عرض مشاركة واحدة
  #21  
قديم 2011-04-02, 09:47 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي

الأدب القرأنى و أثره النفسى الباهر:-

إن أسلوب القرأن الأدبى له أثر عظيم فى النفوس، كما أن القرأن إمتاز بالمعالجة النفسية لكل ما يطرحه من قضايا ،إذ بلغ القمة فى التصوير الفنى، و الإفحام فى قوة و أدب الحجاج، و الإبهار فى تناول الطباع النفسية الأصيلة و المتباينة فى النماذج البشرية، و الذروة فى نظم قصصه و عرض تشريعاته و إحكام ألفاظه و فواصله...الخ
و لنعرض ذلك مستعينين بالله متوكلين عليه سبحانه

الإبداع التصويرى و التمثيلى :

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله فى كتابه القيم (التصوير الفنى فى القرأن) ما إختصاره:
[التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن إذ يبدع التعبير بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة , أو الحركة المتجددة . فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة ؛ وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد ؛ وإذا النموذج الإنساني شاخص حي , وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية
فأما الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر يردها شاخصة حاضرة ؛ فيها الحياة ..... فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين إلى مسرح الحوادث , الذي وقعت فيه أو ستقع ؛ حيث تتوالى المناظر , وتتجدد الحركات ؛ وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى , ومثل يضرب ؛ ويتخيل أنه منظر يعرض , وحادث يقع ..... إنها الحياة هنا , وليست حكاية الحياة ]


من روائع إخراج المعانى الذهنية في صورة حسية :

* تأمل قوله تعالى ((مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ))
يصور القرأن العظيم عمل الإنسان الكافر بالرماد و هو ما يبقى من المواد بعد احتراقها، و لو وقف عند هذا الحد لكان كافياً فى بيان الخسران فكل ما يفعله الإنسان الكافر من الصالحات بغير إبتغاء وجه الله لن يراه إلا مشوهاً محروقاً أسوداً دميماً كريهاً لا قيمة له، و مع ذلك إنتقل لمرحلة أخرى إذ جاءت هذا الرماد ريح، و أقل ريح قادرة على أن تنثره و تضيعه أكثر، و مع ذلك وصف هذه الريح بأنها شديدة توكيداً للضياع ، و لم يقف عند هذا بل وصف اليوم الذى جاء فيه هذا الريح الشديد باليوم عاصف، فتأمل روعة التصوير و أثره البيانى لحال الخسران و الندم و الضياع

* و تدبر قوله سبحانه ((لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ))
يريد تعالى أن يبرز حقيقة أنه وحده يستجيب لمن يدعوه , وينيله ما يرجوه ؛ وأن الآلهة التي يدعونها مع الله لا تملك لهم شيئا , ولا تنيلهم خيرا , ولو كان الخير قريبا ؛ فيصور لهذا المعنى هذه الصورة العجيبة وهي صورة تلح على الحس والوجدان , وتجتذب إليها الالتفات , فلا يستطيع أن يتحول عنها إلا بجهد ومشقة ؛ وهي من أعجب الصور التي تستطيع أن ترسمها الألفاظ : شخص حي شاخص , باسط كفيه إلى الماء , والماء منه قريب , يريد أن يُبلغه فاه , ولكنه لا يستطيع , ولو مدّ مدّة فربما استطاع ! .

* و تأمل قوله تعالى (( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ))
يشير سبحانه بهذا التصوير إلى حقيقة المشرك، إذ لا مَنبت له ولا جذور , ولا بقاء له ولا استقرار ,، فيمثل لهذا المعنى بصورة سريعة الخطوات , عنيفة الحركات :
هكذا في ومضة . يخر من السماء من حيث لا يدري أحد , فلا يستقر على الأرض لحظة . إن الطير لتخطفه . أو إن الريح لتهوي به .. وتهوي به في مكان سحيق ! حيث لا يدري أحد كذلك ! وذلك هو المقصود .

*و تأمل قوله تعالى ((قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ))
يحكى سبحانه دعوة المؤمنين أن يرزقهم الصبر و الثبات، و صور الصبر و كأنه ماء بارد يفرغ عليهم أى يصب برفق و تأنى ـ كما أن في الدعاء إستجلاب أقصى ما تحتاجه النفس البشرية من الصبر

*و تأمل فى المقابل قوله تعالى ((فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ)) يتكلم سبحانه ههنا عن الكافرين و عقابهم، و إعتبر العقاب مادة تصب أيضاً لكنه ما قال فأفرغ عليهم، و إنما قال فصب عليهم، لأن العذاب كان يتنزل بشدة و سرعة بلا رأفة أو تأنى فكان يصب صباً،و لهذا وصف العذاب بأنه (سوط عذاب) لأن ضربة السوط تمتاز بالإندفاع فى الحركة و الشدة فى الوقع .


من روائع تصوير الحوادث الماضية :

تأمل قوله تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً . إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً ))
يصور سبحانه حال يوم الأحزب، فهؤلاء هم الأعداء تكالبوا على المؤمنين من كل مكان عدواناً و خيانةً .
و هؤلاء هم المؤمنون إذ الأبصار زائغة و القلوب خافقة حتى يُرى نبضها فى الأعناق . و الوساوس تسرى فى النفوس، هنالك كان البلاء العظيم و الزلزال الشديد .
وهؤلاء هم المنافقون ينبعثون بالفتنة والتخذيل يقولون ( ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) ويقولون لأهل المدينة ( لا بقاء لكم هنا ، ارجعوا إلى بيوتكم فهي في خطر ).
وهؤلاء هم جماعة من ضعاف القلوب يقولون إن بيوتنا مكشوفة , وليست في حقيقتها مكشوفة (إن يريدون إلا فرارا )
وهكذا لا تفلت في الموقف حركة ولا سمة , إلا وهي مسجلة ظاهرة , كأنها شاخصة حاضرة .. فصور بديع السموات و الأرض مشهداً كاملاً لا يُفلت حركة ولا سمة , إلا وهي مسجلة ظاهرة، فتبرز فيه أحوال الظواهر و البواطن, وتلتقي فيه الصورة الحسية بالصورة النفسية ...دون أن يغفل منه قليل أو كثير .

*و تأمل قوله تعالى (( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا .... ))
فصور المجاهدين و هم يحسون الكفار أى يقتلونهم تقتيلاً،إلى أن فشلوا فى الطاعة و تنازعوا فى تنفيذ أمر الرسول ، فعصوه بعدما رأوا ما يحبون من فرار المشركين و تناثر الغنائم ، و ذلك تصوير حى للمشهد الحسى.
ثم إنتقل الى كشف النوايا و إظهار البواطن (منكم من يريد الدنيا و منكم من يريد الاخرة) حتى قال إبن مسعود و الله ما علمت أن فينا من يريد الدنيا قبل هذه الأية!
ثم إنتقل لبيان حكمة تقدير التنازع و المعصية و هى الإبتلاء بالخيرات و الشرور ( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم).
ثم عاد يفصل المشهد الحسى ببراعة، (إذ تصعدون) تهربون فى كل مكان ( ولا تلوون على أحد) لا تلتفتون من سرعة الإندفاع ( و الرسول يدعوكم فى أخراكم) و هذا رسول الله يدعو المؤمنين للثبات و قد صار خلفهم بسبب سرعة إدبارهم و ثباته هو فى أرض المعركة .
ثم إنتقل لوصف حالتهم النفسية( فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ) ثم انزل من بعد الغم ( أمنه نعاساً) فصور النوم كأنه هبة مادية نزلت عليهم من السماء
ثم عاد ليكشف نفسية بعض المتذبذبين(وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)
ثم يحكى الحديث الخفى بينهم (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) فيبادرهم بالإجابة (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)
ثم يحكى قولاً أخر مما أخفوه (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا) فيأتى الرد سريعاً من الله تعالى أمراً رسوله (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)
فرسخ فى الجواب عقيد سليمة فى قدر الله القدير خيره و شره، لذا ختمها مبيناً حكمة ما وقع ( وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)

فما هذا التصوير المبهر الذى يصف المعركة بأوجز ألفاظ كأننا فى ساحتها ،و يصف النيات و يصف النفوس و تقلباتها، و يصف الحديث الخفى بين البعض و حديث أنفسهم، بل و يجيب عليه و يجلى حكمته ؟


من روائع تصوير مشاهد القيامة :

*تأمل قوله تعالى (( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ. مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ))
فهذا مشهد من مشاهد الحشر , مختصر سريع ؛ ولكنه شاخص متحرك . مكتمل السمات والحركات .
هذه جموع خارجة من الأجداث في لحظة واحدة , كأنها جراد منتشر ( ومشهد الجراد المعهود حيث يطير كثيفاً سريعاً مزغللاً للعين يجسد صورة هذا المنظر العجيب )
وهذه الجموع تسرع في سيرها نحو الداعي , دون أن تعرف لمَ يدعوها فهى فى صدمة و موقف غريب منكر بل بالغ النكارة لهم فهو (نُكر) لا تدريه .
( خشعا أبصارهم ) وهذا يكمل الصورة ؛ ويمنحها السمة الأخيرة .
وفي أثناء هذا التجمع والإسراع والخشوع ( يقول الكافرون هذا يوم عسر ) فماذا بقي من المشهد لم يشخص بعد هذه الفقرات القصار ؟ وإن السامعين ليتخيلون اليوم النكر . فإذا هو حشد من الصور .

* و تأمل قوله (( فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازََ .....)) والآية (( وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ .... ))
فلفظة الزحزحة ذاتها تخيل حركتها المعهودة وهذه الحركة تخيل الموقف على شفا النار , ماثلا للخيال والأبصار !


و تدبر قوله تعالى (( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ))
مشهد آخر من مشاهد الإسراع والخشوع , أشد في النفس هولاً وأكمد في التصوير لونا ، يصور أربعة مشاهد لرواية واحدة , يتلو بعضها بعضا في الاستعراض , فتتم بها صورة شاخصة في الخيال , وهي صورة فريدة للفزع والخجل والرهبة والاستسلام , يجللها ظل كئيب ساهم , يكمد الأنفاس !

و تأمل قوله تعالى (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ))
إنها صورة الهول العظمى , التي لا تغني الألفاظ عنها , فلننقلها لتعبر عن نفسها : مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما أرضعت , تنظر ولا ترى , وتتحرك ولا تعي , وبكل حامل تسقط حملها , للهول المروع ينتابها ؛ وبالناس سكارى وما هم بسكارى يتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة , وفي خطواتهم المترنحة . مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج , تكاد العين تبصره بينما الخيال يتملاه , والهول الشاخص يذهله , فلا يكاد يبلغ أقصاه ..أهـ
حتى فى إختيار أصناف الناس لوصف المشهد ، تمعن يا رعاك الله فى حكمة البارى أن تصدر الموقف بحال الأم المرضعة، إذ لا علاقة إنسانية أقوى من علاقة الأم برضيعها و لو واجهت الموت و رأته رأى العين لبذلت نفسها فى سبيل إنقاذ رضيعها، و مع ذلك تتركه يوم النشور و تذهل عنه و تنشغل بنفسها فمصائب الدنيا كافة لا تقارن ساعة من أهوال البعث و القيامة

* و تأمل قوله تعالى (( هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ * وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ))
فها نحن أولاء أمام مشهد لجماعة كانت في الدنيا متوادة متحابة , وهي يوم الحشر متناكرة متدابرة , كان بعضهم يملي لبعض في الضلال ؛ وكان بعضهم يتعالى على المؤمنين , ويهزأ من دعواهم في نعيم الآخرة .
هاهم أولاء يقتحمون النار فوجا بعد فوج , هذا هو الفوج الأول يُنقل إليه نبأ اقتحام الفوج الثاني ( هذا فوج مقتحم معكم " فماذا يكون الجواب ؟ يكون ( لامرحبا بهم , إنهم صالوا النار )! فهل يسكت المشتومون ؟ كلا ! فها هم أولاء يردون ( قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم . أنتم قدمتموه لنا , فبئس القرار )! وإذا دعوة جامعة حزينة ( قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار ) ! ثم ماذا ؟ ثم ها هم أولاء يفتقدون المؤمنين , الذين كانوا يتعالون عليهم في الدنيا وظنون بهم شرا , فلا يرونهم معهم مقتحمين، فيتسائلون فى صدمة، أكنا نسخر من اهل الحق، أم زاغت أعيننا فى الجحيم عنهم فننظر يميناً و يساراً بفزع فلا نجدهم (وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ . أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ . إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)
إننا لنشهد اليوم هذا التخاصم كما لو كان حاضرا في العيان ! وإن كل نفس آدمية لتحس في حناياها وقع هذا المشهد وتتقيه , وتحاذر – لو ينفع الحذر – أن تقع فيه !

