج
سارت في حجِّها ككتلة واحدة في زمن واحد، في مكان واحد!
فإن هذا -لا شكَّ- سيقود إلى مهالك وكوارث،
لكن الله عز وجل ألقى في قلوب البعض أن يذهبوا إلى الرمي
في الوقت الذي ينحر فيه آخرون، ويحلق فريق ثالث،
بينما يذهب فريق رابع إلى الإفاضة والسعي..
وهكذا يحدث التقسيم الذي يُؤَدِّي إلى سلاسة الحجِّ،
وكل هؤلاء متوافقون مع السُّنَّة غير مفرطين،
وكلهم مأجور بإذن الله.
فما أروع هذا الدين! وما أرقى هذه الشريعة!
نتابع
شرح حديث .. افعل ولا حرج
يختلف الحج عن غيره من العبادات في بعض مباني القواعد الفقهية؛
إذ من المعلوم أن ترك واجب أو ركن عمداً في أي عبادة يبطلها،
وهذا مما يختلف فيه الحج عن غيره؛
فإن ترْك واجبٍ من واجبات الحج، أو ركن من أركانه لا يبطله،
حتى لو كان ذلك الترك عمداً،
وإنما يلزم بهذا الترك ما يلزم لتصحيح الحج أو الخروج منه،
إضافة إلى اختلافات أخرى ذكرها أهل العلم في هذا السياق.
واستناداً إلى ما تقدم، نحاول قراءة وفهم الحديثين التاليين،
وما جاء في معناهما من أحاديث:
الأول :
ثبت في "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه،
فجاءه رجل فقال: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح،
فقال: (اذبح ولا حرج)،
فجاء آخر فقال: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمي،
قال: (ارمِ ولا حرج)
فما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر
إلا قال: (افعل ولا حرج)
رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية ثانية،
أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم النحر،
فقام إليه رجل، فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا،
ثم قام آخر، فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا،
حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (افعل ولا حرج) لهن كلهن،
فما سُئل يومئذ عن شيء إلا قال: (افعل ولا حرج)
رواه البخاري ومسلم.
شرح مفردات الأحاديث :
* قول السائل: (لم أشعر) أي: لم أفطن، يقال: شعرت بالشيء شعوراً
إذا فطنت له؛ والشعور: هو العلم، وعلى هذا يكون المعنى: لم أعلم.
* قوله صلى الله عليه وسلم: (عن شيء) أي: مما هو من أعمال يوم
النحر، وهي: رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (افعل ولا حرج) معناه: افعل ما بقي
عليك، وقد أجزأك ما فعلته، ولا حرج عليك في التقديم والتأخير.
ما أفادته الأحاديث
موضوع هذه الأحاديث ورد في روايات مختلفة، وبصور مختلفة.
والمستفاد من مذاهب أهل العلم في فقه هذه الأحاديث أنها واردة في
أعمال يوم النحر خاصة، إذ جميع الروايات على اختلاف ألفاظها،
وردت بخصوص أعمال هذا اليوم، إذ في هذا اليوم -يوم النحر-
تكون أكثر أعمال الحج، فيكون فيه :
1- رمي جمرة العقبة (الكبرى)،
2- ونحر الهدي،
3- والحلق أو التقصير،
4- وطواف الإفاضة ؛
وعليه فلا تفيد مجمل هذه الأحاديث رفع الحرج في التقديم أو التأخير
في أعمال الحج كافة ؛
* فلا يصح مثلاً رمي الجمار قبل وقوف عرفة،
* ولا يصح طواف الإفاضة قبل الوقوف،
* ولا السعي للمتمتع قبل طواف الإفاضة كذلك.
والسنة المتفق عليها في ترتيب أعمال يوم النحر، هي:
* رمي جمرة العقبة،
* ثم نحر الهدي أو ذبحه،
* ثم الحلق أو التقصير،
* ثم طواف الإفاضة ؛
وقد أجمع العلماء على استحباب هذا الترتيب.
وأجمعوا كذلك على أن من قدم أو أخر شيئًا من أعمال يوم النحر،
فإنه يجزئه ذلك، ويصح منه،
بيد أنهم اختلفوا في وجوب الكفارة عليه،
فأوجبها بعضهم، ولم يوجبها آخرون.
والذي ذهب إليه جمهور أهل العلم
أنه لا شيء على من حلق قبل أن يرمي،
ولا على من قدم شيئًا أو أخره ساهيًا أو جاهلاً،
أو حتى متعمدًا مما يُفعل يوم النحر.
وقد رُويَ عن الحسن وطاوس أنهما قالا:
لا شيء على من حلق قبل أن يرمي؛
ورويَ عن عطاء بن أبي رباح قوله:
من قدَّم نسكًا قبل نسك فلا حرج.
ويؤيد قول الجمهور القائلين بعدم وجوب ترتيب أعمال يوم النحر،
قوله صلى الله عليه وسلم: (افعل ولا حرج)
إذ لو كان الحديث لرفع الإثم عن الساهي والجاهل فحسب،
لما كان له معنى حينئذ؛
لأن كل عبادة واجبة يتركها الإنسان، نسياناً أو جهلاً،
فإنه لا إثم عليه بتركها، وإن كان مطالباً بتعويض
ما أخلَّ فيه وقصَّر بحسب كل عبادة؛
بخلاف العامد، فإنه مع مطالبته بتعويض الخلل والنقص،
يلحقه الإثم لتركه الواجب أو الركن عمداً.
فإذا تبيَّن هذا،
علمنا أن قوله صلى الله عليه وسلم: (افعل ولا حرج)
لا يفيد فقط رفع الإثم عمن أخلَّ بترتيب أعمال يوم النحر،
سهواً أو جهلاً؛ إذ إن هذا معلوم في مبادئ الشريعة،
كما أنه غير مختص بأعمال يوم النحر،
بل يشمل كل من أخلَّ بعمل من أعمال الحج سهواً أو جهلاً،
فلا إثم عليه، وإن كان يجب عليه تدارك ذلك الخلل الحاصل،
بحسب ما جاء في الشريعة، كما سبق.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:
(افعل ولا حرج) يفيد أمراً زائداً على مجرد رفع الإثم،
وهو رفع ما يترتب على الإخلال بترتيب أعمال يوم النحر؛
فلا يجب على من أخلَّ بترتيب أعمال ذلك اليوم فدية
أو بدل أو غير ذلك، وإذا لم يلزم من الإخلال بهذا الترتيب شيء،
فإنه يستوي فيه العامد والساهي والجاهل؛
لأن الترتيب لو كان واجباً لكان من باب المأمورات الشرعية
التي لا تسقط بالنسيان أو الجهل.
وبه يُعلم أن الحديث دالٌ على سنية الترتيب في أعمال يوم النحر،
وأن الأفضل الإتيان بها وفق الترتيب النبوي،
ولا يلزم في ترك هذا الترتيب شيء.
أما ما جاء في بعض الروايات من كون السائل
كان جاهلاً بأحكام الحج،
فإن هذا لا يفيد أن رفع الحرج خاص بحالة الجهل؛
لأن وصف السائل بالجهل إنما كان لبيان
الواقع الذي حصل فيه السؤال،
وهو لا يفيد تقييد الحكم وقصره على تلك الحالة دون غيرها.
ومهما يكن، فإن هذا الحديث برواياته المختلفة والمتعددة،
يُعدُّ أصلاً في فقه أحكام الحج عموماً،
كما يعد دليلاً قويًّا في تصحيح كثير من أعمال الحج
التي تعرض وتطرأ لحجَّاج بيت الله الحرام خصوصاً؛
ففي الحديث فسحة وسعة من الأمر،
وهو ما يدل على يُسر هذه الشريعة،
وقصدها رفع الحرج عن العباد.
وصدق الله إذ يقول في محكم تنـزيله:
{وما جعل عليكم في الدين من حرج}
(الحج:87).
تقبل الله من الحجاج حجهم
وأرجعهم إلى أهاليهم سالمين غانمين
ومن العايدين وكل عام وأنتم بخير.
§§§§§§§§§§§§§§§