عرض مشاركة واحدة
  #22  
قديم 2011-04-02, 09:49 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي

* و من الإبداع النفسى فى القرأن تناوله النفس الإنسانية بأعماقها السحيقة و أقسامها العديدة
فها هو يقسمها تقسيم بديع إلى (نفس أمارة بالسوء) و هذا أصلها دون ترويض الوحى
و (نفس لوامة) و هى نفس فى صراع بين الهوى الذى يغريها و الوحى الذى يهديها
و (نفس مطمئنة) و هى النفس التى تزكت و تعطرت، و من الهوى تحررت

و بموجب هذا نجد النص القرأنى عندما يعبر عن البشرى بلفظ (الإنسان) يقصد به الأدمى على أصل طباعه غير المزكاة بالوحى
(َولَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ) ( إنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).. (َخلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) ...(وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) (َكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً)...(وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ)...(فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ)... (إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ)...(بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ)... (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)و الأيات فى ذلك كثيرة، فهذا هو أصل إبن أدم أما إن تزكى بالوحى فلا يلقب فى القرأن بالإنسان و إنما بالمؤمن ، و هذا من لطائف التلميح لتركيب البشر ، و حاجتهم إلى الوحى ، و لهذا يقول تعالى
((لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ))
* و صور القرآن أيضاً ألواناً من النماذج الإنسانية و الخوالج النفسانية والعواطف البشرية كالحب والكره الخوف و الرجاء و الرحمة و القسوة و الحقد والغيرة والحسد والوسوسة و الشك و اليقين و التواضع و المكابرة و البصيرة و الغفلة...إلخ
و لم يكتفى القرأن ببيان هذه الأمور بل أبرزها فى صورة حية متحركة دقيقة الملامح والقسمات صادقة الدلالة قوية الإيحاء، و قد أبدع فى الكلام عنها الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى فى (التصوير الفنى)


من أمثله تصوير الحالات النفسية :

تأمل قوله تعالى (( قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا .... ))
يصور تعالى حال المشرك بعد التوحيد الممزق نفسياً بين الهدى والضلال ، فيصوره إنساناً تعيساً إستهوته الشياطين فى الأرض، و تأمل تعبير (استهوته الشياطين فى الأرض) و ما فيه من معانى الضلال و الفجور و الركون إلى الدنيا
و رغم ذلك فإن هذا الاستهواء لا يرتاح به و يسكن، و و إنما يتعذب ضميره بنداء الهادين " ائتنا ".
وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء " حيران " موزع القلب ، فهو قائم هناك شاخص متلفت معذب فعيشته ضنك رغم أنه أراد السعادة باتياع شياطين الهوى !
و تأمل كذلك قوله ( نرد على أعقابنا) فصور حال الإنسان المرتد بإنسان يسير إلى الخلف يتعثر و هو يرد على عقبه !

تدبر قوله تعالى ((أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ* َيكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))
يضرب القرآن مثلا للمنافقين بأسلوب أخَّاذ يعرض مشهدا حيّاً يرمز به إلى الحالة النفسية،،، و هذا المشهد بما يشيع فيه من حركات و تقلبات يصور واقعهم النفسي وتقلُّبهم بين الكفر والإيمان، ويبرز التناقض بين ما تقول ألسنتهم وما تضمر قلوبهم والاضطراب في حركاتهم متمثلا في التجائهم إلى النور ثم رجوعهم إلى الكفر ويا ليتهم يثبتون في منطقة ضوء الإيمان إذن لسعدوا بحلاوة اليقين، ولكن هذا التقلب المؤسف بين ظلمات الكفر وأنوار الإيمان هو الذي قادهم إلى مصيرهم الفاجع الأليم.
دقق البصر في قوله سبحانه: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} أليس هذا الوصف تعبيرا عن الأطماع التي تحركهم؟ فهم يمشون كلما برقت لهم آمال مصالحهم، ويسيرون كلما لاحت أمامهم فرصة، فإذا انقطع المطمع وأظلمت الآفاق في وجوههم جلسوا متربصين

* و تدبر قوله تعالى (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ))
يصور سبحانه حال من هيأ له العلم و المعرفة بالله , ففر من هذا نور العلم كأن لم يتهيأ له أبداً
و تأمل قوله (فانسلخ) إذ صور العلم الذى يحمى الإنسان و يحيط به، بالجلد و الوبر الذى يحمى الشاة من الأذى و الألم و السقيع و هو من لوازمها الجسدية و الحياتية، إذا انسلخت منه قبحت و اضطربت حياتها
فلما انسلخ من أيات الله و صار بهذا الضعف و الإضطراب أتبعه الشيطان فغواه،و لو شاء الله لرفعه بالعلم و الإيمان، و لكنه اختار الدنو عن العلو فأخلد إلى الحياة الدنيا حيث تسوقه نفسه و وأهواؤه ,و تعبير (أخلد) يعكس قسوة القلب و طول الأمد الذى اغتر به ذلك الإنسان،
فمثله كمثل الكلب يلهث على كل أحواله ، كذلك حال هذا الإنسان فلا هو إستراح و قنع بالغفلة , ولا هو استراح و رقى بالمعرفة فما أبأسه من مثل و ما أروعه من تصوير!

و تدبر قوله تعالى (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ .... ))
يوضح ههنا حالة الإنسان متزعزع العقيدة , فلا يحتمل ما يصادفه من الشدائد بقلب راسخ !
و لننظر فى لفظ " حرف " و الحرف حافة الهاوية، فيصور لين العقيدة كإنسان واقف يصلى على طرف جبل لو تحرك طرف واحد سقط و هلك، فيتخيل الذهن الاضطراب الحسي في وقفته , وهو يتأرجح بين الثبات والانقلاب فى الهاوية،
القرأن العظيم يصور هذا التزعزع و الترنح بأبلغ صورة, لأنها تنطبع في الحس , وتتصل منه بالنفس .

* و تأمل قوله تعالى(( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ... ))
فالله تعالى يجرى هنا مقابلة بين عمل المؤمنين و عمل الكفار و المنافقين، فكلاهما يبنى،
و لكن المؤمن يبنى فى الدنيا و قلبه محب خائف راجى لربه فيكون عمله فيها إبتغاء مرضات الله و وقاية من غضبه و يعمرها بما ينفعه فى أخرته،
أما الكافر و المنافق فلا يبتغى بعمله وجه الله بل يصد عن سبيله، فمثله فى غفلته كشخص يبنى بناية على (شفا جرف هار) أى حافة رفيعة لبئر لم يبن بالحجارة فهو متصدع !
فانظر أرشدك الله كيف صور ضلال الكفر و عمى البصيرة
فالكافر فى غفلة إذ باع أخرته بعرض من الدنيا و طال به الأمل فى حياة زائلة قصيرة - و إن ظنها طويلة- بحيث لا يتخطى أمدها (شفا) يزل عنه الإنسان فى لحظة و مع ذلك لا يدرك هذه الحقيقة!
والكافر فى غفلة إذ يبنى و يجد و هو لا يدرك حقارة و تصدعات الأرض التى إعتمد عليها و اطمئن إليها (جرف هار)
ثم أكمل الحركة الأخيرة بقوله " فانهار به في نار جهنم " وبذلك طوى الحياة الدنيا كلها , و عبر ب (ف) بدلاً من (ثم)
و كذلك إستعمل كلمة (إنهار) تعبيراً عن سرعة إنطواء الحياة و إنقضائها، و تصويراً لحال الكافر الذى لم يقدم لأخرته فيكون موته إنهيار لأمله وظنونه و كيانه فى العذاب السحيق!
كما أن الإنهيار لو وقع فى حفرة عادية لكان عذاباً و ألماً فكيف و هى نار متأججة

و تدبر قوله تعالى ((فما لهم عن التذكرة معرضون* كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة ))
يصور سبحانه حالة الكافر الذى يضيق صدراً بالدعوة ولا يطيق أن يستمع للعظة أو التذكرة،و من روائع هذه الأيات:
أ- بلوغ الغاية فى جمال التصوير ،فما يتخيل العقل نفوراً أشد من نفور الحمر الوحشية تشرد فى الطبيعة بحياتهما من أمام هجوم الأسد الكاسر
ب- كشف نفسية الكافر الذى يحسب الدعوة خطراً على إستقرار حياته، و يحسبها شراً شئوماً مهلكاً فهى مشوهة فى عقله
جـ- بيان جهل الكافر بالدعوة التى يخشاها، و هذا نلمسه فى لفظ (قسورة) إذ هو من أسماء الأسود لكنه إسم غريب قليل الإستعمال و ان استعمل يستعمل معرفاً لا منكراً،فمجيئه منكراً غريب ليوحى بغربة الدعوة بين القلوب المظلمة
د- و كل ما سبق ساقه سبحانه فى سياق تتجلى منه السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما تفر حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدعون إلى الإيمان فالتعبير هنا يحرك مشاعر القارئ وتنفعل نفسه مع الصورة التي نُقلت إليه وفي ثناياها الاستهزاء بالمعرضين



و من أمثلة تصويرالنماذج الإنسانية:

تدبر قوله تعالى (( وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ))
يبين ههنا حال الإنسان الذى لا يعرف ربه إلا في ساعة الضيق , حتى إذا جاءه الفرج نسي ربه المجيب ،و قد إجتمعت لهذا النموذج السريع كل عناصر الصدق النفسي , والتناسق الفني .
فالإنسان حين يمسه الضر , وتتعطل فيه دفعة الحياة , يقف مستبصراً , ويتذكر الخالق , ويلجأ عندئذ إليه ؛ فإذا انكشف الضر وزالت عوائق الحياة تزينت الدنيا فى عينيه فلبّى دعاءها المستجاب , و" مر " كأن لم يكن بالأمس شئ ! إن فتنة الحياة قوة دافعة إلى الأمام , لا تقف أبداً للتفكر , إلا حين يعوقها حاجز عن الجريان .
وأما التناسق الفني فيها فهو في تلك الإطالة في صور الدعوة عند الضر ( دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً) ثم في ذلكك الإسراع عند كشف الضر ( مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ "). إن هاتين الصورتين تمثلان بالضبط وقوف التيار عن الجريان أمام الحاجز القوي , فقد يطول هذا الوقوف ويطول ؛ فإذا فتح الحاجز تدفق التيار في سرعة , و" مر " كأن لم يقف قبل أصلا .
يُطرح هذا النموذج مرات كثيرة في القرآن , ولكنه يحاك من جوانب مختلفة، و تنوع فى التصوير البديع ،

و لنقرأ مثلاً قوله تعالى(( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ . فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ... ))

أخذ لذلك الطبع البشرى صورة قوم ركبوا البحر، و تأمل كيف إنتقل من المخاطب (يسيركم) إلى الغائب فى قوله ( و جرين بهم) لأنهم عندما ركبوا في البحر وجرت بهم الفلك أصبحوا غائبين وليسوا مخاطبين، و هكذا يتسلل التعبير إلى نفس المستمع فيحيا المشهد و كأنه يراه و يتفاعل معه
ثم يكمل الصورة فتجرى سفينتهم بهم و جاءت ريح طيبة هادئة ففرحوا و قروا، لكن فجأة إذا بريح عاصف تهجم عليها، و الموج ينقض عليهم فيعلوهم يميناً و يساراً أمامهم و خلفهم، فتهتز السفينة به هزاً، و لاحظ سرعة تغير الموقف و عنصر المفاجأة فى قوله (وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ) و لم يقل ( ثم جائتها) فلما ظنوا انهم أحيط بهم أخلصت دعوتهم و تذللت قلوبهم لبارئها خوفاً و رجاءً ، فلما أنجاهم منها بنعمته إذا هم يبغون فى الأرض، و لفظة(إذا) تعكس أيضاً سرعة نسيان المحنة و الفضل، و إكتساء القلوب رداء القسوة و النكران
وهكذا تحيا الصورة وتتحرك , وتموج وتضطرب . وترتفع الأنفاس مع تماوج السفينة وتنخفض ؛ ثم تؤدي في النهاية ذلك المعنى المراد , أبلغ أداء وأوفاه
و سيأتى المزيد فى الكلام عن الإعجاز النفسى فى القرأن إن شاء الله تعالى

