عرض مشاركة واحدة
  #24  
قديم 2011-04-02, 10:09 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي

الفاصلة القرأنية :

أغلب مفردات هذا البحث منقولة بتصرف من كتابات دكتور فاضل السامرائى حفظه الله

من روائع التعبير القرأنى التناسق التام و الدقيق لفواصل الأيات بجانب جمال إيقاعها، فالفاصلة القرأنية تحوى الجمال الأدبى والغذاء المعنوى و المناسبة للأية التى وردت فيها، و هى لو توضع لتحقيق مجرد السجع كما يزعم بعض الجهال.... بدليل أن الفاصلة تخالف أحياناً سيرها داخل السورة لأن العبرة بتحقيق المعنى و من أمثلة ذلك:
قوله تعالى ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ )) هذه الفاصلة مغايرة للفاصلة القرآنية في باقي آيات السورة (تزكى، يخشى، هدى) لأن المقصود الأول هو المعنى. وكذلك في سورة الأنبياء الآية ((قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ)) مغايرة لباقي آيات السورة (يشهدون، ينطقون، تعقلون) وليس لها ارتباط بما قبلها وبعدها.
و لكن العجب أن الفاصلة حتى إن خالفت أخواتها فى سياق فلا تستنكر هذا الإختلاف الأسماع بل تظل الأيات تتدفق بإيقاعها الباهر فى الأذان و تنساب منها إلى القلوب!

و لننظر الأن فى نماذج للفاصلة القرأنية ليتبين لنا روعة كلام البارى سبحانه:-
** تدبر قوله تعالى ((وأضل فرعون قومه وما هدى)).
ظن البعض أنها جاءت مراعاة للفاصلة، و كان من الممكن قول (وما هداهم)... و لكن لو نظرنا لوجدنا أن قوله تعالى ( و ما هدى) أبلغ و أوسع من (و ما هداهم) إذ الأخيرة تنفى تحقيقه الهدى لقومه و لا تنفيه عن غيرهم ....أما (ما هدى) ففيه إطلاق نفي الهداية بمعنى أنه لم يهدي قومه ولا غيرهم ولم يكن أبداً سبباً في هداية أحد...فتأمل

** تدبر قوله تعالى (((ما ودّعك ربك وما قلى))
نفى تعالى في هذه الآية شيئين: نفي التوديع وهو لا يكون إلا بين الأحباب والأصحاب
ونفى القلى الذي لا يكون إلا للمتباغضين.
فلما تكلم في الأمر المحبوب نفى الله تعالى بقوله (ما ودعك) باستخدام ضمير المخاطب إذ فيه تكريم لرسول الله صلى الله عليه و سلم بذكر حرف المخاطب
أما في قوله (وما قلى) فلا يصح استخدام (قلى) بين المحبين فلم يقل (وما قلاك) حتى لا يكون الخطاب مباشرة للرسول عليه السلام من ربه الذي يحبه ولا يقليه ....

**
تدبر قوله تعالى ((قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ *قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ))
أيات تحكى مناظرة إبراهيم عليه السلام لقومه فى عبادتهم للأصنام التى لا تملك الضر ولا النفع
ظن البعض أن إطلاقه للفظ فى قوله (يضرون) فقط ليناسب الفاصلة و أن المراد (يضرونكم)
ولا شك أن الإنسان يعبد معبوده لإعتقاده أن يملك الضر و النفع له و لغيره... و لكنه إن فكر فى النفع فيرجوه لنفسه قبل أن يرجوه لغيره، و إن فكر فى الضر فيرجوه لعدوه قبل أن يخشاه على نفسه
و هذا كما قال قوم هود لنبيهم (إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ)
و قد أشار القرأن لهذا المعنى فى مواضع كما قال تعالى (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً) و قال فى العجل (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً)
و اللام في "لكم" دالة على الغنم ومقابلها "على" الدالة على الغرم..
كما قال تعالى (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) و قال (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا)
فكان إطلاق اللفظ ههنا بيلغ حكيم ، لأنه إشتمل على نفى الضر الذى يخشاه المشركون على أنفسهم من هذه الأصنام و أيضاً نفى إمتلاك هذه الألهة القدرة على نصرتهم و الإضرار بعدوهم..


** و تدبر قوله تعالى ((يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا))
جاءت كلمة السبيلا بالألف، و قد يظن البعض أن وضع الألف ههنا لتناسب الفاصلة فحسب، و لكن إن تأملنا الكلام في هذه الآيات سنجده نقلاً لمشهد صريخ أهل النار فى عذابهم ....و المصطرخون يمدون أصواتهم...فجاء المد في الرسولا و السبيلا إذ هو صوت الباكي... و هذا من نفائس التصوير الفنى فى القرأن
و أظهر دليل على أن المد يقصد إلى المعنى لا إلى غيره أننا نقرأ فى نفس السورة فى مطلعها قوله تعالى ((وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً * مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً))
فوردت كلمة (السبيل) ههنا على حالها بلا مد رغم مخالفتها للفاصلة قبلها و بعدها ، إذ ليس هناك صراخ ولا تصوير لألم متألم

** كذلك فى قوله تعالى ((إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا وتظنون بالله الظنونا))
يسمى علم النحو الألف فى كلمة (ظنونا) ألف الإطلاق ، و إذا انتهت بساكن يسمى مقيّد.
و الحكمة من إيرادها على هذا النحو، أنه سبحانه يصف موقف فيه من الرهبة و الترقب ما زاغت به الأبصار و تشعبت به الظنون، سواء بين المؤمنين بإختلاف درجاتهم الإيمانية، أو بين المنافقين و ما تكنه صدروهم، أو بين صفوف المشركين المعتدين، أو بين اليهود الخائنين
اختلفوا وتشابكوا فاختلفت الظنون و كثرت و تشعبت، ولذا جاءت بالإطلاق (الظنونا) وجب استخدام الألف لإطلاق الظنون.

** و تدبر قوله تعالى (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ) ....( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ)..( هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ)
من الناحية اللغوية يجوز فى ياء المتكلم الفتح والسكون (كتابي وكتابيه)
و الحكمة من إنتقاء الفاصلة على هذا النحو (ماليه، حسابيه، كتابيه، سلطانيه)
أن هذا الكلام يقال في يوم الحشر وهو يوم ثقيل ،يوم عسير ،يوم عبوس قمطرير ، يبقى فيه الناس خمسين ألف سنة في هذه الشدة حتى يفزعون إلى الأنبياء...و ييبدأ حسابهم و يلقون مصيرهم،،فلكأنها مأخوذة من الأه
فعكست الهاء نهاة المتعبين ، و خفقان قلوب المترقبين....

** و تدبر قوله تعالى ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ))
فلما ذكر الله مواجهة الأنبياء و أتباعهم للمجرمين ، ناسب أن يذكر أسباب التمكين و هو الهدى فإن من إهتدى و إتبع الحق ينصره الله فجاء النصر تبعاً للهدى مشروطاً به
كذلك رسخت الأية عقيدة فى القدر، فالله هو الله قدر وجود المجرمين بفسقهم ليبتلى المؤمنين بهم، و هو سبحانه الذى يملك هداية المؤمنين و تثبيتهم و من ثم نصرهم ليتم نوره..

** و تدبر قوله تعالى ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ))
الأية تتكلم عن أيات الله الكونية فى البحر و مخلوقاته و جريان الفلك فيه بنعمة الله و رحمته بعباده، و هى أيات للمؤمنين ، و الإيمان شطره صبر و شطره شكر كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم {عجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له} رواه مسلم
فإستعاض عن ذكر المؤمن بذكر صفاته، لاسيما أن جريان الفلك فى البحر أية تستوجب الصبر و الشكر معاً
الصبر على مشقة السفر و مخاطره و ما قد يقع فى البحر من أحداث مؤلمة
و الشكر على نعمة الله و أياته الجلية في البحر و تسخير الفلك لتحمل بنى أدم فيه لمنافعهم الملائمة

** و تدبر قوله تعالى ((َإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ))
و قوله عز و جل ((وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ))
ختم الأية الأولى بقوله (المبطلون) و ختم الثانية بقوله (الكافرون) ، و ذلك لمناسبة كل كلمة منهما لسياقها
قال الكرمانى فى البرهان: [ الأولى متصل بقوله {قضى بالحق} نقيض الحق الباطل ..
و الثانى متصل بإيمان غير مجد و نقيض الإيمان الكفر {َلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}]

** و تدبر قوله تعالى ((أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ))
فختم الأية الاولى بقوله (يسمعون) و ختم الثانية بقوله (يبصرون)
و ذلك لأن الأية الأولى الموعظة فيها سمعية خبرية إذ يقص ما حدث للأمم الماضية و هو مما يسمع لذلك قال { أولم يهدلهم}.....
اما الأية الأخرى فموعظتها مرئية لأن سوق الماء إلى الأرض الجرز مرئى فى كل وقت لذا قال فى صدرها ( أولم يروا)
- و مثله قوله تعالى ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ))
لأن الأية الأولى تتكلم عن الليل و هو يصلح للسمع دون البصر، أما الثانية تتكلم عن النهار الذى يصلح للإبصار
قال الكرامى: [إقتضت البلاغة أن {أفلا تسمعون} لمناسبة ما بين السماع و الظرف الليلى الذى يصلح للإستماع ولا يصلح للإبصار]

** و تدبر قوله تعالى ((وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))
و قوله تعالى ((ِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))
فقال فى ختام الأولى ( سميع عليم) و فى ختام الثانية (سميع بصير)
لأن الإستعاذة فى الأية الأولى من شيطان الجن الذى نعلمه ولا نراه
أما فى الأية الثانية فالإستعاذة من شيطان الإنس الذى نسمعه و نراه

** و تدبر قوله تعالى ((لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ)) الأنعام
و قوله تبارك إسمه ((لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ)) هود
فختمت الأية فى سورة النحل بـ (الخاسرون) بينما ختمت فى سورة هود بـ (الأخسرون)
و ذلك لأن أية سورة هود فيمن صُدوا عن سبيل الله و صدوا غيرهم فضوعف له العذاب { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ....لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ }
أما أية سورة النحل فيمن صُدوا هم و لم يصدوا غيرهم { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ..... لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ }
فكان الأولون أخسر من الأخرين فجىء لهم باسم التفضيل

** وتدبر قوله تعالى ((وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ))
و قوله جل و علا ((وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ))
فختم الأيات فى سورة الرعد بقوله (عقاب) بينما ختمها فى سورة الحج بقوله (نكير)
و ذلك أن أية الرعد تذكر المستهزئين و أية الحج تذكر المكذبين..و المستهزئون أعظم جرماً من المكذبين إذ جمعو التكذب مع الإستهزاء
فناسب أن أن يستعمل فى حق المستهزئين كلمة (عقاب) إذ هى أشد موقعاً من كلمة (نكير) التى إستعملها مع المكذبين...لأن الإنكار لغة يحتمل ما فيه العقاب بالفعل و ما لا عقاب فيه، أما العقاب فغالباً يراد به الأخذ يعذاب مناسب لحال المجرم

** و مثله قوله تعالى ((فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً))
و قوله جل ثناؤه ((فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً))
فوصف خرق السفينة بأنه شىء إمر،و وصف قتل الغلام بأنه شىء نكر... والنكر أشد من الإمر
ذلك أن خرق السفينة شروع فى قتل أصحابها – على الظاهر- أما قتل الغلام فتلبس بالقتل عينه

** و تدبر قوله تعالى ((وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ))
و قوله سبحانه ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين))
فختم الأولى بقوله (الخاشعين) و ختم الثانية بقوله (الصابرين)
و ذلك لأن الكلام فى الأية الأولى من أوله كان عن الصلاة و هى مرتبطة بالخشوع { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين}
أما الكلام فى الأية الثانية فكان فى سياق الحث على الصبر على البلاء فناسب ذلك أن يختمها بمدح الصبر {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}

**
و تدبر قوله تعالى ((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً))
و قوله عز و جل ((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً))
فختم الأية الأولى بقوله (فقد إفترى إثما عظيماً) و ختم الثانية بقوله ( فقد ضل ضلالاَ بعيداً)
و ذلك كما قال صاحب [من بلاغة القرأن]
أن الأية الأولى وردت فى سياق الحديث عن يهود الذين افتروا على الله الكذب و حرفوا و هم يعلمون، فقال قبل هذه الأية {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}، و قال بعدها {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً}
اما الأية الثانية فقد وردت فى حديث عن المشركين ، و هم مع شركهم لا يفترون إذ لا كتاب لهم أصلاً ليبدلوه، و لكنهم ضالون ضلالاَ بعيداً

** و تدبر قوله تعالى ((ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ)) الأنعام
و قوله عز و جل ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)) هود
فختم الأية فى سورة الأنعام بقوله ( و أهلها غافلون) و ختم الأية فى سورة هود بقوله ( و أهلها مصلحون)
ذلك أن سياق الكلام فى سورة الأنعام كان عن الرسل و التبليغ و الإنذار.. فقال فى الأية التى قبلها {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ}
فلما كان الكلام عن تبليغ الرسالة بين سبحانه أنه لا يهلك قوماً غافلين دون إنذار و هذا كقوله تعالى (لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)
أما الأية فى سورة هود فجاءت فى كلام عن الإصلاح و النهى عن الفساد فى الأرض، فقال فى الأية التى قبلها {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } فناسب ذلك أن يختمها بمدح المصلحين...

** و تدبر قوله تعالى فى قصة صالح مع قومه ((وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) الأعراف
و قوله سبحانه ((وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ)) هود
و قوله عز و جل ((َلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) الشعراء
فختمت الأية الأولى بقوله (عذاب أليم) و ختمت الثانية بقوله (عذاب قريب) و ختمت الثالثة بقوله (عذاب يوم عظيم) و كل فاصلة منهم ناسبت ما جرت عليه فاصلة السورة التى بها ...و مع ذلك جاءت مقصودة مناسبة للمعنى المبرز فى السياق
- أما أية سورة الأعراف ، فكما قال الكرمانى [بالغ صالح فى الوعظ فبالغ فى الوعيد فقال: عذاب أليم] و زد على ذلك أن الله سبحانه ذكر فى الأعراف تحدى قوم صالح و سخريتهم و عتوهم و لم يذكر ذلك فى أيات سورتى هود و الشعراء ،فناسب ذلك تعظيم العذاب المحذور ((قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)) الأعراف 76
- أما فى سورة هود قال الكرمانى [ لما اتصل بقوله (تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام) ناسب ذلك أن يصف العذاب بالقرب فقال: (عذاب قريب)]
- و أما فى سورة الشعراء فقد ذكر تقسيم الماء بذكر الأيام فقال (قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) فوعظهم أن يتموا قسمة الأيام قبل أن يأتى اليوم العظيم حيث الحساب فختم الأية بقوله (عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ)

** و تدبر قوله تعالى ((وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)) إبراهيم
و قوله عز و جل ((وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)) النحل
فختم أية سورة إبراهيم بقوله (إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) و ختم أية سورة النحل بقوله (إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)
و ذلك أن السياق فى سورة إبراهيم كان يتكلم عن الإنسان أما فى سورة النحل فكان يتكلم عن الخالق سبحانه....
فأية سورة إبراهيم تذكر طلب الإنسان لنعم الله و تصرفه تجاهها فقال تعالى {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
أما أية سورة النحل فتتكلم عن ذات الله تعالى و بيان أنه الخالق لا يخلق غيره {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}

** و تدبر قوله تعالى عن لسان إبراهيم ((َمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))
و قوله تبارك إسمه عن لسان المسيح ((إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))
فختم الأية الأولى بقوله (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) و ختم الثانية بقوله (فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
و ذلك لأن كلام إبراهيم إنما كان عن قوم عصوه لكنهم لم تنقطع بهم بعد سبل النجاة إذ لازالو فى الدار الدنيا..فناسب ذلك أن يدعوا إبراهيم بحلمه الله أن يغفر لهم ذلك و يرحمهم بأن يهديهم إليه
أما قول المسيح فى سورة المائدة فهو نقل لمشهد عظيم سيقع يوم القيامة، حين يقف المسيح بين يدى الله فيسأله عن الذين عبدوه فيتبرأ منهم ثم يفوض أمرهم إلى الله..فقال ختاماً (فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لأنه يوم الحساب فلا سلطان إلا للعزيز سبحانه و هو بعزته يحكم فى خلقه، والحكيم هو الذى يضع الشىء فى موضعه، و المسيح رسول عظيم يعلم أن من مات على الكفر فلا يستحق الرحمة فلو قال ههنا ( أنت الغفور الرحيم) فلكأنه يطلب ضمناً الرحمة لهم و لكأن الله بعدم إجابته يكون قد ظلمهم، و حاشا لله

- و مثل هذا قول نوح لربه بعد أن غرق إبنه مع قومه ((وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)) فلم يقل و أنت أرحم الراحمين.. لما سبق و بيناه
- و مثله قوله تعالى فى تقرير حد السرقة ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) و قد تلاها أحد السلف فأخطأ و قال فى أخرها ( و الله غفور رحيم) فرده أعرابى قح دون أن يقرأها، فلما راجعها وجد أن الأعرابى محق ..وأخبره أنها تنتهى بقوله (عزيز حكيم) ثم سأله كيف عرفت أن الفاصلة الأولى خطأ؟ فأجاب: إن هذا حد حازم و موضع عزة و حكم لا موضع مغفرة و رحمة...


**** و من روائع الفاصلة القرأنية وقوع التغير فيها و فى وتيرة الأيات بتغير الموضوع مما يحدث أثراً تفاعلياً فى نفس المستمع مع كلام لله تعالى و ما يعظه به..

- فمثلاً فى سورة مريم قص علينا فيها سبحانه من خبر زكريا و يحيى و عيسى إبن مريم و كانت الأيات دوماً تنتهى بالألأف ...خَفِيّاً ، شَقِيّاً ،وَلِيّاً ،،،، إلى أن تصل إلى قوله تعالى {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}
هنا تتغير القافية بالإنتقال من بسط الأحداث إلى التعليق عليها من الله بدءاً من قوله تعالى {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } و تسير القافية على هذا فَيَكُونُ ، مُّسْتَقِيمٌ ،عَظِيمٍ ، مُّبِينٍ ،يُؤْمِنُونَ ،،، إلى أن تصل لقوله تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }
يقول الأستاذ سيد قطب: [وهكذا يتغير نظام الفاصلة فتطول , ويتغير نظام القافية فتصبح بحرف النون أو بحرف الميم وقبلهما مد طويل . وكأنما هو في هذه الآيات الأخيرة يصدر حكما بعد نهاية القصة , مستمدا منها , ولهجة الحكم تقتضي أسلوبا موسيقيا غير أسلوب الاستعراض . وتقتضي إيقاعا قويا رصينا , بدل إيقاع القصة الرضي المسترسل ...أهـ ]
و بعدها يعود القرأن إلى القصص فيقص خبر إبراهيم و موسى و يذكر الأنبياء منتهياً بالقافية الأولى { نَّبِيّاً ، شَيْئاً ،سَوِيّاً ، عَصِيّاً ، وَلِيّاً ، مَلِيّاً ، حَفِيّاً ، شَقِيّاً}....إلخ

- مثال أخر فى سورة النبأ تبدأ الأيات بالسؤال و التقرير ((عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ))
ثم يبدأ فى الجدل و المحاجة فتتغير القافية ((أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً))

- و فى سورة النازعات تبدأ السورة بقسم الملك سبحانه بمخلوقاته، فتشعر بقوة و سرعة فى تمرير الأيات على العقل و كلها ينتهى بقافية الألف ((وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً))
ثم تهدأ وتيرة الأيات بالإنتقال إلى التقرير و النذير و تتغير معها القافية ((يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ))
ثم تتغير القافية مرة ثالثة بالإنتقال إلى سرد قصة موسى عليه السلام ((هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى))

- كذلك فى سورة أل عمران سارت السورة على القافية الغالبة حتى قرب النهاية , فلما بدأ دعاء من طائفة من المؤمنين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم , تغيرت الفاصلة هكذا { ... رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ... إلخ}
إنه تغير فى القافية ينقل النفس إلى مقام التضرع مشاركة مع المؤمنين الذى يدعون ربهم كما قص علينا ربنا


الإبداع فى التقديم و التأخير :


أغلب مفردات هذا البحث منقولة بتصرف من كتابات دكتور فاضل السامرائى حفظه الله

تقديم هارون على موسى و موسى على هارون

قال تعالى فى سورة طه ((فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى))
يثور السؤال لما قدم سبحانه هارون على موسى فى شورة طه، بينما الأصل تقديم موسى على هارون كما فى قوله تعالى فى سورة الشعراء ((َأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ))
الجواب : أن ذلك لم يأت فقط لموافقة الفاصلة فى سورة طه، و إنما تكرر ذكر هارون كثيراً في سورة طه (أربع مرات)
{ وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}
{ َأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}
{ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}
{ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}
- كما أن الخطاب وجه إلى موسى وهارون دائماً فبنيت القصة في سورة طه على الثنائية
{ اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } { فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} { قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} { قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} { فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} { إنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى } {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}
-كذلك في سورة طه ذكر ضعف موسى البشرى (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى) بينما لم يذكر الخيفة لهارون....

أما في سورة الشعراء فقد ورد ذكر هارون مرتين فقط والخطاب في السورة كان موجهاً إلى موسى وحده في كل السورة فهي مبنية على الوحدة في الغالب وقد أورد تعالى في سورة الشعراء عناصر القوة في موسى .... ولهذا السبب اختلف السياق واقتضى التقديم والتأخير كما جاء في آيات كل من السورتين...

تقديم و تأخير العلم و الحكمة :


قال تعالى فى سورة يوسف ((َكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ))
وقال عز و جل غى سورة الأنعام((وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ))
فقدم العلم على الحكمة فى الأولى و قدم الحكمة على العلم فى الثانية
قال الكرمانى فى البرهان: [ و أما تقديم الحكيم على العليم فى سورة الأنعام فلأنه مقام تشريع الأحكام فقدم الحكم، اما فى سورة يوسف فقدم العلم على الحكمة لقوله فى أخرها و علمتنى من تأويل الأحاديث]
– و لاحظ أنه كلما إجتمع الإسمان العليم و الحكيم فى سورة الأنعام قدم الحكيم على العليم....و حيث إجتمعا فى سورة يوسف قدم العليم على الحكيم
ذلك أن مواطن يوسف كلها مواظن العلم أولاً، و مواطن الأنعام كلما مواطن الحكمة او الحكم أولاً


تقديم و تأخير تقسيم الرزق فى سورتى الأنعام و الإسراء :

قال تعالى فى سورة الأنعام ((وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ))
و قال جل و علا فى سورة الإسراء ((َوَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم))
جاءت الأيتان فى سياق النهى عن عن قتل الولد و تبيان أن الرزق من الله ، و لكن قدم الأباء فى الرزق فى سورة الأنعام،و قدم الذرية فى الرزق فى سورة الإسراء
و سر ذلك أن الأية الاولى تخاطب الفقراء الذين يرفضون الإنجاب بسبب فقرهم فبدأ الله تعالى بطمأنتهم أولاً و تقديمهم،
أما الأية الثانية فتخاطب أغنياء يخشون أن يفتقروا إن عالوا ذرية، و لهذا قدم ذكر الذرية فى الرزق لطمأنتهم

تقديم و تأخير المغفرة و الرحمة :

دائماً تأتى المغفرة مقدمة على الرحمة فى القرأن فنقرأ كثيراً أنه تعالى (غفور الرحيم) و ذلك لان درأ المفدسة مقدم على جلب المصلحة، فالعبد يرجو أن يتجاوز الله عن ما أفسد و أذنب ، ثم يرجو أن يتنعم بخير الدنيا و الأخرة برحمة الله إذ لا يدخل أحد جنة الله إلا برحمته
و لكن قال تعالى إستثناءً من هذا الأصل ، إلا أية فى سورة سبأ قال تعالى فيها ((يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)) فقدم الرحمة على المغفرة..
و سر ذلك أن الأية كانت تتكلم عن علم الله تعالى و العلم قرين الرحمة فى القرأن فناسب ذلك تقديم الرحمة
كما قال تعالى { كتاب فصلناه على علم هدى و رحمة} وقال عز و جل { فوجدا عبداً من عبادنا أتيناه رحمة و اتيناه من لدنا علما} و قال تبارك إسمه { ربنا وسعت كل شىء رحمة و علما}
إذ أن العلم إن كان شرعياً فهو رحمة من الله لعباده و منة ، و كذلك إن كان دنيوياً فإن لم يقرن بالرحمة كان أداة فساد و تشويه، كما نرى فى يومنا لما علم الغرب الكافر ظاهراً من الحياة الدنيا إستعمل علمه فى صناعة أصلحة الدمار و سرطنة الطعام و ما لوث الهواء و السمع و البصر و الحياة...

- أيضاً لو قرأنا الآية في سورة سبأ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ) لم يتقدّم الآية ما يخصّ المكلَّفين أبداً والمغفرة لا تأتي إلا للمكلَّفين والمذنبين الذين يغفر الله تعالى لهم، وإنما جاء ذكرهم بعد الآيتين الأولى والثانية لذا اقتضى تأخير الغفور لتأخر المغفور لهم في سياق الآية. أما في باقي سور القرآن الكريم فقد وردت الغفور الرحيم لأنه تقدّم ذكر المكلَّفين فيذنبون فيغفر الله تعالى لهم فتطلّب تقديم المغفرة على الرحمة.

تقديم و تأخير المال و النفس :

قال تعالى فى يسورة أل عمران ((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ)) و قال عز و جل فى سورة النساء ((َفضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً))
أما فى سورة التوبة فقال تعالى ((إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ)) فقدم ههنا النفس على المال
و سبب ذلك أن الأيات السابقة كانت تتحدث عن البذل و البلاء و الجهاد ، فناسب تقديم ذكر المال لأنه وسيلة التقوى بالعدة و تجهيز الجيوش لتحقيق القوة و من ثم الجهاد بالنفس ، ثم أن الإنسان يفدى نفسه بماله فلو خير بن حياته و بين ماله لقدم بذل ماله...
و لكن لما كان الحديث عن الاخرة و الجنة كما فى سورة التوبة فناسب ذلك تقديم النفس لأنها الموعودة بالجنة و لأنها الأغلى من المال فناسبت غلاء الجنة ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة....


تقديم وتأخير اللهو على اللعب في آية سورة العنكبوت :

كل الآيات في القرآن جاء اللعب مقدّماً على اللهو إلا فى أية من سورة العنكبوت (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
و سر ذلك أن الأية التى سبقت هذه الأية مباشرة قال تعالى فيها (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) والرزق ليس من مدعاة اللعب وإنما اللهو كما في قوله تعالى في سورة المنافقون (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

تقديم وتأخير كلمة (شهيداً) في آية سورة العنكبوت وآية سورة الإسراء :


قال تعالى في سورة العنكبوت (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏)
وقال في سورة الإسراء (قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)
في آية سورة الإسراء ختم تعالى الآية بذكر صفاته (خبيراً بصيرا) لذا اقتضى أن يُقدّم صفته (شهيداً) على (بيني وبينكم)، أما في آية سورة العنكبوت فقد ختمت الآية بصفات البشر (أولئك هم الخاسرون) لذا اقتضى تقديم ما يتعلّق بالبشر (بيني وبينكم) على (شهيدا).

تقديم وتأخير الأرض والسماء في سورتى يونس و سبأ :


قال تعالى فى سورة يونس (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)
وقال عز و جل فى سورة سبأ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)
الكلام في سورة يونس عن أهل الأرض و عملهم فيها، فناسب أن يقدم الأرض على السماء في قوله تعالى (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) أما في سورة سبأ فالكلام عن الساعة والساعة يأتي أمرها من السماء وتبدأ بأهل السماء (فصعق من في السموات والأرض) و(ففزع من في السموات ومن في الأرض) ولذلك قدّم السماء على الأرض في قوله تعالى (لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض).
واستخدمت السماء في سورة يونس لأن السياق في الإستغراق فجاء بأوسع حالة وهي السماء لأنها أوسع بكثير من السموات في بعض الأحيان. فالسماء واحدة وهي تعني السموات أو كل ما علا وفي سورة سبأ استخدم السموات حسب ما يقتضيه السياق.

تقديم وتأخير الصابئين في آيتي سورة البقرة والمائدة :

قال تعالى في سورة البقرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
وقال في سورة المائدة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
الآيتان فيهما تشابه واختلاف وزيادة في إحداها عن الأخرى.
في سورة البقرة قدّم النصارى على الصابئين (النصب جاء مع العطف لتوكيد العطف)، وفي آية سورة المائدة قدّم الصابئون على النصارى ورفعها بدل النصب.
فمن حيث التقديم والتأخير ننظر في سياق السورتين الذي يعين على فهم التشابه والإختلاف، ففي آية سورة المائدة جاءت الآيات بعدها تتناول عقيدة النصارى والتثليث وعقيدتهم بالمسيح وكأن النصارى لم يؤمنوا بالتوحيد فيما تذكر الآيات في السورة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ...) ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ...) ثم جاء التهديد (وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ...) هذا السياق لم يذكر هذا الأمر في سورة البقرة وهكذا اقتضى تقديم الصابئين على النصارى في آية سورة المائدة. فلما كان الكلام في ذم معتقدات النصارى اقتضى تأخيرهم عن الصابئين لبيان حقيقة مكانة دينهم.

تقديم وتأخير اللهو على التجارة في آية سورة الجمعة :
قال تعالى (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏)
نزلت هذه الأية بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب بعد صلاة الجمعة فجاءت العير بتجارة وكانت سنة شديدة فانفضّ الناس بسبب التجارة وليس بسبب اللهو ، فعندما نودي أن القافلة وصلت انفضّ الناس عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولهذا قدّم التجارة في أول الآية (وإذا رأوا تجارة).
ثم في نهاية الآية قدّم تعالى اللهو على التجارة لأن الذين ينشغلون باللهو عن الصلاة أكثر من الذين ينشغلون بالتجارة تحديداً عنها، إذ أبواب اللهو كثيرة و اهل اللهو أشد بعداً عن الله و طلب الأخرة ، فناسب تقديهم فى الذكر و التذكير بأن ما عند الله تعالى خيرٌ من اللهو ومن التجارة ...
وهناك أمر آخر وهو تكرار (من) في قوله تعالى (من اللهو ومن التجارة) لأنه لو قال (من اللهو والتجارة) لأفاد أن الخيرية لا تكون إلا باجتماعهما أي اللهو والتجارة أما قوله تعالى (من اللهو ومن التجارة) فهي تفيد أن الخيرية من اللهو على جهة الإستقلال ومن التجارة على جهة الإستقلال أيضاً فإن اجتمعا زاد الأمر سوءاً.

تقديم (ما تسبق من أمة أجلها) على (ما يستأخرون) في آية سورة الحجر والمؤمنون :

قال تعالى في سورة الحجر (مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) وقال في سورة المؤمنون (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) بتقديم (ما تسبق) على (ما يستأخرون)
أما في سورة الأعراف فقد جاءت الآية بقوله (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) بتقديم (لا يستأخرون) على (لا يستقدمون).
وإذا لاحظنا الآيات في القرآن نجد أن تقديم (ما تسبق من أمة أجلها) على (وما يستأخرون) لم تأت إلا في مقام الإهلاك والعقوبة.

تقديم وتأخير كلمة ( تخفوا ) في آية سورة البقرة وسورة آل عمران :

قال تعالى في سورة البقرة (لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
وقال في آل عمران (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
المحاسبة في سورة البقرة هي على ما يُبدي الإنسان وليس ما يُخفي ففي سياق المحاسبة قدّم الإبداء أما في سورة آل عمران فالآية في سياق العلم لذا قدّم الإخفاء لأنه سبحانه يعلم السر وأخفى.

تقديم الشتاء على الصيف والجوع على الخوف في سورة قريش :

قال تعالى في سورة قريش (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ {1} إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ {2} فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ {3} الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ {4}‏ ) والمعروف أن حاجة الإنسان للطعام في الشتاء أكثر من الصيف، والخوف في الصيف أكثر لأنه فيه يكثر قطّاع الطرق والزواحف، لذا لما قدّم تعالى الشتاء قدم ذكرالجوع فى الأية التالية، و لما أخر ذكر الصيف أخر ذكر الخوف، وقال أيضاً أطعمهم ولم يقل أشبعهم لأن الإطعام أفضل من الإشباع. ولقد جاءت سورة قريش بعد سورة الفيل للتركيز على الأمن في البيت الحرام بعد عام الفيل...و هذا كله يدخل أيضاً فى التناسق الموضوعى الذى سنعقد له فصلاً مستقلاً بمشيئة الله

تقدّيم البصر على السمع في آية سورة الكهف وآية سورة السجدة :


قال تعالى في سورة الكهف (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)
وقال في سورة السجدة (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ)
والمعلوم أن الأكثر في القرآن تقديم السمع على البصر لأن السمع أهم من البصر في التكليف والتبليغ ،ففاقد البصر الذي يسمع يمكن تبليغه أما فاقد السمع فيصعب تبليغه ، بالإضافة إلى أن السمع ينشأ في الإنسان قبل البصر في التكوين.
أما لماذا قدّم البصر على السمع في الآيتين المذكورتين فالسبب يعود إلى أنه في آية سورة الكهف الكلام عن أصحاب الكهف الذين فروا من قومهم لئلا يراهم أحد ولجأوا إلى ظلمة الكهف لكيلا يراهم أحد لكن الله تعالى يراهم في تقلبهم في ظلمة الكهف وكذلك طلبوا من صاحبهم أن يتلطف حتى لا يراه القوم إذن مسألة البصر هنا أهم من السمع فاقتضى تقديم البصر على السمع في الآية.
وكذلك في آية سورة السجدة، الكلام عن المجرمون الذين كانوا في الدنيا يسمعون عن القيامة وأحوالها ولا يبصرون لكن ما يسمعوه كان يدخل في مجال الشك والظنّ ولو تيقنوا لآمنوا أما في الآخرة فقد أبصروا ما كانوا يسمعون عنه لأنهم أصبحوا في مجال اليقين وهو ميدان البصر (عين اليقين) والآخرة ميدان الرؤية وليس ميدان السمع وكما يقال ليس الخبر كالمعاينة. فعندما رأوا في الآخرة ما كانوا يسمعونه ويشكون فيه تغير الحال ولذا اقتضى تقديم البصر على السمع.

تقديم وتأخير الجن والإنس في آيتي الإسراء والرحمن :


قال تعالى: ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الإسراء
وقال عز وجل : ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ) الرحمن
قدم في الأولى الإنس وقدم في الثانية الجن لأن مضمون الآية هو التحدي بالإتيان بمثل القرآن ، ولا شك أن مدار التحدي على لغة القرآن ونظمه وبلاغته وحسن بيانه وفصاحته.
والإنس في هذا المجال هم المقدمون ، وهم أصحاب البلاغة وأعمدة الفصاحة وأساطين البيان ، فإتيان ذلك من قبلهم أولى ، ولذلك كان تقديمهم أولى ليناسب ما يتلاءم مع طبيعتهم.
أما الآية الثانية فإن الحديث فيها عن النفاذ من أقطار السموات والأرض ، ولا شك أن هذا هو ميدان الجن لتنقلهم وسرعة حركتهم الطيفية وبلوغهم أن يتخذوا مقاعد في في السماء للاستماع ، كما قال تعالى على لسانهم : " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع " الجن 9
فقدم الجن على الإنس لأن النفاذ مما يناسب خواصهم وماهية أجسامهم أكثر من الإنس

تقديم وتأخير (يؤمنون بالله) في آيات سورة آل عمران:


قال الله تعالى في سورة آل عمران ((لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ))
وقال تعالى في في نفس السورة ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ))
فقدم الإيمان على الأمر بالمعروف فى الأية الأولى، و قدم الأمر بالمعروف على الإيمان فى الثانية، وذلك أن الخطاب في الأخيرة للمسلمين، ونحن آخر الأمم من حيث الترتيب الزمني. فجاء الإيمان بالله آخراً لأن هناك من سبقونا بالايمان من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، كما أن هذه الأمة إشتهرت بالأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، و فتحت البلاد لدعوتهم لذلك
أما في الآية الأولى فالخطاب لأهل الكتاب الذين أسلموا قبل بعثة الرسول وفي زمن أنبيائهم موسى وعيسى عليهما السلام لذا جاء قوله تعالى يؤمنون بالله أولاً في الترتيب ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و لأن الناهين عن المنكر فيهم قليل ، فاليهود لا يدعون غيرهم إلى دينهم، و النصارى من تعاليمهم (لا تقاوموا الشر) كما أن دين المسيح الحقيقى لم تتسن الدعو له كما وقع بعد تحريفه!
و لهذا ذكر الله السمة العامة لأهل الكتاب إلا من رحم الله منهم فقال
((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ* كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ))
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس