عرض مشاركة واحدة
  #23  
قديم 2011-04-02, 09:58 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي

إعجاز الحجاج القرأنى :

قال الزركشي: [اعلم أن القرآن العظيم قد اشتمل على جميع أنواع البراهين والأدلة، وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحديد شيء من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به، لكن أورده تعالى على عادة العرب دون دقائق طرق المتكلمين لسببين:-
أحدهما: مصداقاً لقوله تعالى {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}
والثاني: أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام، فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم يتخط إلى الأغمض الذي لا يعرفه
إلا الأقلون ولم يكن ملغزاً، فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه من أجل صورة تشتمل على أدق دقيق، لتفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة، وتفهم الخواص من أثنائها ما يوفي على ما أدركه فهم الخطباء .
و هذا الذى قاله الزركشى هو ما قصده العلما بقولهم (خطاب العامة و خطاب الخاصة) فالقرأن المعجز ميسر للذكر للعالمين

** و تنبه وفقك الله أن من الأمور المميزة للأسلوب القرآني طريقة استدلاله بأشياء وأحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها وهي ذات حقيقة ضخمة تتناسب والموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه . تامل في قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ *أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ {* أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ *لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ *أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)

و قوله ((قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (* أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (* أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ *بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ))
و قوله ((إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))

و لما كانت أيات الله متجددة فى كل ما تقع عليه عين الإنسان فى السماء و الأرض... و إختلاف الليل و النهار... و خلق الإنسان و الحيوان و النبات ، ناسب أن يكون شكر النعمة فى كل وقت و على كل حال قياماً و قعوداً و نياماً ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ *الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))

إن طريقة القرآن الكريم في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره ...نفس المصدر الذي خلق الكون، فطريقة بنائه هي طريق بناء الكون من أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال وأضخم الخلائق....كذلك القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني، المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان : النسل، الزرع، الماء، النار، الموت.

فما الأسلوب إلا صورة فكرية عن صاحبه.....والحذّاق من الكتّاب عندما يقرأون قطعة نثرية أو قصيدة شعرية لكاتب ما يدركون بملكتهم الأدبيّة وحسّهم المرهف الحالة النفسية التي كان عليها الكاتب عند الكتابة بل يذهبون إلى أكثر من هذا، إلى ما وراء السطور فيستنبطون كثيراً من أوصافه النفسية والخلقية فيحكمون عليه أنه عاطفي المزاج أو قوي النفس أو صاحب عقل ودراية أو حقود أو منافق أو غير ذلك من الأمور الخاصة..... و إن انفراد الأسلوب القرآني بالمميزات السالف بيانها لهو دليل مصدره الإلهي


و قد إمتاز منهج القران فى الحجاج بعدة خصائص منها:-

1- الانضباط بالقواعد المنطقية في النقاش... فإذا أُلتزمت فإنَّ الحوار يبنى على أسس العلم والبرهان العقل والمنطق
((قل هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إن كنتم صادقين))
((وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ))
((إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إلاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ))

2- دعوة الخصم إلى التجرد و التحرر الفكرى الكامل ، كى لا يتصدى للدعوة حمية للتقاليد أو الأهواء أو الأعراض الدنيوية الرخيصة
((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَ نَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ولا يَهْتَدُونَ ))
((وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَ نَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ، قُلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءكم قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ))

3- إنصاف الخصم و التسليم الجدلي بإمكانية صوابه لدفعه للنقاش بمنهجية، و التعهد باتباع الحق أياً كان
((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ))
((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ))

2- ، إلتزام الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن..
((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..))
((وَلاتَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ))
حتى أن الله أمر باللين فى الدعوة مع أفجر أهل الأرض فرعون الطاغية الذى إدعى الألوهية و الربوبية معاً و قتل الأبرياء و ذبح الأطفال و شاق الله و رسله ....مع ذلك لما أرسل الله إليه موسى قال له ((اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فقولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى))

و لكن لما كان القرأن كتاباً واقعياً يراعى إختلاف النفوس و درجات صلاحها و خبثها قيد هذا الإحسان فى الدعوة فجعله الأصل الأصيل و إستثنى منه الظالمين
((وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ))
و ما أكثر الظالمين من أهل الكتاب الذين يسبون الله و رسوله و يلبسون الحق بالباطل و يكفرون و هم يعلمون
كحال اليهود لما سبو الله تعالى فقالوا (َقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ)
فجاء الجواب الإلهى الشديد ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً..)
فهى شدة تناسب بغيهم الغير معذور.. و هى صدمة جوابية تستفز الحياة فى البقايا الباقية من فطرتهم بعدما غلفت قلوبهم و إنتكسوا... و ستأتى أمثلة أخرى إن شاء الله..


نماذج من روائع الحجاج القرأنى :

فى حجاج الملاحدة :


تدبر قوله تعالى ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ))
عمد سبحانه فى هذه الأيات إلى تقرير الخصم بطريق الإستفهام عن الأمور التي يسلم بها وتسلم بها العقول حتى يعترف بما ينكره.....و بيان ذلك:-

**( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)
إمتازت هذه الأية بالحصر و الإيجاز معاً,,,,,، فلا يخرج الموجود عن إحتمالين... إما أن يكون ليس له سبب، وإما أن يكون له سبب.
- أما الإحتمال الأول (خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) فمحال لا يشك فى إستحالته عاقل ، و أنّى للعدم أن يخلق الإنسان العاقل و يصوره، أو يشق سمعه و بصره و ينطقه، أو يفطرخوالج نفسه و مشاعره، أو يرتب لكل عضو محله و يوظفه ، أو يجعله ذكراً و أنثى فيزوجه؟!
-أما الإحتمال الثانى (هم الخالقون) فمحال أيضاً لا يشك فى إستحالته عاقل، و أنى للمخلوق أن يكون خالقاً، و لنفسه قبل أن يوجَد واجداً ، و لجسده الذى يجهل منه أكثر مما يعلم بارئاً، و هو الضعيف الذى لا يذكر حياته بعد ميلاده أول سنين فكيف فطر نفسه فى القرار المكين؟
فانظر إلى حجاج القرآن كيف يجعلك تختار العقل أو الجنون!
لا ينجيك من الشناعة و السخرية إلا أن تختار ما لم تذكره الآية أصلاً,,, فكان الحذف كمالاً و هذا قمة البلاغة
إذ حذف ذكر الإحتمال المتبقى لفظياً ليخرجه من جوف الخصم نفسه منطقياً ،،،،،دون إملاء،،، إنه الخالق

**( أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ)
و قبل أن يفيق الملحد من الصواعق المرسلة إذا بصاعقة أكبر تدمغ إلحاده فتقضى عليه ((لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ))
إنتقل بالسؤال من خلق الإنسان إلى ما هو أعظم من خلقه ليعرف حجمه و يلزم حده و يرتد إليه خاسئاً بصره، فما خلقت أبها الإنسان هذه السماء و أبراجها و ولا شموسها و أقمارها و لاسحبها و نجومها ولا ليلها و نهارها،،،، و ما خلقت أيها الإنسان هذه الأرض و أحيائها و لاأنهارها و بحارها و ، و لا أشجارها و ثمارها المختلف ألوانها!
فلا يملك الملحد بعد كل ما سبق إلا أن يقر حقيقة وجود، و يعترف بالخالق الحكيم
و لكن من هو هذا الخالق.....هذا موضوع أخر
أو لنقل إنه نفسه السائل هنا.....إنه نفسه الذى دعاك و ألجمك الحجة ....
عفواً ،،إنه قبل أن يحدثك بالأيات السابقة أو قل الصواعق المرسلة أرهص لكلامه فقال ...(( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ*فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ))
فلتأت بحديث مثله إن كنت فى شك من مصدرية القرأن و ربانيته، و إلا ،،هذا كلام الخالق و رحمته

ولهذا أسلم جبير بن مطعم لما سمع قراءة النبي – صلى الله عليه وسلم- للطور حتى انتهى إلى قوله ((أم خلقو من غير شىء)) قال: كاد قلبي يطير فأسلم


فى إفحام المشركين بالتوحيد:

جاء القرآن لينشئ عقيدة ضخمة – عقيدة التوحيد – بين قوم يشركون بالله آلهة أخرى , فوصف حالتهم النفسية و تحركهم و تشاورهم و هم يردون بالتعجب و الإتهام و التشنيع بنبيهم فقط لأنه قال: إن الله واحد.....
((وَعَجِبُوا أَنْ جَاء هُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ . أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ . وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ . مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ))

لننظر كيف حاجهم في هذه القضية الخطيرة ....لقد تناولها ببساطة ويسر , وخاطب البداهة والبصيرة , بلا تعقيد كلامي ولا جدل ذهني:
** طلب منهم ببساطة إبداء الدليل العلمى على ما هم عليه من شرك..
((قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))
و من رحمة الله بالبشر أن ما أشرك به أحد و هو يملك الحجة أو البينة و لو سألت أشهر مشركى العالم فى عصرنا و هم النصارى أين قال المسيح أنا الخالق أنا المعبود حتى و لو فى كتبكم المحرفة ... لبهتوا

** فلما عجز المشركون عن إقامة الدليل العلمى ، إذ مستندهم التقليد وإتباع الظن ألجمهم سبحانه أيضاً بالدليل العقلى.... كذلك فى سهولة و يسر
(( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ))
يقول الأستاذ سيد قطب: [هكذا في بساطة البداهة .... هذه الصورة التي يخيلها – لو كان هناك آلهة – ( إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ ) وإنها لصورة مضحكة , أن ينحاز كل فريق من المخلوقات إلى إله , وأن يأخذ كل إله مخلوقاته ويذهب . إلى أين ؟ لا ندري ؛ ولكننا نتخيل هذه الصورة فنضحك من فكرة تعدد الآلهة ..!]
إنها ألهة كل له خلقه، بعضهم فوق بعض يتنافسون فى الخلق....سبحان الله الإله الحق عن هذا العبث!

** ولما ناقش الأدلة العلمية و العقلية على أتم وجه،،،، زادهم بأدلة حسية واقعية تحسم بطلان ألوهية ما يشركون
((أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ، وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ، وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ...))
((وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعـًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًـًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً ))
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابـًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئـًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ))

و هكذا أقيم عليهم الدليل العلمي والعقلى و الحسى على بطلان دعواهم بأبسط ألفاظ و أظهر حجج بديهية .



فى إفحام المشركين بنبوة رسول الله:-


كان المشركون قد سارعوا بحكم التعصب لدين الأباء و العادات و الأهواء و المصالح الشخصية إلى معاداة دعوة الحق و التصدى لها ...
فإستدرجهم القرأن إستدراجاً بديعاً بقوله تعالى ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ))

**هذه الأيات تبدأ بـ (قل) و تختم بـ (عذاب شديد)
و هذا تبيه لعقولهم إلى حقيقة أن محمداً – صلى الله عليه و سلم- عبد مأمور و رسول لا يملك إلا طاعة الرب،،، الرب القدير عليكم إن كفرتموه أن يعذبكم (عذاباّ شديداً)
تنبهوا ،،،فالقول جد فصل ما فيه هزل

** ثم قال (إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ)
بعد البداية الحازمة،،،، تظهر شخصية رسول الله الدعوية كما أدبه عليها رب العالمين ،،،رحمة مهداة ،،، (يعظكم) و العظة تحمل معنى اللين و النصح،،،و هو تعبير يحملهم على ترك الأجواء الإنفعالية و التعصبية لأن مطلب العظة هو التفكر و التدبر و لن يتحقق ذلك لمن كان تحركه حميته و يقوده غضبه و تعصبه.....
و يشجعهم على الإستجابة ببيان أنه عظة (واحدة) ما أيسر الطلب فلا تردوه،،،طرح واحد تناولوه متجردين عن أهواءكم فإن فيه شفاء النفوس..

** ثم قال (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مثنى و فرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )
المطلوب أن تقوموا لوجه لله.. مخلصين لله..متجردين لله ، ولا يكون قيامكم إنتصاراً لتقليد أو هوى أو غيره حتى لا تفسد النتيجة... فإن حققتم الإخلاص و تحررتم من المؤثرات،،،فتفكروا، أعملوا عقولكم بشتى الطرق وحداناً و مجتمعين... ليقم أحدكم منفرداً بالنظر، مستوفياً حظه من التدبر ليستبين رأيه المجرد، و أيضاً فليستشير فى هذا الرأى من قام مخلصاً متجرداً لله مثله ،،،فإن تقابل الأذهان قد يظهر لبعضها ما خفي عنها ، و هذه الأذهان المخلصة إن أجتمعت على رأى تعضده و تقطع دابر معاندته،،،
و فى ذلك المطلب تتجلى ثقة طالبه،،ثقة تؤتى ثمرها فى قلب المتلقى اللبيب...

** ثم قال (مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) هذه هى النكتة ،،،،
أحكموا بإنصاف على صاحبكم،، إن الله لم يرسل إليكم رجلاً غريباً عنكم، بل هو صاحبكم الذى تعرفون صدقه و أمانته، صاحبكم الذى تعرفون رجاحة عقله و سعة حكمته، صاحبكم الذى تعرفون مخرجه و معيشته،،،، تعلمون يقيناً أنه ليس بكاذب ولا مجنون،،، فأين تذهبون؟!

** ثم قال (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)
الأن بعدما سحقت الشبهة حول شخص رسول الله ،،بإعتراف كل متجرد متدبر منصف فيكم.... جاء التقرير الذى يضعهم فى مواجهة الواقع ،،، ماذا يكون لو أنه ليس بكاذب ولا مجنون... بل صادق أمين عاقل حكيم كما تعلمون؟.... إنها الرسالة الإلهية،،، إنه رسول الله إليكم بين يدى عذاب شديد..

- و لهذا دون القرأن قولهم الذى يعكس تيقن أنفسهم بصدق رسول الله فقال تعالى ((وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)) فاشتملت الأية على إعتراف و سبب و جواب:-
- إما الإعتراف: فقد أقروا أن الذى يرفضون إتباعه هو (الهدى)
- وأما السبب: فقد أقروا أن علة رفضهم الهدى الخوف على دنياهم و إستقرار أرضهم...
و لعمر الله إن بشاعة الكفر لتبرز فى سرعة إختيار الدنيا الزائلة على الأخرة الخالدة و هم يعلمون!
- و أما الجواب: بسؤال تذكيرى،،، من الذى جعل أرضكم المفتوحة حرماً أمناً و الناس تتخطف من حوله فى كل مكان؟ من الذى جمع ثمرات كل شىء فى واد ليس فيه من الزرع شىء؟
إنها أرض الله لا أرضكم كما تزعمون.... الذى أمّنها أول مرة و به كان أمنكم... فأنّى لكم أن تتحرو الأمن فى حربه؟!


فى حجاج اليهود :


((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))
و هذا بحث الرائع للأخ الفاضل أبى عبدالمعز،،،،و هو إختصار لبحث الدكتور محمد دراز فى كتابه (النبأ العظيم) حول نفس الأية:-

((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ))
للتعبير بصيغة البناء للمجهول- "قيل"- مقصدية بلاغية حجاجية باهرة،فمن المعروف أن الخصم المجادل بالباطل لا يفتأ يبحث عن منافذ للمناورة، وافتعال قضايا هامشية لتناسي موضوع المناظرة..فيجب على المناظر هنا سد جميع الثغرات وتقليل العبارات ما أمكن لتقليل فرص المراوغة...
والدرس في الآية بليغ من هذه الجهة: ذكر القرآن القول، وطوى صفة القائل...ليقيد اليهود –المحجوجين-بفحوى القول وحده ويفوت عليهم فرصة نقل المناظرة من الفكرة إلى الشخص...
فلو قيل" قال فلان كذا..."(وسمي باسمه) فلربما طعنوا في أخلاق القائل، أو نقلوا عنه من موضع آخر ما يخالف قوله الحالي..فيضطر المناظر إلى تعليق الكلام على مضمون الفكرة، لفتح مواضيع في الجرح والتعديل، أو تحقيق النصوص..وقد يتشجر الكلام فلا يعودون إلى الموضوع الأصلي أبدا...((آمنوا بما أنزل الله))...هذا ما ينبغي قبوله أو رفضه،لا غير.

((آمنوا بما أنزل الله))
الآية جمعت الدعوى والدليل معا،لتحقيق مقصد الإيجاز ولقطع فرصة المناورة على اليهود كأن يلجؤوا إلى التهرب من الجواب عن السؤال بسؤال آخر..
فلو قيل "آمنوا بالقرآن" مثلا-وهو المقصود أساسا-لقالوا:"ولم نؤمن بالقرآن؟
فتقول:"لأن الله أنزله.".وتكون قد ضيعت وقتا ثمينا في الفصل بين الدعوى ودليلها..
وقد يثيرون تشكيكات تتعلق بمصدر القرآن...فتضل المناظرة.
لكن صيغة القرآن: "آمنوا بما أنزل الله" لا يمكن أن يقابلها اليهود بسؤال:
"ولم نؤمن بما أنزل الله "لأن في هذا شهادة على أنفسهم بالكفر.. فتأمل!
ولأسلوب التعميم في عبارة "ما أنزل الله"نكت حجاجية أخرى:
-فمشكلة اليهود ليست في قبول القرآن أو رفضه بل مشكلتهم في التعالي على ربهم ورفض كل كتبه..فقد كفروا بالإنجيل قبل القرآن..وكفروا بالتوراة قبل الإنجيل أو على الأقل كفروا ببعضها ...
وهكذا فرضت الآية على اليهود مناقشة "مذهبهم في الوحي" وليس" موقفهم من القرآن"..
فضلا عن الإشارة إلى تكرر سلوكهم عبر التاريخ كلما نزل كتاب من ربهم...فتكون جريمة اليهود موصوفة بالعمد والإصرار وسبق الترصد.... انظر على هذا العطاء المتجدد لعبارة "ما أنزل الله"!!

(( قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا))
آية مذهلة حقا في كشف نفسية اليهودي!
قيل لهم "ما أنزل الله" وقالوا "ما أنزل"فغيبوا اسم الجلالة وأحضروا أنفسهم "علينا"!!
فهذا اليهودي المستكبر لا يعنيه مصدر الكتاب المنزل بقدر ما يعنيه متلقي الكتاب..
فليس الشأن أن تكون التوراة من عند الله بل الشأن كل الشأن أن تكون "شيئا"قوميا يهوديا...فتقديس التوراة عندهم بالنظر إلى المستقبل لا المرسل..فما يكون إقبالهم على التوراة واحتفاؤهم بها وتقديسهم لها إلا إقبالا واحتفاء وتقديسا لأنفسهم!!
العبادة للذات القومية لا لرب العالمين!!
دليل ذلك أن رب العالمين أنزل كتبا أخرى فما كان منهم إلا الإعراض والاستهزاء..

((وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ))
قيدت الآية الاسم الموصول بحالين: (أ)وهو الحق (ب) مصدقا لما معهم
وفائدة القيد الأول بيان فساد القلب
أما فائدة القيد الثاني فبيان فساد العقل
(هو الحق)...كفر اليهود بالقرآن فرع عن قاعدة متأصلة في نحيزتهم:هي كره الحق نفسه...
هذا خلل في القلب ...له جذور في خبث الطبع والتكبر الأجوف..فليس إنكارهم للقرآن إلا لصلته بالحق وليس لصفات أخرى ..ودليل ذلك أنهم كرهوا الإنجيل أيضا وقد نزل في ظروف غير ظروف نزول القرآن زمانا ومكانا وقوما...فما القاسم المشترك بينهما إلا الحق ونزولهما بالحق من الحق!
(مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ)...هذا القيد يكشف فساد العقل والمنطق عند اليهود...هم يؤمنون بالتوراة-على حد زعمهم-ويكفرون بالقرآن...مع أن القرآن يقول إن التوراة حق..
فإن كذبوا بالقرآن...فمعناه أن قول القرآن عن التوراة بأنها حق باطل في نظر اليهود...فيؤول الأمر إلى أن يبطلوا التوراة نفسها ..لأنهم طعنوا في الشاهد الذي شهد بصحته... هو باختصار زوال للعقل بعد زوال للإيمان!

(( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ))
هذا أوان الإجهاز عليهم...فقتلهم الأنبياء دليل إضافي على أن عدواتهم هي لله وحده
فقد كفروا بالكتب...وقتلوا مبلغي الكتب.... فالهدف واضح هو قطع كل الصلات بالله تعالى
والتعبير بأنبياء الله بدل رسل الله فيه نكتة بلاغية حجاجية بديعة:
فبناء على الفرق بين النبوة والرسالة في كون النبوة هي تلقي الوحي والرسالة هي تبليغه.. يكون قتلهم للأنبياء اعتبارا لجهة تلقي الوحي فقط.. فقتل الرسول قد يتوهم فيه سبب التشديد عليهم أوتكليفهم بالشرائع الثقيلة...أما قتل النبي فلأنه جاءه من الله النبأ فقط..فيتمحض عداؤهم لله أصلا ولمن لهم صلة به تبعا..

و للدكتور محمد دراز ملاحظات باهرة حول هذه الفقرة الأخيرة الأخيرة (( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ))قال:-
أ- تأمل كيف أن هذا الإنتقال كانت النفس قد إستعدت له فى أخر المرحلة السابقة، إذ يفهم السامع من تكذيبهم بما يصدق كتابهم أنهم صاروا مكذبين بكتابهم نفسه،و هل الذى يكذب من يصدقك يبقى مصدقاً لك؟!
غير أن هذا المعنى أُخذ إستنباطاً من أقوالهم، و إلزاماً لهم بمأل مذهبهم، و لم يؤخذ من واقع أحوالهم، فكانت هذه هى مهمة الرد الجدسد.
و هكذا كانت كلمة (مصدقاً لما معهم) مغلاقاً لما قبلها مفتاحاً لما بعدها....فما أوثق هذا الإلتحام بين أجزاء الكلام!
ب- و أنظر كيف عدل الإسناد عن وضعه و أعرض عن ذكر الكاسب الحقيقى لتلك الجرائم، فلم يقل (فلم قتل أباؤكم أنبياء الله، و اتخذوا العجل ، و قالو سمعنا و عصينا) إذ كان القول على هذا الوضع حجة داحضة فى بادىء الرأى ، مثلها مثل محاجة الذئب لحمل فى الأسطوؤة المشهورة، فكان يحق لهم أن يقولوا ( و مالنا و أبائنا؟!) تلك أمة قد خلت، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
و لو زاد ( و أنتم مثلهم، تشابهت قلوبكم) لجاء هذا التدارك بعد فوات الأوان، و لتراخى حبل الكلام و فترت قوته،،فكان إختصار الكلام- بوقفهم بادىء ذى بدء فى موقف الإتهام- إسراعاً بتسديد سهم الحجية إلى هدفها، و تنبيهاً فى الوقت نفسه على أنهم ذرية بعضها من بعض، و أنهم سواسية فى الجرم..لإذ لا بنفكون عن الإستنان بسنة أسلافهم، أو الرضى عن أفاعليهم، أو الإنطواء على مثل مقاصدهم
جـ-و أنظر كيف زاد هذا المعنى ترشيحاً بإخراج الجريمة الأولى و هى جريمة القتل فى صيغة الفعل المضارع تصويراً لها بصورة الأمر الواقع، كأنه بذلك يعرض علينا هؤلاء القوم أنفسهم و أيديهم ملونة بتلك الدماء الزكية و يكشف حقيقة نفوسهم التى لازالت مستعدة لقتل الأنبياء فى أى زمان
د- و لقد كان التعبير بهذه الصيغة مع ذكر الأنبياء بلفظ عام مما يفتح باباً عن الإيحاش لقلب النبى الكريم ،و باباً من الأطماع لأعدائه فى مجح تدابيرهم و محاولاتهم لقتله فانظر كيف أسعفنا بالإحتراس عن ذلك كله بقوله ( من قبل) فقطع بهذه الكلمة أطماعهم و ثبت بها قلب حبيبه صلى الله عليه و سلم...أهـ


فى حجاج النصارى :


وردت فى كتاب الله مناظرات للنصارى تناولت مختلف عقائدهم فى غير ما موضع بغاية الروعة و الإتقان و من ذلك:
* إفحام الخصم وإلزامه ببيان أن مدعاه يلزمه القول بما لا يعترف به أحد- كقوله تعالى ((بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم))
فنفي التولد عنه لأن الأصل إمتناع التولد من شيء واحد، وأن التولد إنما يكون من اثنين، وهو سبحانه (لا صاحبة له)... و لكن الحجة الأبهر ههنا أنه أظهر نقيصة إمتلاك الولد و التى لا يدركها النصارى بحكم إنكتاسهم و نشأتهم عليها يقرنها بنقيصة أخرى تدخل فى ذات الباب أو قريبة منه... و هى إتخاذ الصاحبة الذى لا يختلفون فى إعتباره نقيصة و سخف!
فإن كنتم ترون إتخاذ الصاحبة نقيصة و فظاظة لا تليق بالله...فكيف تقبلون أن الله ولد إبناً؟!
و أيضاً فإنه (خلق كل شيء)، وخلقه لكل شيء يناقض أن يتولد عنه شيء....
(وهو بكل شيء عليم) و هذه الأية فيها نكات عدة :
- فإن الولادة لا تخرج عن كونها أمر من إثنين إمام ولادة شعورية إختيارية و إما ولادة لا إختيارية .....و كماله و علمه سبحانه بكل شيء يستلزم أن يكون فاعلاً بإرادته، فإن الشعور فارق بين الفاعل بالإرادة والفاعل بالطبع، فيمتنع مع كونه عالماً أن يكون كالأمور الطبيعية التي يتولد عنها الأشياء بلا شعور- كالحار والبارد، فلا يجوز إضافة الولد إليه
- و أما إن كانت بعلمه و إختياريه فهذا يعنى سبق وجود الله الأب على إبنه الذى ولده و إتخاذه له إختياراً...و هنا تبهت الحجة فأنَى للإله أن يوجد بعد عدم؟ فإن من أوجده إختياراً يكون خالقاً له بالبداهة...لاسيما مع إيمان النصارى بتمايز الأقانيم و أن كل منها إله كامل!
و هذا أورده سبحانه ببراعة فى قوله (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)
لأن الله لما اختار ان يتخذ الابن و هو إله لا أول له ولا أخر ولا تجد له صفات ما كانت قائمة ولا تنقضى عنه صفة قائمة..لم يتبق إلا أن (يتخذ) ولداً من (مخلوقاته) و هذا يفند معتقد النصارى...(سبحانه) منزه عن إككم ..(هو الله الواحد) ليس بثالوث...(القهار) قهار لكل ما دونه ولا يكون شىء بغي علمه و خلقه و تقديره... و فيها إشارة إلى غناه سبحانه بذاته العظيمة عن غيره ـ فالأب يحتاج لإبنه ليعينه و يكمل مسيرته أما الإله فكماله سبحانه فى وحدانيته و إفتقار الخلائق إليه

- و تدبر الرد المزلزل الذى يحدث ثورة نفسية فى قلوب من ينسب الولد لله إن كان فيها بقية من حياة فتستبصر.... ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً))
انظر كيف تتجلى عظمة الإله و هو يحذر عباده الضالين أن قولهم الكاذب لا عقيدة حق بل مسبة و إنتقاص.... حتى أن كون كله يتفاعل مع بشاعة ما نُسب إلى الله، فها هى السماوات تكاد تتفطر، و ها هى الأرض تكاد تنشق، و هاهى الجبال الشواهق تكاد تخر هداً من شناعة قولهم....اتخذ الرحمن ولدا

- كذلك فى قوله تعالى ((مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ))
** جاءت هذه الأية فى سياق رد القرأن على نسبةالنصارى الألوهية للمسيح، فقال تعالى (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ) هكذا حصر لحقيقة المسيح... و نلاحظ ان الله لم يقل ما المسيح إلا بشر و إنما قال ما المسيح ابن مريم إلا رسول و لذلك فوائد منها:
1- أن ذلك قمة العدل مع المسيح بوضعه فى مكانته فلا يؤله كما فعل النصارى ولا تكذب مكانته و رسالته كما فعل اليهود فقال أنه ( رسول)،،،وفوصفه بالرسول أثبت مكانته الكريمة و أيضاً تضمن بيان بشريته لأن الرسل كلهم بشر و لهذا قال تعالى (قد خلت من قبله الرسل)
2- أن كون المسيح رسول قد خلت من قبله الرسل فهذا عين الرد على ما فتن النصارى فيه.. فهم قالوا بألوهيته بسبب ميلاده المعجز و معجزاته الكبرى... فلما أخبر أنه رسول فسر بيسر سبب معجزاته ... إنها أيات من الله، و ذكرهم أنه ليس بدعاً من الرسل بل سبقه رسل قد خلت منهم موسى و إبراهيم و نوح و غيرهم ممن جاءو بأيات أكبر من أيات المسيح... و من هؤلاء الأنبياء أدم الذى كان خلقه أعظم من خلق المسيح

** ثم قال ( و أمه صديقة) و ذكر أمه هنا له فوائد منها:
1-لتبرئتها و بيان مكانتها فى الإسلام فيؤلف قلوب النصارى و يرد كيد اليهود
2- للتذكير بواقع المسيح، إذ من تعبدون هذه أمه الأمة الفقيرة إلى الله... و الأم أصل الشىء فأنى لخالق السماوات و الأرض أن يكون طفلا ضعيفاً جنيناً يقتات من رحم فتاة ضعيفة ثم يولد منها و يرضع و يُحمل ...الخ؟!
** ثم قال (كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ) و فيها نكات و فوائد جلية:
1- تذكير بحقيقة أخرى، فإن من يأكل الطعام يفتقر إلى ذلك الفضل و الله لا يفتقر لشىء ولا يُطعم ولا يُرزق بل هو الرزاق صو القوة المتين..
2- ثم أن من يأكل الطعام يأتى بلازم ذلك من التغوط و التبول و الإسهال ...الخ
فهل هذا الذى يتخفى فى الخلاء يقضى حاجته على ذلك الحال هو رب السماوات و الأرض؟!
أنظر كم من الأيات يراها القوم لا و يبصرنها يسمعونها ولا يعقلونها (انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)


فى حجاج المنافقين فى بخلهم :


** تدبر قوله تعالى ((وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والارض ))
يقول الأخ أبو عبد المعز حفظه الله:
تأمل كيف جاءت كلمة "ميراث"في الآية حاملة طاقة حجاجية خارقة مؤشره على إعجاز القرآن!!
(وَلِلَّهِ ملك السماوات والارض..)عبارة لها وظيفة حجاجية لا تنكر ولكنها تقصر كثيرا عن الحجاج الباهر في(..وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والارض)
التعبيران معا وردا في بداية سورة الحديد لكن وضع كل واحد في مقامه المعلوم!
تأتي قوة كلمة "ميراث"من كونها دالة على معنى حيازة الملكية مع معنيين آخرين :
أ-مالك سابق للمال.
ب-هلاك هذا المالك.
ج-انتقال المال إلى مالك جديد.
وحجاج الآية يستثمر بقوة معنى الهلاك ومعنى الانتقال..بحيث يصبح سلوك المنافقين في الامتناع عن الإنفاق سلوكا باهتا إن لم يكن متناقضا..
البخيل حين يمتنع عن الإنفاق ..يعلن أنه لا يريد الإنفصال عن ماله..وحجته في الغالب الأعم خشية الفقر، لذا تراه دوما يمسك ويستزيد.إنه يتوقع الإنفصال دائما لكن من جهة ماله..فهو يخشى "ذهاب المال وبقاءه هو"...
وجاء الحجاج في الآية ليصفع البخيل بتذكيره باحتمال آخروهو "أن يذهب هو ويبقى ماله لغيره"
وهذه أشد من الأولى من جهتين:
-أنها حتمية والأولى ظنية..فالفقر محتمل فقط لكن الموت يقيني..
-أنها تطعن البخيل في الصميم ..فالمال الذي يغار عليه من الناس سوف يبتذلونه ويتداولونه رغم أنفه...فظهرت المفارقة في أبشع صورة بين:
-من تكلف مشقة الجمع بدون استمتاع...
-ومن استمتع بدون تكلف مشقة الجمع...
فانظروا إلى القوة الحجاجية لكلمة ميراث-رحمكم الله-

لكن لكلمة "ميراث" عطاء ثانيا باعتبار معنى انتقال الملكية بعد هلاك صاحبها، واعتبار معنى "فِى سَبِيلِ الله"المقيد للإنفاق...فالتنديد ليس بالممتنعين عن الإنفاق بإطلاق، بل بالممتنعين عن الإنفاق في سبيل الله.. فهذا المنافق يأبى أن يتنازل عن بعض ماله لربه...
فجاء التسفيه :مالك سيرثه الله رغم أنفك..فيضيع مقصودك الأول باستبقاء المال وعدم وصوله لله..وتبوء مع ذلك بسخطه وعقوبته...
كل ملكية هي لله خلقا أولا ،و تخويلا وسطا ، وميراثا آخراً....فما أحمق من لا ينفق في سبيل الله؟!
إذ لا يكون الإنسان إلا رادا الملكية لصاحبها..فأي حرج في ذلك.. وحتى لو أبيت ردها طوعا فستردها كرها...رد وخزي معا...
فأي عاقل يختار لنفسه هذا المسلك وأي راشد يختار لنفسه ذاك المصير!!


و هناك نماذج أخرى كثيرة لبدائع الحجاج القرأنى كما قال الزركشى منها:-

أ- الاستدلال البديع بالمبدأ على المعاد. كقوله تعالى {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} وقوله {أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى} وقوله {فلينظر الإنسان مم خلق؟ خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، إنه على رجعه لقادر}
وكذلك النسج البديع لمشهد إهتزاز الأرض و ربوها و بث الحياة و الخضرة و الزرع المختلف ألوانه فيها بعد جفافهاو سكونها للإستدلال به على الحياة بعد الموت للحساب {ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى}
ب- السبر والتقسيم بحصر الأوصاف، وإبطال أن يكون واحد منها علة للحكم، كقوله تعالى {ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أمَّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثين أمَّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}
جـ- و أنواع أخرى من الجدل كثيرة، كمناظرة الأنبياء مع أممهم، أو فريق المؤمنين مع المنافقين، وما شابه ذلك... و كلها تعج بالفوائد اباهرات لكن لو تقصيناها لطال المقام جداً!

يتبع إن شاء الله
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس