عرض مشاركة واحدة
  #20  
قديم 2011-04-02, 09:42 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي

الإعجاز النظمى و البيانى :


أنزل الله تعالى القرأن الكريم بلسان عربى مبين على قلب رسوله الأمين فى زمن ما أتقنت فيه العرب أمراً إتقانها الكلمة الفصيحة حتى ترنمت ببلاغتها و تسابقت فى صياغتها فعقدت لها الأسواق و صنف أهلها على طبقات و تبارى فيها الشعراء و الأدباء ، فكم رفعت أقواماً و سُببت رزقاً يقتات عليه كثير من الفصحاء، و ظهرت جبال الأدب القديم أمثال النابِغَة الذُبياني و علَقَمَةِ الفَحل و عمرو بنِ كُلثوم و عَنتَرَة بن شَدّاد و الأعشى وامرؤ القَيس و طَرَفَة بن العَبد و لبيد بن ربيعة العامريو الحارث بن حلزة و زهير بن أبي سُلمى و ثابت بن جابر و حاتَم الطائي و عَبيد بن الأبرَص

و القائمة تطول حتى قد تطال كل بيت رجالاً و نساءً، فى عصر كان العرب الأقحاح يحسنون الشعر و التنسيق بالسجية حتى كانوا يرتجلونه بمهارة و يسر كما يرتجل أحدنا مجرد الكلام ، ، و من شاء فليراجع حديث أم زرع و حديث عمرو ابن سالم ، و ليقرأ ديوان على أبى طالب ليعرف لسان القوم

و رغم ذلك فإن الله إختار من بين هؤلاء الأفذاذ محمداً صلى الله عليه و سلم لينزل عليه النبأ العظيم و القول الثقيل الذى صار دائماً و أبداً دستور االفصاحة و أعجوبة البيان فكان مجيئه بالكتاب الذى أعجز لسانهم و القول الذى اشرأبت له أعناقهم بعد أربعين سنة قضاها بينهم ذلك النبى الأمى ما نطق فيها الشعر و ما عرفت عنه هذه الملكة التى تظهر فى الإنسان مبكراً إعجاز على إعجاز لقوم يعقلون ((قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ))

و قد نزل القرأن يتحداهم ليل نهار بل و يتدرج فى التحدى مبالغة فى الإبهار

* فتحداهم أولاً أن يأتوا بسورة مثله فقال تعالى ((َأمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ))
* ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور فقط مثله ((أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ))
* ثم بلغ ذروة التحدى فى أن يأتوا و لو بسورة من مثله ، و أنهم ما لا يفعلون ولن يفعلواَ أبداً ((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ))
فما استطاعو أن ينجزو التحدى الذى أعجزهم
((قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً))
فلما أيقنت العرب -كما يوقن حالياً كل من يتبحر فى علوم اللغة و الأدب - أنهم أبعد ما يكون عن محاكاة بلاغة القرأن إنصرفوا إلى الصد عنه و إلصاق التهم برسول الله:

- فتارة يقولون عن القران أنه سحر((وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ))
- و تارة يتهمون رسول الله بالجنون ((وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ))
فرد الله قولهم بتذكيرهم أن محمداً صلى الله عليه و سلم ليس غريباً تجهلونه بل هو (صاحبكم) الذى تعرفونه و تعلمون رجاحة عقله ورفعة خلقه و سلامة فهمه ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ))
- و تارة يتهمونه بأن القران أضغاث أحلام أو افتراء من عنده او شعر من الأشعار
و قد عبر القرأن عن هذا التخبط الفكرى والَإضطراب الجدلى و الإهتزاز العقدى و التسرع الأعمى أبلغ تعبير و صوره أبدع تصوير بقوله تعالى ((بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ))
فأجابهم ربهم أن رسول الله ما كان ليفترى أو يضل عقله السديد و هو صاحبهم الذى يعلمون ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى))
و رد عليهم بأنه ما تعلم الشعر فى حياته و ما ينبغى أن يقوله و ما يشبه القرأن أشعارهم التى يعهدون ((وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ))
- حتى وصل بهم التخبط أن اتهمو رسول الله بأنه يتعلم القرأن من غلام رومى يعمل حداداً فى مكة
فرد عليهم تعالى بقوله ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ))
فها جاء ذلك الأعجمى الذى لا يكاد للعربية يبين بهذا اللسان العربى الرزين الفصيح؟!

و من خوفهم كانوا يتعمدون اللغو و التشويش على رسول الله حين يقرأ القرأن على الناس و يلزمونه كلما اتجه ليقابل حاجاً أو وافداً يشوهون صورته و يحذرون و يتوعدون و يحولون بين القرأن و بين الأذان ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ))

فانشغلوا بكل هذا المحاولات وزادوا عليها الإرهاب و التغريب والقتل و التهديد، و حباكة المؤامرات و المقاطعة الاقتصادية و اعلان الحرب العسكرية ليصدو الناس عن القرأن الذى عجزوا عن الإتيان و لو بسورة من مثله و هو يتحداهم صباحاً و مساءً و لو فعلوا لكفوا أنفسهم ما حاق بهم من الجهد و الخسران

و لكن و لله الحمد فرغم حربهم الضروس ما استطاعو أن يطفئوا نور الله تعالى فقد دخل القرأن إلى الأسماع فاستقر منها فى القلوب و صارت تلاوته تتردد على ألسن الملايين العربى منهم و الأعجمى يبكى العيون ، و سيظل كذلك حتى يرفعه إليه الحى القيوم

و لم يقف الأمر بالعرب عند العجز عن محاكاة القرأن بل ما ملكت أنفسهم إلا أن تقر بإعجازه و روعته سراً و جهاراً جميعاً و أشتاتاً بلسان الحال و المقال

و هذا عتبة ابن الربيعة لما اختارته قريش ليفاوض رسول الله فظل يرغبه و يعرض العروض فلما انتهى تلا عليه رسول الله أيات سورة فصلت فظل يستمع كأن على رأسه الطين معتمداً على يديه فلما فرغ رسول الله عاد ليقول لقومه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة (سيرة ابن هشام 2/130، البداية و النهاية البداية والنهاية 3/60 )

و فى حديث الزهرى: ( أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا . فجمعهم الطريق فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ، ثم انصرفوا ، حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا ..) (سيرة ابن هشام 2/157)


و هذا الوليد بن المغيرة ينطق بالحق لما سمع شيئاً من القرأن فقال: ((إن لكلامه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمورق، وإن أسلفه لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، والله ما هو بالشعر ولا بالنثر)) (صححه الألبانى على شرط الشيخين)
فالعرب كانت تقسم الأدب إلى شعر له وزن و قافية و بحور، و نثر ليس له وزن و لا قافية فى الأغلب و كذا ليس له بحور
فإذا بالقرأن يأتى بلون جديد لا يندرج تحت هذا ولا ذاك بل يفوق بلاغة الصنفين و يتسع نمطه عنهما !
فصار العرب يقسمون الأدب نثراً و شعراً و أسلوب قرأنى


* لذا نجد من المضحك محاولات بعض أنصاف الأميين الجهال الأعاجم محاكاة القرأن فى هذه الخاصية ، و كلهم فى الواقع عيال عليه مقتدين به معترفين بإمامته فى التقليد و الإقتباس دون ان يدروا !
و رغم ذلك فحتى مجرد التقليد و الإقتباس فشلوا فيه و ظهر العجز و البون بين مشوهات المقدلين و أيات الذكر الحكيم، و ما جرأهم على ذلك إلا جهلهم بالأدب فجعلوا أنفسهم أضحوكة العالمين و ذلك جزاء من يهرف بما لا يعرف

و كان الأولى بهم كما جاء القرأن بالجديد فى فن حباكة البلاغة فى بديع النظم الذى ابتكره، أن يأتو بكلام أياً كان منهاجه و نمطه من مواهبهم بحيث إذا قيس بمقياس الفضيلة البيانية مع القرأن حاذاه أو قاربه
يقول الدكتور محمد دراز : ((فإن المتنافسين فى حلبة البيان يعمد كل منهم إلى التعبير عن غرضة بالطريقة التى يرضاها و على الوجه الذى يستمليه من نفسه ثم يقع بينهم التماثل أو التفاضل على قدرما يتحقق فى كلامهم من حاجات البيان ، أو ينقص منها و إن اختلفت المذاهب التى إنتحاها كل منهم.......هب أن المدعويين لمعارضة القرأن فيهم الأكفاء للنبى فى الفطرة و السليقة ، أو من هم أكمل فيها، أو هبهم جميعاً دونه فى تلك المنزلة ، فأما الأعلون فسيجيئون على وفق سليقتهم بقول أحسن من قوله و أما الأنداد فسيجيئون بقول مثله ، و أما الأخرون فلن يكبر عليهم أن يقاربوا أو يجيئو بشىئ من مثله ، و لو تحقق شىء من المراتب الثلاثة لكان كافياً فى رد الحجة ، و إبطال التحدى )) النبأ العظيم صــ95

و من أوجه الإعجاز فى نظم القرأن كما أوردها الباقلانى و الرافعى و دراز و غيرهم :-

أولا: أن نظم القرآن وقع موقعاً في البلاغة يخرج عن عادة كلام الإنس والجن، و ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول وعلى هذا القدر، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدود، وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويقع فيها ما نبديه من التعمل والتكلف والتجوز والتعسف.

ثانياً: القرآن على طوله و كثرته متناسباً في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به، فقال عز وجل: " اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابَاً مُتَشَابِهاً، مَّثَانِيَ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ قُلُوبُ الَّذِينَ يَخْشَونَ رَبَّهُم، ثُمَّ تَلِينُ، جُلُودُهُم وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِْكْرِ اللّهِ"،
" وَلَوْ كَانَ مَنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً". فأخبر أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت، وبان عليه الاختلال، وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره فتأمله تعرف الفضل.

ثالثاً: نظم القرآن لا يتفاوت ولا يتباين ، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج وحكم وأحكام وإعذار وإنذار ووعد ووعيد وتبشير وتخويف وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة، وسير مأثورة وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها.
** ببنما كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتاً بيناً في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع، و يختلف على حسب اختلاف الأمور، فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو، ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح، ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين......ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وبزهير إذا رغب، ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام.، و الشعراء يتفاوتون في نظمهم فنجد فيهم من يجود في الرجز ولا يمكنه نظم القصيد أصلاً، ومنهم من ينظم القصيد ولكن يقصر فيه مهما تكلفه أو عمله. ومن الناس من يجود في الكلام المرسل فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصاناً عجيباً، ومنهم من يوجد بضد ذلك.
لذلك فرغم تنوع أطروحات القرأن و تنوع طول الأيات و السور أو قصرها بحسب الطرح أعقدى أو تشريعى أم قصصى، فإن التحدى القرأنى للبشر يسير على الكل،فالتحدى بالفواصل كما أنه بالطوال و بالمئين كما انه بالقصار ، كل لا يقدر على المجىء بمثله بشر

رابعاً: تأليفه و بنائه الصوتى:فالصوت هو مظهر الانفعال النفسى كما يقول الرافعى، فيصنع ذلك الإنفعال مداته و غناته و شدته و لينه و بسطه و قبضه إلى أخره،و مادة هذا الصوت الحروف، ثم الجمل المكونة من كلمات، فكل هذا بأوصافه و تتابعه و تدخله و إثارة بعضه بعضاً هو المكون لهذه الصورة الصوتية، و لم يكن يقع هذا على الوجه النافذ إلى أعماق الحس إلا فى القليل النادر من كلام أبلغ بلغائهم، و قد جاء كل هذا فى القرأن على أبلغ ما يكون فى فطرة اللغات كلها، و صار ملازماً لحسن التلاوة و دقة الأداء ، و كلما ضبط المرتل أحكام التجويد العربية ظهر هذا الوجه فى صورته الجامعة فحرك كل نفس تسمعه،سواءً فهمت القرأن أم لم تفهمه، و كأنه صار لغة عالمية يتلقاها الطبع الإنسانى، حتى أن القاسية قلوبهم تهتز عند سماعه ..أهــ

يقول الدكتور محمد دراز ما مخلصه: إننا بسماع القرأن مرتلاً مجوداً مسترعياً حق كل حرب و الغنات و المدات نجد أنفسنا بإزاء لحن عجيب غريب لا نجده فى كلام أخر لو جرد هذا التجريد، و جُود هذا التجويد،و فيه من الإئتلاف و الإتساق ما لا يوجد فى الشعر ولا الموسيقى،فالقصائد تتحد فيها الأوزان بيتاً بيتاً و شطراً شطراً، كذلك الموسيقى تتقارب أصداؤهاو تتشاله فلا يلبث السامع أن يملها إذا أعيدت عليه و كررت بتوقيع واحد

و يشير إلى معنى أخر رحمه الله فى الجمال الصوتى،ذلك أن غرابة هذا الجمال الصوتى من أوجه الإعجاز، إذ أجمع العرب على استحستانه ، و شأن الناس إذا استحسنوا شيئاً اتبعوه،و تنافسوا فى محاكاته، و رغم ذلك ما جرأ الفصحاء منهم على ذلك، لما فيه من منعة أدركها البلغاء منهم تتمثل فى غيب تأليف بنيته، ما اتخذه فى رصفحروفه و كلماته و جمله و أياته، من نظام له سمت وحده،خرج به عن هيئة كل نظم تعاطاه الناس... و أية ذلك أن أحداً لو حاول أن يدخل عله شيئاً من كلام الناس لأفسد بذلك مزاجه فى فم كل قارىء و لجعل نظامه يضطرب فى أذن كل سامع و لنفاه القران عن نفسه كما ينفى الكير خبث الحديد

خامساً: من عجائب كتاب الله أثره فى القلوب ، و قد تناولنا قبلاً الكلام عن أثر تقسيمه الإيقاعى ، فزد عليه أن الحروف و الكلمات و الجمل التى تشكل هذا النص بذلك الإيقاع الفريد تحمل فى ذاتها من القوة و الحكمة و البلاغة و الشفافية و الإقناع و الإمتاع ما بلغت به الغاية، حتى أن مشاعر الرغبة والرهبة والرقة و التفاعل لتعمر الحى إذ يستمع إلى القرأن و ما فيه من النداء و الخطاب، و العقائد و التشريع، و أيات الخلق ، و قصص الحق، و المواعظ والحكم، والمغازي والعبر، فتقشعر منه الجلود و تخشع به القلوب
((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ))
((قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً *ًوَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً))

قال الخطابى: (وقلت في إعجاز القرآن وجها آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ في آحادهم وهو صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ومن الروعة والمهابة في حال أخرى ما يخلص منه إليه, قال الله تعالى ((لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله))...أهـ
و لهذا أسلم قساوسة الحبشة لما استمعوا لكلام الله و أحدث أثره فى قولبهم ((وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ))

سادسا: من أبرزخصائص التعبير القرأنى كما أوردها الدكتور دراز:-
أ‌- القصد فى اللفظ ، و الوفاء فى المعنى: و هاتان نهايتان من نهايات الفضيلة البيانية ،غير أن كل من حاول الجمع بينهما يفشل، فالذى يعمد إلى إيجاز اللفظ لا مناص أن يحيف على المعنى قليلاً أو كثيراً.. و الذى يعمد إلى الوفاء بحق المعنى و إبراز دقائقه فلن يجد بداً من أن يمد فى نفسه مداً لأنه لا يجد فى القليل من اللفظ ما يؤدى عن نفسه رسالتها كاملة
أما القرأن الكريم فهاتين الغايتين على أتمهما فيه فحيثما نظرنا وجدنا بياناً قد قدر على حاجة النفس أحسن تقدير فلا نحس فيه بتخمة الإسراف ولا بمخمصة التقتير، يؤدى لنا من كل معنى صورة نقية لايشوبها شىء مما هو غريب عنها،وافية لايشذ عنها شىء من عناصرها الأصلية، كل ذلك فى أوجز لفظ و أنقاه، ففى كل جملة جهاز من أجهزة المعنى،و فى كل لكمة عضو من أعضائه، و فى كل حرف جزء بقدره، و فى أوضاع كلماته من جملة، و أوضاع جملة من أياته،سر الحياة الذى ينتظم المعنى بأدائه

ب‌- خطاب العامة و خطاب الخاصة: لو أننا خاطبنا الأذكياء بالواضح المكشوف الذى نخاطب به الأغبياء، لنزلنا بهم إلى مستوى لا يرضونه لأنفسهم،و لو أننا خاطبنا العامة باللمحة الدالة و الإشارة المعبرة،لجئناهم من ذلك بما لا تطيقه عقولهم،بل لابد أن نعطى كلا الطائفتين حقه كاملاً و أن نخاطب كل واحد منهما بغير ما نخاطب به الأخرى،أما فى القرأن الكريم،فإن جملة واحدة منه تلقى على العلماء و الجهلاء و إلى الأذكياء و الأغبياء ، و إلى السوقة و الملوك،فيراها كل منهم مقدرة على مقياس عقله، و على وفق حاجته،هذا شىء لا يوجد على أتمه إلا فى القرأن الكريم،و هاتان غايتان لا تلتقيان إلا فيه

جـ- البيان و الأجمال: إذا عمد الناس إلى تحديد أغراضهم لم تتسع للتأويل،و إذا أجملوها ذهبوا إلى الإبهام و الإلباس،فلا يكاد يجتمع لهم هاذان الطرفان فى كلام واحد
أما بالنسبة للقرأن الكريم فإننا نجد فى أسلوبه من الملاسة و الشفوف و الخلو من كل غريب، ما يجعل ألفاظه تسابق معانيها إلى النفس،دون كد خاطر أو استعادة حديث، كأننا قد أحطنا بكل ما تضمنه من معان،
و لككنا إذا أعدنا الكرة، و نظرنا من جديد رأينا أنفسنا إزاء معنى جديد غير الذى سبق إلى فهمنا أول مرة،
مثال ذلك قوله تعالى (( و الله يرزق من يشاء بغير حساب))
فكلمة حساب على كل ما بها من وضوح فى المعنى إلا أن بها من المرونة، ما يبيح أن نذهب فى معناها مذاهب متعددة:
* فتحتمل أنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه أو سائل يسأله فلما بسطت الروزق لهؤلاء و قدرته على هؤالاء؟ و يكون ذلك تقرير لأن الرزق مقدور من الله يجرى بمشيئته لا بعلم العبد و عمله، و فى ذلك تسلية لنفوس الفقراء المسلمين، و استصغار لنفوس المغرورين من المترفين
* و تحتمل أنه يرزق بغير تقتير أو محاسبه لنفسه ، و يكون هذا تنبيه على سعة خزائنه ، و بسطه يده جل شأنه
* و تحتمل أنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر ولا يحتسب، و يكون هذا تلويح للمؤمنين بما سيفتح الله عليهم من أبواب النصر و الظفر، فيبدل عسرهم يسراً و فقرهم غنىً من حيث لا يظنون
* و تحتمل أنه يرزق من يشار بغير محاسبة او معاتبة لخ على عمله
* و تحتمل أنه يرزق رزقاً كثيراً لا يدخل تحت حصر ولا حساب
فكل هذا يدخل فى معانى التعبير البليغ (بغير حساب)

د - إقناع العقل و إمتاع العاطفة: إن قوة التفكير فى الإنسان تبحث عن الحق لمعرفته ، و عن الخير للعمل به،أما قوة الوجدان فإنها تسجل إحساسها بما فى الأشياء من لذة و ألم.
و البيان التام هو الذى يوفى بهاتين الحاجتين، و يمنح النفس حظها من الفائدة العقلية و المتعة الوجدانية معاً، و لم يرد هذا هلى اتمه إلا فى القرأن الكريم، فالحكماء يؤدون إلينا ثمار عقولهم غذاءً لعقولنا و لا تتوجه نفوسهم إلى استهوائنا و اختلاب عواطفنا، أما الشعراء فيسعون لاستثار وجداننا و تحريك مشاعرنا و لا يبالون إن كان ما صوروه غياً أو رشداً حقيقة أم تخيلاً
و لا يوجد إنسان – كما يجمع علماء النفس- تتعادل فيه قوة التفكير و قوة الوجدان و سائر القوى النفسية،و لو مالت هذه القوى إلى شىء من التعادل عند قليل من الناس، فإنها لا تعمل إلا مناوبة فى حال بعد حال، و كلما تسلطت واحدة اضمحلت الأخرى و كاد ينمحى أثرها.
أما القرأن فيجمع بين هذين الطرفين معاً فيجيى من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضى حتى أولئك المتفلسفين المتعمقين، و من المتعة الوجدانية بما يرضى هؤلاء الشعراء المرحين

و لنضرب مثالاً على ذلك من أيات الأحكام:فإن الأحكام فى القرأن لم تأتِ جافة خالية من الغذاء الروحى كما نجدها فى كتب القوانين و كذلك فى كتب السابقين
ففى حكم القصاص على - سبيل المثال- يقول تعالى ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ))
و لننظر إلى الإستدراج إلى الطاعة بقوله (يا أيا الذين أمنوا)
و ترقيق العاطفى فى قوله (أخيه) و قوله (بالمعروف) و قوله (إحسان)
و الإمتنان فى قوله ( تخفيف من ربكم و رحمة)
و التهديد فى ختام الأية العجيبة!
ثم لننظر عن أى شىء يتكلم، فريضة مفصلة فى مسألة دموية!
و سوف ياتى المزيد فى الكلام عن الإعجاز النفسى فى القرأن بإذن الله تعالى




يتبع إن شاء الله...
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس