عبد الله بوراي
2010-09-04, 11:44 PM
بقلم: أ. د. عبد الرحمن البر
وبعد.. فقد كثُر سؤال بعض الأحبة عن صدقة الفطر، فكتبت هذه السطور إجابةً لهم، وبخاصةٍ السؤال المتكرر عن حكم إخراج القيمة في صدقة الفطر، أسأل الله أن يجعل ما أكتب وأقول عملاً صالحًا خالصًا متقبلاً.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ" (متفق عليه) (1)، وفي رواية: قال عبد الله: فَجَعَلَ النَّاُس عِدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ، وفي رواية عند مسلم: فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
في هذا الحديث بيان لما يجب على المسلم الذي أتمَّ صيام رمضان وأرضى ربه فيه، وأقبل على العيد المبارك منتظرًا جائزته من الله رب العالمين، فإن صيامه معلَّق حتى يُخرج زكاة الفطر عن نفسه وعمن تلزمه نفقته، طيبةً بذلك نفسه، راضيًا بذلك قلبه، ففي هذه الزكاة طهرةٌ لصيامه مما قد يكون شابه من لغو أو رفث، أو حصل فيه من تقصير، كما أن فيها معنى اجتماعيًّا كريمًا؛ إذ هي طعمةٌ للمساكين؛ حتى لا يضطروا إلى سؤال الناس في هذا اليوم المبارك يوم العيد.
أما مقدار هذه الصدقة فيسير على العبد، فهو مقدار صاع من الحبوب التي يأكل منها ويدَّخر، أو من الطعام الذي يتناوله.. صاع عن كل فرد ممن تلزمه نفقته، حتى الوليد الذي أدرك شيئًا يسيرًا من رمضان، يشترك في ذلك الحر والعبد والذكر والأنثى، ويشترك في إخراجها من ملك ما يزيد على قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته، وحتى الفقير الذي لا يجد، إن أخذ الصدقات فحاز منها ما يزيد على قوته وقوت عياله ليوم العيد وليلته؛ وجب عليه أن يخرج تلك الصدقة، وبذلك تتعوَّد الأمة كلها على البذل والعطاء والسخاء، ويتحقق فيها التكافل والتعاون بأبهى صوره وأجمل معانيه.
وقت إخراج زكاة الفطر
قول ابن عمر: "وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ" يدل على أن المبادرة بها هي المأمور بها، فلو أخَّرها عن الصلاة أَثِم، وخرجت عن كونها صدقة فطر، وصارت صدقة من الصدقات، كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ؛ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ" (2).
وفي هذا دليل على أن وجوبها مؤقت بوقت محدد، فقيل: تجب من فجر أول شوال لقول ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نُخْرِجَهَا قَبْلَ أَنْ نَخْرُجَ إِلَى الصَّلاةِ، ثُمَّ يَقْسِمُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمَسَاكِينِ إِذَا انْصَرَفَ، وَقَالَ: "أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ" (3).
وقيل: من غروب آخر يوم من رمضان؛ لقوله: "طُهْرَةً لِلصَّائِمِ"، وقيل: تجب بمضيِّ الوقتين؛ عملاً بالدليلين.
والحكمة في تقديمه قبل الخروج للعيد: إغناء الفقراء عن الطواف في الأزقَّة والأسواق لطلب المعاش في هذا اليوم؛ أي يوم العيد، وإغناؤهم يكون بإعطائهم صدقة أول اليوم.
هل يجوز تقديم زكاة الفطر؟
في جواز تقديمها أقوال:
منهم من ألحقها بالزكاة، فقال: يجوز تقديمها ولو إلى عامين.
ومنهم من قال: يجوز في رمضان لا قبله؛ لأن لها سببين: الصوم والإفطار، فلا تتقدمهما، كالنصاب والحول.
وقيل: لا تقدم على وقت وجوبها إلا ما يغتفر كاليوم واليومين، وقد فعله ابن عمر، فعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِزَكَاةِ الْفِطْرِ؛ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُؤَدِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ.
والذي أراه مناسبًا في هذا العصر: تقديمها من منتصف شهر رمضان؛ ليتهيأ للفقير الانتفاع بها، وتحقيق الإغناء قبل يوم العيد.
هل يجوز إخراج القيمة نقداً في صدقة الفطر؟!
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
* فذهب فريق من العلماء إلى عدم جواز إخراج القيمة في صدقة الفطر، ووجوب إخراجها من الأصناف الخمسة المذكورة في الأحاديث، وهي التمر والشعير والبرّ والزبيب والإقط، وألحقوا بذلك الأرز ونحوه من الحبوب.
وحجتهم: أن هذا هو الذي ورد في السنة النبوية، وأن زكاة الفطر من العبادات، والأصل في العبادات التوقيف، ولا يجري فيها القياس ولا الاستحسان ولا الاستصلاح، وقالوا: إن الدراهم والدنانير كانت موجودةً وقت التشريع ولم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك.
* وذهب عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة ورواية عن أحمد ويحيى بن معين وغيرهم؛ إلى جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر تلك الأصناف لأنها كانت المتيسرة لهم.
قال ابن القيم في (إعلام الموقعين): "فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين، أو غير ذلك من الحبوب، فإذا كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنًا ما كان.. هذا قول جمهور العلماء، وهذا الصواب الذي لا يقال بغيره؛ إذ المقصود سدّ خلة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جنس ما يقتاته أهل بلدهم، وعلى هذا فيجزئ إخراج الدقيق وإن م يصح فيه الحديث".
إلى أن قال: "وإنما نص على الأنواع المخرجة؛ لأن القوم لم يكونوا يعتادون اتخاذ الأطعمة يوم العيد، بل كان قوتهم يوم العيد كقوتهم سائر السنة، ولهذا لما كان قوتهم يوم عيد النحر من لحوم الأضاحي أمروا أن يطعموا منها القانع والمعتر، فإذا كان أهل بلد أو محلة عادتهم اتخاذ الأطعمة يوم العيد جاز لهم، بل يشرع لهم أن يواسوا المسكين من جنس أطعمتهم، فهذا محتملٌ يسوغ القول به، والله أعلم".
وهذا الكلام من ابن القيم جيد نفيس، يبين أن صدقة الفطر إنما شُرعت للمواساة، وأن ما يحقق المواساة يجوز العمل به، وعلى هذا يجوز إخراج القيمة نقدًا؛ لما في ذلك من منفعة الفقير ومواساته، ومن التيسير على المكلفين، بل إن الذي يُخرج القيمة يعد مخرجًا للصدقة وزيادة؛ حيث أعطى الفقير عمليًّا فرصة اختيار ما يشاء من الأطعمة، أو اختيار سواها مما يحقق له الإغناء ومما هو في نظره أهم.
ويلاحظ أن أصحاب القول الأول الذين يتشدَّدون في إخراج الحبوب قد قيَّدوا ما لم يقيِّده الشارع، فإن الأحاديث المذكورة لم يرد فيها من كلامه صلى الله عليه وسلم مطلقاً ولا في كلام أصحابه رضي الله عنهم أي لفظ يدل على التعيين أو على منع إخراج غيرها وعدم جوازه، ولذلك قال ابن القيم ما سبق أن نقلته عنه، بل إن هؤلاء المتشددين قد وجدوا أنفسهم مضطرين إلى أن يقيسوا الأرز أو الذرة أو غيرها من الأصناف التي لم تذكر في النصوص على الأصناف التي ذُكرت.
والادِّعاء بتقييدها بالحبوب- ومن ثمَّ إدخال تلك الأصناف فيها- ادِّعاءٌ لا يستند إلى نص ولا مفهوم، ولذلك أجاز ابن القيم الأطعمة من غير الحبوب، وأيًّا ما كان الأمر فإن الذي يجيز إخراج شيء من غير الأصناف المذكورة في النصوص ملزمٌ ولا بد بتجويز إخراج القيمة؛ إذ لا فرق بين الأمرين.
أما قولهم: إن زكاة الفطر من العبادات والأصل فيها التوقيف، فيجاب عنه بأن زكاة الفطر في أصلها معقولة المعنى كزكاة المال؛ إذ المراد منها إغناء الفقراء وسد حاجات المحتاجين، فيجب النظر فيها إلى ما هو أيسر على المعطي وأنفع للآخذ، وليست مثل عدد الصلوات التي لا دخل للعقل في تحديدها، ألا ترى أن المعطي لو أعطى أكثر مما يجب عليه قُبل منه، بينما المصلي لو زاد في عدد الركعات بطلت صلاته؟!
وأما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الدنانير والدراهم ولم ينقل عن الصحابة أنهم أخرجوها في زكاة الفطر، فيجاب عنه: بأنها كانت قليلة عزيزة عندهم، وكانوا يتبادلون هذه المواد الغذائية كأنها نقود، فلم يكن من الحكمة تكليفهم بما يشق عليهم، ثم إن تحديد مبلغ نقدي معين قد تتغير قيمته بتغير الأيام، لكنَّ ربطه بشيء يحتاجه الإنسان يكون أضبط، ولا يتأثر بارتفاع الأسعار أو انخفاضها.
فإذا كان الحال قد تغيَّر، وصارت النقود هي الأسهل، وهي المحققة للمقصود الشرعي، وهي الأيسر على المكلف والأنفع للآخذ، فما المانع أن يخرج المكلف القيمة إن شاء؟ وبذلك نعفيه من مشقة شراء الحبوب، ونعفي الفقير من مشقة تخزينها أو إعادة بيعها بأقل من سعرها، كما نحمي الأمة من جشع بعض التجار الذين يستغلون ذلك لرفع الأسعار، بل ونحمي الشريعة من العبث الذي يفعله بعض الناس في بعض البلاد حين يقف التاجر فيبيع للشخص المقدار الشرعي من الأرز مثلاً، وعلى مقربة منه يقف الفقراء الذين يأخذون الأرز من المزكِّي ليعيدوا بيعه- أو تسليمه- للتاجر ليعيد بيعه لشخص جديد، وهلمَّ جرَّا.
ولهذا فإنني مع أكثر أهل العلم الموثوق بدينهم وعلمهم في عصرنا؛ الذين أجازوا إخراج القيمة، بل اعتبروا إخراج القيمة أفضل من إعطاء الحبوب؛ لما يترتب على ذلك من مصالح شرعية وقضاء لمصالح المسلمين، والله أعلم.
---------
الهوامش:
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر 3/367 (1503) وباب: صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين 3/369 (1504)، وباب: صدقة الفطر صاعًا من تمر 3/371 (1507)، وباب: الصدقة قبل العيد، وباب: صدقة الفطر على الحر والمملوك 3/375 (1509 ، 1511)، وباب : صدقة الفطر على الصغير والكبير 2/377 (1512) ، ومسلم في كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير 2/677 (984/12-16).
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر 2/111(1609)، وابن ماجه في كتاب: الزكاة، باب: صدقة الفطر (1817)، وصححه الحاكم على شرط البخاري.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة، باب: متى تؤدَّى؟ 2/111(1610)، وصححه ابن خزيمة (2253).
----------
* أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد.
وبعد.. فقد كثُر سؤال بعض الأحبة عن صدقة الفطر، فكتبت هذه السطور إجابةً لهم، وبخاصةٍ السؤال المتكرر عن حكم إخراج القيمة في صدقة الفطر، أسأل الله أن يجعل ما أكتب وأقول عملاً صالحًا خالصًا متقبلاً.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ" (متفق عليه) (1)، وفي رواية: قال عبد الله: فَجَعَلَ النَّاُس عِدْلَهُ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ، وفي رواية عند مسلم: فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
في هذا الحديث بيان لما يجب على المسلم الذي أتمَّ صيام رمضان وأرضى ربه فيه، وأقبل على العيد المبارك منتظرًا جائزته من الله رب العالمين، فإن صيامه معلَّق حتى يُخرج زكاة الفطر عن نفسه وعمن تلزمه نفقته، طيبةً بذلك نفسه، راضيًا بذلك قلبه، ففي هذه الزكاة طهرةٌ لصيامه مما قد يكون شابه من لغو أو رفث، أو حصل فيه من تقصير، كما أن فيها معنى اجتماعيًّا كريمًا؛ إذ هي طعمةٌ للمساكين؛ حتى لا يضطروا إلى سؤال الناس في هذا اليوم المبارك يوم العيد.
أما مقدار هذه الصدقة فيسير على العبد، فهو مقدار صاع من الحبوب التي يأكل منها ويدَّخر، أو من الطعام الذي يتناوله.. صاع عن كل فرد ممن تلزمه نفقته، حتى الوليد الذي أدرك شيئًا يسيرًا من رمضان، يشترك في ذلك الحر والعبد والذكر والأنثى، ويشترك في إخراجها من ملك ما يزيد على قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته، وحتى الفقير الذي لا يجد، إن أخذ الصدقات فحاز منها ما يزيد على قوته وقوت عياله ليوم العيد وليلته؛ وجب عليه أن يخرج تلك الصدقة، وبذلك تتعوَّد الأمة كلها على البذل والعطاء والسخاء، ويتحقق فيها التكافل والتعاون بأبهى صوره وأجمل معانيه.
وقت إخراج زكاة الفطر
قول ابن عمر: "وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ" يدل على أن المبادرة بها هي المأمور بها، فلو أخَّرها عن الصلاة أَثِم، وخرجت عن كونها صدقة فطر، وصارت صدقة من الصدقات، كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ؛ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ" (2).
وفي هذا دليل على أن وجوبها مؤقت بوقت محدد، فقيل: تجب من فجر أول شوال لقول ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نُخْرِجَهَا قَبْلَ أَنْ نَخْرُجَ إِلَى الصَّلاةِ، ثُمَّ يَقْسِمُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمَسَاكِينِ إِذَا انْصَرَفَ، وَقَالَ: "أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ" (3).
وقيل: من غروب آخر يوم من رمضان؛ لقوله: "طُهْرَةً لِلصَّائِمِ"، وقيل: تجب بمضيِّ الوقتين؛ عملاً بالدليلين.
والحكمة في تقديمه قبل الخروج للعيد: إغناء الفقراء عن الطواف في الأزقَّة والأسواق لطلب المعاش في هذا اليوم؛ أي يوم العيد، وإغناؤهم يكون بإعطائهم صدقة أول اليوم.
هل يجوز تقديم زكاة الفطر؟
في جواز تقديمها أقوال:
منهم من ألحقها بالزكاة، فقال: يجوز تقديمها ولو إلى عامين.
ومنهم من قال: يجوز في رمضان لا قبله؛ لأن لها سببين: الصوم والإفطار، فلا تتقدمهما، كالنصاب والحول.
وقيل: لا تقدم على وقت وجوبها إلا ما يغتفر كاليوم واليومين، وقد فعله ابن عمر، فعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِزَكَاةِ الْفِطْرِ؛ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُؤَدِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ.
والذي أراه مناسبًا في هذا العصر: تقديمها من منتصف شهر رمضان؛ ليتهيأ للفقير الانتفاع بها، وتحقيق الإغناء قبل يوم العيد.
هل يجوز إخراج القيمة نقداً في صدقة الفطر؟!
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
* فذهب فريق من العلماء إلى عدم جواز إخراج القيمة في صدقة الفطر، ووجوب إخراجها من الأصناف الخمسة المذكورة في الأحاديث، وهي التمر والشعير والبرّ والزبيب والإقط، وألحقوا بذلك الأرز ونحوه من الحبوب.
وحجتهم: أن هذا هو الذي ورد في السنة النبوية، وأن زكاة الفطر من العبادات، والأصل في العبادات التوقيف، ولا يجري فيها القياس ولا الاستحسان ولا الاستصلاح، وقالوا: إن الدراهم والدنانير كانت موجودةً وقت التشريع ولم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك.
* وذهب عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة ورواية عن أحمد ويحيى بن معين وغيرهم؛ إلى جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر تلك الأصناف لأنها كانت المتيسرة لهم.
قال ابن القيم في (إعلام الموقعين): "فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين، أو غير ذلك من الحبوب، فإذا كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن والسمك أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائنًا ما كان.. هذا قول جمهور العلماء، وهذا الصواب الذي لا يقال بغيره؛ إذ المقصود سدّ خلة المساكين يوم العيد ومواساتهم من جنس ما يقتاته أهل بلدهم، وعلى هذا فيجزئ إخراج الدقيق وإن م يصح فيه الحديث".
إلى أن قال: "وإنما نص على الأنواع المخرجة؛ لأن القوم لم يكونوا يعتادون اتخاذ الأطعمة يوم العيد، بل كان قوتهم يوم العيد كقوتهم سائر السنة، ولهذا لما كان قوتهم يوم عيد النحر من لحوم الأضاحي أمروا أن يطعموا منها القانع والمعتر، فإذا كان أهل بلد أو محلة عادتهم اتخاذ الأطعمة يوم العيد جاز لهم، بل يشرع لهم أن يواسوا المسكين من جنس أطعمتهم، فهذا محتملٌ يسوغ القول به، والله أعلم".
وهذا الكلام من ابن القيم جيد نفيس، يبين أن صدقة الفطر إنما شُرعت للمواساة، وأن ما يحقق المواساة يجوز العمل به، وعلى هذا يجوز إخراج القيمة نقدًا؛ لما في ذلك من منفعة الفقير ومواساته، ومن التيسير على المكلفين، بل إن الذي يُخرج القيمة يعد مخرجًا للصدقة وزيادة؛ حيث أعطى الفقير عمليًّا فرصة اختيار ما يشاء من الأطعمة، أو اختيار سواها مما يحقق له الإغناء ومما هو في نظره أهم.
ويلاحظ أن أصحاب القول الأول الذين يتشدَّدون في إخراج الحبوب قد قيَّدوا ما لم يقيِّده الشارع، فإن الأحاديث المذكورة لم يرد فيها من كلامه صلى الله عليه وسلم مطلقاً ولا في كلام أصحابه رضي الله عنهم أي لفظ يدل على التعيين أو على منع إخراج غيرها وعدم جوازه، ولذلك قال ابن القيم ما سبق أن نقلته عنه، بل إن هؤلاء المتشددين قد وجدوا أنفسهم مضطرين إلى أن يقيسوا الأرز أو الذرة أو غيرها من الأصناف التي لم تذكر في النصوص على الأصناف التي ذُكرت.
والادِّعاء بتقييدها بالحبوب- ومن ثمَّ إدخال تلك الأصناف فيها- ادِّعاءٌ لا يستند إلى نص ولا مفهوم، ولذلك أجاز ابن القيم الأطعمة من غير الحبوب، وأيًّا ما كان الأمر فإن الذي يجيز إخراج شيء من غير الأصناف المذكورة في النصوص ملزمٌ ولا بد بتجويز إخراج القيمة؛ إذ لا فرق بين الأمرين.
أما قولهم: إن زكاة الفطر من العبادات والأصل فيها التوقيف، فيجاب عنه بأن زكاة الفطر في أصلها معقولة المعنى كزكاة المال؛ إذ المراد منها إغناء الفقراء وسد حاجات المحتاجين، فيجب النظر فيها إلى ما هو أيسر على المعطي وأنفع للآخذ، وليست مثل عدد الصلوات التي لا دخل للعقل في تحديدها، ألا ترى أن المعطي لو أعطى أكثر مما يجب عليه قُبل منه، بينما المصلي لو زاد في عدد الركعات بطلت صلاته؟!
وأما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الدنانير والدراهم ولم ينقل عن الصحابة أنهم أخرجوها في زكاة الفطر، فيجاب عنه: بأنها كانت قليلة عزيزة عندهم، وكانوا يتبادلون هذه المواد الغذائية كأنها نقود، فلم يكن من الحكمة تكليفهم بما يشق عليهم، ثم إن تحديد مبلغ نقدي معين قد تتغير قيمته بتغير الأيام، لكنَّ ربطه بشيء يحتاجه الإنسان يكون أضبط، ولا يتأثر بارتفاع الأسعار أو انخفاضها.
فإذا كان الحال قد تغيَّر، وصارت النقود هي الأسهل، وهي المحققة للمقصود الشرعي، وهي الأيسر على المكلف والأنفع للآخذ، فما المانع أن يخرج المكلف القيمة إن شاء؟ وبذلك نعفيه من مشقة شراء الحبوب، ونعفي الفقير من مشقة تخزينها أو إعادة بيعها بأقل من سعرها، كما نحمي الأمة من جشع بعض التجار الذين يستغلون ذلك لرفع الأسعار، بل ونحمي الشريعة من العبث الذي يفعله بعض الناس في بعض البلاد حين يقف التاجر فيبيع للشخص المقدار الشرعي من الأرز مثلاً، وعلى مقربة منه يقف الفقراء الذين يأخذون الأرز من المزكِّي ليعيدوا بيعه- أو تسليمه- للتاجر ليعيد بيعه لشخص جديد، وهلمَّ جرَّا.
ولهذا فإنني مع أكثر أهل العلم الموثوق بدينهم وعلمهم في عصرنا؛ الذين أجازوا إخراج القيمة، بل اعتبروا إخراج القيمة أفضل من إعطاء الحبوب؛ لما يترتب على ذلك من مصالح شرعية وقضاء لمصالح المسلمين، والله أعلم.
---------
الهوامش:
(1) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر 3/367 (1503) وباب: صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين 3/369 (1504)، وباب: صدقة الفطر صاعًا من تمر 3/371 (1507)، وباب: الصدقة قبل العيد، وباب: صدقة الفطر على الحر والمملوك 3/375 (1509 ، 1511)، وباب : صدقة الفطر على الصغير والكبير 2/377 (1512) ، ومسلم في كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير 2/677 (984/12-16).
(2) أخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر 2/111(1609)، وابن ماجه في كتاب: الزكاة، باب: صدقة الفطر (1817)، وصححه الحاكم على شرط البخاري.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة، باب: متى تؤدَّى؟ 2/111(1610)، وصححه ابن خزيمة (2253).
----------
* أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد.