عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 2019-11-02, 10:34 AM
Nabil Nabil غير متواجد حالياً
مشرف قسم التاريخ الإسلامى
 
تاريخ التسجيل: 2009-08-07
المشاركات: 3,065
افتراضي رد: تنبيهات لتقويم الأقوال والمقالات .. مِثال تطبيقي / د. منصور بن حمَد العيدي

التنبيهُ التاسعُ: لِيَحرِصِ المسلمُ على الأخْذ بالشائع والمشهورِ، وأن يَترُكَ الشواذَّ والغرائبَ

تَتابعَتْ وَصايا أئمَّةِ الإسلام للمسلمين عامَّةً، ولطُلَّاب العِلم خاصةً على الأخْذِ بما شاعَ واشتُهِرَ في النُّصوص الشرعيةِ، وما تتابَعَ عليه عُلماءُ الإسلامِ؛ رِوايةً وتعليمًا وعمَلًا، وبالمقابل حذَّروا مِن الغرائبِ والشواذِّ التي تكونُ بخلافِ ذلك، وهذا التحذيرُ لا يَكاد يَخلُو منه كتابٌ مِن كُتبِ أدَبِ طلَبِ العِلم.

قال الإمام مالكٌ: شرُّ العلمِ الغريبُ، وخيرُ العلمِ الظاهرُ الذي قد رواهُ الناسُ.

وقال ابنُ المبارَكِ: العلمُ: الذي يَجيئك مِن هاهنا وهاهنا. قال ابنُ رجبٍ شارحًا كلامَه: يعني المشهورَ.

وقال الإمام أحمدُ: لا تَكتبوا هذه الغرائبَ؛ فإنَّها مناكيرُ. وقال: شرُّ الحديثِ الغرائبُ التي لا يُعمَلُ بها ولا يُعتمَدُ عليها.
وسرْدُ الوصايا بهذا يَطولُ.

وهذا الحديثُ الذي أبدَأَ فيه الدكتورُ العونيُّ وأعادَ، وجعَل له حَلقاتٍ في (اليوتيوب)، هذا الحديثُ الذي فيه الكَبَرُ والمزاميرُ يَظهَرُ شُذوذُه وغرابتُه المذمومةُ مِن جِهتينِ:

الجهةُ الأولى: مِن جِهة تَفسيرِ اللَّهو في قولِه تعالى: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا } [الجمعة: 11]، بأنَّها كَبَرٌ ومزاميرُ في عُرْسٍ، بينما المنقولُ عن الصحابةِ والتابعينَ وأئمَّةِ التفسير: أنَّ اللهْوَ في الآيةِ ليس له عَلاقةٌ بعُرْسٍ، وإنما كان مُصاحبًا للقافلةِ التِّجاريَّة، فهذا ما رُوِي عن أبي هُريرةَ، ومرْويٌّ عن ابنِ عباسٍ، بل مَرْويٌّ عن جابرٍ في المشهورِ عنه، ولم نقِفْ على شيءٍ يُخالِفُ ذلك عن الصحابةِ -رضي الله عنهم-، وهذا هو المنقولُ عن التابعينَ وأئمَّةِ التفسيرِ: صَفوانَ بنِ سُلَيم، ومجاهدٍ، والسُّدِّيِّ، وأبي مالكٍ، والحسَنِ البصريِّ، وقتادةَ، وزيدِ بنِ أسلَمَ، وأبي العاليةِ، ومحمدِ بن كعبٍ الكَرْزيِّ، ومُقاتلِ بنِ سُليمانَ، ومُقاتلِ بنِ حيَّانَ.

بيْنما الحديثُ الذي فيه قصَّةُ العرْسِ والكَبَرِ والمزاميرِ والجواري، لم يَجِئْ إلا في إسنادٍ واحدٍ، واختُلِفَ في وصْلِه وإرسالِه، واختُلِفَ في ألفاظِه، ثم اختلَفَ الدكتورُ العوني هل هو حديثٌ واحدٌ أو حديثانِ؟ ولذا فلا تَعجَبْ أنَّ الواحديَّ المفسِّرَ المشهورَ -مع عِلمِه بقصَّةِ العُرْس والجواري، حيث أشار إليها في كتابِه البسيطِ- قد أهمَلَه في أسبابِ النُّزول، وحكى عن المفسِّرين قاطبةً لا يَستثني منهم أحدًا: أنَّ اللهو هنا إنَّما هو لهوٌ في تِجارةٍ، ولا عَلاقةَ له بالعُرْسِ.

ولا تَعجَبْ إذا رأيت الحافظَ ابنَ كثيرٍ رغمَ أنه جعَلَ تفسيرَ الطَّبَري أصلًا له، إلا أنه أعرَضَ عن هذا الخبر ولم يُشِرْ إليه، ولا تَعجَبْ مِن أنَّ ابنَ أبي حاتمٍ قد أهمَلَ ذِكْرَه أيضًا، وحين أشار إليه السيوطيُّ في الدُّرِّ المنثورِ أهمَلَ لفظةَ "الكَبَر والمزامير"، مع أنه لا يُمانِعُ رحمه الله -كما في لُباب النُّقولِ- أنْ تكونَ الآيةُ نزَلَت في الأمرينِ، لكنه في كتابِ الدُّرِّ المنثورِ اكتفى برِوايةِ ابنِ المنذِرِ، وقال: "إن ابنَ جريرٍ رواهُ أيضًا"، وأهمَلَ لفظةَ "الكَبَر والمزامير".

وهذا الإسناد الذي رُوِيت فيه قصَّةُ الكَبَرِ والمزاميرِ، رغَم أنه مِن رِواية جَعفرِ بن محمدٍ، عن أبيهِ، عن جابرٍ، وهي سلْسلةٌ ذات قيمةٍ عاليةٍ عند المحدِّثين؛ إلا أنَّ هذا الخبرَ المرْويَّ بها قد أهمَلَه أصحابُ الصِّحاحِ، وأصحابُ السُّننِ والمسانيدِ، وما كانوا ليُهمِلُونه وهم يَعرِفون قيمةَ هذا الإسنادِ، إلا لاستنكارِهم هذا الخبَرَ، وبالمقابلِ فإنَّ سَببَ النُّزولِ الآخَرَ المشهورَ الذي يَربِطُ الآية بتلك القافلةِ التِّجارية، والذي ليس فيه عُرْسٌ، ولا مزاميرُ، ولا كَبَرٌ، قدْ أقبَلَ عليه عُلماءُ الحديثِ زَرافاتٍ ووُحْدانًا، فأخْرَجوه في كُتبِهم؛ الصِّحاحِ، والسُّننِ، والمسانيدِ، ورواهُ جمْعٌ كثيرٌ مِن الرُّواةِ، واتَّفَقوا على اعتمادِه، لا يُنكِرُه أحدٌ فيما وقَفْنا عليه، فهذا يَدلُّك مِن جهةٍ على ذلك الشُّذوذِ وتلك الغَرابةِ في حديثِ الكَبَرِ والمزاميرِ الذي طار به الدكتورُ العوني.

الجهة الثانيةُ التي يَظهر لك فيها شُذوذُ الحديثِ وغَرابتُه: أنَّ فيها استعمالًا للمزاميرِ في العُرْسِ، بينما المشهورُ عند أصحابِ الحديث الرُّخصةُ فقطْ في الدُّفِّ، وأحاديثُ الرُّخصةِ في الدُّفِّ مَوجودةٌ في الصِّحاحِ والسُّننِ ومَشهورةٌ جدًّا، وعلى هذا فإذا كان الدُّفُّ هو الأمْرَ المحكَمَ، بينما كلمةُ "المزامير"، وكلمة "الكَبَر" حمَّالتَا أوجُهٍ، فلا أقَلَّ للمسلمِ مِن أن يأخُذَ المحكَمَ ويذَرَ المتشابِهَ.

وهذه آخِرُ وصيَّةٍ أُوصِيك بها؛ وهي بعُنوان:

يتبع
رد مع اقتباس