فما أعظم تصوير هول الساعة ، يوم فرار المرء من أخيه وأمه وأبيه , وفصيلته التي تؤويه . حيث يكون ((لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ )) فهذا تصوير يقاس بأثره في النفس الإنسانية لا بالمقاييس الأخرى الوصفية .

*وآلام العذاب الشديد في الآخرة , تبدو من خلال صرخات إنسانية , تلقي ظلها من خلال التعبير (( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ )) (( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا))

* ووخزات الخزي في هذا اليوم , لا توصف بالألفاظ , ولكن تبرز من وسط آدمي حي (( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ))


* يوم الحساب لقد تناكر الأصفياء . وتنابز الأولياء , وتخلى المتبوعون عن التابعين حينما شاهدوا الهول يوم الدين . و عبرت أيات الفرقان عن هذا كله، بإستعراض مذهل مفعم بالحياة : ((وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ . وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ))
ففي هذا الاستعراض يتجسم للخيال مشهد من ثلاث فرق :
الضعفاء . الذين كانوا ذيولا للأقوياء وهم ما يزالون في ضعفهم , وقصر عقولهم , وخور نفوسهم . يلجأون إلى الذين استكبروا في الدنيا , يسألونهم الخلاص من هذا الموقف , ويعتبون عليهم إغواءهم في الحياة ؛ متمشين في هذا مع طبيعتهم الهزيلة وضعفهم المعروف .
والذين استكبروا . وقد ذلت كبرياؤهم , وواجهوا مصيرهم . وهم ضيقو الصدور بهؤلاء الضعفاء , الذين لا يكفيهم ما يرونهم فيه من ذلة وعذاب , فيسألونهم الخلاص , وهم لا يملكون لذات أنفسهم خلاصا , أو يذكرونهم بجريمة إغوائهم لهم حيث لا تنفع الذكرى . فما يزيدون على أن يقولوا لهم في سأم وضيق : " لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ " .
والشيطان . بكل ما في شخصيته من مراوغة ومغالطة , واستهتار وتبجح . ومكر " وشيطنة " . يقف وسط الجحيم يخطب فى أتباعه ،فإذا به بعترف – الآن فقط – بأن الله وعدهم وعد الحق , وأنه هو وعدهم فأخلفهم . ثم يمضهم ويؤلمهم , وهو ينفض يديه من تبعاتهم : " وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم " .
لا بل يزيد في تبجحه , فيقول : " إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ " . حقا . إنه لشيطان !
وإن هذا لإبداع في تصوير الموقف الفريد , الذي يتخلى فيه التابع عن المتبوع , ويتنكر المتبوع للتابع . حيث لا يجدي أحدا منهم أن يتخلى أو يستمسك ؛ ولكنها طبيعة كل فريق , تبرز عارية أمام الهول العظيم .



من روائع تصوير الجمادات كأنها حية :

إنه لون من ألوان " التخييل " يتمثل في خلع الحياة على المواد الجامدة , والظواهر الطبيعية , والانفعالات الوجدانية . وتجعل الإنسان يحس الحياة في كل شيء تقع عليه العين , أو يتلبس به الحس , فيأنس بهذا الوجود أو يرهبه , في توفز وحساسية وإرهاف .

*فهاهو الصبح يتنفس (( والصبح إذا تنفس ))
فيخيل إليك بهذا التعبير الحياة الوديعة التي تنفرج عنها ثناياه , وهو يتنفس , فتتنفس معه الحياة , ويدب النشاط في الأحياء , على وجه الأرض والسماء .

*و هاهو الليل يسرى ((والليل إذا يسر )) فتشعر بسريانه في هذا الكون العريض , وتأنس بهذا الساري على هينة واتئاد !

*و هاهى الرياح لواقح ((وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ)) إذ تحمل ماء المطر أو طلع النخيل متنقلة من ذكورها إلى إناثها، فأكسبها هذا التعبير حياة حيوانبة تلقح و تنتج

- و لما ذكرها سبحانه فى سياق العذاب وصفها بالعقم ((وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ)) إذ لا تحمل خيراً فى ذاتها ولا لغيرها، بل تدمر الحياة و تقطع دابر من أصابتهم و تبترهم

*و هاهو الجدار له إرادة ((َوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ)) فصور الجدار و هو متصدع يكاد يهوى كأنه كائن حى له إرادة و إرداته أن يسقط على الأرض....
بل و من العلما من استدل بذلك على اثبات ارادة خاصة بالجمادات، كما أن السماوات و الأرض خاطبتا ربهما و اختارتا الإتيان طوعاً

*وهذا هو الغضب , أو هذا هو الروع , أو هذه هي البشرى , تهيج وتسكن , وتوحي وتسكت ؛ وتجيء وتذهب (( وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ .... )) . (( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ))

*و هذه الجبال يوم القيامة حية ترجف كالأدميين(( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً ))

*و ها هى السماء المنفطرة بجوارها الأطفال الشيب ... ((فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً . السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ... ))

* وهذه جهنم . جهنم النهمة المتغيظة التي لا يفلت منها أحد , ولا تشبع بأحد ! (( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ))
جهنم التي ترى المجرمين من بعيد فتتغيظ وتفور ((إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ . تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ .... )) .
جهنم التي تدعو من كانوا يُدعون إلى الهدى ويدبرون وهم لدعوتها على الرغم منهم يجيبون (( كَلَّا إِنَّهَا لَظَى . نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى . تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى . وَجَمَعَ فَأَوْعَى))

*وهذا هو الظل الذي يلجأ إليه المجرمون (( وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ . لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ))
ففي نفسه كزازة وضيق , لا يحسن استقبالهم , ولا يهش لهم هشاشة الكريم , فهو ليس " لا بارد " فقط , ولكن كذلك " ولا كريم " !



من روائع تجسيم معانى عقلية ومعنوية :

الذي نعنيه هنا بالتجسيم , ليس هو التشبيه بمحسوس . فهذا كثير معتاد , إنما نعني لونا جديدا هو تجسيم المعنويات , لا على وجه التشبيه والتمثيل , بل على وجه التصيير والتحويل .
* تأمل قوله (( وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ))
يتناول حالة التضايق والضجر والحرج التى هى نفسية معنوية فيجسمها كحركة جثمانية ، فالأرض تضيق عليهم , ونفوسهم تضيق بهم كما تضيق الأرض ؛ فيستحيل الضيق المعنوي ضيقا حسيا أوضح وأوقع ؛ فمن ضاقت به نفسه أين يذهب منها؟ لا سبيل إلا باللجوء إلى خالقها ذاته، فأيقنوا ألا ملجأ ومنجى من الله إلا إليه، فلا راحة و إنشراح إلا برحمة الفتاح

*و تدبر قوله (( وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً)) و (( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )) و ((إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ))
فانظر كيف يصف سبحانه حالة عقلية أو معنوية ؛ وهي حالة من لم يستفد بما سمعه من الهدى .. فيجعل كأنما هناك حواجز مادية تفصل بينه وبينه فتغطى العين و السمع و تغلق القلب!

*و تدبر قوله (( كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً))
. فهذا السواد الذي أصاب وجوههم ليس لونا ولا صبغة , وإنما هو قطعة من الليل المظلم ، و كأن رب العزة أحال سواد الليل قطعاً قطعاً تغشى وجوه الكافرين مادياً كل له قطعته !

*و تدبر قوله (( ومن ورائهم عذاب غليظ ))
- و قوله (( ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ))
فينتقل العذاب من معنى مجرد إلى شيء ذي غلظ وسمك ؛ وينتقل اليوم من زمن لا يمسك إلى شيء ذو كثافة ووزن !


*وقوله (( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثا)). لبيان العبث في نقض العهد بعد المعاهدة .

* ومثل (( وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً )). لتفظيع الغيبة , حتى لكأنما يأكل الأخ لحم أخيه الميت !

* و تدبر قوله تعالى (( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ))
أنظر كيف جعل الحق و الباطل كأنهما جسدان حيان يعقلان و يتصارعان، فانقض الحق على الباطل بإذن الله حتى أصابه فى دماغه بالضربة بالقاضية، فاندحر الباطل يقعقع و زهقت روحه!!

- و شبيه هذا قوله(( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)) و (( وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )) و قوله ((ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ )) و قوله ((وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ))
فكأنما الرعب قذيفة سريعة تنفذ في القلوب لفورها . وكأنما العداوة والبغضاء مادة ثقيلة , تلقى بينهم , فتبقى إلى يوم القيامة . وكأنما السكينة مادة مثبتة تنزل على رسول الله وعلى المؤمنين . وكأنما للذل جناح يخفض من الرحمة بالوالدين .
وفي كل مثال من هذه يجتمع التجسيم مع التخييل بحركة هذا الجسم المفروضة .

* و تدبر قوله (( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته )) و ( ألا في الفتنة سقطوا ))
فبعد أن تصبح الخطيئة شيئا ماديا , تتحرك حركة الإحاطة , وبعد أن تصبح الفتنة لجة , يتحركون هم بالسقوط فيها .

* و تدبر قوله تعالى (( ولا تلبسوا الحق بالباطل)) . و(( فاصدع بما تؤمر ))
. ففي المثال الأول يصبح الحق والباطل مادتين تستر إحداهما بالأخرى . وفي المثال الثاني يصبح ما أمر به مادة يشق بها ويصدع , دلالة على القوة والنفاذ .


* و تدبر قوله تعالى (( وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ )) فإن كلمتي [تتبعوا , وخطوات] تخيلان حركة خاصة , هي حركة الشيطان يخطو والناس وراءه يتبعون خطواته . وهي صورة حين تجسم هكذا تبدو عجيبة من الآدميين , وبينهم وبين الشيطان الذي يسيرون وراءه , ما أخرج أباهم من الجنة !
و فيها حكمة تحذيرية أن الشيطان يستدرك الناس خطوة خطوة حتى يصل بهم إلى فعل ما لم يظنوأ أنهم يفعلوه يوماً!

* و تأمل قوله تعالى ((وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ))
فحركة الاشتعال هنا تخيل للشيب في الرأس حركة كحركة اشتعال النار في الهشيم , فيها حياة وجمال لما من شأنه السكون!

و فضل " اشتعل " لما استعير للشيب لأنه يفيد الشمول بجانب لمعان الشيب في الرأس, وأنه قد شاع فيه وأخذه من نواحيه حتى لم يبق من السواد شيء , أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به.
إن الجمال في [ اشتعل الرأس شيبا ]. [ وفجرنا الأرض عيونا ] يقع فى النظم ، و كذلك فى الحركة التخييلية السريعة , التي يصورها التعبير ، حركة الاشتعال التي تتناول الرأس في لحظة , وحركة التفجير التي تفور بها الأرض في ومضة



و من روائع تصويرالقصص :

تدبر ما يقصه تعالى من خبر أصحاب الجنة:
(إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ . وَلا يَسْتَثْنُونَ )
ها نحن أمام أصحاب جنة أرضية و كان للفقراء حظ من ثمر هذه الجنة , ولكن الورثة لا يشاءون ، فأقسموا ليصرمنها أى يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر , دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين ،
ولكن فلننظر ماذا وقع في بهمة الليل حيث يختفون هم؟ هناك مفاجأة تتم خلسة , وحركة خفية كحركة الأشباح في الظلام ! ( فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون , فأصبحت كالصريم وهم لا يشعرون )
والآن ها هم أولاء يتصايحون مبكرين ! وهم لا يدرون ماذا أصاب جنتهم في الظلام ( فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ، فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ. أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ )
ولا يزال أصحاب الجنة على جهلهم بما وقع ، و هاهم يتنادون متخافتين لينفذوا المؤامرة , خشية أن يدخلها عليهم مسكين !
(وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ )
يحسبون إنهم قادرون على (حرد) أى المنع والحرمان، و لكن لنرى من المحروم الحقيقى!
ثم وصلو الجنة فتافجئو و صعقوا و لم يصدقو حتى قالوا( إنا لضالون ) لقد تهنا عن مكان الجنة، ما هذه جنتنا الموقرة بالثمار ! .. فلتتأكدوا !
(بل نحن محرومون ) حتى استوعبوا الصدمة فاعترفوا أنهم هم المحرومون جزاءً من الله لظلمهم.
والآن قد سقط في أيديهم ( قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون )! ألم أقل لكم اتقوا الله و اقدرو قدره لأنه يراقب ظلمكم؟ ( قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين ) الآن وبعد فوات الأوان ! .
وكما يتنصل كل شريك من التبعة عندما تسوء العاقبة , ويتوجه باللوم إلى الآخرين , ها هم أولاء يصنعون ( فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون )
ثم ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعا بالخطيئة , عسى أن يفيدهم الاعتراف الغفران , ويعوضهم من الجنة الضائعة جنة أخرى ( قالوا ياويلنا إنا كنا طاغين . عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها , إنا إلى ربنا راغبون )


* و تأمل قوله تعالى ((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ))
يعرض سبحانه مشهدا من قصة إبراهيم , وهو يبني الكعبة مع ابنه إسماعيل ...و إنها لحركة عجيبة في الانتقال من الخبر إلى الدعاء , هي التي أحيت المشهد وردته حاضرا كأننا نشاهده .
فالخبر ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) كان هو اللمحة التى أظهرت المشهد كاملاً [ البيت , وإبراهيم وإسماعيل , يدعوان هذا الدعاء الطويل ]
وكم في الانتقال هنا من الحكاية إلى الدعاء من إعجاز فني بارز , يزيد وضوحا لو فرضت استمرار الحكاية , ورأيت كم كانت الصورة تنقص لو قيل (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان : ربنا ... إلخ ) إنها في هذه الصورة حكاية , وفي الصورة القرآنية حياة . وهذا هو الفارق الكبير . إن الحياة في النص لتثب متحركة حاضرة . وسر الحركة كله في حذف لفظة واحدة .. وذلك هو الإعجاز .

* ولنتدبر مشهداً من قصة الطوفان (( وهي تجري بهم في موج كالجبال )) وفي هذه اللحظة الرهيبة , تتنبه في نوح عاطفة الأبوة , فإن هناك إبنا له لم يؤمن , وإنه ليعلم أنه مُغرق مع المغرقين . ولكن ها هو ذا الموج يطغى , ويروح في لهفة وضراعة ينادي إبنه جاهرا (( ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا , ولا تكن مع الكافرين )) ولكن البنوة العاقة لا تحفل هذه الضراعة ؛ والفتوة العاتية لا ترى الخلاص إلا في فتوتها (( قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء )) ثم ها هي ذي الأبوة الملهوفة ترسل النداء الأخير (( قال لاعاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم )) وفي لحظة تتغير صفحة الموقف , فها هي ذي الموجة العاتية تبتلع كل شيئ ((وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ))
إن السامع ليمسك أنفاسه في هذه اللحظات القصار و هى يشاهد هول الطوفان ؛ " وهي تجري بهم في موج كالجبال " وصورة والد و ودله ، الوالد الملهوف على فلذة كبده يبعث بالنداء تلو النداء ؛ و الإبن الضال , يأبى إجابة الدعاء ، ينظر مدبراً إلى جبل يستميت ليدركه، فإذا بالموجة القوية العاتية تخلق حاجزاً بين الأب و إبنه فتبتلع الإبن العاق و تحسم الموقف في لحظة سريعة خاطفة .
صورة كما يقاس بمداه في الطبيعة – حيث يطغى الموج على الذرى والوديان . وإنهما لمتكافئان , في الطبيعة الصامتة , وفي نفس الإنسان .
و سوف يأتى الكلام عن روائع قصص القرأن فى فصل مستقل بإذن الله تعالى...

يتبع إن شاء الله...
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس