[ايوب نصر]

(11)
ان الذي حملني على العودة الى الكتابة في موضوع العربية الشريفة ،و كشف ما يحاك لها و الاغراض الكامنة من وراء ذلك ، بعدما قضيت وطري منه و اعرضت عنه اعراضي عن اهل الخذلان ، هو ما كان قبل حين في مراكش ، فاثار ذلك حفيظتي و اشعل النار الكامنة بداخلي لعز لغة عدنان و فخر لسان قحطان .

و قد كنت قد اخبرتك في الذي خلى من هذه المقالات، ان تلك الدعوات لم تكن لتجد لنفسها موضع قدم في مجتمعاتنا العربية لولا الغصب ، و اساليب اخرى تمثلت في الهالة التي وضعت حول بعض الشخصيات منهم : التالف سلامة موسى ، و احمد لطفي السيد و لويس عوض ، و غيرهم مما لا يسع المجال لذكرهم ، و قد خرج التالف سلامة موسى قديما بدعوة الى تحرير اللغة من القواعد و مزجها بالعامية لانها ، في نظره ، وجدت لخدمتنا لا لنكون في خدمتها ، و ادعى في جهل عقيم ان الادب انما هو ذاتي لا موضوعي ، فلا علاقة له بالفكر و النقد و ضرب الراي بالراي ، و انما هو و فقط تعبير عما يتخالج في الصدور و يزدحم في الانفس من اشجان و احزان .

فاذا علمت ما جاء به التالف الخبيث سلامة موسى ، و الذي نشر في " البلاغ " سنة 1934 ، ثم سمعت الذي قيل في مراكش ، من ان العامية هي لغة الادب ، و ذلك لاعتناء الادب بالوجدان و ما فيه من اشجان و احزان ، و ان العربية الشريفة انما هي لغة الفكر لا لغة الادب ، فاذا علمت هذا و علمت غيره مما خفي عنك و لم تجد الى معرفته سبيلا ، تبين لك ان هناك اياد خفية تعمل من خلف الاستر و من وراء حجاب ، و ان الدعوة الى العامية ، و الادب العامي ، ما اخترقت المجمع اللغوي قديما الا بقوة ضاغطة فارضة ، جعلت الهالة حول بعض الشخصيات ، حتى جل قدرها عند الناس ، و نزلت منزلة الالهة عند سواد المثقفين و اصحاب الراي ، فانزلوا ارائها منزلة التنزيل ، و لهذا كتبت كثيرا في التعريف ببعض ائمة الهدى مثل الرافعي و ارسلان و المحب الدين الخطيب ، لعل في الامة من تنبه اعينه الى هؤلاء و اضرابهم ، فيعلم الذي باع و خان ، و يعلم الذي حفظ و صان .

و هذه البلاد الممتدة ارضها من المحيط الى الخليج ، و كما اخبرتك سابقا ، يخيل الي احيانا انها ارض العجائب المدونة في قصص الاطفال ، و مكمن العجب فيها يظهر و يبين في مثقفيها و حملة الاقلام من ابنائها ، ففي الوقت الذي تجد في المثقف و المفكر و الاديب الغربي يعمل لعز دينه و و وطنه و تاريخه ، و ما بناه اجداده عبر قرون متطاولة متباعدة من الزمن ، تجد المثقف العربي يعمل عمله لهدم دينه و وطنه و ما بناه اجداده ، من حيث يدري و من حيث لا يدري ، و لهذا وضعت الهالات و تم الترويج لبعض الشخصيات ، و الحط من قدر اخرى .

قالت لي : يا بني ، كيف تدعي حبك لي ، و تحاول ختم هذه المقالة دون ان ترد عني ما جاءوا به من افك حولي ، و دون ان تدفع عني ما رميت به من عقم ، و انني لا املك ان اعبر عما يجول في الوجدان من اصبابة و غرام ؟؟
فقلت لها : تحمليني قليلا ، فقد عرفت عني ما عرفت من كوني رجل يحمل بين جنبيه نفسا سريعة الملل ، و لكن لاجلك و لاكون بارا بك ساكمل ما بداته .

كيف يملك ، شخص عاقل يشدو شيئا من الفكر و الادب فضلا عن مفكر اديب ، ان يقول ان الفصحى ليست لغة ادب ، كيف يملك ان يقول ذلك ، و امامه هذه القرون المتطاولة ، و قد انطوى بداخلها مئات الملايين من كتاب العربية من قبل البعثة المحمدية الى يوم الناس هذا ، و هم يعبرون عن عواطفهم ، و ما يخالطها من حب و غرام و افراح و اشجان ، و قد وسعهم التعبير و البيان بالعربية الشريفة بشعرها و نثرها ، و لم يعجزهم ذلك ، و دعنا لا نزيد عن العصر الجاهلي و كيف وسعت العربية اهله في تعبيرهم عن عواطفهم ، و كيف اتخذوا الفاظها و معانيها سبيلا الى البوح و الترنح و التنغم و التطريب .

كنت تجد الشاعر الجاهلي ، و مع الوجود العامية و الفصحى انذاك ، لا ينطق شعره الا بالفصحى ، لان القبائل العربية ساعتها تعارفت على لغتها الادبية ، في ظل وجود لغة عامية خاصة بكل قرية .

ثم دعك عنك هذا ، و دعنا نخوض في مسالة لغة الادب و لغة الفكر ، و ان العامية لغة الادب لان الادب متعلق بالوجدان و ان الفصحى لغة الفكر ، و هذا الخلط العجيب و الجهل الذي لا يزال في عنفوان و فتوة الشباب ، فالادب يا صاحبي انما هو اسلوب كتابة و تعبير ، فقد اكتب في اي موضوع شئت ، و اكتب فيه باسلوب ادبي ، لان الادب اوسع مجالا و اخصب ارضا ، فلا ينحصر في الكلام عن احاديث الصبابة و الغرام و ما يتعلق بالوجدان ، و قد بسطت الكلام في هذه النقطة في مقالتين سميتهما " الادب و الحب " (1)

ثم ان الادب منه ما هو ذاتي و منه ما هو الموضوعي ، و هذا الاخير هو ما يتعلق بالنقد و ما يدور في فلكه ، و النقد هو فكر و نظر و راي ، ، ثم ان الدراسة الادبية تقوم على ركنين ، احدهما الدراسة التاريخية و هي تقوم اعلى اعمال الفكر و اطالة النظر و التمحيص و فصل الزائف عن الصحيح ، و هذا كله اذا امعنت فيه وجدته فكرا ، و في الوقت نفسه هو ادب ، و علة ذلك ان الافكار هي صور ذهنية و نفسية و وجدانية يعبر عنها بالكلام ، و قد يكون هذا الكلام باسلوب ادبي او اسلوب علمي ، حسب قدرات صاحبه و ميوله .

و يتبين لك من هذا و ذلك ، ان القول القائل : ان العامية هي لغة الادب و ان الفصحى هي لغة الفكر ، انما هو كلام متساقط متهاوي ، يضرب بعضه بعضا، لان الادب يشمل الافكار كما يشمل العواطف و الوجدان .

****************
(1) رابط المقالة الاولى
https://www.ansarsunna.com/vb/showthread.php?t=100716
رابط المقالة الثانية
https://www.ansarsunna.com/vb/showthread.php?t=106433

كتب: الثلاثاء 30 صفر 1441 ( 29/10/2019)