تدبر قوله تعالى (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ . وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ))
أبرز هنا نموذجاً لأناس ظاهرهم يُغري , وباطنهم يُؤذي . فلما صورهم إستعاض من الوصف الحركة والتصرف , وأبرز المفارقة بين الظاهر والباطن , في نسق من الصور المتحركة في النفس والخيال

و لقد صور القرآن عشرات من " النماذج الإنسانية " في سهولة ويسر واختصار , فما هي إلا جملة أو جملتان حتى يرتسم " النموذج الإنساني " شاخصاً من خلال اللمسات . وينتفض مخلوقا حيا خالد السمات !
و هى نماذج خالدة ,لا يخطئها الإنسان في كل مجتمع , وفي كل جيل .

فتدبر قوله تعالى ((وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ))
صور هنا صنف المنافقين الذين قد يغتر بهم العوام إذ يحاولون التأثير عليهم بتحرى فخامة المظهر الخارجى و انتحال الألقاب فهذا عميد الأدب وذاك المثقف الكبير....الخ
و يستعملون الكلام المزخرف ليستخفوا العقول، فيفضحهم القرأن و يحذر من الإغترار بهم، و يسخر منهم سخرية لاذعة

ونموذج أخر للنفاق و هو المنافق الضعيف , الذي لا يقوى على احتمال تبعة الرأي , ولا يسلم بالحق , وكل همه ألا يواجه البرهان (( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون )) وإنك لتكاد تراهم الآن , وهم ينصرفون متخافتين !

و تنبه للجناس المطرب بين قوله تعالى (انصرفوا) و (صرف الله)
و هذا من أرقى المحسنات اللفظية و سيأتى الكلام عنها فى بحث لاحق بإذن الله

ونموذج المكابرة العجيبة فى قوله ((وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ{14} لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ))

و نموذج النفسية اليهودية و ما شابهها، المميزة بالعنصرية التى لا تقبل الحق إلا عندها، فإن جاء من غيرها تنكرت له و هى تعلم
(( وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ...))

و هى نفسية دأبت على خيانة العهد و خلف الوعد
((أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ))

و نموذج النصارى الضالين و من شابههم فى الضلال ،فهم فى خيال ينافحون عنه و ينتصرون له ظانين أنهم مهتدون
((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً))
فهم أخسر الناس لأنهم عملوا و كدوا فى طريق لا يؤدى إلا لجهنم.

و شبيه هذا قوله تعالى
((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً ))
فهذه أخوف أية فى كتاب الله و كان عمر إبن الخطاب يتأولها على رهبان النصارى و يبكى حين قرائتها، فما أبأس أن يعمل الإنسان حتى ينصب و يترك ملذات الدنيا حلالها قبل حرامها إبتغاء مرضات السراب!
لذا يقول تعالى فى أية أخرى واصفاً حالهم
((وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ.))
أنظر أرشدك الله روعة تصوير ربنا لكافر ضال و هو بعمله و زهده الذى أنصبه و أرهقه، كمن يعانى التعب و شدة الظمأ فى صحراء حارة ، و يحسب نفسه يرى الماء الجارى(الذى هو جزاء عمله) ، و لكنه مجرد سراب خداع عكسه شعاع الشمس الحارقة ، و إذا به بعد الكد و السعى للوصول إليه يصدم بالحقيقة المرة ، صدمة بدنية ببقاء الألم،و صدمة نفسية لضياع الأمل و إكتشاف الحقيقة المذهلة بعد ما إنقطعت سبل النجاة فى قلب الصحراء، ولا تقف الصدمات عند هذا الحد، بل يجد مكان السراب الذى كان يرجوه يجد الله خالقه الذى ما كان يرجوه فيزداد ذلاً و حسرة و ذهولاً و هو موقوف يحاسب على كفره و شقاوته فى ذات المكان الذى ظن فيه سعادته

ولا يفوت القرأن فضح نفاق كثير من هؤلاء الضالين حتى فى كفره،فتجد الفجر و المجون فى زى الزهد و الرهبنة ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ))


و تدبر قوله تعالى (( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ))
يصور سبحانه ههنا حال ضعيف الهمة ،قصير العزيمة فينعكس ذلك فى سلوكه فيتخلف عن نصرة الحق وقت الشدة، و فى أخلاقه فيكذب ولا يتورع عن القسم على كذبه، فما أهلكه؟!

و تدبر كيف يصف سبحانه حال المؤمنين
((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ))
صورة تكشف ظاهر المؤمن و باطنه فقلبه متعلق بالله حباً و خوفاً و رجاءً ، ثم أن العلاقة بين جنبه الذى يلتقى عليه و بين سريره تبدو علاقة عاقلة حية ، فلا يرتاح جنبه إلا بحدوث الجفاء و القطيعة بينه و بين المضجع فلا يطمئن له ولا يهنأ بطول التصاقه به فيهب للقيام بين يدى الله و الدعاء

و تأمل قوله عن المهاجرين (( لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً))

و قوله عن الأنصار ((وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))

إنها صورة بديعة تصف أحوال جيل المهاجرين و الأنصار، فهؤلاء الذى أخرجوا من ديارهم و أموالهم فى سبيل الله و رغم فقرهم و غربتهم أعزة متعففين حتى ليحسبهم من لا يعرفهم أغنياء القوم!
و هؤلاء هم الأنصار أهل النصرة و الكرم و الإيثار الذين فاقوا تصور العقل فى هذا الباب!

المؤمنون الذين توجل قلوبهم بذكر الله العظيم، و كلما تنزل القرأن كلما ازداد يقينهم و إيمانهم (( إنما الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ))

يثقون فى وعد الله ولا ينقضون الميثاق
(( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ))
زادهم إيماناً! ما أطيب نفس المؤن الحق، يرى البلاء رأى العين فيتوكل على ربه و يصبر ، و هذا ما وقع يوم الأحزاب رأى المؤمنون الأحزاب جيوش جرارة فما كانت رؤيتهم إلا سبباً فى إزدياد الإيمان فى وعد الله و صدق
((وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً))
اما المنافقون فكلما ردو فى الفتنة أركسوا فيها و يظنون بالله ظن السوء
((وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً))

و هذا ليس حال المؤمنين وقت النزال فقط بل هو حالهم بعد النزال أيضاً و لو كانت الدائرة عليهم!
((الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ))

متواضعون لربهم، أعزاء بدينهم، معرضون عن السفهاء الغارقين فى جهلهم
(( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ))

و تأمل وصفه تعالى لهم فى قوله(( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ و الله يحب المحسنين ))
إنه ليس وصف لثمرة إيمانية تجلت فى حسن الخلق فحسب، بل هو تربية و ترويض للنفس بترتيب عجيب و سياق وجيز....
فلو أذاك أحد تذكرت قوله تعالى (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) لملكت نفسك و حققت الصبر
و لكنك قد تكظم غيظك ولا تعفو عن حقك المشروع فأتبعها تعالى بقوله (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)و هى مرتبة أعلى و أكرم
و مع ذلك إنتقل لمرتبة أعلى من العفو و هى الإحسان لمن أساء إليك، و رفع الهمة للقيام بهذا الأمر العظيم ببيان جزاء الإحسان و هو أعظم جزاء ....حب الله لك!
(و الله يحب المحسنين)
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس