عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 2019-11-01, 10:42 AM
Nabil Nabil غير متواجد حالياً
مشرف قسم التاريخ الإسلامى
 
تاريخ التسجيل: 2009-08-07
المشاركات: 3,065
افتراضي رد: تنبيهات لتقويم الأقوال والمقالات .. مِثال تطبيقي / د. منصور بن حمَد العيدي

التنبيه الخامس: ضرورةُ مراعاةِ أثَر الاحتِمالِ في دَلالةِ النَّصِّ :

لا بُدَّ أنْ يراعيَ المستدِلُّ أنْ يكونَ ما يَستدِلُّ به ظاهرًا في معناه على أقلِّ الأحوال؛ فإنَّه إذا كان الدليلُ محتمِلًا لأكثرَ مِن وجهٍ، فسيُعترَضُ عليه، وبالمقابلِ فعلى القارئِ والمستمِعِ أنْ يَتفطَّنَ لمثل هذا، ولا يغترَّ ببعضِ الاستدلالاتِ التي تكونُ محتملةً لأكثرَ مِن وجهٍ.

يقولُ صاحبُ ((أنوارِ البُروق)): "الدليلُ مِن كلامِ صاحبِ الشرحِ إذا استوتْ فيه الاحتمالاتُ ولم يَترجَّحْ أحدُها، سقَط به الاستدلالُ". (( أنوارِ البُروق 2/100)).

نعمْ؛ ليس كلُّ احتمالٍ يُلتفَتُ إليه، وإنَّما الاحتمالُ الذي تَحتفُّ به القرائنُ، أو له مُستنَدٌ شرعيٌّ؛ ولهذا يُعبِّر بعضُهم بقولِه: لا حُجَّةَ مع الاحتمالِ المستنِدِ إلى دليلٍ.

وعلى هذا فإذا كان صاحبُ الدليلِ سيختارُ معنًى من هذه المعانيِ المحتمِلة؛ فيجبُ أنْ يُقيمَ عليه الحُجَّةَ بأنَّه هو المرادُ، وأنَّ بقيَّةَ الاحتمالاتِ غيرُ مُرادةٍ، وليس له أنْ يختارَ تَشهِّيًا ما يُناسِبُه.

وفي مقال الدكتور العونيِّ: اختار أنَّ الكَبَرَ هو الطبلُ، وأنَّ المزاميرَ جمْع مِزمار، وفي مَقطعٍ له وصَفَه بأنَّه الزُّمَّارة أو الناي، وما ذَكَره الدكتور هو أحدُ المعاني الواردةِ فيهما، والواقع: أنَّ عددًا من أهلِ العِلمِ لا يُوافِقُه على ذلك، وبيانُ ذلك كما كالآتي:

أمَّا الكَبَر ففي كتابِ العين للخليل بن أحمد قال: "الكَبَر طَبلٌ له وجهٌ، بلُغةِ أهل الكوفة" ((1/361)).

وفي غريب الحديثِ لابن الجوزي، زاد فقال: "وكذلك قال ابنُ الأعرابي" ((2/278))، يعني أنَّه طبلٌ له وجهٌ واحدٌ.

وفي اللِّسانِ عندما فسَّر الكَبَر قدَّمَ هذا المعنى؛ قال: "طبْلٌ له وجهٌ واحدٌ" ((12/16)).

وأوْلَى ما حُمِلتْ عليه هذه المعاني هي الدُّفوفُ؛ لأنَّ الدُّفوفَ هي التي تكونُ لها وجهٌ واحدٌ، أمَّا الطُّبولُ فالغالبُ أنْ يكونَ لها وجهانِ.

نعمْ من العلماءِ مَن وصَفَ الكَبَرَ بأنَّه الطبْلُ ذو الوَجهينِ، ومنهم مَن يقولُ: طبْلٌ، ويَسكُتُ، ومنهم مَن يَذكُر القولينِ؛ يُقدِّم هذا تارةً والآخَرَ تارةً أخرى، ولستُ هنا بصددِ الترجيحِ بيْن هذه المعاني، وإنما مُرادي هو التأكيدُ على أنَّ في معنَى هذه المُفردَةِ عِدَّةَ احتمالاتٍ.

فعلَى مَن يختارُ أنَّ المرادَ بالكَبَر الطبلُ ذو الوجهينِ أنْ يَذكُرَ حُجَّةً واضحةً لتقديمِ هذا الرأي على ذاك.

بل إنَّني أقولُ: لو أنَّ شخصًا اختارَ أنَّ الكَبَر هو الدفُّ، مُستنِدًا إلى مشهورِ الأحاديثِ الصحيحةِ في إباحةِ الدُّفِّ في الأعراس في زمَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم -وهذه سأشيرُ إليها لاحقًا- لكان هذا مِن أحسنِ الاستشهادِ ومِن أحسنِ الحُججِ؛ لأنَّ به يَحصُلُ التآلُفُ بيْن الأحاديثِ وتفسيرِ بعضِها ببعضٍ.

وكما حصَل الاختلافُ في معنى الكَبَر، حصَل أيضًا في معنَى المزاميرِ؛ فبعضُ العلماءِ يقول: إنَّ الأصلَ في المزاميرِ أنَّ المرادَ بها الصوتُ الحسَنُ، وإنَّه أُطلِق الصوتُ الحسنُ على تلك الآلةِ، وهناك مَن يَتبنَّى رأيًا آخَرَ، ويَجعلُ الأصلَ الآلةَ ويَتفرَّعُ عنه الصوتُ الحسنُ.

يقولُ القُرطبيُّ –رحِمه الله-: "قال العلماءُ: المزمارُ والمزمورُ الصَّوتُ الحسنُ، وبه سُمِّيتْ آلةُ الزَّمرِ مِزمارًا" ((المفهم 2/ 423))، فهنا جعَله القرطبيُّ قولَ العلماءِ ولم يَستثنِ: أنَّ الأصلَ في المزمارِ الصوتُ الحسنُ، وليس هو الآلةَ.

وكذلك قال النوويُّ ونَسَب هذا إلى العلماءِ، وبيَّن أنَّ أصْلَ الزمرِ الغِناءُ، يعني: الكلماتِ التي تُنشَدُ بصوتٍ حسنٍ، وليس الآلةَ. ((شرح مسلم 6/80)).

قال الأصمعيُّ –رحِمه الله- في شرْح بيتٍ عَجزُه: رَجُلٌ أَجَشُّ غِنَاؤُه زَمِرُ.

قال" معناه: غناؤُه حسنٌ كأنَّه مزاميرُ داود" ((الأمالي 2/109)).

ولا يُشكِلُ على هذا عطفُ المزاميرِ على الكَبَر في كونِها تُضرَبُ؛ فهو إمّا مِن باب: (عَلفتُها تِبنًا وماءً باردًا)، والماء ليس علَفًا، وإنما المعنى: وسقيتُها ماءً باردًا، فكذلك في هذا الحديثِ يكونُ المعنى: ويُغنُّون بالمزاميرِ، أي: بالأصواتِ الحَسنةِ، لا سيَّما وقدْ جرَتِ العادةُ في الأعراسِ حتَّى في زَمنِ النُّبوَّةِ بـمُصاحبةِ الغناءِ لضَربِ الدُّفِّ. وإمَّا أنْ يكونَ المرادُ يمرُّونَ بالمزاميرِ، كما في لفظٍ في الحديثِ الذي ذَكرَه الدكتورُ من رواية الطبري: " يمرون بالكبر والمزامير"

وقد يَحتمِلُ أنَّ المرادَ بالمزاميرِ نوعٌ مِن أنواعِ الدُّفوفِ؛ فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: إنَّ اللهَ أنْزَلَ الحقَّ ليُبطِلَ به اللعبَ والمزاميرَ والكباراتِ، يعني: البرابط والزَّمَّاراتِ، يعني: الدُّفَّ". قال ابنُ كثير: إسنادُه صحيح" ((تفسير القرآن العظيم 3/178)).

وفي ((السُّننِ الكُبرى للبيهقيِّ 21/139))، قال زيدُ بنُ الحُبابِ: سألتُ أبا مودودٍ المدنيَّ عن المزاميرِ، فقال: "هي الدُّفوفُ المُربَّعةُ".

وكما قُلنا في الكَبَر: إنَّ أَوْلى الأقوالِ بالترجيحِ ما كان مُوافِقًا للأحاديثِ الأُخرى؛ فكذلك نقولُه في المزامير؛ ففي قِصَّةِ دُخولِ أبي بكرٍ على عائشةَ رضِيَ اللهُ عنهما يومَ العيدِ، قال أبو بكرٍ: ((أمزاميرُ الشيطانِ في بيتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم )) رواه البخاريُّ (962).

وفي حديث رقْم (997) قالتْ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: ((تُدفِّفانِ وتَضرِبانِ))، وجاء صريحًا في صحيحِ مسلمٍ (892): ((تَلعبانِ بدُفٍّ)) ؛ فالذي شاهدَه أبو بكر في أيَّامِ التشريقِ غِناءٌ بدُفٍّ فسمَّاه مزاميرَ الشيطان؛ فإمَّا أنْ يُقالَ: إنَّ الغناءَ هو المزاميرُ، يعني: هو الصوتُ الحسنُ؛ فهذا يَشهَدُ لقولِ مَن يقولُ: إنَّ الأصلَ في معنى المزاميرِ، هو الصوتُ الحسنُ. وإمَّا أنْ يُقالَ: بل هو الدفُّ. وقد يُقالُ: إنَّ المزاميرَ تُطلَقُ على مجموعِ الغِناءِ بالدفِّ.

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يُنكرْ على أبي بكرٍ قولَه: ((أمزاميرُ الشيطانِ))، وإنَّما قال فقط صلى الله عليه وسلم: ( دعْهم؛ فإنَّ لكلِّ قومٍ عِيدًا )، يعني رُخِّص للناسِ استعمالُ الدفوفِ مِن قِبَلِ النِّساءِ في أيَّامِ العيدِ، ولم يرُدَّ صلى الله عليه وسلم على أبي بكرٍ قولَه، بل أقرَّه على ذلك. ولَمَّا ضربتِ المرأةُ الدفَّ حين نذَرتْ، فدخَل عمرُ رضِيَ اللهُ عنه فألقتِ الدُّفَّ تحتَها، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( إِيهًا يَا ابنَ الخَطَّابِ! والذي نَفْسي بيَدِهِ ما لَقِيَكَ الشَّيطانُ سالِكًا فَجًّا قَطُّ، إلَّا سَلَكَ فجًّا غَيرَ فَجِّكَ )؛ فهي كانتْ رُخصةً، ومع ذلك لا تخلو مِن هذا الوصفِ الذي جاء في حديثِ أبي بكرٍ رضِيَ اللهُ عنه، وأقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على التسميةِ، وجاءتْ صريحةً في حديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

ولا نُنكرُ مجيءَ المزاميرِ (جمْع للزمَّارة)، لكن هذا أحدُ الاحتمالاتِ؛ فليس مِن الإنصافِ التحكُّمُ في اختيارِه، ودفْع الباقي دون حُجَّةٍ ظاهرةٍ، لا سيَّما وأنَّ المخالفَ يحتجُّ بأمرينِ: يحتجُّ بسُنَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويحتجُّ أيضًا بلُغةِ العربِ. وأبعدُ منه أنْ يُقالَ: إنَّ هذا التأويلَ للكَبَر والمزاميرِ -الذي ذَكرتُه عن علماءِ اللُّغةِ وفي السُّنَّة- تأويلٌ باطلٌ، وكيف يكونُ باطلًا وهو رأيُ جمهرةٍ مِن العلماءِ؛ قد نسَبه القرطبيُّ والنوويُّ للعلماءِ، بل هو ظاهرُ الحديثِ الذي في الصَّحيحَينِ؟!

وهنا ليسمَحْ لي القارئُ الكريمُ أنْ أُذكِّره بأنَّه إذا قُلنا بأنَّ المرادَ بالمزاميرِ جمْعُ الزمَّارة، فإنَّ هذا لا يَعني إباحةَ كلِّ المعازفِ ولا الموسيقَى؛ لِمَا ذَكرتُ لك سالفًا من أنَّه لا يُوجَدُ عمومٌ، وإنَّما هي قضيةُ عين، وأنَّه لا يصحُّ في الأمرِ قياسٌ؛ لوجودِ الفارقِ بيْن الأصلِ وبيْن الفرعِ. ولن أُطيلَ عليك -أيُّها القارئُ الكريمُ-؛ فسأنتقلُ إلى تنبيهٍ جديدٍ.

يتبع
رد مع اقتباس