معاوية فهمي إبراهيم مصطفى
2019-08-21, 04:36 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-
(( حاجتنا إلى الهدوء ))
الهدوء كلمة جميلة تدل على السكون والاطمئنان، وتحمل في طياتها الصمت وقلة الحركة، وهي مطلب عزيز من مطالب الحياة - خاصة في العصر الحاضر - لدى أناس، وأما غيرهم فلا يحبون إلا الضجيج والإزعاج.
إن الجو الهادئ غاية من غايات الروح والعقل، إذ لا يمكنهما الصفاء والإنتاج البديع إلا في ذلك الجو الصامت، الذي يجعل من الروح تحلق في آفاقها الواسعة، وتسبح في عوالمها النورانية في استمرار ومتعة، حتى تعود من ذلك الجو الألِق مكسوة بالضياء الذي يبدو في أعمال الجسد وأقواله، معمورة بالسعادة التي تملأ الضمير راحة وطمأنينة.
ولهذا كانت صلاة الليل -خاصة في السحر- أفضل الصلوات النافلة، وأعظمها أثراً على الروح، وألذها وأحسنها؛ لما في تلك اللحظات الداجية من الصفاء والإشراق والسكون الذي يخيم على الحياة، فليس هناك ضجيج أصوات، ولا حركة أعمال، ولا انشغال بال، ولا نداءات تجعل المرء في قلق وانتظار.
فيقوم المسلم في تلك الساعة الصامتة فيؤدي صلاة خاشعة يحضرها التأمل والسكينة، اللذان يحدثان أثراً عميقًا في النفس، ويكون للقرآن طعم جديد، بخلاف صلاة النهار وقراءته اللتين قد تشوش أثرهما أصواتُ الحياة والأحياء في النهار. قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل:6].
والمعنى: أن صلاة الليل أوفق بالمصلي بين اللسان والقلب، أي: بين النطق بالألفاظ وتفهم معانيها، للهدوء الذي يحصل في الليل وانقطاع الشواغل، ولأنه يخلو البال من أشغال النهار وأشغابه فيوافق قلب المرء لسانه وفكره عبارته، ولأن الليل أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار، ولحضور القلب فيها وهدوء الأصوات وأشد استقامة واستمراراً على الصواب؛ لأن الأصوات فيها هادئة والدنيا ساكنة فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه، أما النهار فهو وقت انتشار الناس ولَغَط الأصوات وأوقات المعاش.
كما أن الإنسان إذا أقبل على العبادة والذكر في الليل المظلم في البيت المظلم في موضع لا تصير حواسه مشغولة بشيء من المحسوسات ألبتة؛ فحينئذ يقبل القلب على الخواطر الروحانية والأفكار الإيمانية، وأما النهار فإن الحواس تكون مشغولة بالمحسوسات، فتصير النفس مشغولة بالمحسوسات فلا تتفرغ للأحوال الروحانية[1].
وأما الهدوء لأعمال العقل فهو القاعدة الراسخة التي تقوم عليها الأعمال العقلية المبدعة، والنتائج الذهنية المشرقة.
ومن أهل هذه الأعمال الذين يحتاجون إلى الهدوء:
الأول: مريد الحفظ: فالذي يريد أن يحفظ القرآن أو الحديث أو المتون العلمية أو غير ذلك من محفوظات علوم الدين وعلوم الدنيا؛ فإنه يحتاج إلى مكان يعمره الهدوء، ولا يعكر صفوه الزعيق، واضطراب حركات الأحياء؛ لأن شواغل السمع والبصر تقلل من الحفظ وجودته وثباته؛ لأن "الذاكرة مثل آلة التصوير كلما كان المكان الذي يراد التصوير فيه خاليًا من الأصوات والمناظر الملهية كان الحفظ أسهل وأقوى، فالعين هي عدسة الكاميرا، والأذن هي اللاقط، فوجود صور وأصوات كثيرة في المكان يؤدي إلى انطباع ضعيف لما يراد تصويره خاصة"[2].
ولهذا حث العلماء وأهل التربية على البحث عن الأماكن الهادئة عند إرادة الحفظ.
قال ابن جماعة:" وقال الخطيب: أجود أوقات الحفظ: الأسحار، ثم وسط النهار، ثم الغداة. قال: وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع.
قال: وأجود أماكن الحفظ الغرف وكل موضع بعيد عن الملهيات. قال: وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات والخضرة والأنهار وقوارع الطريق، وضجيج الأصوات؛ لأنها تمنع من خلو القلب غالبًا"[3].
وقال ابن الجوزي: " وقد مدح الحفظ في السحر؛ لموضع جمع الهم، وفي البكر، وعند نصف الليل، ولا ينبغي أن يحفظ على شاطئ نهر ولا بحضرة خضر؛ لئلا يشتغل القلب، والمناظر العالية أحمد من السافلة"[4].
وقال ابن الصلاح: "وقد روينا أن يحيى بن معين قيل له في مرضه الذي مات فيه: ما تشتهي؟ قال: "بيت خالي، وإسناد عالي"[5].
الثاني: مريد الفهم: فمن يقرأ كتابًا -أو في كتاب- ويريد استيعاب مسائل أو مسألة معينة، فإن الجو الذي يناسب غايته هو الجو الذي لا تكدره الأصوات وكثرة الحركات، وتعدد المرئيات الجذابة؛ فإن هذه الملهيات تشتت الذهن، وتوزعه بين ما يقرأ وما يرى أو يسمع، فيقتنص جملة، وتنفر عنه جمل؛ لذلك كان المكان المتسم بالهدوء هو الظرف الملائم لجمع القلب والعين والعقل على فهم المقروآت واستيعاب المعلومات.
الثالث: مريد الكتابة: الكتابة العميقة عمل عقلي دقيق يفتقر إلى عنصر الهدوء افتقاراً كبيراً؛ إذ إن توارد الأفكار وتوالدها واستقامتها وتناسقها ووضعها في المكان المناسب من الكتاب أو المقالة لا يساعد عليه ضجيج الأصوات، وانشغال السمع بما يَرِد عليه.
فالكاتب يفكر فيدوّن في طرسه ما يمليه عليه خاطره، وكلما كان الهدوء هو سيد مكانه درَّ خاطره، وجال خياله، وتحلّب ذهنه، وجادت قريحته، واستطاع أن يقيم الفكرة في محلها من الكتاب، والجملة في مكانها من الكلام، والكلمة في منزلها من الجملة، فيغدو الكتاب أو المقالة قطعة واحدة لا يتبرأ بعضها من بعض، بل يغدو الكلام في ذلك القالب كماء سلسال يتحدر من عل.
فإذا توفر للكاتب ذلك لم يكن لديه-غالبًا- جدب في الأفكار، ولا تنافر في الألفاظ، ولا نبوٌّ في المعاني، ولا اضطراب في ترتيب الحديث، وانتهى من كتابته مرتاح الضمير، معافى المعدة، خاليًا من الصداع والضجر!
ومثل كاتب النثر كاتبُ الشعر، فالشاعر المجيد محتاج إلى عالم ساكن، لا يتحرك فيه إلا خياله وخواطره، وخطواته في مكانه، وبنانه على لوحة قصيدته، فإذا ظفر بهذا العالمِ العزيز استطاع بالُه أن يسخو بأرق الشعر وأجمله، ويأتي قلمه بغُرر القصائد وآنقها، حتى يصبح ذلك الشاعر-مع الاستمرار في هذه الأجواء الشريفة-منسجمَ الكلام، حَسن السبك، رشيق المعاني، رائق الأسلوب.
فلا يكون حينئذ في شعره تكلف ولا جفاف، ولا في ألفاظ أبياته خصومة وعداء؛ ولذلك كان من أحسن أوقات الشعراء الليل حيث الهدوء يعم الأرجاء.
الرابع: مريد الصحة: يوصي الأطباء بعض المرضى وأهاليهم بارتياد الأماكن الهادئة، وتجنب الإزعاج، والخروج إلى الأمكنة التي يكثر فيها الضجيج؛ لأن بعض الأمراض والمرضى يضاعف حالتَهم الصحية كثرةُ الصياح، وزحمة الحياة، ويساعدهم على سرعة الشفاء الجو الهادئ، والمكان الساكن.
ظاهرة مؤسفة:
كانت الحياة في العصور السابقة قليلة الضجيج، تبدو ساكنة فتبعث على كثرة التأمل وصفاء البال، ولا يعكر هدوءها زحام الحياة، وكثرة أهلها، وآلاتهم الصناعية المزعجة التي زخر بها عصرنا.
على خلاف ما عليه حياتنا في زماننا الحديث في المدن والحواضر، الذي غدا الصخب والجلبة سمتها العامة في الليل والنهار، حتى صار ذلك من أمراض الحياة المعاصرة؛ لما يجلبه اختلاط الأصوات وارتفاعها من كدر على النفس، وصداع الرأس، وبرود الخاطر، وقلة النوم والراحة.
مما حدا ذلك بعض الموسرين الراغبين في الهدوء إلى السكن في حواف المدن وتخومها، ورؤوس الجبال، وشعابها.
ومما يزيد اتساع الخرق أن لا يكون لدى كثير من الناس احترام للهدوء وحب لانتشاره بين الناس، بل أضحى إزعاج الآخرين ثقافة وخلقًا من أخلاق بعض الناس، حتى صاروا لا يطيب لهم الزمان إلا بالضجة التي تدخل على محبي الهدوء الضيق والكدر!
لقد صار الضجيج رفيق المرء اليوم في أماكن كثيرة في حياته المدنية؛ فالبيوت يصخب فيها الأطفال الذين لا يجدون أماكن قريبة آمنة يخرجون للعب فيها، بخلاف القرى والبوادي.
فهم في البيت إما في عدْو وسباق لا يخلف وراءهم إلا القهقهات وأصوات الأقدام، وأثاث المنزل الذي يتراشقون به، وإما في عراك وصراخ وطرْق مزعج لباب غرفة الأب القارئ أو الكاتب الذي قد حبس نفسه في زاوية من البيت طلبًا للهدوء، فيعدون إلى بابه ويطرقونه طرقًا عنيفًا؛ لكونه قسم الشرطة أو المحكمة التي تفصل بينهم النزاعات، وتحكم للمظلوم من الظالم!.
وإما أن يكونوا أمام شاشة التلفاز أو الحاسوب أو الجوال أو غيرها من الوسائل الحديثة التي تصدر الأصوات. فكيف سينعم الإنسان بالهدوء في هذا الجو الملبد بالصخب العارم؟!
غير أنه قد يجد وقتًا صافيًا في هامش الزمن حينما يخلد الأولاد إلى النوم، فحينها تعود للأب الحياة الهادئة ليكتب أو يقرأ!
وفي البيت أيضًا لا يسلم من الأصوات الصادرة من الجيران، خاصة وأن البيوت-مع زحام السكان-صار بعضها قريبًا من بعض، كأعواد الحصير، فلا يسلم من سماع ما يسمع في بيته كذلك.
هذا إذا خلا حيه من مناسبات، أما إذا دهته مناسبات كالأعراس التي تعلن بمكبرات الصوات وتستمر على ذلك أيامًا في أوقات كثيرة من اليوم والليلة؛ فتلك الأفراح لأهلها مآتم لدى طالب الهدوء، بل قد يضطر إلى فراق المنزل فلا يرجع إلا في ساعة متأخرة من الليل، فأين مراعاة مشاعر الناس يا أصحاب الأفراح!
وأما السيارات والناقلات والدراجات النارية لمن كان بيته قريبًا من مدارجها فتلك المصيبة التي تلازمه، والنازلة التي لا تفارقه!
فكيف يستطيع الحافظ-إذاً- أن يحفظ، والقارئ أن يفهم، والكاتب أن يكتب والهدوء قليل، والإزعاج كثير، والمكان الخالي من ضجيج الحياة عزيز؟!
كيف تظفر بالهدوء:
من أراد الهدوء لكي يصفو باله، وتنفتح مظلة ذهنه، كي يحلِّق في آفاق الحفظ أو الفهم أو الكتابة أو الصحة؛ فليتخير زمانه ومكانه؛ فإنه في حياتنا المدنية اليوم قليل.
فبعد صلاة الفجر لمن أخذ حظًّا وافراً من النوم ليلاً وقتٌ ملائم للحافظ أو القارئ أو لمن يريد الكتابة؛ فالذهن حينئذ صافٍ، والهدوء يعمّ المكان.
أما إذا قل حظه من النوم في الليل فقد لا يناسبه ما بعد الفجر؛ لتشوش الذهن، وحاجة البدن للراحة، وتمنّع القريحة المجهدة من العطاء.
ومن الأوقات الملائمة: بعد صلاة العصر، خاصة لمن كان من أهل القيلولة؛ لأنه سيستيقظ فيصلي وقد نال ذهنه وجسده راحتيهما، فيقبل على الحفظ أو القراءة أو الكتابة بنشاط واتقاد.
ومن الأوقات المناسبة أيضًا: الثلث الأخير من الليل، لمن نام مبكراً، وهذا أجمل الأوقات لتوفر أسباب الهدوء من كل جانب.
وللشاعر إن أراد كتابة قصيدة والخاطر لديه متدفق، وسحابة موهبته واكفة، وقد أتاه الشعر ولم يأته؛ فبعد العِشاء والعَشاء وقت مناسب يمتطي الشاعر فيه صهوة الدلجة ويسري إلى حدائق القريض الغنّاء فيقطف منها ما يشاء. بل ربما كتب القصيدة الطويلة الجميلة في ليلة واحدة، وقد فعل ذلك شعراء؛ فأحمد شوقي نظم قصيدة "النيل" في ليلة واحدة، ومطلعها:
من أيِّ عهد في القرى تتدفقُ
وبأي كفٍّ في المدائن تُغدِقُ
ومن السماء نزلتَ أم فُجِّرتَ مِن
عليا الجنانِ جداولاً تترقرق
وأما الأماكن فالبيت النظيف المرتب الخالي من ضجيج الأطفال، والبعيد عن كثرة الطارقين هو المكان الأمثل للغايات السابقة.
فإن ضاق البيت بشدة الإزعاج ووجد المرء فرصة في مسجد قريب قليل الرواد أو في وقت خلوه من الناس؛ كان الهروب إليه حلاًّ أمثل؛ فالمسجد للحفظ كان ولم يزل هو أفضل الأمكنة.
وأما الكتابة فقد كان بعض أهل العلم يتخذ المسجد المكان المختار لهذه الغاية؛ طلبًا للهدوء، قال الأستاذ ظافر ابن الشيخ جمال الدين القاسمي عن كتابة أبيه لتفسيره" محاسن التأويل: " وقد ذهبت إلى المكان الذي يجلس فيه فإذا هو نافذة من نوافذ الجامع الغربية عريضة، فرشها بقطعة من السجاد وبجلد خروف، ونشر حوله مصادره...، وكان هذا المكان أهدأ من البيت، وأدعى إلى التأمل والتفكير"[6].
وهناك أماكن أخرى يحل فيها الهدوء يجدها المرء حسب بيئته وأحواله، فيختار منها ما يستطيع فيه استيعاب محفوظه ومقروئه، والإحسان فيما يريد الكتابة فيه.
وأخيراً أقول: إن فراغ الزمان أو المكان من عنصر الهدوء لمن أراد إعمال ذهنه في معرفة من المعارف، ويريد أن يصل بذلك إلى الإبداع والإحسان؛ لا يساعد أبداً في الوصول إلى ذلك الهدف المنشود.
فمن اتجه إلى تلك الأعمال ورافقه الضجيج والصخب فلابد أن يذوق العناء، ويتوَّج رأسه بالصداع، ويلبسه الإجهاد، وسرعة الغضب والانفعال، وضيق العطن، ثم يخرج إنتاجه في ثوب النقص، وقلة الحسن، والقصور عن بلوغ المراد.
[1] ينظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور (29/ 245)، المحرر الوجيز، لابن عطية (5/ 359)، تفسير ابن كثير (8/ 252)، فتح القدير، للشوكاني (5/ 444)، تفسير الرازي: مفاتيح الغيب (30/ 155).
[2] الحفظ التربوي، د. خالد بن عبد الكريم اللاحم (ص: 95).
[3] تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، لابن جماعة (ص: 37).
[4] الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ (ص: 45).
[5] مقدمة ابن الصلاح (ص: 256).
[6] جمال الدين القاسمي وعصره، لظافر محمد جمال الدين القاسمي (684).
§§§§§§§§§§§§§§§
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-
(( حاجتنا إلى الهدوء ))
الهدوء كلمة جميلة تدل على السكون والاطمئنان، وتحمل في طياتها الصمت وقلة الحركة، وهي مطلب عزيز من مطالب الحياة - خاصة في العصر الحاضر - لدى أناس، وأما غيرهم فلا يحبون إلا الضجيج والإزعاج.
إن الجو الهادئ غاية من غايات الروح والعقل، إذ لا يمكنهما الصفاء والإنتاج البديع إلا في ذلك الجو الصامت، الذي يجعل من الروح تحلق في آفاقها الواسعة، وتسبح في عوالمها النورانية في استمرار ومتعة، حتى تعود من ذلك الجو الألِق مكسوة بالضياء الذي يبدو في أعمال الجسد وأقواله، معمورة بالسعادة التي تملأ الضمير راحة وطمأنينة.
ولهذا كانت صلاة الليل -خاصة في السحر- أفضل الصلوات النافلة، وأعظمها أثراً على الروح، وألذها وأحسنها؛ لما في تلك اللحظات الداجية من الصفاء والإشراق والسكون الذي يخيم على الحياة، فليس هناك ضجيج أصوات، ولا حركة أعمال، ولا انشغال بال، ولا نداءات تجعل المرء في قلق وانتظار.
فيقوم المسلم في تلك الساعة الصامتة فيؤدي صلاة خاشعة يحضرها التأمل والسكينة، اللذان يحدثان أثراً عميقًا في النفس، ويكون للقرآن طعم جديد، بخلاف صلاة النهار وقراءته اللتين قد تشوش أثرهما أصواتُ الحياة والأحياء في النهار. قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل:6].
والمعنى: أن صلاة الليل أوفق بالمصلي بين اللسان والقلب، أي: بين النطق بالألفاظ وتفهم معانيها، للهدوء الذي يحصل في الليل وانقطاع الشواغل، ولأنه يخلو البال من أشغال النهار وأشغابه فيوافق قلب المرء لسانه وفكره عبارته، ولأن الليل أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار، ولحضور القلب فيها وهدوء الأصوات وأشد استقامة واستمراراً على الصواب؛ لأن الأصوات فيها هادئة والدنيا ساكنة فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه، أما النهار فهو وقت انتشار الناس ولَغَط الأصوات وأوقات المعاش.
كما أن الإنسان إذا أقبل على العبادة والذكر في الليل المظلم في البيت المظلم في موضع لا تصير حواسه مشغولة بشيء من المحسوسات ألبتة؛ فحينئذ يقبل القلب على الخواطر الروحانية والأفكار الإيمانية، وأما النهار فإن الحواس تكون مشغولة بالمحسوسات، فتصير النفس مشغولة بالمحسوسات فلا تتفرغ للأحوال الروحانية[1].
وأما الهدوء لأعمال العقل فهو القاعدة الراسخة التي تقوم عليها الأعمال العقلية المبدعة، والنتائج الذهنية المشرقة.
ومن أهل هذه الأعمال الذين يحتاجون إلى الهدوء:
الأول: مريد الحفظ: فالذي يريد أن يحفظ القرآن أو الحديث أو المتون العلمية أو غير ذلك من محفوظات علوم الدين وعلوم الدنيا؛ فإنه يحتاج إلى مكان يعمره الهدوء، ولا يعكر صفوه الزعيق، واضطراب حركات الأحياء؛ لأن شواغل السمع والبصر تقلل من الحفظ وجودته وثباته؛ لأن "الذاكرة مثل آلة التصوير كلما كان المكان الذي يراد التصوير فيه خاليًا من الأصوات والمناظر الملهية كان الحفظ أسهل وأقوى، فالعين هي عدسة الكاميرا، والأذن هي اللاقط، فوجود صور وأصوات كثيرة في المكان يؤدي إلى انطباع ضعيف لما يراد تصويره خاصة"[2].
ولهذا حث العلماء وأهل التربية على البحث عن الأماكن الهادئة عند إرادة الحفظ.
قال ابن جماعة:" وقال الخطيب: أجود أوقات الحفظ: الأسحار، ثم وسط النهار، ثم الغداة. قال: وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع.
قال: وأجود أماكن الحفظ الغرف وكل موضع بعيد عن الملهيات. قال: وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات والخضرة والأنهار وقوارع الطريق، وضجيج الأصوات؛ لأنها تمنع من خلو القلب غالبًا"[3].
وقال ابن الجوزي: " وقد مدح الحفظ في السحر؛ لموضع جمع الهم، وفي البكر، وعند نصف الليل، ولا ينبغي أن يحفظ على شاطئ نهر ولا بحضرة خضر؛ لئلا يشتغل القلب، والمناظر العالية أحمد من السافلة"[4].
وقال ابن الصلاح: "وقد روينا أن يحيى بن معين قيل له في مرضه الذي مات فيه: ما تشتهي؟ قال: "بيت خالي، وإسناد عالي"[5].
الثاني: مريد الفهم: فمن يقرأ كتابًا -أو في كتاب- ويريد استيعاب مسائل أو مسألة معينة، فإن الجو الذي يناسب غايته هو الجو الذي لا تكدره الأصوات وكثرة الحركات، وتعدد المرئيات الجذابة؛ فإن هذه الملهيات تشتت الذهن، وتوزعه بين ما يقرأ وما يرى أو يسمع، فيقتنص جملة، وتنفر عنه جمل؛ لذلك كان المكان المتسم بالهدوء هو الظرف الملائم لجمع القلب والعين والعقل على فهم المقروآت واستيعاب المعلومات.
الثالث: مريد الكتابة: الكتابة العميقة عمل عقلي دقيق يفتقر إلى عنصر الهدوء افتقاراً كبيراً؛ إذ إن توارد الأفكار وتوالدها واستقامتها وتناسقها ووضعها في المكان المناسب من الكتاب أو المقالة لا يساعد عليه ضجيج الأصوات، وانشغال السمع بما يَرِد عليه.
فالكاتب يفكر فيدوّن في طرسه ما يمليه عليه خاطره، وكلما كان الهدوء هو سيد مكانه درَّ خاطره، وجال خياله، وتحلّب ذهنه، وجادت قريحته، واستطاع أن يقيم الفكرة في محلها من الكتاب، والجملة في مكانها من الكلام، والكلمة في منزلها من الجملة، فيغدو الكتاب أو المقالة قطعة واحدة لا يتبرأ بعضها من بعض، بل يغدو الكلام في ذلك القالب كماء سلسال يتحدر من عل.
فإذا توفر للكاتب ذلك لم يكن لديه-غالبًا- جدب في الأفكار، ولا تنافر في الألفاظ، ولا نبوٌّ في المعاني، ولا اضطراب في ترتيب الحديث، وانتهى من كتابته مرتاح الضمير، معافى المعدة، خاليًا من الصداع والضجر!
ومثل كاتب النثر كاتبُ الشعر، فالشاعر المجيد محتاج إلى عالم ساكن، لا يتحرك فيه إلا خياله وخواطره، وخطواته في مكانه، وبنانه على لوحة قصيدته، فإذا ظفر بهذا العالمِ العزيز استطاع بالُه أن يسخو بأرق الشعر وأجمله، ويأتي قلمه بغُرر القصائد وآنقها، حتى يصبح ذلك الشاعر-مع الاستمرار في هذه الأجواء الشريفة-منسجمَ الكلام، حَسن السبك، رشيق المعاني، رائق الأسلوب.
فلا يكون حينئذ في شعره تكلف ولا جفاف، ولا في ألفاظ أبياته خصومة وعداء؛ ولذلك كان من أحسن أوقات الشعراء الليل حيث الهدوء يعم الأرجاء.
الرابع: مريد الصحة: يوصي الأطباء بعض المرضى وأهاليهم بارتياد الأماكن الهادئة، وتجنب الإزعاج، والخروج إلى الأمكنة التي يكثر فيها الضجيج؛ لأن بعض الأمراض والمرضى يضاعف حالتَهم الصحية كثرةُ الصياح، وزحمة الحياة، ويساعدهم على سرعة الشفاء الجو الهادئ، والمكان الساكن.
ظاهرة مؤسفة:
كانت الحياة في العصور السابقة قليلة الضجيج، تبدو ساكنة فتبعث على كثرة التأمل وصفاء البال، ولا يعكر هدوءها زحام الحياة، وكثرة أهلها، وآلاتهم الصناعية المزعجة التي زخر بها عصرنا.
على خلاف ما عليه حياتنا في زماننا الحديث في المدن والحواضر، الذي غدا الصخب والجلبة سمتها العامة في الليل والنهار، حتى صار ذلك من أمراض الحياة المعاصرة؛ لما يجلبه اختلاط الأصوات وارتفاعها من كدر على النفس، وصداع الرأس، وبرود الخاطر، وقلة النوم والراحة.
مما حدا ذلك بعض الموسرين الراغبين في الهدوء إلى السكن في حواف المدن وتخومها، ورؤوس الجبال، وشعابها.
ومما يزيد اتساع الخرق أن لا يكون لدى كثير من الناس احترام للهدوء وحب لانتشاره بين الناس، بل أضحى إزعاج الآخرين ثقافة وخلقًا من أخلاق بعض الناس، حتى صاروا لا يطيب لهم الزمان إلا بالضجة التي تدخل على محبي الهدوء الضيق والكدر!
لقد صار الضجيج رفيق المرء اليوم في أماكن كثيرة في حياته المدنية؛ فالبيوت يصخب فيها الأطفال الذين لا يجدون أماكن قريبة آمنة يخرجون للعب فيها، بخلاف القرى والبوادي.
فهم في البيت إما في عدْو وسباق لا يخلف وراءهم إلا القهقهات وأصوات الأقدام، وأثاث المنزل الذي يتراشقون به، وإما في عراك وصراخ وطرْق مزعج لباب غرفة الأب القارئ أو الكاتب الذي قد حبس نفسه في زاوية من البيت طلبًا للهدوء، فيعدون إلى بابه ويطرقونه طرقًا عنيفًا؛ لكونه قسم الشرطة أو المحكمة التي تفصل بينهم النزاعات، وتحكم للمظلوم من الظالم!.
وإما أن يكونوا أمام شاشة التلفاز أو الحاسوب أو الجوال أو غيرها من الوسائل الحديثة التي تصدر الأصوات. فكيف سينعم الإنسان بالهدوء في هذا الجو الملبد بالصخب العارم؟!
غير أنه قد يجد وقتًا صافيًا في هامش الزمن حينما يخلد الأولاد إلى النوم، فحينها تعود للأب الحياة الهادئة ليكتب أو يقرأ!
وفي البيت أيضًا لا يسلم من الأصوات الصادرة من الجيران، خاصة وأن البيوت-مع زحام السكان-صار بعضها قريبًا من بعض، كأعواد الحصير، فلا يسلم من سماع ما يسمع في بيته كذلك.
هذا إذا خلا حيه من مناسبات، أما إذا دهته مناسبات كالأعراس التي تعلن بمكبرات الصوات وتستمر على ذلك أيامًا في أوقات كثيرة من اليوم والليلة؛ فتلك الأفراح لأهلها مآتم لدى طالب الهدوء، بل قد يضطر إلى فراق المنزل فلا يرجع إلا في ساعة متأخرة من الليل، فأين مراعاة مشاعر الناس يا أصحاب الأفراح!
وأما السيارات والناقلات والدراجات النارية لمن كان بيته قريبًا من مدارجها فتلك المصيبة التي تلازمه، والنازلة التي لا تفارقه!
فكيف يستطيع الحافظ-إذاً- أن يحفظ، والقارئ أن يفهم، والكاتب أن يكتب والهدوء قليل، والإزعاج كثير، والمكان الخالي من ضجيج الحياة عزيز؟!
كيف تظفر بالهدوء:
من أراد الهدوء لكي يصفو باله، وتنفتح مظلة ذهنه، كي يحلِّق في آفاق الحفظ أو الفهم أو الكتابة أو الصحة؛ فليتخير زمانه ومكانه؛ فإنه في حياتنا المدنية اليوم قليل.
فبعد صلاة الفجر لمن أخذ حظًّا وافراً من النوم ليلاً وقتٌ ملائم للحافظ أو القارئ أو لمن يريد الكتابة؛ فالذهن حينئذ صافٍ، والهدوء يعمّ المكان.
أما إذا قل حظه من النوم في الليل فقد لا يناسبه ما بعد الفجر؛ لتشوش الذهن، وحاجة البدن للراحة، وتمنّع القريحة المجهدة من العطاء.
ومن الأوقات الملائمة: بعد صلاة العصر، خاصة لمن كان من أهل القيلولة؛ لأنه سيستيقظ فيصلي وقد نال ذهنه وجسده راحتيهما، فيقبل على الحفظ أو القراءة أو الكتابة بنشاط واتقاد.
ومن الأوقات المناسبة أيضًا: الثلث الأخير من الليل، لمن نام مبكراً، وهذا أجمل الأوقات لتوفر أسباب الهدوء من كل جانب.
وللشاعر إن أراد كتابة قصيدة والخاطر لديه متدفق، وسحابة موهبته واكفة، وقد أتاه الشعر ولم يأته؛ فبعد العِشاء والعَشاء وقت مناسب يمتطي الشاعر فيه صهوة الدلجة ويسري إلى حدائق القريض الغنّاء فيقطف منها ما يشاء. بل ربما كتب القصيدة الطويلة الجميلة في ليلة واحدة، وقد فعل ذلك شعراء؛ فأحمد شوقي نظم قصيدة "النيل" في ليلة واحدة، ومطلعها:
من أيِّ عهد في القرى تتدفقُ
وبأي كفٍّ في المدائن تُغدِقُ
ومن السماء نزلتَ أم فُجِّرتَ مِن
عليا الجنانِ جداولاً تترقرق
وأما الأماكن فالبيت النظيف المرتب الخالي من ضجيج الأطفال، والبعيد عن كثرة الطارقين هو المكان الأمثل للغايات السابقة.
فإن ضاق البيت بشدة الإزعاج ووجد المرء فرصة في مسجد قريب قليل الرواد أو في وقت خلوه من الناس؛ كان الهروب إليه حلاًّ أمثل؛ فالمسجد للحفظ كان ولم يزل هو أفضل الأمكنة.
وأما الكتابة فقد كان بعض أهل العلم يتخذ المسجد المكان المختار لهذه الغاية؛ طلبًا للهدوء، قال الأستاذ ظافر ابن الشيخ جمال الدين القاسمي عن كتابة أبيه لتفسيره" محاسن التأويل: " وقد ذهبت إلى المكان الذي يجلس فيه فإذا هو نافذة من نوافذ الجامع الغربية عريضة، فرشها بقطعة من السجاد وبجلد خروف، ونشر حوله مصادره...، وكان هذا المكان أهدأ من البيت، وأدعى إلى التأمل والتفكير"[6].
وهناك أماكن أخرى يحل فيها الهدوء يجدها المرء حسب بيئته وأحواله، فيختار منها ما يستطيع فيه استيعاب محفوظه ومقروئه، والإحسان فيما يريد الكتابة فيه.
وأخيراً أقول: إن فراغ الزمان أو المكان من عنصر الهدوء لمن أراد إعمال ذهنه في معرفة من المعارف، ويريد أن يصل بذلك إلى الإبداع والإحسان؛ لا يساعد أبداً في الوصول إلى ذلك الهدف المنشود.
فمن اتجه إلى تلك الأعمال ورافقه الضجيج والصخب فلابد أن يذوق العناء، ويتوَّج رأسه بالصداع، ويلبسه الإجهاد، وسرعة الغضب والانفعال، وضيق العطن، ثم يخرج إنتاجه في ثوب النقص، وقلة الحسن، والقصور عن بلوغ المراد.
[1] ينظر: التحرير والتنوير، لابن عاشور (29/ 245)، المحرر الوجيز، لابن عطية (5/ 359)، تفسير ابن كثير (8/ 252)، فتح القدير، للشوكاني (5/ 444)، تفسير الرازي: مفاتيح الغيب (30/ 155).
[2] الحفظ التربوي، د. خالد بن عبد الكريم اللاحم (ص: 95).
[3] تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، لابن جماعة (ص: 37).
[4] الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ (ص: 45).
[5] مقدمة ابن الصلاح (ص: 256).
[6] جمال الدين القاسمي وعصره، لظافر محمد جمال الدين القاسمي (684).
§§§§§§§§§§§§§§§