عرض مشاركة واحدة
  #366  
قديم 2013-06-12, 06:29 PM
القريشي العربي القريشي العربي غير متواجد حالياً
عضو جديد بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2013-06-12
المشاركات: 2
افتراضي احقية وإثبات خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)

[align=center]بسم الله الرَّحمان الرَّحيم


والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيِّد المرسلين محمَّد وآله الطاهرين المطهرين،واللعنة الدائمة والسرمدية على أعدائهم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
السلام عليكم ورحمته وبركاته..وبعد.
إنَّ وجوب تعيين الخليفة عقلاً وشرعاً بعد رحيل رسول الله(صلَّى الله عليه وآله) من ضروريات الدين،فالتغاضي عن ذلك يؤدي إلى إهمال ضرورة عظمى بل هي أهم ضرورة في شريعة سيِّد المرسلين رسول الله محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) كما سوف نبيِّنه ونوضحه عمَّا قليلٍ... وقبل أن نستدل على ضرورة تعيين الخليفة، علينا أنْ نوضح نقطتين مهمتين:
النقطة الأولى: في بيان الحكمة من وجود الإمام أو الخليفة.
تقريرها:
إن الأدلة التي أوجبت ضرورة بعثة الأنبياء والمرسلين هي بعينها توجب ضرورة وجود الإمام وتنصيبه بعد النبي، لأن الموضوعَين يشتركان في جانب مهم من المناهج، فقاعدة اللطف مثلاً التي من خلالها أثبت المسلمون الشيعة الإمامية «أيدهم اللَّه عزّ وجل» ضرورة إرسال الأنبياء من حيث إنّ اللَّه تعالى بمقتضى رأفته بالعباد ولطفه بهم، يجب عقلاً ـ بعد أنْ فرض عليهم أحكاماً وتكاليف ـ أن يوجد لهم مَنْ يبعّدهم عن المعصية ويقرّبهم إلى الطاعة، فإيجاده للأنبياء (عليهم السَّلام) محصّل لغرضه، وهو طاعتهم له وانقيادهم له، ولو لم يوجده لنقَضَ غرضَهُ، إذ كيف يأمرهم بطاعته ثم لا يحقّق لهم الفرص التي تمكّنهم من العبادة والطاعة.
ووجوب اللطف لا يختص بالأنبياء والمرسلين، بل يشمل الأوصياءَ والأولياءَ المنصوبين من قِبل اللَّه جلّ وعلا، لأن مهام هؤلاء كمهام اولئك بمناطٍ واحدٍ لا يختلفون عن بعضهم البعض إلاّ في تلقي الوحي التشريعي، وبحسب قاعدة اللطف وجب كون الإمام أو الخليفة معصوماً، لأن غير المعصوم لا يؤمن عليه من الانحراف أو الزيادة والنقصان في الشريعة فاقتضت حكمته المتعالية أن ينصّب حججاً بعد الرسول لكي يوصلوا النفوس إلى الكمال، ويبلّغوا الأحكام المشرّعة التي لم تُبلّغ للناس لعدم وفرة الظروف الموضوعية لبيانها وتبليغها، ويربّوا الأشخاص الذين لم يحظوا برؤية النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والاستفادة منه، فيقودونهم نحو طريق الهداية، وليس من المعقول أن يهمل اللَّه الأمة ويتركها بلا قائد أو راعٍ لشؤونها، في حين أن جميع الناس متساوون من حيث الحاجة إلى مَنْ يربّيهم ويعلّمهم، وجميعهم متكافئون من حيث شمولهم لقاعدة اللطف الإلهي.
فمن اللازم إذن أنْ يبعث اللَّه عزّ اسمه مَنْ يوجّه النفوس إلى الكمال، وهو أي المربّي أو القائد مَنْ يوضّح معالم الشريعة المقدّسة ببيانه، ويدفع شبهات الملحدين والمشككين، ويفسّر ويبيّن معارف الدين وأسراره للنفوس المستعدة، ويصدّ أعداء الدين، ويقوّم الاعوجاج بيده ولسانه، ويرفع النقائص ويملأ الفراغ، ولمّا كانت هنالك فاصلة زمنية بين نبيين، ولا وجود لشريعة وقانون بعد خاتم النبيين، فسوف يكون وجود الإمام بين الشرائع وبعد وفاة النبيّ الأعظم لازماً وضرورياً، بوصفه العلة المبقية لأساس الغرض، ولمّا أخذ اللَّه تعالى على نفسه أن يمنَّ على عباده بلطفه الخفي، ويرعاهم رعايةً دقيقة، ويهديهم ويحسن بهم، ولا يريد إلاّ خيرهم وسعادتهم، لذا عليه أن لا يترك دين نبيه ناقصاً بارتحاله، وإنما يواصل رعايته للدين من خلال تعيين الإمام الذي يستطيع هو فقط أنْ يحمل هذه المهمة الثقيلة وهو الأنموذج الأكمل، والمثل الأعلى لوجود النبيّ في كافة الخصوصيات، وهو الذي يقود الناس نحو الكمال، من هذا المنطلق كان تعيين الوصي فرضاً على النبيّ، لذلك نصّب الإمام عليَّاً (عليه السَّلام) بأمر من اللَّه تعالى وصيّاً على الأمة.
وهذا ما يطلق عليه بالمكملّية أي أن الإمام‏ (عليه السَّلام) مكمّل للهدف الذي جاء من أجله النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
ومضافاً إلى عنصر اللطف وأهميته في مسألة بعث الأنبياء والأوصياء (عليهم السَّلام) هناك عناصر أخرى مهمة تدخل في تركيبة الشخصية الرسالية للإمام هي كما يلي:
العنصر الأول: قيادة الأمة سياسياً واجتماعياً.
اتفق العقلاء على أن كل جماعة لا يقودها نظام اجتماعي يقف على رأسه قائد قادر، مدبّر حكيم، لا تكون قادرة على إدامة حياتها، لهذا نجد العقلاء منذ القدم حتى الآن يختارون لأنفسهم زعيماً وقائداً، كي تنتظم أحوالهم، وتستقر أوضاعهم، وإلا انتشرت الفوضى، وعمّ الفساد، وكثر الهرج، وسفكت الدماء نتيجة عدم وجود رئيس أو قائد يتولى الأمور، من هنا يتعيّن إيجاد خليفة بعد وفاة النبيّ دفعاً للمحاذير المتقدمة، لكون الخليفة المعصوم أو القائد المعصوم هو الوحيد الذي يمكنه أن يحمي أصالة الدين، ويحول دون أي اعوجاج وانحراف وفساد، أمّا غير المعصوم فكغيره تؤثر عليه العوامل النفسية والخارجية، وتتلاعب به الأهواء والشهوات، ولا يسلم من هذا إلاّ النادر، وهذا النادر لا يمكنه أنْ يأخذ بيد المكلفين إلى واقع الدين، لأن وظيفة الخليفة ليست منحصرة ببيان الأحكام التشريعية فحسب، وإنما مهمته أوسع من ذلك بحيث تطال جميع مناحي الحياة والدين، فبيان الحكم الشرعي هو أثر من آثار وظائفه المقرّرة من عنده تعالى.
فالإنسان العادي المعرَّض للخطأ غير قادر على حمل الرسالة العظيمة التي حملها الأنبياء والمرسلون، بدليل ما نراه بأم أعيننا من انحراف قادة العالم عن جادة الصواب، ولا أحد بقادر على أن يقوّم اعوجاجهم نظراً لما يتصورون في أنفسهم من أنهم قادة يحرَّم الاعتراض عليهم والوقوف بوجههم.
العنصر الثاني: ضرورة إتمام الحجة.
إنّ وجود الإمام لا يقتصر على إرشاد الناس إلى واقع التشريع، وإنارة القلوب المستعدة للهداية والسير في طريق التكامل، بل يعتبر إتماماً للحجة على الذين ينحرفون عمداً عن الطريق السويّ، وذلك كي لا يكون العقاب النازل بهم بدون سبب، ولكي لا يعترض أحد منهم أنهم لو أخذ بأيديهم مرشد إلهي ليقودهم إلى طريق الرشاد، لما ساروا في طريق الانحراف، أي أن وجود الإمام يقطع الطريق على كل عذر وحجة، بواسطة بيان الأدلة الكافية والتوعية اللازمة لغير الواعين، وتطمين الواعين وتقوية إرادتهم.
العنصر الثالث: الإمام باب الفيض الإلهي.
إنّ القيادة في الإسلام تماماً كالرأس من الجسد وكالقلب من سائر الأعضاء، فالقلب إذ ينبض يرسل الدم إلى جميع العروق، ويغذّي جميع خلايا الجسد، كذا الإمام من حيث اعتباره إنساناً كاملاً يكون سبب نزول الفيض الإلهي على الأفراد، كل فرد ينهل منه بحسب سيره ومقدار ارتباطه بالنبيّ أو الإمام، فمثلما كان القلب ضرورياً لحياة الإنسان، كذلك كان وجود واسطة نزول الفيض الإلهي ضرورياً في جسد عالم البشرية.
النقطة الثانية: في بيان المواصفات المعتبرة في الخليفة.
اعلم أن الإمامة كالنبوة من المناصب العالية والمقامات الرفيعة لكونها سلطنة إلهية لا ينالها إلاّ من كانت جميع قواه الشهوية والغضبية مقهورة له لغلبة عقله، ولكونها خلافة عن النبوة تقوم مقامها، لزم كون الإمام أيضاً متصفاً بالصفات المعتبرة في النبيّ عدا الوحي التشريعي، بل ينبغي الالتفات إلى أن مقام الإمامة أرفع حتى من مقام النُّبوة والرسالة، فهي من أعظم المناصب الإلهية، والمراد من الإمامة هنا ليس الخلافة أو الوصاية إذ كيف تكون أعظم من النبوة والرسالة وهي فرع الرسالة، وإنما يراد منها الإمامة المطلقة التي يعبّر عنها بالولاية المطلقة، وهي التي عبّرتْ عنها النصوص أنها أفضل الأعمال والعبادات، منها:
(1) ما ورد عن أبي حمزة، عن مولانا أبي جعفر (عليه السَّلام) قال
بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشي‏ء كما نودي بالولاية.
(2) وما ورد عن فضيل بن يسار، عن مولانا أبي جعفر (عليه السَّلام) قال
بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشي‏ء كما نودي بالولاية، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه يعني الولاية .
(3) وعن العرزمي عن أبيه عن مولانا الإمام الصادق‏ (عليه السَّلام) قال
أثافي الإسلام ثلاثة:
الصلاة والزكاة والولاية، لا تصح واحدة منهنّ إلا بصاحبتيها.
(4) وعن زرارة عن مولانا أبي جعفر (عليه السَّلام) قال
بُني الإسلام على خمسة أشياء:
على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية، قال زرارة: فقلت: وأي شي‏ء من ذلك أفضل؟ فقال الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهنّ، قلت: ثم الذي يلي ذلك في الفضل؟ فقال الصلاة، إن رسول اللَّه قال عمود دينكم الصلاة، قال قلت: ثم الذي يليها في الفضل؟ قال الزكاة لأنه قرنها بها وبدأ بالصلاة قبلها، وقال رسول اللَّه: الزكاة تذهب الذنوب، قلت: والذي يليها في الفضل؟ قال الحج، قال اللَّه عزّ وجل:وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ.. ثم قال زرارة: قلت فماذا يتبعه؟ قال الصوم.
ثم قال ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمان، الطاعة للإمام بعد معرفته، إن اللَّه عزّ وجل يقول:مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً.
أما لو أن رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ اللَّه فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على اللَّه عزّ وجلَّ حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان، ثم قال اولئك المحسن منهم يدخله اللَّه الجنّة بفضل رحمته.
وعن عبد الحميد بن أبي العلاء الأزدي قال
سمعت أبا عبدفاللَّه‏ (عليه السَّلام) يقول: إن اللَّه عزّ وجلّ فرض على خلقه خمساً، فرخّص في أربع ولم يرخّص في واحدة.
ولا يتوهم أحدٌ أن مقام الأئمة الاثني عشر (عليهم السَّلام) فوق مقام نبينا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) حاشا وكلا، بل النبيُّ الأعظم‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مضافاً إلى تسنّمه مقام النبوة والرسالة، كان إماماً أيضاً نصاً لقوله تعالىالنَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ.
ولقوله‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يوم غدير خم: «ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى، قال من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» فالآية والحديث ظاهران في إمامته المطلقة عليه وآله التحية والسلام.
وبعبارة أخرى: إنّ لرسول اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ثلاثة مناصب إلهية:
النبوة، والرسالة، والإمامة المطلقة.
فأئمة آل البيت الإثني عشر (عليهم السَّلام) كانوا أصحاب منصب الإمامة وحده من قبل اللَّه تعالى دون النبوة والرسالة التشريعية.
ويشهد لهذا التفصيل ما جرى لإبراهيم خليل الرحمان، حيث نال عهد الإمامة بعد أن كان نبياً مرسلاً لقوله تعالى:
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قال وَمِن ذُرِّيَّتِي قال لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.
وإبراهيم خليل الرحمان‏ (عليه السَّلام)، بعد أن طوى مرحلة النبوة والرسالة، واجتاز بنجاح كل ما امتحنه اللَّه تعالى به، ومنها ذبح ابنه اسماعيل الذي رُزق به النبيُّ إبراهيم بعد أن كان نبياً مرسلاً، فارتقى ابراهيم‏ (عليه السَّلام) إلى المرحلة الرفيعة، مرحلة الإمامة الظاهرية والباطنية والمادية والمعنوية في قيادة الأمة.
وادّعى مشهور مفسري العامة، بل كاد يكون إجماعاً، أن المراد بالإمامة في الآية هي النبوة، وهو في غاية السقوط، لأنه عزّ وجل إنما جعله إماماً بعدما كان نبياً ورسولاً، بشهادة أنه طلب هذا المقام لذريته، وإنما صار ذا ذريّة بعدما كبر وهرم، قال تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل:الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ.
ويؤيده ما ورد في (الكافي) بسنده عن زيد الشحّام قال سمعت أبا عبدفاللَّه‏ (عليه السَّلام) يقول: إن اللَّه تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وإنّ اللَّه اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإنّ اللَّه اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإنّ اللَّه اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً، فلمّا جمع له الأشياء قال قال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قال فمن عظمها في عين إبراهيم قال وَمِن ذُرِّيَّتِي قال لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قال لا يكون السفيه إمام التقي.
وما ثبت لإبراهيم الخليل‏ (عليه السَّلام) ثبت بطريق أولى لرسول اللَّه محمّد المصطفى‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، حيث كان له مضافاً إلى مقام النبوة والرسالة، مقام القيادة والإمامة المطلقة على الخلق أجمعين، وقد بلغ هذه المرحلة عددٌ من الأنبياء كموسى وعيسى وداود وسليمان‏ (عليهم السَّلام).
والشروط التي يجب أن يتحلّى بها الإمام، لا بدّ أن تتناسب مع الواجبات والمسؤوليات الملقاة على عاتقه للقيام بها، وكلما كان المنصب أرفع ومسؤولياته أصعب، كانت الشروط والصفات اللازم توفّرها في المنتخَب لذلك المقام أهم وأثقل، فمثلاً يشترط الإسلام فيمن يتسنّم منصب القضاء، وحتى الشاهد وإمام الجماعة لا بدّ أن يكون عادلاً، فإذا كان من يريد أن يدلي بشهادة ما، أو أن يقرأ الحمد والسورة يجب أن يكون عادلاً، فما بالك بالشروط اللازمة لبلوغ مقام الإمامة الخطير الرفيع؟!
والإمام يجب أن يتوفر فيه شرطان:
الأول: العلم ويتفرّع منه الفضائل والكمالات النفسانية القابلة للإظهار.
الثاني: العصمة المطلقة عن الخطأ والإثم والجهل.
أما شرط العلم؛ فلأن الإمام كالنبيّ هو الملجأ العلمي للناس، فلا بدّ أنْ يكون عارفاً بجميع أصول الدين وفروعه، وبظاهر القرآن وباطنه، وبسنّة النبيّ، وبكل شي‏ء له علاقة مباشرة بالإسلام أو غير مباشرة بحيث يشمل علمه كل شي‏ء بإذن اللَّه تعالى.
إنّ الذين يرتبكون إذا ما واجهوا مشكلة معقّدة، أو أنهم يرجعون إلى الآخرين يطلبون منهم الحلول «لأن ما عندهم من علم يقصر عن الإجابة على أسئلة المجتمع المسلم» ليس لهم أنْ يتحمّلوا مسؤولية إمامة الأمّة وقيادتها.. فالإمام يجب أن يكون أعلم الناس وأوعاهم لدين اللَّه، وأنْ يملأ الفراغ الذي يتركه النبيُّ لكي يستمر الإسلام بمسيره الصحيح الخالي من كل انحراف في مسيرته.
وأما شرط العصمة؛ فلا بدّ أيضاً أن يكون الإمام معصوماً أي مصوناً من كل خطأ وإثم، وإلاّ فإنه غير قادر على أن يكون قائداً فذاً فريداً، وقدوة وأسوة للناس يعتمدونه ويتبعونه.
لا بدّ للإمام من أنْ يستحوذ على قلوب الناس، فيأتمرون بأمره دون اعتراض.. فمن كان ملوّثاً بالإثم لا يمكن أبداً أن يبلغ هذا المبلغ في القلوب، ولا أن يكون موضع ثقة الناس واطمئنانهم.
ومن كان في أعماله اليومية عرضة للأخطاء والهفوات، كيف يمكن أن يوثق به في إدارة أعمال المجتمع، ويُطمأنّ إلى آرائه وتنفيذها بدون أي اعتراض؟ إذن، لا بدّ من أنْ يكون النبيُّ معصوماً وكذا خليفته مثله يجب أن يتحلّى بصفة العصمة لئلاّ يقع في المعاصي فيغرّر غيره بالوقوع فيها، وهو خلاف اللطف الإلهي من بعثه وإرساله ليقرّب الناس إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية.
كما يجب على الإمام أنْ يكون متحرّراً من قيود النفس الأمّارة والثروة والجاه لكي لا يستطيع أحد إغراءه والتأثير عليه بحيث يحمله على الاستسلام والمساومة. هذا مضافاً إلى اشتراط الجاذبية الأخلاقية لما في دماثة الأخلاق من تأثير على الدعوة، وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ الفظاظة إحدى عوامل الهدم في الدعوة بقوله تعالى:فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ.
إنّ الخشونة وسوء الخلُق مما يثير النفور والتباعد عند الناس، بحيث يُعتبر من العيوب الكبيرة في النبيّ أو الإمام.. لذلك فإنّ الأنبياء والأئمة منزّهون عن هذا العيب.
هذه أهم المواصفات في الإمام وهناك مواصفات أخرى يجب توفّرها فيه كأن يكون أعدل وأفقه وأورع وأحكم وأشجع وأسخى الناس، إلخ....
عود على بدء:
بعد أن انتهينا من هاتين النقطتين، أعني الحكمة من وجود الإمام والشروط المعتبرة فيه، تبقى نقطة هامة مفادها:
من المسؤول عن تعيين الإمام؟
يعتقد العامة أنّ النبيّ توفّى دون أن ينصّب خليفة بعده، ويعتقدون أيضاً أنّ هذه المهمة تقع على عاتق المسلمين أنفسهم، فهم أنفسهم عليهم أنْ يختاروا قائدهم بطريق إجماع المسلمين أو ما يُعبَّر عنه بالشورى باعتباره أي الإجماع أحد الأدلة الشرعية لانتخاب الإمام، ويؤكدون مقالتهم هذه بأنّ الانتخاب بواسطة الإجماع أو الشورى الجماعية قد حصل فعلاً حيث اختاروا أبا بكر خليفة على الأمّة بإجماع الأمة، ثم اختار الخليفة الأول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، والثاني عيّن الثالث عثمان عبر طريق الشورى السداسية المؤلفة من ستة أشخاص يختارون أحدهم هم: الإمام عليّ‏ بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام)، وعثمان وعبد الرحمن‏ بن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص.
وقد اشترط عمر بن الخطاب أنّه إذا انقسمت الشورى إلى قسمين، وكان كل ثلاثة في طرف، فإن الطرف الذي فيه عبد الرحمن‏ بن عوف)صهر عثمان( هو الذي يختار الخليفة، وهذا ما حصل، إذ الأكثرية المؤلفة من سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن‏ بن عوف وطلحة اختاروا عثمان‏ بن عفّان.
والسؤال الذي يفرض نفسه:
هل للأمة أنْ تختار خليفة النبيّ؟
...ليس من الصعب الجواب على هذا السؤال، فنحن إذا اعتبرنا الإمامة بمعنى الحكم الظاهري على المجتمع الإسلامي، فإن اختيار الحاكم بالرجوع إلى آراء الناس أمر متداول بين العقلاء، ومع هذا فإنّ اختيارهم لمن هو دون المستوى المطلوب من العلم والعدالة غير كافٍ لتبرير زعامة المتقدمين على أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) من حيث إنّهم ليسوا بالمستوى المطلوب كي يستلموا إمامة الأمّة.
لكن إذا كانت الإمامة بالمعنى الذي تعتقده الإمامية طبقاً لمفهوم القرآن الكريم الذي اعتبر الخليفة أو الإمام بمستوى النبيّ لا يقلّ عنه بشي‏ء ما خلا الوحي التشريعي، فلا شك حينئذٍ أنه ليس لأحد الحق في تعيين خليفة النبيّ سوى اللَّه تعالى ورسوله وبأمر من اللَّه تعالى، ولا خصوصية لانتخاب النبيّ للخليفة سوى ما يأمره الباري به عزّ وجل.
والخليفة بعد النبيّ يجب أن يتحلّى كما قلنا سابقاً بشرطين رئيسيين:
أحدهما: العلم بأصول الديانات السماوية لا سيما القرآن الكريم والسنّة المطهرة.
وثانيهما: العصمة عن الخطايا والآثام، وغير ذلك مما هو لازم لمن يتصدّى للاضطلاع بمهمات هذا المنصب الجليل.
وتمييز هذه الصفات في شخص ما، ليست مستطاعة لكلِّ أحد إلاّ من خلال اللَّه عزّ وجلّ ورسوله الأعظم‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فهو الذي يعلم فيما توفرت فيه هذه الصفات أو الشروط المعتبرة، لا سيّما العصمة منها حيث لا يمكن لأحد أن يتعرّف على هذا المعصوم لكونها أمراً خفياً عن الناس، يظهره اللَّه على يد من جرت على يديه المعجزة أو الكرامة للتدليل على صحة تعيينه من قِبَل اللَّه عزّ اسمه.
إنّ الذين عهدوا اختيار الإمام الخليفة إلى الناس، قد غيّروا في الحقيقة المفهوم القرآني للإمامة، وإدارة شؤون الناس الدنيوية، وإلاّ فإن شروط الإمامة بمعناها الجامع الكامل لا تعرف إلا عن طريق الإلهام الربوبي، لأنه عزّ وجل لوحده العالم «استقلالاً» بهذه الصفات.
إن مسألة انتخاب الخليفة أشبه بانتخاب النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الذي لا يمكن أن ينتخبه الناس بالتصويت، بل اللَّه هو الذي يختاره ويتعرّف عليه الناس عن طريق المعجزة، لأن الصفات اللازم توفرها في النبيّ لا يعرفها إلاّ اللَّه عزّ قدسه.
من هنا يعتقد الإمامية أن النبيّ عيّن الخليفة بأمرٍ من اللَّه تعالى لأمور عدة:
الأول: إنّ الإسلام دين عالمي وخالد لا يقتصر على زمان ولا مكان معينَين، كما أن الإسلام لم يكن بعدُ قد تجاوز شبه الجزيرة العربية عند شهادة النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فكيف يكون عالمياً وخالداً، ولا يترك بعده مَنْ يبلّغ الناس أحكام الدين ومبادئه.
الثاني: إن الرسول الأعظم‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لم يبلّغ كل الأحكام الشرعية التي أنزلها اللَّه عز وجل عليه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لفقدان الظروف الموضوعية كي يبلّغها للناس: إما لعدم توفر القابليات لذلك، وإما لأنّ زمانها لم يأت بعدُ، فلا بدّ من حاملٍ لتلك الأحكام لكي يوصلها إلى أهلها.
الثالث: إنّ النبيّ كان يعلم أنه إن لم يعيّن الخليفة، فسوف تكثر الخلافات والانشقاقات والتأويلات في فهم النصوص مما يؤدي إلى التقاتل والفتنة، فضلاً عن ذلك فإن التنبؤ بالمستقبل المشرق وإعداد المقدمات للاستمرار في إدامة الإسلام كدين تستوعب أحكامه كل مجالات الحياة، كان من أهم الأمور التي لا بدَّ أن يفكّر فيها كل قائد، فكيف بسيّد القادة والحكماء رسول اللَّه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)؟
وإذا تجاوزنا كل ذلك، نلاحظ أن النبي كان أحياناً يصدر تعليماتٍ خاصة في كثير من الأمور البسيطة العادية في الحياة اليومية، فكيف يمكن أن يهمل قضية كقضية الخلافة والإمامة ولا يضع لها منهاجاً خاصاً؟!
فحياة النبيّ الأكرم زاخرة بالشواهد الحيّة على مدّعى الشيعة، حيث إنه لم يترك المدينة يوماً ما إلاّ بعد أن يعيّن من يقوم مقامه فيها، فكيف يترك الدنيا من غير أن يعيّن أحداً من بعده يخلفه على أمته، وهو يعلم أن عدم الاستخلاف سيؤدي إلى إراقة الدماء، وما لا تُحمد عقباه؟!!
لا يشك ذو مسكة أن عدم تعيين الخليفة، ينطوي على أخطار كبيرة على الإسلام اليافع، وإنّ العقل والمنطق يحكمان بأن أمراً كهذا يستحيل صدوره عن نبيّ الإسلام.
وما قيل والقائل هم العامة من أن رسول اللَّه عهد بذلك إلى الأمة، عليهم أن يبيّنوا أدلتهم من الكتاب والسنّة والعقل، وأن النبيّ صرّح بذلك علانية، ولكن ليس ثمة دليل عندهم من هذا القبيل.
أما ما ادعوه من أن النبيّ أوكل الأمر إلى الأمة تنتخب الخليفة ولم يعيّن بنفسه أحداً، فدونه خرط القتاد، وذلك:
لأن الإجماع لم يتحقق على خلافة أبي بكر، لأن معنى الإجماع هو أن يتفق المسلمون على أمرٍ ما، وحيث إن إجماعاً كهذا لم يحصل عند انتخاب أبي بكر، اللهم إلا ما حصل عند اجتماع عدد من الصحابة في المدينة، فانتخبوا أبا بكر، مع أن سائر المسلمين في سائر بلاد الإسلام لم يشاركوا مطلقاً في هذا الاجتماع ولا في الإدلاء بآرائهم، بل كان الكثيرون في المدينة نفسها كالإمام أمير المؤمنين وسيّد الموحدين عليّ‏ بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام) وبني هاشم وثلة من الصحابة الأجلاّء أمثال سلمان وأبي ذر وعمّار والمقداد لم يحضروا ذلك الاجتماع الخطير، بل كانوا ضده، وعليه، فإنّ اجتماعاً كهذا لا يمكن قبوله.
ثم إذا كان هذا الأسلوب هو الصحيح الذي يجب اتباعه، فلماذا لم يتبعه أبو بكر في انتخاب خليفته؟ ولماذا عيّن بنفسه خليفته عمر بن الخطاب؟
فإذا جاز لأبي بكر أن يعيّن خليفته، فلِمَ لا يجوز لرسول اللَّه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يفعل ذلك، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!
الحق أن يقال يتعين على النبيّ قبل غيره أن ينصب خليفةً على الأمة حتى لا يكون عدم التعيين أو التنصيب وصمة عار عليه إلى أبد الآبدين، حاشاه روحي فداه ثم حاشاه.
وإذا كانت البيعة العامة التي تلي الانتخاب تحل المشكلة، فإن ذلك وارد أيضاً بالنسبة للنبيّ الأكرم وعلى أفضل وجه.
فضلاً عن ذلك: إنّ عثمان بن عفّان جاء للخلافة عن طريق الشورى السداسية، وهذا مخالف لطريقة عمر بن الخطاب الذي جاء نتيجة تعيين الأول له، فمجي‏ء عثمان خلاف الطريقة المتبعة في التعيين، وكسراً للسنّة التي أتتْ به إلى الخلافة، بمعنى أن عثمان لم يلتزم الإجماع ولا التعيين الفردي، بل جاء بمجلس الشورى، فتكون خلافته غير شرعية على مبدأ العامة القائلين: إنّ الخليفة يأتي بمرسوم تعييني أو انتخابي، وكلاهما لم يتحققا.
هذا مضافاً إلى أنه لو كانت الشورى صحيحة، فلماذا تُقتصر على ستة أشخاص بعينهم، ويُكتفى برأي ثلاثة من ستة؟!
وهل هؤلاء الثلاثة الذين انتخبوا عثمان هم صفوة الصحابة؟
وهل هم أفضل من عليّ أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) حتى يكون رأيهم مقدّماً على رأيه الذي عبّر عنه الرسول‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): «بأنه مع الحق والحق معه، يدور معه حيثما دار»؟
وهل هناك رواية صحيحة دلت على أفضليتهم من أمير المؤمنين علي‏ (عليه السَّلام)؟
أسئلة تخطر ببال كل باحثٍ ومحقق يتعامل مع التاريخ الإسلامي بصدق وإخلاص، وبقاؤها دون جواب يدل على أن تلك الأساليب الملتوية لم تكن هي الطريق الأمثل لنصب الإمام.
ولنفرض أن نبيّ الإسلام محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وفرض المحال عادة ليس محالاً لم يعيّن أحداً يخلفه من بعده، ولنفرض أن اختيار الخليفة كان على عاتق الأمة، فهل يجوز عند الانتخاب أن نتجاوز الأعلم والأتقى والأكثر تمييزاً عن الآخرين من جميع الوجوه، ثم نبحث عن الخليفة الأدون بكثير من الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام)، بل لا يقاس بالإمام‏ (عليه السَّلام) أحد من الناس.
لقد قام الإجماع بأعلمية الإمام علي‏ (عليه السَّلام) من غيره من الصحابة، بل إن الصحابة أنفسهم كانوا يرجعون إليه في حلّ مشاكلهم والصعوبات التي كانت تعترضهم، ومنهم عمر بن الخطاب الذي صرّح بعبارات شتى تدل على ذلك، منها:
لا أبقاني اللَّه لمعضلة ليس فيها أبو الحسن.
ولولا عليّ لهلك عمر.
فلو فرضنا جدلاً: أن انتخاب الخليفة كان موكولاً إلى الناس أنفسهم، فإن أمير المؤمنين عليّاً (عليه السَّلام) كان أليق الموجودين وأجدرهم بالخلافة، لكن ويا للأسف للسياسة الفاحشة أصحابها، وللدجل فنانوه ومهندسوه، وسيأتي يوم يعلو فيه صوت الحق، وتنكّس راياتُ الضلال، ويظهر الصبح لذي عينين،رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ.
بما ذكرنا يتبيّن معك أخي القارى‏ء ضرورة تعيين الخليفة بعد النبيّ، لأن التغافل عنه منقصة في المشرّع الحكيم لا يصح صدوره عنه بحالٍ من الأحوال، والخليفة المنصوب هو الإمام عليّ‏ بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام)، والأدلة على إثبات خلافته أكثر من أن تحصى، ولكنّنا سنذكر بعضاً منها على نحو الاختصار، تسهيلاً على القارى‏ء العزيز وتشريفاً بذكر فضائله ومناقبه‏ (عليه السَّلام).
والأدلة على إثبات ذلك نوضحه ضمن مقصدين:
المقصد الأول: الأدلة العقلية الدالة على إمامته‏ (عليه السَّلام).
المقصد الثاني: الأدلة النقلية الدالة على ذلك.
أما المقصد الأول: فالأدلة على إثبات إمامته‏ (عليه السَّلام) على ضوء العقل وأحكامه كثيرة منها:
الأول: اللطف الإلهي:
ومفاد هذا الدليل: إن اللَّه تعالى بمقتضى رأفته بالعباد وتلطفه بهم، يجب عقلاً أن يبعث للناس رسولاً يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وينذرهم عمّا فيه فسادهم، ويبشرهم بما فيه صلاحهم. وإنما كان اللطف من اللَّه تعالى واجباً، فلأن اللطف بالعباد من كماله المطلق وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم، فإذا كان المحلُّ قابلاً ومستعداً لفيض الجود واللطف، فإنه تعالى لا بدّ أن يفيض لطفه، إذ لا بخل في ساحة رحمته، ولا نقص في جوده وكرمه.
وليس معنى الوجوب هنا، أن أحداً يأمره بذلك كما ربما يُتصور فيجب أن يطيع، تعالى اللَّه عن ذلك علواً كبيراً، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك: إنه واجب الوجود «أي اللزوم واستحالة الانفكاك». فكل ما كان له علاقة بما يبعّد الناس عن المعصية، وما يقرّبهم من الطاعة، يجب بضرورة العقل أن يوجده لأنه محصّل لغرضه وهو طاعتهم له وانقيادهم له، ولو لم يوجده لناقض غرضه، إذ كيف يأمرهم بطاعته ثم لا يحقق لهم الفُرص التي تمكّنهم منها.
ووجوب اللطف لا يختص بالأنبياء والمرسلين، بل يشمل الأوصياء والأولياء المنصوبين والمبعوثين تماماً كالأنبياء والرسل من قبل اللَّه تعالى، لأن مهام هؤلاء كمهام اولئك بمناط واحد، لا يختلفون عن بعضهم البعض إلاّ في تلقي الوحي التشريعي، وبحسب قاعدة اللطف وجب كون الإمام معصوماً، وغير الإمام علي‏ (عليه السَّلام) من الثلاثة المتقدمين عليه لم يكن أحد منهم معصوماً بالإجماع بين الفريقين، فيتعين كونه‏ (عليه السَّلام) هو الخليفة الحق.
وبعبارة أخرى: لمّا اقتضى اللطف الإلهي أن يصطفي اللَّه سبحانه الأنبياء لتقريب العباد إلى طاعة اللَّه وإبعادهم عن معصيته، وللوصول إلى الكمال الذي أراده لهم المولى عزّ وجل وهو المعرفة، استدعى هذا اللطف بعينه أن يستمر إلى ما بعد مرحلة الأنبياء، بأن يجعل للدين أئمة هم أفضل الخلق وأعرفهم وأعلمهم بحقائق الدين، لكي يوصلوا النفوس التي لم تكتمل بعدُ إلى الكمال ويبلّغوا الأحكام المشرّعة التي لم تبلَّغ للناس لأسباب خاصة، ويربّوا من لم يتشرف برؤية النبيّ الأكرم والاستفادة منه، وليس من المعقول أن يهمل اللَّه الأمة ويتركها بدون من يدير شؤونها، في حين إنّ جميع الناس متساوون من حيث الحاجة إلى من يربّيهم ويعلّمهم، وجميعهم متكافئون بقاعدة اللطف.
فمن البعيد جداً وخلاف الحكمة أن يترك النبيُّ أمته بلا راعٍ أو يتركها إلى الظروف والصدف، لأن الإمامة أو الخلافة بنظر الإمامية هي نيابة عن الرسول في المجالات التشريعية والتنفيذية، وله الولاية المطلقة على العباد بأمر منه تعالى، فولايته طولية لا عرضية، لأن الخليفة الإمام هو الرابط بين الناس وبين ربهم في إعطاء الفيوضات الباطنية كما أن النبيَّ رابط بين الناس وربهم في إعطاء الفيوضات الظاهرية، فإذا كان كذلك فكيف يمكن للناس أن يحيطوا بهكذا إنسان حتى يقال إنه يمكن للناس أو أهل الحل والعقد أو الشورى أن يعيّنوا الإمام السفير والحجة تماماً كالنبيّ لا فرق بينهما سوى بالوحي التشريعي دون التسديدي حيث يتساويان به.
وبما أن رسالة الإسلام أكمل الرسالات والشرائع، وقد بلّغ النبيُّ الأعظم كل أحكامها الحقة من أصول وفروع ومعتقدات خلال فترة بعثته‏ (عليه السَّلام) ثم ارتحل إلى ربه، والرسالة لمّا تستكمل بعدُ جميع أهدافها، لذا كان من الواجب في حكمته تعالى من باب اللطف والكمال المطلق المتصف تعالى بهما أنْ يوكل لإتمام مسيرة تطبيق الشريعة لأُناس مطهرين معصومين عن الخطأ والزلل والهوى نتيجة علمه عزّ وجل الأزلي بأنهم سيطيعونه ولا يعصونه، يبيّنون أحكامه تعالى في كل عصر، وفي كل المجالات، وبالأخص بعد وفاة النبيّ الأكرم حيث الإسلام لم يكن متمكّناً بعدُ في النفوس التي تربّت على تقاليد الصحراء الجافة، بالإضافة إلى تربص المشركين في الجزيرة يكيدون للإسلام وللمسلمين، وهجمات الروم المتكررة على أرض العرب، مع تحذير النبيّ لأصحابه من أن يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، كل ذلك يستدعي وجود إنسان كامل نقي السريرة، معصوم مسدّد بالفيض الإلهي، يحلُّ مكان الرسول الأعظم‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في أداء الرسالة التي جاءت لتنقذ البشرية من جهل العصبية والحقد والرذيلة، ولينعم الناس بقطر السماء وخيرات الأرض، وليس في أصحاب النبيّ محمّد من العصمة والكمال سوى الإمام عليّ وأبنائه المطهرين‏ (عليهم السَّلام)، ولا يعني ذلك أن إمامة أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) كانت ظرفاً استثنائياً آنذاك، وإنما هو إمام حتى مع وجود النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإمامته في حياة النبيّ محمّد فعلية إلاّ أنه سكت لوجود النبيّ العظيم كما سكت الإمام الحسين بوجود الإمام الحسن‏ (عليه السَّلام) لأن ما ينطق به الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) هو نفس ما يريد أن ينطق به الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام)، وكذلك الحسنان‏ (عليه السَّلام).
ومهام النّبوة عظيمة لا بد من مؤازر لها يكون بمستوى عالٍ من الكمال، فاقتضت حكمة العقل والشرع إيجاده، وقد نص عليه الرسول منذ بداية بعثته بدءاً بحديث الدار، وانتهاءاً بحديث الدواة والكتف وهو على فراش الموت.
الثاني: العصمة:
يجب أن يكون الإمام معصوماً؛ ومن ليس بمعصوم فليس بإمام، وغير الإمام عليّ‏ بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام) لم يكن معصوماً بإجماع المسلمين، فتعين أن يكون هو الإمام‏ (عليه السَّلام) بعد رسول اللَّه.
وبعبارة أخرى:
الإمام يجب أن يكون معصوماً، وغير الإمام علي لم يكن كذلك، فتعين أن يكون هو الإمام؛ فهنا صغرى وكبرى من الشكل الأول؛ أما الكبرى فحاصلة بالإجماع منّا ومن العامة، وأما الصغرى فلما سيمر من الأدلة النقلية الدالة على وجوب إطاعته‏ (عليه السَّلام) إطاعة مطلقة، فلو لم يكن الإمام معصوماً لم يؤمن منه الخطأ، فإما أن يجب متابعته عند صدوره منه، وإما أن يجب ردعه عنه وإنكاره منه، فعلى الأول يلزم أن يكون قد أمرنا اللَّه سبحانه بالقبيح وهو محال، وعلى الثاني يكون الإنكار له مضاداً لوجوب طاعته، وأيضاً فإن الحاجة إلى الإمام تماماً كالحاجة إلى الرسول أو النبي، فكما أن زمناً لم يخل من نبي منذ آدم إلى سيّدنا خاتم الأنبياء محمّد كذلك لن يخلو زمن بعد نبينا من وجود إمام يزيل الشبهات ويفسّر الكتاب ويبيّن ويوضح المتشابهات، ويأتي بالتكاليف الواقعية، لا سيّما وأن شريعة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ناسخة لكل الشرائع، فلا بد لها أن تعطي لكل حادثة مستجدة حلاً لها، وهذا لا يمكن حصره في فترة زمنية قصيرة، فيتعين إيجاد أشخاص وأفراد كاملين بمنزلة النبيّ يبيّنون ما خفي على الناس من معرفة دينهم، يشرحون لهم ما عجزوا عن حلّه، وهذا ما يتكفله المعصوم الذي ينوب عن النبيّ، فإذا لم يوجد اللَّه تعالى للناس من يبيّن لهم ما خفي عليهم مع حاجتهم إلى ذلك، فسيؤدي ذلك إلى إغرائهم بالقبيح وهو مستحيل عليه تعالى.
الثالث: النص:
الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه، وغير أمير المؤمنين علي‏ (عليه السَّلام) من المشايخ الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان، لم يكونوا منصبين من جهة النص بإجماع المسلمين، وإنما قلنا بوجوب التنصيص لما عرفت من أن العصمة شرط في الإمام، والعصمة من الأمور الخفية التي لا يعلمها إلاّ اللَّه تعالى، فمن هنا أخبرنا عزّ وجل أن المتحلي بالعصمة والكمال هو الإمام علي‏ (عليه السَّلام) دون غيره، فثبت بذلك أنه المتعين قطعاً.
الرابع: قيام السيرة:
إنّ سيرة النبي‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) تقتضي التنصيص، لأنه أشفق بالأمة من الوالد بولده، ولهذا لم يقصّر في إرشاد أمور جزئية مثل ما يتعلق بدخول المسجد والخروج منه، بل بيّن أحكام الدخول إلى الحمام وكيفية الاغتسال والاستنجاء وقص الشارب واللحية والأظافر إلى غير ذلك مما تحتاجه الأمة حتى إرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة، ومع ذلك كيف يهمل أمرهم فيما هو من أهم الواجبات وأعظم المهمات، ولا ينص على من يتولى أمرهم بعده؟!
ومضافاً إلى كل ذلك، فإن النبيّ لم يفارق المدينة قط إلاّ وخلّف فيها من ينوب عنه، ولا أرسل جيشاً إلاّ وأمّر عليه كما تقتضيه الإدارة والسياسة، فكيف يمكن أن يتركهم في غيبته الدائمة مَعْرَضاً للفتن، وغرضاً لسهام الخلاف على قرب عهدهم بالكفر، وتوقع الانقلاب منهم ووجود من مردوا على النفاق، وتربص الكفار بهم الدوائر كما نطقت به آيات الكتاب العزيز، وكيف لم يطالبه المسلمون على كثرتهم بنصب إمام لهم مع طول مرضه وإعلامه مراراً لهم بموته؟ فلمّا لم يقع الطلب منهم مع ضرورة حاجتهم إلى إمام علم أنه قد أغناهم بالبيان الذي علمه الشاهد والغائب، وما هو إلاّ نص الغدير ونحوه، فيكون أمير المؤمنين عليّ هو الإمام، ولا يمكن أن يكون تشريع جواز ترك الاستخلاف سبباً لترك النبيّ النص كما زعموا، لأنّ من فوائد التشريع اتباع الناس للنبيّ المشرّع في فعله، وبالضرورة لم يتفق عند أحد من الملوك أو الخلفاء الذين تعاقبوا زوراً على سدة الخلافة الإسلامية أن ترك النص على من بعده عملاً بالسنّة.
هذا مضافاً إلى أن اللَّه تعالى قد أكمل دينه وأتم نعمته في غدير خم بقوله تعالى:الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً.
ومن المعلوم أن الإمامة من تمام الدين، فمن زعم أن اللَّه تعالى لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللَّه، ومن ردّ كتاب اللَّه فهو كافر، ولو ذهب النبيُّ ولم يعيّن خليفة لدل على أن الدين لم يكتمل، وأن النعمة لم تتم، وذلك بسبب حصول الخلاف والشِّقاق بين المسلمين من جراء السقيفة وتعنت أصحابها وقمعهم للمخالفين لها.
الخامس: كون الإمام أفضل الرعية:
أي يجب أن يكون الخليفة أو الإمام أفضل الرعيّة علماً وعملاً، وغير أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) من الثلاثة لم يكونوا كذلك، فتعيّن كونه‏ (عليه السَّلام) هو الإمام بعد النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
أما أن الإمام لا بدّ أن يكون أفضل فلأنه لو لم يكن أفضل لا يخلو إما أن يكون مساوياً أو مفضولاً، فأما المساوي فيستحيل تقديمه لأنه يفضي إلى الترجيح بلا مرجح، وأما المفضول فترجيحه على الفاضل يبطله العقل لحكمه بقبح تعظيم المفضول وإهانة الفاضل، ورفع مرتبة المفضول، وخفض مرتبة الفاضل، وهو بديهي عند العوام فضلاً عن الخواص.
وخالف الأشاعرة ذلك، فأجازوا تقديم المفضول على الفاضل تأسيساً لخلافة أئمتهم الذين سنّوا لهم هذا الاختيار مع الاعتقاد ضمناً أن الإمام علياً (عليه السَّلام) أفضل الجميع.
وقد خالفوا في ذلك مقتضى العقل ونص الكتاب، فإن العقل يقبّح تعظيم المفضول وإهانة الفاضل كما قلنا سابقاً، فلينظر الإنسان إلى عقله هل يحكم بتقديم المبتدي في الفقه على مثل ابن عبّاس وأمثاله؟! وقد نص على إنكاره القرآن أيضاً فقال تعالى:
أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَ يَهديَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ.
وغير الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) أدنى بدرجات منه بل لا يُقاس به روحي فداه أحد من الخلق على الإطلاق سوى نظيره وحبيبه رسول اللَّه محمّد والصدّيقة فاطمة (عليه السَّلام)، أما أن أحداً لم يكن أفضل منه فبتسليم أعيان العامة على ذلك منهم ابن أبي الحديد حيث قال
«وأما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله‏ (عليه السَّلام)، وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل، وهل المراد به الأكثر ثواباً أو الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة، وبيّنا أنه‏ (عليه السَّلام) أفضل على التفسيرين معاً، وليس هذا الكتاب موضوعاً لذكر الحجاج في ذلك أو في غيره من المباحث الكلامية لنذكره، ولهذا موضع هو أملك به».
وكثرة الثواب والخصال الحميدة مستجمعة فيه صلوات اللَّه عليه، أما كثرة الثواب فلظهور أنه مترتب على العبادة، وبكثرتها وقلتها تتفاوت كمية الثواب والجزاء زيادة ونقصاناً، كما أن سيرته‏ (عليه السَّلام) تشهد على أنه أعبد الكل، فيكون أكثر مثوبة، ولو لم يكن له من العبادات إلاّ ضربته يوم الخندق التي قال فيها رسول اللَّه: «إنها أفضل من عبادة الثقلين» لكفى في إثبات هذا المرام فضلاً عن سائر عباداته التي لا يضبطها الدفاتر والصحف ولا تحصيها الزبر والطوامير.
وأما الخصال الحميدة والفضائل النفسانية وسائر جهات الفضل فكثيرة جمة يعجز الجن والإنس عن إحصائها، إذ كل نفس من أنفاسه الطاهرة معجزة وفضيلة، كانت من اللَّه وإلى اللَّه تعالى، ومن كان كله للَّه فكيف يمكن إحصاء فضائله؟!
من هنا أشار النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى هذا الأمر بقوله كما روى الخطيب الخوارزمي: «لو أن الرياض أقلامٌ والبحر مداد والجن حسّابٌ والإنس كتّاب ما أحصوا فضائل علي‏ بن أبي طالب‏ (عليه السَّلام)».
السادس: الوصية عند العقلاء.
اتفق العقلاء من كل دين حتى عند عبدة الأوثان أن يوصوا بحفظ أمور دينهم ودنياهم بعد مماتهم، وهذه الوصية مما اقتضتها أحكام الفطرة والعقل والشرع.
أما كونها من أحكام الفطرة فلأن البشر مجبولون بالفطرة على أن يشرفوا على أعمالهم بأنفسهم، ووفقاً لما ترتأيه عقولهم وأهواؤهم، فلا يحب الإنسان أن يشاركه غيره في قراره وما تهواه نفسه، فهو لا يريد أن يُفْلِتْ زمام أموره من يده فتكون بيد شخص آخر غريب عنه، وهذه الرغبة لا تنتهي عند ساعة الاحتضار بل تمتد إلى ما شاء اللَّه من عمر الزمن ما دام الإنسان يشاهد آثاره شاخصة بعد الموت، لذا نراه يوصي إلى غيره لينجز له أعماله التي عجز عن تحقيقها في حياته أو حالت الظروف في عدم تحقّقها أو لديمومة استمرارها لأهميتها، وهذه الغريزة الفطرية ملحوظة حتى عند الحيوانات، إذ إنّ أكثرها عندما يشعر بقرب موته، ويرى علامات الموت، فإنه يشيد لأفراخه بيتاً محكماً، وعشاً رصيناً بعيداً عن كل خطر، فهذا حال الحيوان فكيف بالإنسان الحريص على تحقيق أمانيه ومراميه، فهل يُعقل أنْ يذهب النبيُّ من عالم الناسوت ويترك أمته تتلاعب بها الأهواء وتتقاذفها الشهوات وسطوات الجبارين والظالمين المستبدين يغيّرون دينه ويبدّلون أحكامه وينهبون تراثه؟!
هذا بحسب الفطرة، وأما بحسب العقل، فلا شك أن العقل يفرض سيطرته على الإنسان من خلال ما يفكّر به الإنسان نفسه من ضرورة الاهتمام بأموره وتنظيمها وعدم إهمالها، ويدرك أن عليه تعيين وصي له بعده لحفظها وحراستها لتنظيم آثاره والإفادة منها ويوصي بالمحافظة عليها لكي يتسنى له الإفادة منها بعد موته بنفس المقدار الذي كان يطمع أنْ يفيد منها في حياته؛ والعقلاء في العالم ينظرون إلى الشخص الذي يموت بلا وصية تاركاً وراءه زوجة وذرّية ومحل تجاري أو مزرعة أو أمر متعلّق بالحكومة أو بالمسائل العلمية، أو أمثال ذلك بدون تدبير، ينظرون إلى مثل هذا الشخص نظرة امتهان وازدراء، ويرونه إنساناً ناقصاً ويذمّونه على ترك الوصية على عكس ما لو أوصى وعيّن له وصياً كفوءاً خبيراً بصيراً مدبراً يدير شؤونه ويتولى أمر ذريّته من أولاده الصغار وغيرهم، فإنهم يثنون عليه ويمجّدونه وينظرون إلى عمله بوصفه عملاً إنسانياً.
وأما حكم الشرع الذي شُرّع على أساس حكم الفطرة وحكم العقل والوصية في ضوئه حكم ممدوح ومستحسن في جميع الشرائع والأديان. وقد جاءت الوصية في الشريعة الإسلامية المقدّسة التي هي أكمل الشرائع وأتمّها بحدود ومواصفات معيّنة واضحة لا غبار عليها : قال تعالى:كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.[/align]
رد مع اقتباس