عرض مشاركة واحدة
  #25  
قديم 2011-04-02, 10:29 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي

التناسق الموضوعى :

من أوجه إعجاز القران الحكيم أنه و رغم نزوله مفرقاً منجماً على مدار ثلاثة و عشرين سنة،و رغم تداخل موضوعاته و تعدد أطروحاته ، فإننا بالنظر فيه نجده وحدة واحدة متناسقة، و مواضيعه متناغمة متناسبة فيما بينها، و مقاصدة متممة على أكمل وجه، فقصصه متناهية البلاغة و التصوير، و محققة للعبرة بأفضل تعبير، و كذا الوعيد و الوعيد، و التذكرة و العظات، و الأحكام و التشريعات، و العقائد و الأخلاق، ما فُرط فى الكتاب من شىء فتبارك الله رب العالمسن
و بالنظرر فى بعض أوجه التناسب الموضوعى نجد فيه:-
* التناسب بين صدر السور و ختامها
* التناسب بين كل سورة و السورة التى تليها
* التناسب بين الأية و الأية التى تليها فى السورة
* التناسب بين أجزاء السورة الواحدة جملة
* التناسب بين بداية القرأن كله و ختامه
و لنضرب أمثلة على كل مما سبق لنعاين عظمة القرأن كلمة الله الخالدة:

التناسب بين بداية القرأن كله و ختامه :
تدور رسالة القرأن كله على التوحيد، و أن الله سبحانه متفرد (بالألوهية) فهو المعبود المطاع (الربوبية) فهو الخالق الرازق المحيى المييت (الملك) فهو المتصرف فى أمر ملكه و العبيد عبيده يحكم فيهم فى الدنيا بشرعه و فى الأخره بقهره سبحانه
و هذه المعانى الثلاث هى التى يرددها المسلم فى تلبية فى الحج الأكبر:
فيقر الألوهية بقوله: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد..
و يقر الربوبية بقوله: و النعمة لك، أى هو الخالق الرازق المنعم
و تقرير الملك بقوله: و الملك لا شريك لك

و هذا هو المعنى الذى نجده فى قوله تعالى فى أول الفاتحة:
( الحمد لله) فهذا هو توحيد الألوهية أننا نتوجه لله بالحمد و حمده بعبادته و دعاءه و الثناء عليه، كما أن لفظ الجلالة (الله) مشتق من الإله بمعنى الإشتراك فى اللفظ و المعنى
(رب العالمين) و هذا تقرير الربوبية
(مالك يوم الدين) و فى قراءة (ملك يوم الدين) و هذا تقرير الملك

و و هذه المعانى الثلاث فى أول سورة فى القرأن هى ذاتها المتقررة فى أخر سورة فى القرأن سورة الناس
(قل أعوذ برب الناس* ملك الناس* إله الناس)
فتأمل....

من امثلة التناسب بين صدر السورة و ختامها :

سورة أل عمران
أفتتحت بذكر إنزال القرأن و كذلك التوراة و الإنجيل من قبل ليهدى الناس للإيمان ((نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ..))
و ختمها بقوله تعالى (( و َإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ..))
و أفتتحت بدعاء المؤمنين اللعالمين و منه قولهم((إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ))
و أختتمت بدعاء المؤمنين اللبيبين و منه قولهم ((إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ))

سورة النساء
أفتتحت بذكر بدء الخلق و الولادة ((أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء))
و ختمت بأحكام الوفاة و البتر ((إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ))

و فتحت بذكر الرجل و النساء ((وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء))
و ختمت كذلك ((وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء))

و فتحت بأيات المواريث و الكلالة ((ِّللرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ..))
((وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ..))

و ختمت كذلك ((يسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ..))


سورة المائدة
بدأت ببيان مسائل أحكام حتى قال تعالى ((إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ))1
و ختمت ببيان أن الله مالك الملك و الملك يحكم فى ملكه ما يريد
((لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))120

و بدأت بتحريم الصيد ( فى الإحرام) و الشهر الحرام و الهدى و القلائد
((أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ..))1

و ختمت بذلك أيضاً
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ..))95
((جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ))97

و فى أولها إحلال بهيمة الأنعام ((أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ))1
و فى أخرها الوعيد لمن حرم منها ما لم يحرمه الله ((مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ))103

و فى أولها ((َلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً..))12
و فى أخرها ((لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً..))70

و فى أولها ((لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ..))17
و فى أخرها كذلك ((َّلقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)) 72

سورة الأنعام
فى أولها ((ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ))1
و فى أخرها ((وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ))150

و فى أولها ((أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ)) إلى قوله (( وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)) 6
و فى أخرها ((وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ))165

سورة الأعراف
فى أولها ((وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ))2
و فى أخرها ((تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ))201

و فى أولها ((اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ))3
و فى أخرها ((قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي)) 203

و فى أولها ذكر الشيطان و تكبره عن السجود ((قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ))11
و فى أخرها ذكر الملائكة الركع السجود ((إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ))206

و فى أولها ((ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)) 55
و فى أخرها ((وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً))205

سورة الأنفال
أفتتحت بقوله عن المؤمنين ((أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ))4
و أختتمت بقوله ((أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)) 74

سورة التوبة
أفتتحت بقوله ((وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ))3
و أختتمت بقوله ((فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)) 129

سورة يونس
أفتتحت بقوله ((أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ))2
و أختمت بقوله ((وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ))109

سورة يوسف
أفتتحت بقوله ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ))3
و أختتمت بقوله ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى))111

سورة الروم
بدأت بقوله تعالى ((الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ))
و كان أخرها تأكيد تحقيق وعد الله
((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ))

سورة الإسراء
أفتتحت بالتسبيح ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ))
و أختتمت بالتحميد ((وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ))

و فى أولها يسبح سبحانه نفسه ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ))
و فى أخرها يسبحه المؤمنون ((وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا))108

و فى أولها ذكر موسى ((وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً)) 2
و فى أخرها ذكر موسى ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ))101

سورة المؤمنون

فى أولها ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ))1
و فى أخرها ((إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ))117

سورة القصص
بدأت بقوله ((تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ))2
و ختمت بقوله ((وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ))86

و فى أولها ((فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ))17
و فى أخرها ((َلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ))86

و فى أولها هجرة موسى من وطنه و العودة إليه، و فى أخرها النبوءة للنبى بالعودة إلى مكة

و فى أولها ((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ))5
و فى أخرها ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) 83
و كذا البشارة للنبى و المؤمنين الذين استضعفوا فى الأرض بالإمامة و أن يرثوا الأرض و يفتحوا مكة ((إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ))85

سورة العنكبوت
بدأت بقوله تعالى ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ))
فبينت أن المؤمنين لابد أن يبتلوا و يصبروا و يجاهدو حتى يدللو على صدق إيمانهم
و ختمت ببيان الجزاء الحسن لمن صبر و جاهد فى سبيل الله و صمد امام فتن الدنيا ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ))

سورة الأحزاب
جاء فى أولها أمر الله تحذير الله لنبيه من المنافقين و الكافرين و
((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً))1
و ختمت بالوعيد للكافرين و المنافقين ((لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ..))73

سورة ص
بدأت بقوله ((وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ))1
و أختتمت بقوله ((إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ))87

سورة الممتحنة
بدأت بقوله ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء))1
و ختمت بقوله ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ))13

سورة الحشر
بدأت بقوله ((سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))1
و ختمت بقوله ((يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))24


سورة التحريم
بدأت بذكر أزواج النبى صلى الله عليه و سلم، و ختمت بذكر إمرأتين من نساء الجنة
و بدأت بالتحذير من التظاهر علي رسول الله ، و ختمت بذكر زوجتى نوح و لوط لما خانتاهما فلم يعنيا عنهما شيئا أ تحذيراً لأمهات المؤمنين رضوان الله عليهم و تخويفا

سورة القلم
بدأت بقوله تعالى ((مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ))2
و ختمت بقوله ((َإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ))51

سورة عبس
بدأت بذكر العبوس و هو من صفة الوجه ((عَبَسَ وَتَوَلَّى))
و ختمت بوصف الوجوه أيضاً
((جُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ))

و هكذا يسير الحال مع كل السور القرأنية فلا بد أن تجد تناسباً بين ما يطرحه أولها و ما يرد فى أخرها و لولا خشية الإطالة لأوردنا ذلك مفصلاً لكن من أردا التوسع فعليه بكتاب (مراصد المطالع ) للإمام السيوطى رحمه الله بتحقيق د. محمد يوسف الشربجى



من أمثلة التناسب بين السورة و السورة التى تليها :

المثال الأول
ختمت سورة البقرة بقوله ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ))
و جاءت بداية أل عمران مصدقة لهذا بقوله تعالى ((نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ))

و جاء فى أخر سورة البقرة قوله ((وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ))
و جاء فى بداية سورة أل عمران قوله ((قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ))

و جاء فى أخر سورة البقرة تقرير الربوبية ((لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ))
فجاء فى أول سورة أل عمران تقرير الألوهية ((اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))

و أختتمت البقرة بدعاء المؤمنين ((رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ))
و أفتتحت سورة أل عمران بدعاء المؤمنين ((رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ))


المثال الثانى
أختتمت سورة أل عمران بالأمر بالتقوى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))
و أفتتحت سورة النساء بالأمر بالتقوى ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ))

المثال الثالث
سورة النساء أختتمت بذكر حكم من الأحكام ((يسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ))
و أفتتحت سورة المائدة بالأمر بالوفاء بالعقود و منها اتباع احكام الشرع الحنيف ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ))
كما أنها تناولت أيضاً جملة من الأحكام ((أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ))

المثال الرابع
سورة المائدة ختمت بتعظيم الله و تقرير الربوبية ((لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))
و بدأت سورة الأنعام بتعظيم الله و تقرير الربوبية ((الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ))

سورة المائدة ختمت بسؤال الله للمسيح عن الذين عبدوه من دونه ((وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ))
و بدأت سورة الأنعام بتكفير الذين يعدلون بالله أحداً كمن قالوا إن الله له ابن او انه المسيح ابن مريم ((ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ))

و فى ختام سورة المائدة قوله سبحانه على لسان المسيح ((ِإن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ))
و فى بداية سورة الأنعام قوله تعالى فى تقرير تفرده بالألوهية و علم الغيب ((وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ))

المثال الخامس
فى ختام سورة الأنعام إمتن سبحانه على المؤمنين أن جعلهم خلائف لمن أهلكهم قبلهم ((َهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ))
و فى بداية سورة الأعراف ذكر خبر من أهلكهم سبحانه من قبل ((وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ))

و جاء فى ختام سورة الأنعام قوله تعالى ((وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) (155)
و فى بداية سورة الأعراف قوله ((اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ))3

و جاء فى ختام الأنعام أمره تعالى لنبيه ((قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) (162)
و فى بداية سورة الأعراف أمره لنبيه أن يؤدى رسالته خالصاُ لله غير مبال بغيره (( كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ))


المثال السادس
فى ختام سورة الأعراف الأمر بذكر الله خوفاً و إنابة ((وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ)) (205)
و فى بداية سورة الأنفال وصف المؤمنين بخشية الله و وجل القلوب لذكره ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ))(2)

و فى ختام سورة الأعراف بيان حال المؤمنين فى التعامل مع نزغ الشيطان و فتنته ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ))201
و فى أول سورة الأنفال ضرب مثلا على ذلك بالذين سألوا عن الأنفال- غنائم يوم بدر- فأمرهم سبحانه أن يردوا حكمها لله و الرسول، و امرهم بالتقوى و الإصلاح و ترك النزاع بينهم
((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))1

المثال السابع
فى ختام سورة النحل يواسى سبحانه نبيه الكريم، فأمره الله بالصبر و عدم الحزن او الضيق مما يلقاه من الأذى، خاتماً بأن الله تعالى ولى المتقين المحسنين
((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)) (128)
و فى بداية سورة الإسراء ذكر حادثة الإسراء التى كانت أعظم تخفيف و تسلية لرسول الله و أعظم ما رأى من الأيات الكبرى، و كانت بعد أن مر بكربات متلاحقة من موت خديجة و عمه و رفض الناس دعوته و تعديهم على شخصه الكريم حتى رشقوه بالحجارة!
((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))1

المثال الثامن
سورة الإسراء أختتمت بحمد لله و نفى الولد عنه ((وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً))
و سورة الكهف بدأت بحمد لله و الوعيد لمن نسب له الولد ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا )) إلى قوله ((وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ))

المثال التاسع
فى ختام سورة هود قوله تعالى ((وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ))120
و فى بداية سورة يوسف قوله عز و جل ((َنحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ))3

المثال العاشر
فى ختام سورة المؤمنين قوله تعالى ((وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ))
فكانت الإستجابة بقوله تعالى ((سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ))
لأن القرأن بكل ما فيه من العقائد و الأحكام و القصص هو رحمة الرحمن الرحيم ((وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ))
فتتجلى الرحمة بالتصريح بالسورة فى بداية سورة النور و أنه سبحانه أنزلها تعظيماً لقدرها، و أنزل فيها أيات جعلها مبينة لتهدى الناس للحق بلا ريب رحمة من لدنه
فكل القرأن رحمة حتى ما يشتمله من حدود و جزاءات ، لأنها رحمة بالمجتمع ككل و تأديب و كفارة من رب العالمين

كما أن بداية سورة المؤمنين فيها بيان أن الزنا معصية ((وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ))

ففصل فى صدر سورة النور العقوبة المقررة على هذا التعدى ((الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ))

المثال الحادى عشر
ختمت سورة السجدة بقوله تعالى ((فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ))
و أفتتحت سورة الأحزاب بقوله ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ..))

المثال الثانى عشر
جاء فى ختام سورة الأحزاب قوله تعالى ((لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ))
و ‏أفتتحت سورة سبأ بقوله ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ))
فكان هذا الوصف فى أول سبأ لائقاً بذلك الحكم فى أخر الأحزاب ،فإن الملك العام والقدرة التامة يقتضيان ذلك
كما أنه ختم الأية بقوله ( و هو الحكيم الخبير) فالحكيم الذى يضع الأمور فى موضعها فيعذب من يستحق و يرحم من يستحق، كما أن الخبير هو الذى يعلم سبحانه أمور عباده و قلوبهم فيعلم المنافقات و المنافقات و إن أظهروا الإيمان!

و جاءت خاتمة سورة الأحزاب‏:‏ ‏{‏وكانَ اللَهُ غَفوراً رَحيماً‏ }‏ وفاصلة الآية الثانية من مطلع سبأ‏:‏ ‏{ وهوَ الرحيم الغفور}‏


المثال الثالث عشر
سورة الواقعة متآخية مع سورة الرحمن في أن كلا منهما في وصف القيامة والجنة والنار
وانظر إلى اتصال قوله فى الواقعة ((إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ )) بقوله فى سورة الرحمن ((فإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء))‏ ولهذا اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء وفي الواقعة على ذكر رج الأرض فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة ولهذا عكس في الترتيب فذكر في أول هذه السورة ما ذكره في آخر تلك وفي آخر هذه ما في أول الأخرى
فافتتح الرحمن بذكر القرآن ثم ذكر الشمس والقمر ثم ذكر النبات ثم خلق الإنسان والجان من مارج من نار ثم صفة القيامة ثم صفة النار ثم صفة الجنة
وابتدأ الواقعة هذه بذكر القيامة ثم صفة الجنة ثم صفة النار ثم خلق الإنسان ثم النبات ثم الماء ثم النار ثم النجوم ولم يذكرها في الرحمن كما لم يذكر فى الواقعة الشمس والقمر ثم ذكر القرآن فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك وكردّ العجز على الصدر


المثال الرابع عشر
سورة نوح جاءت متأخية مع سورة الجن
* ذلك أن سورة نوح أفتتحت بذكر أول رسول أرسل للبشر و أن دعوته خاصة بقومه و هو نوح عليه السلام
((إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ))
و سورة الجن أفتتحت بذكر أخر رسول أوحى إليه و بيان أن دعوته عامة للإنس و الجن صلى الله عليه و سلم
((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً))

* و كان قوم نوح قد عبدوا الأصنام بعدما كان التوحيد فى الأرض
كذلك قوم رسول الله عبدوا الأصنام بعدما كان التوحيد فى الأرض

* و كانت عبادة قوم نوح للأصنام بسبب تزيين الشيطان ،كما جاء فى الحديث القدسى((خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن فطرتهم))
حتى عاتبهم نوح لكذبهم على الله ((مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً))
و هذا ما تبرأ منه الجن الذين أسلموا
((وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً))

*و فى سورة نوح الوعد برزق السماء لمن أمن
((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً*يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً))
و كذلك فى سورة الجن
((وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً))

* و فى سورة نوح الوعد بالبعث بعد الموت
((وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً))
و فى سورة الجن إعلامهم بالبعث بعد الموت
((وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً))

* و فى سورة نوح قوله عن خسران العصاة
((قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً)) حتى قوله ((مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً))
و فى سورة الجن قوله عن خسران العصاة
((وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً))


المثال الخامس عشر
*سورة الهمزة متأخية مع سورة الفيل، إذ لما ذكر سبحانه فى الهمزة ، الذى جمع مالا و تقوى به و تجبر ، عقب بذكر قصة أصحاب الفيل الذين كانو شديدى القوة و اكثر مالاً و عتواً، و قد جعل الله كيدهم فى تضليل و اهلكهم بأصغر الطير و أضعفه
فمن كان قصارى تعزيه بالمال و همز اللسان كان أقرب للهلاك و أدنى للذلة

*كما أن سورة الفيل تناسب سورة قريش بعدها
إذ واقعة الفيل حدثت لقريش ، و نجاهم الله من عدوهم و أمنهم من الخوف تكريماً للبيت الحرام، فناسب ذلك أن يأمرهم فى سورة قريش بأن يعبدو رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع و أمنهم من خوف



أمثلة على تناسب كل أية مع الأية التى تليها :


المثال الأول
تدبر قوله تعالى فى سور أل عمران حاكيا عن الجهاد و نصر الله ((وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) ....إلى قوله تعالى ((وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ))
ثم قال فى الأية التالية (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ))

و مناسبة ذكر الربا فى سياق أيات الجهاد، و بالتحديد بعد ذكر نصر بعد الذى جاء فى وقت الذل و الإستضعاف، هو التنبيه إلى أن الربا من أسباب الهزيمة و الذل بعد العزة ، لأنه من أخبث الخبائث إذ أن المرابى لا يحارب عدوه البشرى فقط بل يحارب ربه ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ))
و من يخذله الله فلا ناصر له و من يذله فلا معز له
و لهذا بين رسول الله أن الربا (العينة) من أهم أسباب نزول الذل و الهزيمة فقال صلى الله عليه و سلم:
[إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] صحيح بمجموع طرقه، رواه أبوداود وأحمد.

المثال الثانى
تدبر قوله تعالى فى سورة النساء ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ))
ثم قوله فى الأية التالية (( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ))

و التناسب بين الأيتين أنه سبحانه لما أشار في الأولى إلى نزول القرأن من لدنه و وصفه بأنه (نور مبين) ، قسم الناس إلى نوعين ، الأول هم {الذين آمنوا بالله }و{ واعتصموا به } أي تمسكوا بحكمه و شرعه و جعلوه عصاماً لهم { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }
و تلك الرحمة و ذلك الهدى فى الدنيا و الأخرة، و رحمة الدنيا بالتوفيق لإتباع شرعه و الوقوف على حدوده و تعظيم محارمه..

أما النوع الثانى فهم الكافرون و المنافقون الذين { إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ } صدوا عن رسول الله صدوداً و ابتغو حكم الجاهلية عن حكم الله، و قد تم ذكرهم من قبل قريباً فى ذات السورة ، فأعرض عن ذكرهم لمعرفة العقل بهم بداهة و أنهم نقيض النوع الأول فى الصفات و فى المأل ، فكان هذا من بلاغة الإيجاز فى القرأن
ووضع موضعهم حكماً من أحكام الفرائض المفتتح بها السورة التي هي من أعظم مقاصدها من غير حرف عطف، بل بكمال الاتصال، فقال { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } إشارة إلى عظيم مكانة الشرع، و أن الله هو المشرع الأوحد و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مبلغ عن ربه، حتى وصل إلى قوله فى أخر الأية { يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ }
فكان هذا تفسير قوله عن القرأن (نوراً مبياً) يهتدى به الناس فى ظلمات الدنيا ، و تفسير لقوله (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً) فهذه الفرائض هى من جملة هداية الله كى لا يضل الناس...فتأمل.

المثال الثالث
قال تعالى فى سورة إبراهيم (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ * قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ * اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ))

ثم قال فى الأيات التالية ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ))

و التناسب بين الأيات الأولى و الأيات التى تقص خبر إبراهيم بعدها عظيم
- فالأيات الأولى تبكت مشركى قريش الذى بدلوا نعمة الله بالتوحيد و البيت الحرام كفراً و جعلو لله أندادا ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ))
فذكرهم سبحانه بأبيهم إبراهيم إمام الموحدين الذى لم يك من المشركين ، و الذى بنى لهم البيت لتتم نعمة الله عليهم و دعا الله أن يجنبه و بنيه أن يعبدو الأصنام التى صاروا يعبدونها من بعده و بدلوا بذلك نعمة الله
((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ))

- كذلك فى الأيات الأولى وجه الله أمره للمؤمنين أن يقيموا الصلاة (( قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ))
و من ثم عدد نعمه على عبيده حتى بلغ قوله تعالى ((وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ))
لأن إقامة الصلوات و فعل الخيرات سبب فى تنزل الرحمات و تعدد المعطيات
فناسب ذلك تذكيرهم بأن أرضهم هذه كانت واد مقفر لا زرع فيه ولا حياة و إنما أعطاهم الله الماء و الحياة و جمع له خيرات الأرض بدعاء إبراهيم الموحد لما سكنها ، و إبراهيم ما سكنها إلا لتقام الصلاة فتأمل
((رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ))

المثال الرابع
تدبر قوله تعالى فى سورة الإسراء ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ))
و قواه فى الأية التالية ((وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً))

و مناسبة ذكر موسى بعد ذكر حادثة الإسراء عظيمة
أن يوم الإسراء التقى رسول الله صلى الله عليه و سلم بموسى فصلى به و بسائر النبيين إماما فى المسجد الأقصى ،فكأنه يشير إلى تبعية موسى لرسول الله صلى الله عليه و سلم الذى جعله الله إمام النبيين و إمام المسجدين ..
لذلك أمر سبحانه بنى إسرائيل فى أخر الأيات قائلا (ألا تتخذو من دونى وكيلا) فحذرهم من معصيته ، و ذكرهم بعهده باتباع النبى الذى يجدونه فى الكتاب الذى أتاه الله موسى هدى لهم

،- كذلك إلتقى رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك اليوم بموسى فى السماء الخامسة
و كان موسى هو الذى يراجع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يراجع ربه فى أعظم فريضة فرضت فى الإسلام بعد شهادة الحق و هى الصلاة، و كان له فضل علينا فى تخفيف هذه الصلاة ، و تفرد موسى بذلك للتشابه الكبير بينه و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم

المثال الخامس
فى سورة النمل قال سبحانه ((حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ ))
ثم قال فى الأية التالية (( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ))
و التناسب بين الأيتين ، أن الله تعالى لما أخبر بأمر غيبى و هو أمر القيامة و أحداثها ، ذكر أياته المشاهدة لتكون دلالة على الخالق و على صدق الوعد بالبعث و الحساب، و هذا كثير فى القرأن أن يوثق اليقين فى الغيبيات بسرد الأيات المشاهدات

المثال السادس
تدبر سبب ورود قصة قارون فى سورة القصص فى موضعها، و بيان ذلك على النحو التالى:
1- سورة القصص بنيت على قصة نبى الله موسى ، فناسب ذكر قارون فيها لأنه من قوم موسى ((إنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى))

2- أن سورة القصص دارت حول معنى مدح المؤمنين المستضعفين و الوعد لهم، و ذم الكافرين المستكبرين و الوعيد لهم
ففى أولها قوله تعالى ((وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ))
و فى أخرها قوله تعالى ((تلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))

فناسب ذلك ذكر فرعون (عدو موسى) الذى تكبر فى الأرض و ادعى الألوهية
((إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ))
((وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي))
((وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ))
ولما جعل الله المؤمنين أئمة الفلاح كما قال فى صدر السورة، جعل جزاء فرعون و قومه أنهم أئمة الخسران ((وجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ)) فأنظر إلى التناسب العجيب بين الأيات و الكلمات و المضمون!

وناسب ذلك أيضاً أن يذكر قارون الذى كان شيمته التكبر و الغرور حتى نسى فضل ربه فقال عن ماله ((قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي))
فكان جزاءه قريبا من جزاء فرعون ، فهذا أجرى الله الأنهار من فوقه بعد أن قال ( و هذه الأنهار تجرى من تحتى) و ذاك خسف به الأرض و جعلها فوقه

3- لما ذكرت الأيات فى صدرالقصص خبر نبى الله موسى ،أتبعها سبحانه بذكر موقف قوم رسول لله صلى الله عليه و سلم منه ، حين إستكبروا عن القرأن و قالوا عنه و عنه التوراة ((قالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ))
فعقب بتذكيرهم أنه سبحانه يهلك القرى التى بطرت معيشتها و فسدت عقائدها ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ))
فناسب ذلك أن يضرب مثلاً بقارون لأنه من قوم موسى فبغى عليه كما كانت قريش قوم رسول الله فبغوا عليه!
لذلك قال فى سياق قصة قارون ((أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ))

4- أن ذكر قارون فيه تسلية لرسول الله لأن الله أخبره فى سورة القصص أنه لا يهدى من يحب و لو كان أقرب الأقربين و إنما الهدى هدى الله ((إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ))
فذكر قارون الذى كان من قوم موسى بل و من المقربين حتى اغتر بنفسه و نسى ربه،فيطمئن قلب رسول الله أن هذه سنة جارية و أن الفضل بالتقوى

5- أخيراً فإن الأيات عن قارون سبقها مباشرة بيان عجز البشر و ضعفهم فى الدنيا و أن الله المتصرف فيهم كيفما يشاء
((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ))
كما تضمنت بيان عجز البشر و ضعفهم فى الأخرة و أن الله هو المتصرف فيهم كيفما يشاء
(( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ))
فلما قدم ببيان حقيقة الإنسان و ضعف قوته و قلة حيلته و إفتقاره إلى مولاه فى الدنيا و الأخرة سبحانه، ذكر قصة قارون لتكون عبرة و تذكرة ملائمة لهذا المعنى،فلا يغتر إنسان بقوة أو مال و يعلم أن الله جبار عليه و فوقه قهار

المثال السابع
فى سورة سبأ قال تعالى ((أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ))
ثم قال تعالى ((وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ))
و التناسب بين الأيتين بديع:
ففى الأية الأولى يوقف سبحانه الكافرين على مكانتهم الحقيقة، فهم لا حول لهم ولا قوة ، ولا قيمة لهم عند ربهم إن كفروا، فلا أرض تقلهم ولا سماء تظلهم من الله ، بل تكون الأض و السماء نقمة عليهم و عذاب
و ختم الأية سبحانه ببيان أن فى ذلك عبرة لكل (عَبْدٍ مُّنِيبٍ)
(فالعبد) الذى أتم أركان العبودية و قام فى مقامها لله (المنيب) الذى يتوب و يعود إلى ربه متضرعاً ،ذاك من يستفيد قلبه بالذكر و يتعظ به فيرفع الله قدره
فناسب ذلك أن يذكر سبحانه نبى عظيم من أنبياءه و هو داود عليه السلام الذى شهد له القرأن بتحقيق مقام العبودية و الإنابة كما قال تعالى فى سورة ص
((اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ))
و أيضاً لأن من الأيات التى إختص الله بها داود أن سخر الله له الجبال و الطير تنيب معه و ألان له الحديد و لإبنه سليمان سخر له الريح و الطير و الجن
فكانت الأيات أشبه بمقارنة حية بين الكافرين الصاغرين الممقوتين عند ربهم و عند مخلوقاته فى الأرض و السماء
و بين المؤمنين المكرمين عند ربهم و عند مخلوقاته فى الأرض و السماء

المثال الثامن
تدبر قوله تعالى فى سورة لقمان ((وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ))
ثم قوله فى الأية التالية (( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ *وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون))
و العلاقة بين الأية الأولى و الثانية، أن الله تعالى بعدما وصى الوالد بولده بالنصح له كما فعل لقمان، ، ناسب أن يوصي الولد بوالده. فالإسلام يراعي التوازن والوسطية والعدل في الحقوق والواجبات لجميع أصناف الناس.
كما أن النهي عن الشرك، لا يعني عدم جواز طاعة الوالدين، بحجة خشية الوقوع في الشرك، فناسب ذلك التنبيه على بر الوالدين و الأحسان لهما بعد التحذير من الشرك
ولا يستبعد أن تكون التوصية بالوالدين جزءاً من موعظة لقمان لابنه، ونسَبَها إلى الله تعالى (ووصينا) بإسناد فعل التوصية إلى الله تعالى؛ إشارة إلى أنه لولا شريعة الله تعالى لما فطنتم لمثل هذا، فمصدر الهداية هو الله تعالى،أو يكون المراد: وصينا بمثل ما وصَّى به، وأسند الفعل إليه ـ سبحانه وتعالى ـ؛ لبيان أهمية طاعة الوالدين

المثال التاسع

تدبر قوله تعالى فى سورة الحديد ((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ))
ثم قوله فى الأية التالية ((اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))

و العلاقة بين الثانية و الأولى، أنه سبحانه يشبه القلوب بالأرض فكام أنها تكون ميتة فينزل الله سبحانه الماء فيحييها و يثمرها، كذلك القلوب ميتة بدون ذكر الله و معرفته، فأحياها الله بنزول أيات القران و لهذا أمر المؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق

المثال العاشر
بدأ الله تعالى سورة المنافقين بفضح أحوالهم و سرد الكلام عنهم و بكيتهم حتى بلغ قوله جل و علا
((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ))
و قال بعد ذلك مباشرة مخاطباً المؤمنين
(( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ))

و التناسب بين الأيات محكم، إذ لما حكى سبحانه حال المنافقين و عجائب نفوسهم المريضة نبه على أن علة ذلك طمس البصيرة، و علة طمس البصيرة الإقبال بجميع القلب على الدنيا و زينتها و الإعراض عن الله و الإنفاق فى سبيله، كما قال تعالى فى سورة التوبة
((وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِين َ* فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ*فأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ))
و هذا يظهر جلياً فى قولهم هنا ((هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ))
فناسب ذلك أن تتبع هذه الأيات تحذير الله للمؤمنين من الإقبال على الدنيا وأن تلههم أموالهم و اولادهم عن ذكر ، و من ثم حثهم على الإقبال على الأخرة و النفقة فى سبيل الله
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ..))
و أيضاً فإن هذا التعلق بالمال و الدنيا و عدم اليقين فى أن الله مالك الملك و رازق الرزق هو عين ما حذر الله منه المؤمنين فى ختام سورة الجمعة التى تسبق سورة المنافقين فقال
((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ))
فتنبه إلى التلاحم بين الأيات و السور أرشدك الله


المثال الحاشر عشر
تناولت سورة الطلاق جملة من أحكام للنساء فى أمور الطلاق و السكن و النفقة و الرضاع ، ولما كانت أمور النساء في المعاشرة والمفارقة من المعاسرة والمياسرة في غاية المشقة، فلا يحمل على العدل فيها والعفة إلا خوف الله، كررسبحانه الحث على التقوى إشارة إلى ذلك وترغيباً في لزوم ما حده سبحانه، فقال عز و جل
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ))
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً))
((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ))
حتى قال عز و جل ((لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ))

ثم قال بعد هذه الأيات مباشرة
((وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ))

و هذه الأيات متكاملة تماماً مع سابقتها إذ لما كان الأمر قد بلغ النهاية في الأحكام والمواعظ والترغيب لمن أطاع، فلم يبق إلا التهديد لمن عصى بما شوهد من المثلات وبالغ العقوبات، و هكذت تكامل الوعد مع الوعيد

ولما تمت الأحكام ودلائلها، وأحكمت الآيات وفواصلها، والتهديدات وغوائلها، كانت ثمرة سياقها وموعظتها الأمر بالتقوى فقال تعالى : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً }
فمن كانوا لهم سمع و بصيرة و عقول منيرة فليتعظو بالموعظة و يتقوا الله بإمتثال أمره و إجتناب نهيه الذى تضمنه ذكره المنزل على قلب نبيه

المثال الثانى عشر
كذلك فى سورة قريش لما قال تعالى ((لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ))
قال بعدها سبحانه ((الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ))
فقدم ذكر نعمة الرزق و الإطعام لأنه قدم ذكر التجارة و رحلة الشتاء و الصيف
و ذكر بعد ذلك نعمة الأمن من الخوف لأنها كانت بسبب وجود البيت الحرام فى أرضهم و هو المتأخر ذكره فى الأيات الأولى



أمثلة على التناسب بين أجزاء السورة الواحدة جميعاً :

المثال الأول
سورة الضحى (( وَالضُّحَى . وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى . مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى . وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى . وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى . أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى . وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى . وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى . فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ . وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ . وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ))
يظهر التناسق الفنى و الموضوعى فى هذه السورة من خلال تدبر الإيقاع رتيب الحركات، وئيد الخطوات , رقيق الأصداء ، و التمعن فى اللفظ المختار الذى أطلق جواً من الحنان اللطيف , والرحمة الوديعة , والرضاء الشامل , والشجى الشفيف ..... فلما أراد إطاراً لهذه الأجواء جعل الإطار من الضحى الرائق , ومن الليل الساجي . أصفى آنين من آونة الليل والنهار , وأشف آنين تسري فيهما التأملات . وساقهما في اللفظ المناسب ..
فالليل هو ( الليل إذا سجى ) لا الليل على إطلاقه بوحشته وظلامه , الليل الساجي الذي يرق ويصفو , وتغشاه سحابة رقيقة من الشجى الشفيف , كجو اليتم والعيلة ، ثم ينكشف ويجلي , ويعقبه الضحى الرائق , مع ( ما ودعك ربك وما قلى , وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى ) فتلتئم ألوان الصورة مع ألوان الإطار , ويتم التناسق والإتساق .
و لاحظ التناسب بين قوله تعالى ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى))
ثم قوله فى الأيات التالية ((فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ))
نجد تلاحماً بين الموهوبات و التكليفات
- فلما قال (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) ناسب أن يطالب رسوله بالرفق باليتامى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ)
- و لما قال ( وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى) ناسب أن يأمر نبيه بالإحسان إلى السائلين (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) لأن المسئول ليس فقط المال و إنما يشمل كل الخيرات و على رأسها العلم الذى هو الأمر الوحيد الذى سأل رسول الله ربه الإستزادة منه ((وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً))
- و لما قال (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) ناسب ذلك أن يأمر نبيه بإظهار نعمة ربه عليه (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)

المثال الثانى

و الأن تدبر سورة الليل
(( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى* وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى* وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى* إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى*فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى*وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى*وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى* إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى* وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى* فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى* لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى* وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى* إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى* وَلَسَوْفَ يَرْضَى ))
أنظر إلى روعة بناء السورة الواحدة على الثنائية ، فى إطار المقابلة بين الأبيض و الأسود !
- فتقرأ فيها: (الليل إذا يغشى) ،وتقرأ بعدها (النهار إذا تجلى) , المقابل تماما لليل إذا يغشى .
وتقرأ فيها : (الذكر والأنثى) المتقابلان في النوع والخلقة .
- و تقرأ فيها: (من أعطى و اتقى و صدق بالحسنى)، و تقرأ مقابله (من بخل و استغنى و كذب بالحسنى)
- و تقرأ فيها: للمتقى (فسنيسره لليسرى) و تقرأ للمسىء (فسنيسره للعسرى) المقابل تماما!
- و تقرأ فيها: ( الأخرة و الأولى) ، و هما متقابلتان
- و تقرأ فيها عن النار ( لا يصلها إلى الأشقى) و تقرأ فى المقابل ( و سيجنبها الأتقى)
و تقرأ فيها ( الذى كذب و تولى) و مقابله تماما ( الذى يؤتى ماله يتزكى....إبتغاء وجه ربه)
فذلك إطار مناسب للصورة التي يضمها .

أما الإيقاع المصاحب , فهي أخشن وأعلى من نظيره فى " الضحى " لذلك كان التعبير بـ (الليل إذا يغشى) لا بـ (الليل إذا سجى) الذى هو تعبير أرق فى سياقه، ولكن يظل أيضاً التعبير هنا ليس عنيفاً ولا قاسياً , لأن الجو للسرد والبيان , أكثر مما هو للهول والتحذير، فتأمل!

المثال الثالث
والآن استمع إلى إيقاع مختلف , وانظر إلى إطار آخر , لصورة تقابل هذه الصورة
((وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً* فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً* فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً* فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً* إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ* وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ* وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ* إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ))
تجد الإيقاع هنا شبيه بنظيره فى " النازعات " بل هو أشد وأعنف , فيه خشونة ودمدمة وفرقعة ، تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة , والصدور المحصل ما فيها بقوة . وجو الجحود وشدة الأثرة .. فلما أراد لهذا كله إطارا مناسبا , اختاره من الجو الصاخب المعفر كذلك , تثيره الخيل الضابحة بأصواتها , القادحة بحوافرها , المغيرة مع الصباح , المثيرة للغبار ؛ فكان الإطار من الصورة , والصورة من الإطار , لدقة التنسيق وجمال الاختيار .

المثال الرابع- و تدبر سورة من قصار السور و هى خذ سورة " الفلق " .
ثم انظر ما الجو المراد إطلاقه فيها ؟ إنه جو التعويذة , بما فيه من خفاء وهيمنة وغموض . وإبهام . فاسمع
(( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ . مِن شَرِّ مَا خَلَقَ . وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ . وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ . وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ))
فما الفلق الذي يستعيذ بربه ؟ نختار من معانيه الكثيرة معنى الفجر , لأنه أنسب في الاستعاذة به من ظلام ما سيأتي : مما خلق , ومن الغاسق , والنفاثات , والحسد . ولأن فيه إبهاما خاصا سنعلم حكمته بعد قليل .
يعوذ برب الفجر " من شر ما خلق " هكذا بالتنكير وبما الموصولة الشاملة . وفي هذا التنكير والشمول يتحقق الغموض والظلام المعنوي في العموم . " ومن شر غاسق إذا وقب " الليل حين يدخل ظلامه إلى كل شئ , ويمسي مرهوبا مخوفا . " ومن شر النفاثات في العقد " وجو النفث في العقد من الساحرات والكواهن كله رهبة وخفاء وظلام , بل هن لا ينفثن غالبا إلا في الظلام . " ومن شر حاسد إذا حسد " والحسد انفعال باطني مطمور في ظلام النفس , غامض كذلك مرهوب .
الجو كله ظلام ورهبة , وخفاء وغموض . وهو يستعيذ من هذا الظلام بالله , والله رب كل شئ . فخصصه هنا " برب الفلق " لينسجم مع جو الصورة كلها , ويشترك فيه . ولقد كان المتبادر إلى الذهن أن يعوذ من الظلام برب النور , ولكن الذهن هنا ليس المحكم , إنما المحكم هو حاسة التصوير الدقيقة . فالنور يكشف الغموض المرهوب , ولا يتسق مع جو الغسق والنفث في العقد , ولا مع جو الحسد . و" الفلق " يؤدي معنى النور من الوجهة الذهنية ثم يتسق مع الجو العام من الوجهة التصويرية , وهو مرحلة قبل سطوع النور , تجمع بين النور والظلمة , ولها جوها الغامض المسحور .
ثم ما هي أجزاء الصورة هنا أو محتويات المشهد ؟
هي من ناحية : " الفلق " و" الغاسق " مشهدان من مشاهد الطبيعة .
ومن ناحية : " النفاثات في العقد " و" حاسد إذا حسد " مخلوقان آدميان .
وهي من ناحية : " الفلق " و " الغاسق " مشهدان متقابلان في الزمان .
ومن ناحية : " النفاثات " و" الحاسد : جنسان متقابلان في الإنسان .

** و نوع آخر من تصوير الألفاظ بجرسها يبدو في سورة الناس
(( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ . مَلِكِ النَّاسِ . إِلَهِ النَّاسِ . مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ . مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ ))
اقرأها متوالية تجد صوتك يحدث " وسوسة " كاملة تناسب جو السورة . جو وسوسة " الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس " .
[منقول بتصرف من التصوير الفنى فى القرأن]

المثال الخامس
سورة المجادلة، هى سورة تتبدى فيها روائع التنسيق، و عجائب التصريف، و هى التى تكرر ذكر لفظ الجلالة (الله) فى كل أياتها!

* لما ختمت الحديد ببيان عجز الخلق و التفرد بعظيم الفضل لله
سبحانه
((وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ))
كان سماع أصوات جميع الخلائق من غير أن يشغل صوت عن صوت وكلام عن كلام من الفضل العظيم،
وكان علمه سبحانه بشكوى المؤمنة المسكينة من ظهار زوجها وإزالة ضررها بحكم عام لها ولغيرها معلماً بأنه ذو الفضل العظيم
(( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيا إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ))

* و لما انتهى سبحانه من بيان كفارة الظهار و أتم نعمته على المؤمنين ختم الحكم بقوله
((وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ))
و هذا تحذير منه سبحانه لمن يتجاوز حدوده و يعرض عن حكمه ،
فناسب ذلك أن يبدأ الأية التالية بتفصيل عذاب الكافرين الذى يتجاوزون حدود الله (يحادونه)
(( إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ))

* و لما كانت السورة منذ بدايتها تتناول قدرة الله العظيمة و أنه مع عباده بسمعه و بصره و علمه، لا يخفى عنه منهم خافية أتبع هذه الأيات بالحديث عن علمه الواسع سبحانه بسرهم و جهرهم و بيان هذه المعية، ثم تكلم عن النجوى و هى الحديث سراً ، فذم من بتناجى بالإثم و معصية الرسول، و مدح من يتناجى بالبر و التقوى....
((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىا ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىا مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ))
((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ))
((ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى..))

و ختم ذلك ببيان أن النجوى بالإثم هى من فعل الشيطان ليحزن المؤمنين
((إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ..))

*ولما ذكر ما يحزن من السر لكونه إختصاصاً عن الجليس بالمقال ، أتبعه بالنهى عن الإختصاص بالمقام ،وهو مباعدة الأجسام مما يرتب ذات الظن المذموم، معلماً لهم بكمال رحمته مراعاة حسن الأدب بينهم.
((ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ..))

*ولما كانت التوسعة يكفي فيها التزحزح مع دوام الجلوس تارة وأخرى تدعو الحاجة فيها إلى القيام للتحول من مكان إلى آخر أمرهم الله قائلا
((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا ..))
و حتى يؤلف قلوبهم على طاعة الأمر أتبع ذلك ببيان جزاء الإستجابة
((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ))

*ولما نهى عما يحزن من المقال والمقام، بينما كانت مناجاة رسول الله
صلى الله عليه و سلم لا حرج فيها، أكثر البعض من ذلك بقصد الترفع حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم،فأُمر من أراد أن يناجيه بالتصدق ليكون ذلك أمارة على صدق الحاجة و الإيمان ، و لما تحقق المراد و هو التنبيه إلى الرفق برسول الله و عدم إكثار المناجاة خفف عنهم ليتم نعمته سبحانه
َ(( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))
((أأشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ...))
ثم أمرهم ان يشكروا نعمته بالتخفيف عنهم بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة
((فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ))

*ولما أخبر فى اخر الأية السابقة بإحاطة عمله (( و الله خبير بما تعملون)) أتبع ذلك بفضح المنافقين الذين يبطنون الكفر و يظهرون الإيمان و توعدهم
((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)) حتى قوله تعالى ((أُوْلَـائِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ ))


* و لما كانت السورة بدأت الوعيد لمن يحادون الله ( يتجاوزون حدوده) ناسب أن تختم بذلك
((إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـائِكَ فِي الأَذَلِّينَ))

* و لما أتم سبحانه نعمته على المؤمنين الملتزمين حدوده و الوعيد للكافرين المتعدين حدوده و بيان أنهم حزب الشيطان و أنهم الخاسرون
ختم السورة بأمره للمؤمنين أن يتبرئو مما حاد الله و رسوله و لو كانو أقرب الأقربين و ختم بييان أن هؤلاء هم حزب الله و أنهم الفائزون

((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوااْ آبَآءَهُمْ ......... أُوْلَـائِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))


المثال السادس
سورة الأحزاب ، و هى سورة عظيمة يتجلى فيها ما يعرف بـ "التجانس" و "التميز"
هذه الثنائية تقوم على ادعائين:
- دعوى أن القرآن كله متجانس في أسلوبه متشابه فى نسجه.
-دعوى أن كل سورة في القرآن تتميز عن أخواتها أسلوبا ونسجا.
فيكون الوجه الإعجازي جليا:اقتراب متزامن من نهايتين متضادتين:تميز الأفراد بحيث يتجانس المجموع.....!!ويتشابه المجموع في حين ينزع كل فرد إلى التفرد...!!
و قد تميزت سورة الأحزاب المباركة- مثلاً- عن أخواتها بظاهرة أسلوبية يسهل التقاطها بمجرد قراءة السورة وقد لا تتكرر في أية سورة أخرى بالوتيرة ذاتها....و هى ظاهرة "التعدد والتعداد" أو الاسترسال في العطف.
ومن الطريف أن نلاحظ بدءا أن اسم السورة –الأحزاب-مؤشر قوي على معنىالتعدد والتعداد..
كما أن مطلع السورة الندائي الذي يقرع الأذن يدخل القاريء إلى فضاء سيستأنس فيه بتكرار النداءات وتعددها على نحو لا يجده في سورة أخرى.لقد أحصيت 13 نداء :

-يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّه.
-يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
-يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ.
. يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ
-يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء.
-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيرا.
-يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيرا.
-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ.
-يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك.
-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ.
-يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ-
-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى.
-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً.

تعدد المنادى : النبي خمس مرات، المؤمنون ست مرات, ونساء النبي مرتين.
ومابين نداء ونداء يمر التالي بسلسلة من "التعدادات" حتى يتيقن أن التعداد هي ميزة السورة بلا ريب........

أليس في سورة الأحزاب:
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}
تعداد مبارك لأهل البر ذكورا وإناثا بلغ عشرين – أوعشرة أزواج-

أليس في سورة الأحزاب:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}
تعداد لما أحل الله لرسوله .-سبع أصناف-

وهذا تعداد في سياق آخر:
{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً}
-سبع أصناف –

وهذه آيتان هما أجمع لصفات النبي صلى الله عليه وسلم وهما من "الأحزاب"طبعا:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً}
-سبع صفات أيضا:النبوة والرسالة والشهادة والبشارة والنذارة والدعوة إلى الله والهدى-

وهذه سلسلة من أدب المؤمنين مع نبيهم ونسائه معدودة في كل الأحوال:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً}

وهذا تعداد لأولي العزم من الرسل وهم خمسة من صفوة خلق الله:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً}

ثم تمضي السورة المباركة في تعداد أنواع المشركين والمنافقين وتعداد ما أفاء الله على المؤمنين في غزوتهم......إلى ان تصل إلى التعداد الختامي:

{ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً.}
كتبه الشيخ أبى عبدالمعز


المثال السابع
سورة البقرة

أولاً:
إشتملت هذه السورة العظيمة على الدين كله:-
* إشتملت على أركان الإسلام الخمس ، ففيها ذكر التوحيد و الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج
* و إشتملت كذلك على أركان الإيمان
((كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ))
* تألف نظمها العجيب من مقدمة و أربعة مقاصد و خاتمة كما رتبها الدكتور دراز رحمه الله:
1)المقدمة : تعريف بالقران الكريم و بيان أنه يؤمن به المتقين و يعرض عنه من لا قلب له أو كان فى قلبه مرض
2)المقصد الأول: دعوة الناس عامة إلى إعتناق الإسلام
3)المقصد الثانى: دعوة أهل الكتاب خاصة إلى إعتناق الإسلام
4)المقصد الثالث: عرض شرائع هذا الدين تفصيلا
5)المقصد الرابع:ذكر الوازع الدينى الذى يدفع لإلتزام تلك الشرائع
6)الخاتمة:فى التعريف بالذين إستجابوا لدعوة الله المشتملة على تلك المقاصد و بيان ما ينتظرهم فى عاجلهم و أجلهم

ثانياً:
* يتناسب أول السورة مع أخرسورة الفاتحة، إذ ختمت سورة الفاتحة بتصنيف الناس إلى (المنعم عليهم، و المغضوب عليهم، و الضالين)
كذلك بدأت سورة البقرة بتصنيف الناس إلى (متقين، و كافرين، و منافقين) و هى أصناف تشملها الأصناف المذكورة فى أخر الفاتحة
* و يتناسب أول السورة مع اخرها إذ بدأت بذكر المؤمنين و اختتمت بذكر المؤمنين
((ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..))
((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ..))
* كذلك يتناسب اخر سورة البقرة مع أول سورة أل عمران ، إذ أختتمت بذكر المؤمنين و إيمانهم بالله و كتبه
((أمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ))
و بدأ أل عمران بتفصيل الكتب التى أنزلها سبحانه
((َنزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ))

ثالثاً:
* لما كانت أول سورة فى القرأن بعد الفاتحة راعت الأولية فى كل شىء:-
- فبدأت بثلاثة أحرف مقطعة عجيبة ، تدعو الناس لليقين أن علمهم قاصر أمام علم ربهم، و أنهم عجزهم ظاهر أمام قرأن يتحداهم بيد أنه يتألف من أحرف لغتهم التى يتقنون!
- ثم كان أول ما تكلمت عنه هو حقيقة القرأن نفسه
فذُكر موصوفاً بثلاثة صفات، أنه الكتاب (فلا كتاب مثله)، و أنه لا ريب فيه ، و أنه هدى ...
و هكذا كان موقع هذه الجمل الثلاث بعد تلك الأحرف الثلاثة موقع التنويه بالمقصود بعد التنبيه إليه!
- ثم انتقلت لتصنيف من أنزل إليهم هذا الكتاب ، و هم البشر جميعاً فصنفتهم أيضاًً ثلاثة أصناف:
1- المؤمنين ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ))
2- الكافرين ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ))
3- المنافقين ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ))
و لاحظ بلاغة الإنتتقال لهذا التصنيف، إذ مزج الحديثين مزجاً يدع أقدر الناس تصريفاً للقول لا يفطن لما حدث بينهما من إنتقال، و ذلك بقوله (هدى للمتقين) فكان حرف اللام فقط هو المعبر السرى الذى إنزلق منه الكلام لتصنيف البشر تفصيلاً!

* ثم إنتقال سبحانه لأول نداء و أول أمر فى القرأن كله ، و لما كان أول النداءات، كان أعمها فوجهه إلى كل الناس، و كان أعظمها إذ دعاهم إلى شهادة لا إله إلا الله!
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ))
- و تأمل الإنتقال من تصنيف الناس و الكلام عنهم بصيغة الغائب إلى نداءهم بصيغة المتكلم، ذلك أنهم بعد أن كانوا غيباً فى أول الحديث أصبحوا بعد وصف القرأن الشافى و ضرب الأمثال الوافى حاضرين فى الخيال كأنهم رأى عين!
- كما أن نداءهم مباشرة فيه شعور برحمة المربى سبحانه و هو ينادى عباده للنجاة نداءً تكاد تسمعه بمجرد قراءته، لاسيما بعدما تبين خطورة ما هم عليه من العمى بالأمثال المضروبة

* و بعد دعوة البشر إلى لا إله إلا الله ثنى بإثبات الركن الأخر فى الشهادة ... محمد رسول الله
فمن شك فى نبوته صلى الله عليه و سلم فليأتى و لو بسورة من مثل القرأن فإن لم تفعلوا و لن تفعلوا فاتقوا النار التى أعدت للكافرين، و مقابلها البشارة بالجنة التى أعدت للمؤمنين
فاشتملت هذه الأيات على على الإيمان بالله و الإيمان برسوله و الإيمان بكتابه و الإيمان باليوم الأخر

* ثم أتبع ذلك بضرب أول مثل فى القرأن و لما كان أول مثل ضربه بأحقر مخلوق فى عين الناس و هى البعوضة فما فوقها إمعاناً فى إعجاز الناس أمام ألاءه صغيرها و كبيرها !

*ثم انتقل سبحانه إلى أول قصة فى القرأن و لما كانت أول قصة ناسب أن تكون لأول إنسان، أبينا أدم عليه السلام...
فانظر كيف راعت السورة الأسبقية و الأولية فى كل شىء!

رابعاً:بين العلما أن كل سورة من سور القرأن لها مفتاح خاص بها و معنى تدور حوله، و مفتاح سورة البقرة هو
(الإستخلاف و الإبدال)
((سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ))
و لهذا سميت بهذا الإسم "البقرة"، إشارة إلى إستخلاف المؤمنين فى هذه الأمة بمن سبقهم من اهل الكتاب الذين تكبروا عن أمر الله و تنطعوا، و لننظر فى بيان ذلك:-
1- كانت أول قصة فى القرأن قصة نبى الله أدم و بين سبحانه أنه إختاره (خليفة) فى الأرض
و ظهر فى هذه القصة الفرق بين المسلم لأمر الله (نبى الله ادم) و المتكبر عن أمر الله( عدو الله إبليس)،
و هذا أساس الإستخلاف و الإبدال، و هو نفسه المغزى من مثل البعوضة من قبل!
2- ثم توجه سبحانه بالخطاب إلى بنى إسرائيل لأنها أشبه الأمم بأمة الاسلام من حيث امتلاكها كتاب و شريعة حكمها نبيها بها.... و هى الأمة التى سيتبدلها الله تعالى بأمة الإسلام و يستخلف المسلمين بهم!
- لذا اخذت تذكر نعم الله و مننه عليهم، و مقابلتهم المن بالجحود و القسوة و التكبر...
- حتى وصلت إلى قصة البقرة، و العظة الأعظم فيها التعريف بضرورة التسليم لأمر الله ، و هو ما لم يتوفر فى اليهود قساة القلوب

- ولاحظ كيف إختتمت قصة البقرة بقوله (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك..) فلم يحدد مدى زمنى لهذه القسوة ، إشارة إلى إستمرار تلك القسوة و ذلك الجحود إلى زمن الرسول صلى الله عليه و سلم فما بعده إلى يوم القيامة!

- لذلك أتبع هذه الأية ببيان حالهم فى زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقسمهم إلى فريقين، علماء مضلون يحرفون كلام الله و يكتمون الحق، و عوام جهال مضللون هم أسارى الامانى و الأوهام ، فمن يطمع فى إيمان من كان هذا حالهم؟!
و استطرد فى الكلام عنهم و تفنيد حججهم و فضح احوالهم و تتميم دعوتهم حتى ختمت الأيات فى الكلام عنهم بنفس ما بدأت به ...
فبدأت بقوله تعالى ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)) 47
و ختمت بقوله تعالى ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ))122

3- لما كانت تدور السورة حول معنى الإستخلاف و الإبدال ، و بالخصوص إبدال بنى إسرائيل بأمة الإسلام، جاءت الإرهاصات تحديداً لواحدة من أعظم التشريعات فى السورة و هو "تحويل القبلة" الذى يعتبر تجسيداً مادياً للإبدال و الإستخلاف و بيان ذلك:-
- قوله تعالى بعدما قص خبر اليهود أمراً المؤمنين أن يعتبروا بهم ولا يفعلوا فعلهم و ليحذروا حقدهم
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ))
و لما ذكر الله الفضل العظيم قال بعده مباشرة ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))
لأن من الخير الذى اصطفى الله به المؤمنين و من الفضل العظيم الذى قدره الله لهم جعل قبلة الدين هى المسجد الحرام بعدما كان المسجد الأقصى ، فكان الكلام هنا إرهاصاً و تعريضاً بما هو أت، لذا قال بعدها سبحانه
((وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ..)) 109 إلى قوله ((وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) 115
فتأمل سياق الأيات!

- بعدما ذكر خبر أدم و تفضيله على إبليس لما استكبر، و خبر بنى إسرائيل و غضب الله عليهم بعدما استكبروا ، عقب بذكر إبراهيم لمناسبة ذلك فى الرد على بنى إسرائيل الذين ينتسبون اليه ، و بيان أنه كان مسلماً لا يهوديأ ولا نصرانياً
((رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))
- و تناول فى قصة إبراهيم ههنا بالخصوص بناء المسجد الحرام
((وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ))
و ما ذاك إلا إشارة إلى قدسية المسجد الحرام، و إرهاصاً لتحويل القبلة إليه، و تبياناً لكونه قبلة قديمة تعود لأبى الأنبياء إبراهيم بل من لدن نوح، لأن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم و عمله كان رفع القواعد منه!
((و َإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ))

و هكذا يتبين لك أن كل ما سبق كان إرهاصاً للنبأ العظيم ، تحويل القبلة و تبديل الأمة!
((قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ))

- و بذلك استقر معنى إستبدال أمة الإسلام و نبيها العربى ببنى إسرائيل و أساس هذا الإستبدال ليس العرق ولا الجنس و إنما التقوى و التسليم
فانظر إلى روعة التنسيق يا رعاك الله!


خامساً:لنتأمل بعض أمثلة التناسب البديع بين الأيات ، إذ يصعب جداً أن نسهب فى تناول هذه السورة العظيمة تفصيلاً، و هو أمر كم نتمناه لما فيها من العجب العجاب، لكن أنّى لنا أن نخرج فى هذا المقام كل درر سورة قال عنها رسول الله أنها "فسطاط القرأن"!

المثال الأول
تدبر قوله تعالى فى سورة البقرة ((َشهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ...الأية))
ثم قوله عز و جل ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ))
ثم عودته للكلام عن الصيان بقوله ((أحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ...الأية))
- فإن مناسبة وضع أية ( و إذت سألك عبادى عنى..) بين الأيات التى تتناول الصيام، هو أن الصيام عبادة جليلة يتقرب بها العبد إلى ربه أيما قربة، و من أسباب إستجابة الدعاء التضرع حال الصيام، كذلك للصائم عند فطره دعوة لا ترد، فناسب ذلك أن يبين الله قربه لعباده و استجابته دعاءهم فى سياق أيات تشريع الصيام

المثال الثانى
قال سبحانه ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ))
ثم قال تعالى (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ))
ثم قال عز و جل (( وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ))
و الأيات هنا فى غاية التناسب:
- فالأية الأولى إستكملت ما يخص بيت الله الحرام من شعائر ، و منها شعيرة السعى بين الصفا و المروة التى نسبها إلى نفسه سبحانه، و أثبتها فى الحج و العمرة،فكان ذلك توكيداً إضافيا لاستحقاق البيت لأن يكون قبلة ، و كان أيضاً مكملاً لقصة إبراهيم و إسماعيل السابق ذكرها إذ تعود هذه الشعيرة إلى فعل هاجر أم إسماعيل عليه السلام
- و أما الأية الثانية فجاءت بعد أية الصفا ، لأن علام الغيوب علم أن اهل الكتاب الحاقدين سيطعنون فى هذه الشعائر من إستقبال الكعبة ، و السعى بين الصفا و المروة ، فبادرهم بالتهديد و الوعيد أمراً إياهم ان يذعنوا للحق و لا يكتموه!
((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)) إلى قوله ((خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ))
- و أما الأية الثالثة ((وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ))
فسر ورودها هنا تفنيد الشبهات حول شعائر البيت الحرام ، و بيان أن المؤمنين لا يعبدون الصفا ولا المروة ولا الكعبة و إنما يفعلون ذلك تعبداً لله الإله الأوحد ، و ما هذه الشعائر إلا رحمة يرحمنا به الرحمن الرحيم
و لما ختم الأية بذكر بقوله (الرحمن الرحيم) أتبع ذلك بذكر أيات رحمته التى تحيط بنا فى البر و البحر و السماء و الأرض ، و الليل و النهار!
((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)) فتأمل

المثال الثالث
قال تعالى ((وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ))
ثم قال عز و جل ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ))
و الأيات هنا فى غاية التناسب، إذ السياق فى أيات الحج، فبين سبحانه أن هذه العبادة التى قد يتمها بعد الناس رياءً و سمعة، لا تقبل إلا إن تحقق الأخلاص (لمن اتقى) و عقب بتكرار الأمر بالتقوى و التذكير بالموت و الحشر (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)
فناسب ذلك الوعيد أن يتبعه بذكر المنافق الذى هو أحق الناس بالاتعاظ هنا، المنافق المرائى الذى يظهر الخير و يبطن الشر و الفساد!
و مثل ذلك لما ذكر الله ضد ذلك المنافق و هو المؤمن الذى ينفق فى سبيل الله (مِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) اتبع ذلك بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً)
فكان النداء للمؤمن الذى هو أخر مذكور قبل النداء ليكون هذا النداء واقعاً في أذن هذا الواعي كما كان المنافق مصدوعاً بما سبقه من التقوى والحشر

المثال الرابع
قال تعالى ((وإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ))
ثم قال سبحانه (( حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ))
ثم عاد للكلام عن الطلاق و العدة(( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ))
و سر ذلك ثلاثة أمور:
1- لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين ، ضمن تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية ، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر ، قال البيضاوي { أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج ، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها}
و هذا مصداق قوله تعالى (( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ))
يإختصار: لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله
2- لأن الصلاة هى خير ما يستعين به الإنسان لإصلاح أحواله و رفع الكربات و المشاكل التى يواجهها، و السياق هنا كان فى أمور الشقاق و الطلاق و الترمل و غيرها من مشكلات الدنيا،
فليستعن العبد بالصلاة لتحقيق الصبر على البلاء ، و لبسط الرزق و تنزل النعماء
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ))
3- ما قال الأستاذ سيد قطب ، و هو تبيان أن الزواج و الطلاق و العدة و خيرها من الأحكام هى فى الحقيقة عبادة لله نتعبد له بالإلتزام بها ، ولما كانت عبودية الصلاة واضحة جدا عند كل الناس والعبوديات الأخرى قد يخفى التعبد فيها بحكم تلبسها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ، ضمن سبحانه ذكرالصلاة في قلب سياق المعاملات إشارة إلى أن هذه من جنس تلك ،وتلك من جنس هذه...فتتفق وحدة العبادة

المثال الخامس
قال تعالى ((َألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ))
ثم قال سبحانه((وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ))
ثم قال جل ثناؤه ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ))
و الأيات فى قمة التناغم ، إذ الأية الأولى تقص علينا نبأ الذى خرجوا بالألاف حذر الموت ، فإذا بأمر الله يلاقيهم و يموتوا ثم يعجزهم أكثر بقدرته فأحياهم!
- فلما تقرر هذا الخبر الذى هو بيان عظيم لقدرة الله على عبيده ، أتبعه بأمر المؤمنين أن يقاتلوا فى سبيل الله ولا يفروا حذر الموت الذى يدركهم بأمر الله أينما كانوا!
- و لما كان من أعظم العبادات التى تعين على الجهاد النفقة فى سبيل الله و إعداد العدة ثنى الله تعالى بها و حث المؤمنين عليها موعداً إياهم بالجزاء الجزيل، و ختم الأيات بتقرير أنه سبحانه الذى يملك أن يوسع على عباده و أن يقدر عليهم رزقهم ، و أنهم جميعاً سيموتون و يرجعون إليه سبحانه
- و لما جاء بالأمر بالجهاد، و الصحابة الكرام كانوا كثيراً ما يتمنون أن يؤذن لهم فيه، حذرهم الذى يعلم السر و أخفى من أن تكون عزائم البعض منهم ضعيفة، فإذا ما فرض الجهاد تخاذلوا، أو أن يعصوا أمر قائدهم رسول الله أبداً فى ساحة القتال، فجعل ذلك الإنذار متمثلاً فى خبر ما سبق من تخاذل بنى إسرائيل!
ملحوظة: هذا كله من دلالات الإبدال و الإستخلاف الذى تدور عليه السورة
*فبنى إسرائيل لما فُرض عليهم القتال تخلفوا و عصوا
فأمر الله المؤمنين أن يطيعو و يجاهدوا و ينفقوا متعظين بمصير من قبلهم

* و فى أول القرأن تقرأ ((ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ))
فالمتقين يؤمنون بالقرأن ولا ريب فيه عندهم
- مقابلهم أهل الكتاب و من تبعهم على الكفر فى ريب من كتاب الله
((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ..))

* المؤمنبن يطيعو أمر الله و يؤمنون بالكتاب كله
((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ))
أما أهل الكتاب فيؤمنون ببعض الكتاب و يكفرون ببعض
((وإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ))

* أهل الكتاب قالوا سمعنا و عصينا
((وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا))
أما المؤمنين فيقولون سمعنا و أطعنا
((وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ))

* و لما أمر بنى إسرائيل أن يتقوا يوماً لا خلة فيه ولا شفاعة
((وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ))
فكرر سبحانه نفس الأمر للمؤمنين لأنها سنته الجارية
((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ))

* ولما أمر سبحانه بنى إسرائيل أن يشكروا نعمة و يصبروا مستعينين بالصلاة فأبوا
((وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ))
وجه سبحانه نفس الأمر للمسلمين بعدما أظهر نعمته عليهم ببعثة النبى و إنزال القرأن و إصطفاء القبلة فيهم، ليعتبروا ببنى إسرائيل و يطيعوا، فيظهر التناسب بين العبرة و المعتبر ، و بين البديل و المبدل
((كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ))

المثال السادس
قال تعالى ((تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ))
ثن قال عز و جل (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))
و التناسب بين الأيتين أن الأية الأولى أشارت إلى وقوع الشقاق بين أتباع الأنبياء و الإقتتال بعدما عرفوا الحق، فوجب للمؤمنين أن يستعدو لجهاد اليهود و النصارى و غيرهم من أهل الملل الذين تفروقا و رفضو التوحد على الحق بحجة إتباع أنبياءهم الذين هم منهم براء، و لما كان عماد الجهاد النفقة فى سبيل الله أتبع سبحانه بالحث عليها و التكذير بالأخرة

المثال السابع
قال تعالى (( اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ))
ثم قال سبحانه ((لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ))
ثم قال عز و جل (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))

و هذه الأيات كلها فى غاية التناسب، أما أية الكرسى العظيمة فقد جاءت بعد الأمر بالجهاد و و النفقة فى سبيل الله ، فناسب ذلك أن يحدث الله المؤمنين عن تفرده بالألوهية سبحانه و عن أسماءه و صفاته العظيمة، فيعلموا أنه الإله الأوحد الحى القيوم الذى يدبر الأمر ،ولا يغفل عن عباده ولا ينام ، و أنه مالك الملك ، فتتشوف النفوس للجهاد مطمئنة بمعية و تأييد رب العالمين طامعة فى ثوابه راضية بقدره، و ناسب أن يذكر أمر الشفاعة الدالة على أن الملك لله فى الأخرة كما أنه له فى الدنيا، و ليكمل معنى الأية السابقة فى حث المؤمنين على النفقة قبل مجىء يوم لا شفاعة فيه
- و لما أتم سبحانه فرائضة و أظهر حجته ، و عرف البشر بنفسه و عظمته، وفند كل الشبهات و أقام البراهين الباهرات، حتى اتضحت الدلائل لكل عالم وجاهل صار الدين إلى حد لا يحتاج فيه منصف لنفسه إلى إكراه فيه فقال (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) فتأمل
- أما الأية الأخيرة و التى فيها حجاج إبراهيم الملك، قال البقاعى: لما ذكر ما له سبحانه وتعالى من الإحاطة والعظمة وأتبعه أمر الإيمان وتوليه حزبه وأمر الكفران وخذلانه أهله، أخذ يدل على ذلك بقصة المحاج للخليل والمار على القرية مذكراً بقصة الذين قال لهم موتوا ثم أحياهم في سياق التعجيب من تلك الجرأة!
نلاحظ:
أولاً: وردت ههنا ثلاثة قصص كلها تتكلم عن إحياء الله للمخلوقات:
- قصة إبراهيم مع النمرود ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ))
و قصة صاحب القرية (( أو كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ))
و طلب إبراهيم من الله ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى))
و ورود القصص الثلاثة بعد أية الكرسى العظيمى التى بدأت بقوله تعالى ((اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) دلالة على قدرة الله و على هاذين الإسمين العظيمين، فالله تعالى هو الحى الحياة الكاملة الذى تستمد المخلوقات حياتها منه فهو محييها، و هو القيوم القائم بذاته المقيم لغيره من المخلوقات!
ثانياً: ناسب ذكر هذه الأخبار فى الإحياء فى أخر سورة البقرة ما ورد فى أولها من ذكر أخبار فيها إحياء أيضاً
((كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ))
((وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون))
((وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))


فتأمل
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس