عرض مشاركة واحدة
  #16  
قديم 2020-09-14, 01:18 PM
Nabil Nabil غير متواجد حالياً
مشرف قسم التاريخ الإسلامى
 
تاريخ التسجيل: 2009-08-07
المشاركات: 3,062
افتراضي رد: سلسلة كلمات في القرآن الكريم / د. عثمان قدري مكانسي

سلسلة كلمات في القرآن الكريم (13)

الدكتور عثمان قدري مكانسي

العَرْض / القسم الأول*

عـَرَض الأمر عليه : أظهره وأبداه له ، كما في القاموس المحيط .
وللعرض ومشتقاته معان كثيرة جداً ، لا نقصدها في حديثنا هذا ، ونحن إذ نتوقف عند المعنى الذي أردناه نرجو أن نثبت في أنفسنا بعض المعاني الإيمانية ، ونسأل الله أن يهدينا سواء السبيل .

- عرض الله تعالى الأمانة على السموات والأرض والجبال قبل أن يعرضها على آدم عليه السلام ، والأمانة المعروضة كما قال العلماء : العبادة والطاعة لله تعالى والقيام بالفروض وأداء الواجبات ، فإن التزمنـَها وأدّينها فقد نجحن ، وإن لم يفعلن ذلك فقد فشلن وعوقبن ، فأبين ذلك وعلِمْنَ أن حمل الأمانة ثقيل لا يستطعن أداءه ، ثم عُرضت الأمانة على آدم ، وقيل له : إن أحسنت أُثبت ، وإن أسأت عوقِبْت َ ، فرضي حملها ، ولم يلبث قليلاً حتى أخلّ بها . وظلم نفسه ، يقول تعالى في الآية 72 من سورة الأحزاب :
{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} ،
فظلم الإنسان نفسه حين حمّلها الأمانة ، ثم لم يَرْعها حق رعايتها ، ومن سأل الله المعونة أعانه ، ولكنّ الغالبية الغالبة والكثرة الكاثرة من البشر ضيّعوا هذه الأمانة.

- من العرض الدال على مكانة آدم عليه السلام عند ربه سبحانه أنه تعالى :
{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)} (البقرة) ،
وذلك حين استنكروا أن يخلق الله في الأرض من يفسدها ويسفك الدماء . فسألهم الله تعالى أن يخبروه بأسماء المسمّيات التي علمها آدم ، فاعترفوا بعجزهم ، وهنا أظهر الله تعالى مكانة آدم إذ أمره أن يعلمهم بعض ما علمه الله عز وجل ، { قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ... (33)} (البقرة) ففعل ذلك .

- يقف الناس يوم العرض – وكلهم يرون ويسمعون ما يجري إلا ما شاء الله تعالى أن يستره – فيستر الله تعالى المؤمنين حين تُعرض عليهم أفعالهم ، ويفضح الكافرين والمنافقين فيحاسبهم على رؤوس الخلائق . يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير الآيتين الكريمتين من سورة هود :
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا أُولَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَـٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)}،
يُبَيِّن تَعَالَى حَال الْمُفترِينَ عَلَيْهِ وَفَضِيحَتهمْ فِي الدَّار الآخرة عَلَى رُءُوس الخلائق من الملائكة وَالرُّسُل والأنبياء وَسَائِر البشر والجانّ . ويقول صلى الله عليه وسلم فِي النَّجْوَى يَوْم الْقِيَامَة :
إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُدْنِي المؤمن فَيَضَع عَلَيْهِ كَنَفه وَيَسْتُرهُ مِنْ النَّاس ويقرره بذنوبه وَيَقُول لَهُ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بذنوبه وَرَأَى فِي نَفْسه أنه قَدْ هَلَكَ قَالَ فإني قَدْ سَتَرْتهَا عَلَيك فِي الدنيا وَإِنِّي أغفرها لَك اليَوم ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاته . وَأَمَّا الكفار والمنافقون فَيَقُول { ... الأشهاد هؤلاء الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبّهمْ ألا لَعْنَة اللَّه عَلَى الظالمين (18)} .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث قَتَادَة .
هكذا عَرْضُ عمل المؤمن عليه وهكذا حسابُ الكافر والمنافق يفضحهم الله أمام الخلائق جميعاً.

- وقد يكون عرض العذاب بعد الموت وقبل يوم القيامة ، أي في البرزخ كما في قصة فرعون وجنده في سورة غافر في قوله تعالى :
{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)}،
فَإِنَّ أَرْوَاحَهُمْ تـُعرض عَلَى النَّار صَبَاحًا وَمَسَاء إِلَى قِيَام السَّاعَة فَإِذَا كَانَ يَوْم القيامة اجتمعت أَرْوَاحهم وَأَجْسَادهم فِي النَّار . لأن عذاب الروح والجسد أشدّه أَلَمًا وَأَعظَمه نكالاً . وهذه الآية أَصل كَبِير فِي استدلال أَهل السـّنة عَلَى عذاب البرزخ فِي القبور .

​- والعرض في الآيات القرآنية الشريفة دنوّ من الشيء ، لا دخول فيه ، وهذا الدنوّ تعذيب للكافر قبل أن يُعذب ، وقد قيل : " التخويف من الضرب والعقاب والتلويح بهما أجدى -في التربية - من استعمالهما " . وقد خوّف الله الناس من عقابه في الدنيا ، فإذا جاء اليوم الآخر كان لا بد من العقاب جزاء وفاقاً لمن كفر . ومن هنا نفهم الآيات القرآنية التي وردت في عرض العذاب على الكافرين وتيئيسهم من النجاة بعد موتهم كافرين : فالمراد في قوله تعالى - والله أعلم - :
{ وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا (48)} (الكهف) ،
أَنَّ جَمِيع الخلائق يقومون بين يدي اللَّه صفاً واحدًا كَمَا قَالَ جل ثناؤه :
{ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)} (النبأ) ،
وَيَحْتَمِل أنهم يَقومونَ صفوفًا كَمَا قَالَ سبحانه :
{ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} (الفجر) ، وقوله عز وجل :
{ ... لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... (48)} (الكهف) ،
هَذَا تقريع للمنكرين للمعاد وَتَوبِيخ لَهُم عَلَى رُءُوس الأشهاد . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا إياهم لعدم إعتقادهم أَنَّ هذا وَاقِع بهم ولا أَنَّ هذا كَائن :
{ وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (23)} (فصلت) .
وهل يستطيع أحد أن يكذب على الله أو يخفي عنه شيئاً وهو سبحانه يعلم السر وأخفى ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؟ لا ، لا، فالله تعالى هو العليم بكل شيء، الخبير بكل ما خلقه . اقرأ معي بتمعن قوله تعالى في سورة الحاقّة :
{ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18)} ،
فالخافية لا تخفى على الله ، أليس هو سبحانه الذي يقول في سورة الأنعام :
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59)} ؟

سبحانه من إله عظيم لا تخفى عليه خافية ، ولا يضيع منه شيء .

* بتصرف بسيط جدا
يتبع القسم الثاني والأخير
رد مع اقتباس