عرض مشاركة واحدة
  #16  
قديم 2010-09-23, 12:58 AM
أبوسياف المهاجر أبوسياف المهاجر غير متواجد حالياً
عضو جاد بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2009-10-02
المشاركات: 466
افتراضي

إبطال دعوى الأشاعرة أنهم أكثر الأمة

لقد تكررت دعوى الأشاعرة بأنهم أكثر الأمة، وأصبح يتناقلها الكثير منهم في كتبهم ومحاضراتهم، يغرون بها الجهال ممن لا علم لهم بحقيقة الأمر.
قال الأشعريان (ص248): (ومذهب الأشاعرة ومن وافقهم من أهل السنة الذي عليه سواد الأمة، وأكابر أهل الفضل فيها) اهـ.
وقالا (ص31): (هذا المذهب الذي يدين به تسعة أعشار أمة الإسلام، وسوادها الأعظم وعلماؤها ودهماؤها) اهـ.
ولا ريب أنها دعوى مجردة عن الدليل، ويكذبها الواقع التاريخي، ويكفي في إبطالها ما سبق تفصيله في بيان مذهب السلف وطريقهم وبيان مخالفة الأشعرية له، وخروجهم عنه.
وجميع من نقلنا نصوصهم في هذا الكتاب بدءاً من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة رضي الله عنهم، ومن لم ننقل عنهم من السلف، جميعهم مخالفون للأشاعرة في أصول الاعتقاد، ومبطلون لأقوالهم ومذهبهم، فضلاً عمن نقلنا عنهم الطعن في الأشاعرة، والتتصيص على خروجهم عن السنة والطريق.
وحسبك من ذكرهم ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية"، والذهبي في "العلو" من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة والعلماء، ممن نصوا في مسألة علو الله تعالى بنفسه على خلقه بما يخالف مذهب الأشاعرة، وهي واحدة من مسائل الاعتقاد، فكيف إذا أضيف لهم من نصوا في بقية مسائل الاعتقاد بما يخالف مذهب الأشاعرة؟.
فهل يمكن بعد ذلك أن يُدّعى أن الأشاعرة هم أكثر الأمة، وهم مخالفون للقرون المفضلة الأولى؟!!
وإذا كان أبو الحسن الأشعري إنما ولد سنة 260هـ، وقيل: 270هـ، فما الذي كانت عليه الأمة قبله؟ أفتراها كانت على عقيدة الأشعري الذي لم يكن شيئاً مذكورا كما يزعم هؤلاء؟!!
أم أن العقيدة كانت خافية عليهم، حتى ظهر أبو الحسن الأشعري فأيقظ الأمة من سباتها؟
فإن قال قائل: إن الأشعري لم يأت بشيء جديد، ولكنه أبان أموراً وأوضحها في رده على المعتزلة حتى كشف عوارهم، وهذا سبب الانتساب إليه، لكونه صار علماً على السنة في مقابل المعتزلة.
فالجواب أن هذا بلا ريب بعيد عن التحقيق، فضلاً عن الواقع والتاريخ، إذ أن ظهور المعتزلة كان متقدماً على ظهور الأشعري بأكثر من قرن ونصف من الزمان، فضلاً عن الجهمية التي كانت أسبق ظهوراً من المعتزلة. ومن المعلوم أن ظهور هاتين الفرقتين قد جوبه برد عنيف من السلف والأئمة، الذين أنكروا عليهم أعظم النكير، وحكموا بضلالهم، بل وكفر الجهمية منهم، فقام أئمة السنة ابتداءاً من الحسن البصري وإلى عصر الأشعري بالرد على شبهاتهم، وكشف عوارهم. وكتب السنة طافحة بآثار السلف في النكير على الجهمية والمعتزلة والرد على ما ابتدعوه، فانظر كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وأصول اعتقاد السنة لللالكائي، والإبانة لابن بطة وغيرها كثير. وقد نقلنا في ثنايا هذا الكتاب كثيراً من كلامهم.
ولم يكتف السلف بمقولة أو مقولتين، بل إنهم قد كتبوا الكتب وصنفوا المصنفات في الرد عليهم، ككتب "الرد على الجهمية" للإمام أحمد، وابنه عبد الله، وابن أبي حاتم، وابن قتيبة، والدارمي، والكناني، وابن منده، وأبي العباس السراج وغيرهم كثير، فضلاً عما تضمنته كتب السنة من أبواب الرد على الجهمية، كما فعله البخاري في صحيحه، وأبو داود في سننه، وغيرهما.
ناهيك عن كتب السنة الأخرى، والتي أُلّفت لبيان معتقد السلف والرد على أهل البدع والمخالفين من أصناف المعطلة والمشبهة[1].
والمعلوم أن المعتزلة والجهمية قد قويت شوكتهم في أواخر القرن الثاني، لما تأثر بهم الخليفة المأمون، حتى حصلت تلك الفتنة العظيمة، التي امتُحن فيها العلماء، وأوذي فيها الإمام أحمد أذى عظيماً، وهي فتنة القول بخلق القرآن، وقد تتابع على هذه الفتنة ثلاثة خلفاء: المأمون، والواثق، والمعتصم، وهذا قد ساهم كثيراً في دفع عجلة السلف لكشف أباطيل هاتين الفرقتين، والجواب عن شبهاتهم، خشيةً من التباسها على الناس.
ومع كل هذه الردود من السلف والأئمة على الجهمية والمعتزلة، وما حصل من الفتنة بهم، فإننا لم نجد أحداً من السلف قط يقرر ما قرره الأشعري في الاعتقاد، لا من حيث التأصيل والتقعيد، ولا من حيث الرد على المعتزلة والنكير، بل على العكس من ذلك: وجدنا نصوصهم صريحة في نقض أصوله الاعتقادية في أسماء الله وصفاته، كما سبق بيانه في الباب الأول، فضلاً عن سائر أبواب الاعتقاد كالإيمان والقدر والنبوات وغيرها من أبواب الاعتقاد التي لم نعرّج عليها في كتابنا هذا.
ومن ظن أن السلف كانوا عاجزين عن البيان والتوضيح لأصول المعتقد، والرد على المخالفين كالجهمية والمعتزلة، وكشف عوارهم، والجواب على شبهاتهم، ونقض أصولهم، حتى أتى الأشعري فأبان عما لم يعلموه، ورد على المعتزلة بما لم يستطيعوه؟! فقد ظن بهم ظن السّوْء، ونسبهم إلى الجهل والعجز. وكفى به ضلالاً وخسراناً.

[ قيام أهل الحديث بمن فيهم الخليفة ضد الأشعرية في القرنين الرابع والخامس ]
ومن المعلوم أن المسلمين كانوا على جادة السنة والطريق حتى ظهرت الفرق الكلامية، وحصلت الفتن وابتُلي المسلمون، فلما جاء أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس وقويت شوكة الأشاعرة وغيرهم من أهل الكلام، انتهض السلفيون لدحر هذه الفتنة، وكشف زيفها وأباطيلها، حتى كتب الخليفة العباسي القادر بالله تلك العقيدة المعروفة بالقادرية والتي سبق أن ذكرنا طرفاً منها، وأمر أن يُرسل بها إلى أنحاء الدولة العباسية وأطراف الأمة الإسلامية.
قال ابن كثير في أحداث سنة 433هـ: (وفيها قرئ الاعتقاد القادري الذي جمعه الخليفة القادر، وأخذت خطوط العلماء والزهاد عليه بأنه اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فسق وكفر، وكان أول من كتب عليه الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ثم كتب بعده العلماء، وقد سرده الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي بتمامه في منتظمه، وفيه جملة جيدة من اعتقاد السلف)[2] اهـ.
وكان ممن وقّع عليه القاضي أبو يعلى كما سبق نقل كلام ابنه في الطبقات.
وممن عمل بهذا الأمر من نشر العقيدة ودعوة الناس إليها أعظم ملوك الدولة الغزنوية وفاتح الهند العظيم محمود بن سبكتكين[3]، وكان يحكم أكثر المشرق الإسلامي إلى الهند، فقد أمر بالسنة واتباعها، وأمر بلعن أهل البدع بأصنافهم على المنابر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (اعتمد محمود بن سبكتكين نحو هذا – من فعل القادر من نشر السنة وقمع البدعة – في مملكته، وزاد عليه بأن أمر بلعنة أهل البدع على المنابر، فلعنت الجهمية والرافضة والحلولية والمعتزلة والقدرية، ولعنت أيضاً الأشعرية ..)[4] اهـ.
وقال أيضاً: (ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام وجهاد أعدائه حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر، حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة، فلعنوا الكلابية والأشعرية كما كان في مملكة الأمير محمود بن سبكتكين ..)[5] اهـ.
وقال الذهبي: (وامتثل ابن سبكتكين أمر القادر فبث السنة بممالكه، وتهدد بقتل الرافضة والإسماعيلية والقرامطة والمشبهة والجهمية والمعتزلة ولُعنوا على المنابر)[6] اهـ.
فانظر إلى هذه الانتهاضة في الإنكار على أهل البدع ومنهم الأشاعرة، ثم انظر إلى ما قاله الأشعريان (ص252) عاكسَيْن للحال: (بل نزيد ونقول إنه لا يبعد أن يكون –أي ابن جرير- انتسب إليه – أي الأشعري - فيما لم يصلنا من كتبه، فقد ذكرت كتب التاريخ أنه انتهض لنصرة طريقة الإمام أبي الحسن والإمام أبي منصور جميع أهل السنة في العالم الإسلامي) اهـ.
[ أسباب انتشار المذهب الأشعري في القرنين السادس والسابع ]
وأما أسباب انتشار العقيدة الأشعرية في القرون المتأخرة، فهو ما ذكره المقريزي في خططه حيث قال ما نصه: (فانتشر مذهبأبي الحسن الأشعريّ في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام، فلما ملك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر،كان هو وقاضيه صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس المارانيّ على هذا المذهب، قد نشآ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة ألفها له قطب الدين أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، وصار يحفظها صغار أولاده، فلذلك عقدوا الخناصر وشدّوا البنان على مذهب الأشعري، وحملوا في أيام مواليهم كافة الناس على التزامه، فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك، واتفق مع ذلك توجه أبي عبد الله محمد بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزاليّ مذهب الأشعريّ، فلما عاد إلى بلاد المغرب وقّام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدة لقفها عنه عامّتهم،ثم مات فخلفه بعد موته عبد المؤمن بن عليّ الميسيّ، وتلقب بأمير المؤمنين،وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعد مدّة سنين، وتسموا بالموحدين، فلذلك صارتّ دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء من خالف عقيدة ابن تومرت، إذ هو عندهم الإمام المعلوم، المهديّ المعصوم، فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلاّ اللّه خالقها سبحانه وتعالى، كما هو معروف في كتب التاريخ، فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعريّ وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نُسي غيره من المذاهب، وجُهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلاّ أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد اللّه أحمد بن محمد بن حنبل رضي اللّه عنه، فإنهم كانوا على ماكان عليه السلف، لايرون تأويل ماورد من الصفات، إلى أن كان بعد السبعمائة من سني الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحكم بن عبد السلام بن تيمية الحرّانيّ، فتصدّى للانتصار لمذهب السلف وبالغ في الردّ على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الرافضة، وعلى الصوفية ..)[7] اهـ.
وكلام المقريزي هنا يبين وقت وسبب انتشار المذهب الأشعري، وأنه كان بسبب فرضه على الناس، إلى حد قد يصل في بعض الأحايين إلى القوة والقتل كما حصل من ابن تومرت لما حكم المغرب والأندلس. وحصل مثله لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد أوذي وسجن بسبب تبيينه لمنهج أهل السنة والرد على المخالفين.
وأما ما يتعلق بعوام المسلمين، فلا ريب أنهم إن تُركوا من غير تلقين فإنهم على الفطرة السليمة، وعلى اعتقاد السلف وأهل الحديث، لا يعرفون أصول الكلام، ولا تأويل الصفات، ولا شيئاً من ذلك. ولا يمكن لأحد أن يدّعي خلاف ذلك إلا مكابرةً.
فلا يعرف العامي إلا أن الله في السماء على عرشه فوق خلقه، لا يعرف ما يقوله الأشاعرة من أنه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت.
ولا يعرف العامي إلا أن الله يتكلم، وأنه كلم موسى فسمع موسى كلام الله، لا يعرف الكلام النفسي الذي هو: أمر ونهي وخبر واستخبار.
ولا يعرف العامي إلا أن الله يحب التوابين، ويبغض الكافرين، ويرضى عن الطائعين، ويسخط على العاصين، لا يعرف أن هذه الصفات كلها راجعة إلى الإرادة.
ولا يعرف العامي إلا أن الله أقدر العبد على الفعل، وجعل له إرادة لها تأثير فيه، لا يعرف الكسب الذي هو اقتران القدرة الحادثة بالقدرة القديمة، وأن الحادثة لا تأثير لها في الفعل البتة.
وسل إن شأت جماعات المسلمين يخبروك بحقيقة الحال.
فدعوى أن الأشعرية هو المذهب الذي يدين به عامة الأمة ودهماؤها، دعوى باطلة جملة وتفصيلاً.


[1] للمزيد في معرفة كتب السلف في الردود على الجهمية والمعتزلة انظر رسالة "تاريخ تدوين العقيدة السلفية" لعبد السلام بن برجس.
[2] البداية والنهاية (12/49).
[3] أعظم سلاطين الدولة الغزنوية، حكم ما بين (388-412هـ).
[4] بيان تلبيس الجهمية (2/331-332).
[5] مجموع الفتاوى (4/15).
[6] سير أعلام النبلاء (15/135).
[7] الخطط (4/192).

منقول من كتاب ( الشاعرة في ميزان اهل السنة-فيصل الجاسم)
الرد على شبهة الأستواء بكلام سلف الأمة

العلم بالله هو أجل العلوم وأعلاها، وأرفعها عند الله وأزكاها، كيف لا وهو الذي يعرّف العباد بخالقهم، ويقربهم من رازقهم، ويضفي على حياتهم معنى، وعلى وجودهم فائدة وهدفاً.

ومن العلم بالله العلم بصفاته، حيث اتفق المسلمون على أن الله متصف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص، إلا أنهم اختلفوا في جملة من الصفات التي ورد بها الكتاب، ونطق بها الرسول - صلى الله عليه وسلم –، وفي مقدمة تلك الصفات التي خالف فيها البعض صفة علو الباري سبحانه واستواءه على خلقه . حيث أثبتها السلف ولم يروا في إثباتها ما يوجب نقصاً أو يخالف نصاً، ونفاها آخرون استنادا إلى أدلة سنأتي على شرحها ومناقشها .

أدلة السلف على إثبات علو الله على خلقه واستواءه على عرشه :
استدل السلف على إثبات علو الباري سبحانه بأدلة كثيرة، منها:
أولاً : أدلة الكتاب: وهي على أنواع، منها ما يصرح باستواء الله على عرشه كما في قوله تعالى:{ الرحمن على العرش استوى }(طه:5) والاستواء في الآية هو العلو والارتفاع، قال الإمام الطبري في تفسير الآية: الرحمن على عرشه ارتفع وعلا . وحكى أبو عمر بن عبد البر عن أبي عبيدة في قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } قال: علا . وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": " وأما تفسير { استوى } علا، فهو صحيح، وهو المذهب الحق، وقول أهل السنة، لأن الله سبحانه وصف نفسه بالعلي، وقال:{ سبحانه وتعالى عما يشركون } وهي صفة من صفات الذات ".

ومن أدلة الكتاب ما يصرح بالصعود والعروج إليه، والصعود لا يكون إلا لعلو، قال تعالى: { إليه يصعد الكلم الطيب }(فاطر: 10)، و{ الكلم الطيب } هو الذكر والدعاء . وقال تعالى: { تعرج الملائكة والروح إليه }(المعارج:4) والعروج الصعود .

ومنها ما يصرح بالرفع إليه، قال تعالى: { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي }(آل عمران: 55 ) وقال تعالى: { بل رفعه الله إليه }(النساء: 157-158)، وقال - صلى الله عليه وسلم - عن شهر شعبان وقد سئل عن سبب صومه: ( شَهْرٌ ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم ) رواه النسائي .

ومن أدلة الكتاب أيضا التصريح بالفوقية: كما في قوله تعالى عن الملائكة: { يخافون ربهم من فوقهم }(النحل:50)، وكما في قوله:{ وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير }(الأنعام:18).

ومنها التصريح بنزول الملائكة والكتب منه إلى عباده، والنزول لا يكون إلا من علو، قال تعالى: { قل نزله روح القدس }(النحل: 102) وقال تعالى:{ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم }(الزمر:1) .

ومنها التصريح بأنه في السماء، كما قال تعالى: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير }(الملك:16-17) . ومعنى { في السماء } أي: على السماء لاستحالة أن تكون السماء ظرفا للخالق ومكانا له .

قال الإمام اللالكائي في "شرح اعتقاد أهل السنة" : " فدلت هذه الآيات أنه تعالى في السماء وعلمه بكل مكان من أرضه وسمائه . وروى ذلك من الصحابة : عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأم سلمة ومن التابعين : ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وسليمان التيمي، ومقاتل بن حيان وبه قال من الفقهاء: مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل " .

ثانياً: أدلة السنة: وهي كثيرة، فمنها حديث معاوية بن الحكم السلمي وفيه أنه أتى النبي – صلى الله عليه وسلم - بجارية أراد تحريرها من العبودية، فسألها النبي: ( أين الله ) قالت: في السماء، قال: ( من أنا ؟ ) قالت : أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أعتقها – حررها - فإنها مؤمنة ) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي و مالك في موطئه الشافعي في مسنده و ابن حبان وغيرهم ولم يؤول أي منهم الحديث فدل على قبولهم ظاهره.

ومنها حديث جابر - رضي الله عنه – في سرده حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه عندما خطب الناس في حجة الوداع واستشهدهم على البلاغ، فقالوا: " نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت " فقال: بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها – ويخفضها - إلى الناس، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات ) رواه مسلم في صحيحه . وهو دليل صحيح صريح على علو الله على خلقه .

ومنها ما ورد في صحيح البخاري أن زينب – رضي الله عنها - كانت تفخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم – فتقول: " زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات " ومثل هذا القول من زينب لا يقال بالرأي، بل هو مما تلقته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما فهمته من نصوص القرآن .

ومنها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) رواه الترمذي وصححه .

ومن الأحاديث التي تثبت صفة العلو لله ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها )

ومنها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ( لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي ) متفق عليه .

ثالثاً: دليل الإجماع: يقول الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتابه "الاستذكار الجامع لمذاهب الأمصار" تعليقا على حديث الجارية المتقدم" فعلى ذلك جماعة أهل السنة، وهم أهل الحديث ورواته المتفقهون فيه، وسائر نقلته، كلهم يقول ما قال الله تعالى في كتابه:{ الرحمن على العرش استوى }(طه:5)، وأن الله - عز وجل - في السماء وعلمه في كل مكان " . وقال الإمام البغوي : " أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم به إلى الله عز وجل ".

وقال أبو الحسن الأشعري - رحمه الله - كما في الإبانة(1/39)" إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له: نقول: إن الله - عز وجل - يستوي على عرشه استواء يليق به ".

وقال أبو مطيع البلخي في كتاب "الفقه الأكبر": سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض، قال: كفر؛ لأن الله يقول: { الرحمن على العرش استوى }(طه:5)، وعرشه فوق سبع سمواته، فقلت: إنه يقول على العرش، ولكن لا أدرى العرش في السماء أو في الأرض، فقال: إنه إذا أنكر أنه في السماء كفر، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يُدعى من أعلى لا من أسفل ". وهذا النقول تؤكد صراحة أن السلف مجمعون على أن الله – كما أخبر – عال على خلقه مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله .

رابعاً: دليل الفطرة: وملخصه أن النفوس بفطرتها تقبل على طلب العلو عند توجهها إلى ربها بالدعاء، ودليل فطرية هذا الإقبال استواء الناس فيه فيستوي فيه العالم والجاهل والذكر والأنثى إلا من تلوثت فطرته بكلام أهل الكلام، ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس إمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول: كان الله تعالى ولا عرش وهو الآن على ما كان، فقال الشيخ أبو جعفر : أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا ؟ قال: فلطم الإمام على رأسه ونزل .. وقال: حيرني الهمداني .

خامساً دليل العقل: وبيانه أن الله موجود ووجوده وجود حقيق لا ذهني، وعليه فهو إما أن يكون داخل العالم، أو خارجه، وهو قطعاً ليس داخل العالم لاستحالة أن يحل في الخلق أو يتحد بهم، فلم يبق إلا أن يكون خارج العالم، وما دام خارج العالم فإما أن يكون محيطاً بالعالم وهو باطل، لأنه يلزم منه أن يكون بعضه فوق وبعضه تحت متصفاً بالسفل، وإما أن يكون في أحد الجهات، وليس هناك جهة كمال في الجهات الست سوى جهة العلو، وبما أن الله متصف بالكمال المطلق فأكمل الجهات على الإطلاق هي جهة العلو فوجب وصف الله بها، وبهذا يظهر التوافق بين العقل والنقل في هذه المسألة، أما القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه لا متصل به ولا منفصل عنه فقول يخرج عن قول العقلاء فلا يلتفت إليه .

شبهات من أنكر استواء الله على عرشه واتصافه بالفوقية :
تلك كانت بعض أدلة أهل السنة، الذين أثبتوا استواء الله على عرشه وعلوه على خلقه، أما شبهات من نفى صفة العلو والاستواء، فمردها جميعاً إلى قاعدة التنزيه، وهي القاعدة التي قضت بنفي مشابهة المخلوقين للخالق سبحانه، وتفرده في ذاته وصفاته وأفعاله، وهي قاعدة متفق عليها بين المسلمين إلا أن البعض غلا في استعمالها حتى نفى جميع أو بعض أسماء الله وصفاته .

حيث قالوا: إن الله - عز وجل - قد قال في كتابه: { ليس كمثله شيء } وهذا نفي بإطلاق لأي مشابهة بين الخالق والمخلوق، وإثبات أن الله مستو على عرشه عال على خلقه فيه تشبيه للخالق بالمخلوق من حيث أنه يلزم مثبت الاستواء أن يثبت أن الله جسم، وأنه في جهة، وأنه محدود محصور، والله منزه عن ذلك كله فلو كان جسماً لكان مركباً، ولو كان مركباً لكان بعضه محتاج إلى بعض، ولو كان في جهة ما لكان محصوراً، ولو كان محصوراً لاستوجب أن يكون هناك من حصره، وإذا كان مستو على عرشه لكان له مكان، ولو كان له مكان لكان محتاجا إليه، والله كان ولا مكان وهو الآن على ما كان عليه .

واستندوا في تأييد مذهبهم - زيادة على ما سبق - إلى بعض النقولات والآثار الواردة في هذا الباب من ذلك ما روي : " كان الله ولا مكان، وهو على ما كان قبل خلق المكان؛ لم يتغير عما كان " ، وحديث : ( كان الله ولا شيء غيره وكان العرش على الماء ) رواه النسائي والحاكم وصححه .

وأتوا على ما استدل به المثبتون فأولوه، وقالوا: إن المراد من العلو والفوقية في تلك النصوص هو علو الشأن والرفعة والمكانة والشرف .

وجوابا على ما أوردوا، نقول: إننا وإياكم متفقون على وجوب نفي مشابهة الخالق للمخلوق، ولكننا مختلفون في حدود هذا النفي، ونرى أن الناس فيه طرفان ووسط، فأما الطرف الأول فاتخذ قاعدة التنزيه ذريعة لنفي كل أو أكثر الصفات الثابتة لله - عز وجل - حتى نفى الغلاة منهم أن يوصف الله بالوجود أو الحياة، فعندما يُسأل عن صفة الله لا يجد سوى النفي سبيلا لتعريف ربه، فيقول: لا هو موجود ولا معدوم، ولا عَرَضٌ ولا جَوْهَرٌ، ولا حي ولا ميت، ويظن بذلك أنه فر من التشبيه وما علم أنه وقع في التعطيل والتشبيه معاً؛ إذ نفى صفات الله التي أخبر الله بها، وشبه الله بالمحالات والممتنعات والمعدومات.

والطرف الثاني: ألغى قاعدة التنزيه فشبه الله بخلقه تشبيها مطلقا أو جزئياً، وهو مذهب لا شك في بطلانه وضلاله.

والمذهب الوسط هو المذهب الحق الذي أثبت الصفات ونفى المشابهة، وهو ما تنص عليه الآية الكريمة حيث صرّحت بالتنزيه { ليس كمثله شيء } وفي ذات الوقت صرّحت بالإثبات { وهو السميع البصير } فأخذ مذهب أهل الحق بجزئي الآية، أما المذهبان السابقان فأخذ كل منهم بأحد شطري الآية - وفق فهمه - ولم يأخذ بالآخر.

وعليه، فيجب الوقوف عند حدود النفي، وحدود الإثبات، فنثبت الصفة التي أخبر بها الله ورسوله، وننفي المماثلة، فنقول: لله علمٌ ليس كعلمنا، وسمعٌ ليس كسمعنا، واستواء ليس كاستوائنا، وهكذا . وهو المنهج الوسط الذي سار عليه الأئمة، يقول الإمام إسحاق بن راهويه :" إنما يكون التشبيه إذا قال: يد مثل يدي، أو سمع كسمعي، فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال الله: يد وسمع وبصر، فلا يقول: كيف ولا يقول: مثل، فهذا لا يكون تشبيهاً، قال تعالى:{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }" ذكره الترمذي في جامعه . وأوضح هذا المنهج الوسط نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري حين قال: " من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، ولا ما وصفه به رسوله تشبيها " فليس تشبيها أن تثبت لله علما يليق بجلاله، وقدرة تليق بجلاله، وإرادة تليق بجلاله، واستواء يليق بجلاله، وإنما التشبيه أن تقول: علماً كعلمنا، وقدرةً كقدرتنا، وسمعا كسمعنا، واستواءً كاستوائنا . وأما أن تثبت الصفة كما أثبتها الله مع إثبات الفارق أو نفي التشبيه، فليس تشبيهاً البتة .

أما ما ذكروه من لوازم القول بالعلو والاستواء فالجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: إجمالي وهو أن يقال: إن الله أخبرنا بأنه مستو على عرشه، عال على خلقه، ونحن نصدقه فيما قال، ونؤمن بما أخبر، ونسكت عما وراء ذلك، ولا نخوض في تلك اللوازم المدعاة ولا نتكلم فيها، فإنها من جملة المسكوت عنه في الشرع؛ إذ لم يرد في الشرع نفي أو إثبات أن يكون الله جسماً، أو محدوداً، أو محصوراً، فالسكوت فيه سلامة للمرء في دينه واعتقاده .

الوجه الثاني: تفصيلي وهو بأن نسأل عن تلك اللوازم، فنقول إن أردتم بالجسم ما هو قائم بذاته مستغن عن خلقه فذلك ما نثبته ونؤيده ونلتزم به مع عدم تسميتنا له جسماً لكونه لم يرد في الشرع وصفه بذلك، وإن أردتم بالجسم ما زعمتم أن كل طرف فيه محتاج للطرف الآخر فذلك مما نكره وننفيه، ولكننا لا نعتقد أن نفيه يلزم منه نفي العلو . بل نرى أن قولكم: أنه من لوازم القول بالعلو ما هو إلا بسبب تشبيهكم أولاً فأنتم شبهتم استواء الله على عرشه باستواء المخلوقين، فقلتم: كل مستو فهو جسم، والله ليس بجسم، فهو ليس بمستو والمقدمة باطلة وما ترتب عليها باطل، فالله ليس كمثله شيء، واستواؤه ليس كاستواء المخلوقين .

وأما القول بأن إثبات الاستواء يدل على إثبات الجهة وأنه محصور في جهة معينة فالجواب عنه أن لفظ الجهة لم يثبت في الكتاب والسنة، وعليه فيستفصل عن معناه، فإن أريد بالجهة المكان الوجودي المخلوق فالله ينزه عنه اتفاقاً، فالله لا يحل في شيء من مخلوقاته ولا يتحد بها، وإن أريد بالجهة المكان الاعتباري العدمي فهذا ما يثبته أهل السنة . ولا يعتقدون في إثباته ما يخالف حقاً ثابتاً، ولا ما يوجب نقصاً في حق الخالق سبحانه، بل إثبات الجهة بهذا المعنى ضرورة عقلية كما سبق بيانه في الأدلة العقلية.

أما الحدُّ فهو لم يرد – كذلك – نفيه أو إثباته في كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وعليه فيستفصل عن معناه فإن أريد بنفي الحدِّ أن الله لا تحصره المخلوقات، ولا يحلُّ فيها، فهذا المعنى صحيح، لا إشكال فيه، بل لا يجوز أن تكون فيه منازعة، وإن أريد بالحد أن العباد عاجزون عن إدراك حقيقته وحده، فهذا أيضا حق نثبته، وأما إن أريد بنفي الحد أنه ليس مبايناً للخلق، ولا منفصلاً عنهم، ولا داخل العالم ولا خارجه، فهذا هذيان ننكره ولا نثبته، بل نرى أن القول به يؤدي إلى نفي وجود الرب، ونفي حقيقته ووصفه بالعدم لا بالوجود . وقد سئل عبد الله بن المبارك بم نعرف ربنا ؟ فقال: بأنه على العرش، بائن من خلقه، قيل: بحد، قال: بحد . أي بحد يعلمه هو، ولا يحيط به أحد من خلقه .

أما الاستدلال بحديث ( كان الله ولا شيء غيره وكان عرشه على الماء ) رواه النسائي . على نفي العلو، فلا دلالة فيه على ما ذهبوا إليه، وذلك أن الحديث يتكلم عن بدء الخلق، وأن الله كان ولا شيء معه من مخلوقاته، وأن أول خلقه كان العرش، بدليل ما رواه الحاكم في مستدركه عن بريدة الأسلمي قال: " دخل قوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلوا يسألونه، يقولون: أعطنا حتى ساءه ذلك، ودخل عليه آخرون، فقالوا: جئنا نسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونتفقه في الدين، ونسأله عن بدء هذا الأمر، فقال: ( كان الله ولا شيء غيره، وكان العرش على الماء ).

أما ما روي من قولهم: " كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه". فهو أثر موضوع – كما قال العلماء - على أنه يمكن حمله على معنى صحيح، وهو أن يكون المكان المنفي هو المكان المخلوق – كما هو ظاهر النص - وأهل السنة يقولون بذلك، فهم لا يقولون أن الله متمكن في مكان مخلوق بل يقولون: إن الله مستو على العرش بمعنى أنه عال عليه لا أنه مماس له محتاج إليه .

فظهر بهذا أن لا تعارض بين العقل والنقل في إثبات علو الله – سبحانه - على خلقه واستواءه على عرشه بل هو مما اتفقا عليه، وتظافرت الأدلة على إثباته، وأن من أنكره إنما استند إلى بعض النقول التي بان وجه الحق فيها، أو إلى بعض الأدلة العقلية التي اتضح عدم صحتها . فعلى المسلم أن يثبت لله الصفات كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله – صلى الله عليه وسلم -، وأن يعلم أن الله لم يخبر عن نفسه بما هو محال أو ممتنع، وإنما أخبر بما هو جائز أو واجب في حقه، ليعرف العباد خالقهم فيتقربوا إليه، ويعبدوه عن علم ودراية .
رد مع اقتباس