عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 2011-09-01, 10:18 PM
سيد سليم سيد سليم غير متواجد حالياً
عضو جديد بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2009-12-15
المشاركات: 8
افتراضي التصوف بين البراءة والاتهام

مقال لي نشر منذ ما يقرب من خمسة أعوام في جريدة صوت العروبة ط. القاهرة باريس
نحو حوار هادئ:التصوف بين البراءة والاتهام !!
________________________________________

التصوف بين البراءة والاتهام
"التصوف حال من السلوك الفردي والجماعي يرقى به الإنسان إلى المقام الرفيع (مقام الإحسان) الذي أبانه سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى أله وصحبه وسلم ـ عندما حاوره سيدنا جبريل ـ عليه السلام ـ عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، فقال صلى الله عليه وعلى أله وصحبه وسلم: "الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" ليتم بذلك الوصول إلى الهدف الذي خلق الله من أجله هذا الإنسان ألا وهو: تحقيق مقام العبودية الخالصة لله تعالى، والمشار إليه في قوله عز وجل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (58:56الذاريات) وذلك عن طريق تربية النفس وتهذيب السلوك وتطهير الوجدان وحراسة الحواس وتطييب الروح والسمو الأخلاقي بصفة عامة. ويبنى التصوف على علاقة بين أستاذ التربية وتلاميذه أو شيخ الطريقة ومريديه، تنظمها أسس عامة وقواعد معلومة حققها سادتنا الصوفية الأوائل خلال سلوكهم الطريق وتجاربهم الفعلية ومنازلاتهم الروحية في هذا المجال، والتي خرجوا منها بنتيجة سلوكية وتربوية هامة لابد من مباشرتها لكل سالك ألا وهي، "جهاد النفس ومحاربة هواها" وهم يستمدون ذلك من قول الله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}(51،50: النازعات) ومن الأثر الوارد الذي يتمسكون به "الجهاد الأكبر جهاد النفس" وقد أكثر السادة الصوفية من الحديث عن النفس ومؤامراتها وحيلها الشيطانية؛ من حيث أنها أمارة بالسوء وإن قطعت مراتبها المعروفة التي يتخطاها السالكون بل أنهم قالوا عنها: " أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك". وقالوا:
توق نفسك لا تأمن غوائلها = فالنفس أخبث من سبعين شيطانا
وللإمام البوصيري ـ رضي الله عنه ـ أبيات بلغت قمة في الجمال؛ تعبر عن خطورة اتباع هوى النفس، كما تبين كيفية الانتصار على أهوائها، ثم تربيتها وتهذيبهاً إلى أن تخضع وتستجيب للصواب وكثيراً ما يرددها السادة الصوفية:
وخالف النفس والشيطان واعصهما = وإن هما محضاك النصح فاتهم
لا تسترض منهما لا خصماً ولا حكماً = فأنت تعلم كيد الخصم والحكم
فاصرف هواها وحاذر أن توليه = إن الهوى ما تولى يصم أو يصم
وراعها وهي في الأعمال سائمة = وإن هي استحلت المرعى فلا تسم
كم حسنت لذة للمرء قاتلة = من حيث لم يدر أن السم في الدسم
والنفس كالطفل إن تهمله شب على = حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
وللنفس عند الصوفية سبع مراتب: (الأمارة،اللوامة،الملهمة،المطمئنة،الراضية المرضية،الكاملة) وهذه المراتب يتم سلوكها بالجهاد الصادق، والكفاح المستمر؛ لأن لكل مرتبة عوائق وعقبات يجب تخطيها للوصول إلى المرتبة التي تليها. فإذا ما انتهي السالك من تخطي هذه المراتب فإنه يبدأ رحلة جديدة من الأحوال والمقامات والرقي الروحي إلى درجات عالية رفيعة إلى ما شاء الله. إنه الجهاد الدائم والكفاح المستمر {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}(6: الانشقاق) ولا يتم ذلك كله إلا عن طريق شيخ سلك الطريق قبل ذلك، واطلع على ما فيه من عقبات ومحاذير حتى صار خبيراً في هذا المجال؛ ليأخذ بيد مريديه إلى الله، وفى هذا يقول القرآن الكريم:{الرحمن فاسأل به خبيرا}(59: الرحمن)، {واتبع سبيل من أناب إلي}(15:لقمان)، {ولا ينبئك مثل خبير} وقد ركز سادتنا الصوفية الأوائل على ضرورة اتخاذ الشيخ البصير لسلوك ذلك الطريق وشددوا في ذلك أيما تشدد ومما جاء عنهم في هذا المجال قول سيدي علي عقل رضي الله عنه:
وعندي أن الأمر ليس بهين = فلابد من سوق النفوس لمن يدري
إذا لم يكن للنفس شيخ له هدى = يؤدبها بالروح زاغت عن السير
ولا يعبر البحر الخضم ونوأه = سوى ماهر يدري السباحة في البحر
ولولا اتصال الكهرباء بأصلها = على موجة التيار ما نورها يسري
إذن المشيخة شيء ضروري عند السادة الصوفية فلابد لكل مريد من شيخ يسلكه الطريق عن طريق البيعة أو ما يعرف بالعهد أو القبضة، وكلها أسماء لمعنى واحد، هو علاقة الأبوة الروحية بين المريد السالك وشيخه المربي؛ حيث أن الشيخ سبق له سلوك الطريق عن شيخ أيضاً؛ وبالتالي عرف ما فيها، وطابت نفسه حتى أذن له في تسليك غيره بعد أن تحقق بالخبرة والإنابة واتخذ البصيرة وسيلة له في طريق تربيته للمريدين مقتدياً بسيد المربين والدعاة {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}(108: يوسف) فإذا ما اتصف الشيخ بهذه الصفات كان حرياً أن ينال التوقير القلبي من مريده الذي يرى فيه مثله الأعلى ونموذجه المقدم بعد سيد المربين سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه المسئول المباشر عن تربيته والوصول به إلى فضل الله ورحمته ورضاه، وعن أوصاف الشيخ يقول أحدهم
وللشيخ آياتٌ إذا لم تكن له = فما هو إلا في ليالي الهوى يسري
إذا لم يكن علم لديه بظاهر = ولا باطن فاضرب به لجج البحر
وإن كان إلا أنه غير جامع = لوصفيهما جمعا على أكمل الأمر
فأقرب أحوال العليل إلى الردى = إذا لم يكن منها الطبيب على خبر
وآيته ألا يميل إلى الهوى = فدنياه في طي وأخراه في نشر
والبيعة بهذا السلوك؛ تجعل التصوف روحاً للإسلام، وثمرة للإيمان، وتعريفاً عملياً للإحسان ويكون التصوف بريئاً من التهم الموجهة إليه. فإذا لم يكن الشيخ هكذا؛ فلا يحق له، ولا يصح منه أن يدعي المشيخة؛ التي قد يجر بها المريدين إلى الهاوية، ويضيع عليهم فرصة اللحاق بركب التربية الروحية الصحيحة. يقول سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري عن أوصاف الشيخ المربي: "ليس شيخك من واجهتك عبارته إنما شيخك من سرت فيك إشارته، وليس شيخك من سمعت منه إنما شيخك من أخذت عنه، وشيخك هو الذي يجلو مرآة قلبك حتى تجلت فيه أنوار ربك حتى وصلت إليه ولا زال محاذياً لك حتى ألقاك بين يديه وزج بك في نور الحضرة وقال لك ها أنت وربك".
ومن المعلوم أن التهم الموجهة للتصوف لم تأت من فراغ وإنما أتت بسبب ممارسات المدعين للتصوف الدخلاء على أهله المتزيين بزي رجاله الخارجين عن آدابه المنحرفين عن أخلاقياته، الذين اتخذوا الطريق مغنما لهم، كما أن هؤلاء الشواذ تجاوزوا كل الآداب والأصول فأباحوا الاختلاط بين الجنسين وفيهم الشباب والمراهقين بدعوى الأخوة في الله ورحم الله الشيخ القائل: "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء فلا تأخذوا عنه حتى تنظروا أعماله فإن كانت موافقة لكتاب الله وسنة رسوله فخذوا عنه وإن كانت مخالفة فاتركوه فإنما هو شيطان" وكل هذا جهل مبين وحماقات مرفوضة، مع العلم أن أغلب هؤلاء صاروا شيوخ طرق عن طريق الوراثة أو المجاملة، بل أن بعض شيوخ الطرق يلجئون إلى الاستكثار من المريدين والخلفاء والنواب دون أن يضعوا في الاعتبار الضوابط والأسس التي قننها ورسمها سادتنا الصوفية الأوائل. وبسبب هذا السلوك المشين والبعيد كل البعد عن روح التصوف؛ أْتيحت الفرصة للناقمين على التصوف، الكارهين لرجالاته لشن الحملات الهجومية على التصوف ككل وبهذا جنى هؤلاء الدخلاء المدعين جناية كبرى على التصوف الحق رغم أن التصوف برئ من هؤلاء اللصوص اللصقاء.
وإذا ذهبنا إلى ما قاله أئمة التصوف عن الطريق الصوفي؛ تبين لنا براءة التصوف من السهام الموجهة إليه، وأن كل من لا تنطبق عليه أقوال الأئمة ليس صوفياً والتصوف بريء منه. يقول الإمام الجنيد سيد الطائفة الصوفية: "التصوف ذكر مع اجتماع ووجد مع استماع وعمل مع اتباع". وله أيضاً: "الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح". ويقول الجريري: "التصوف مراقبة الأحوال ولزوم الأدب" ويقول أبو تراب النخشبي: "الصوفي لا يكدره شيء ويصفو به كل شيء" وقال الواسطي معبراً عما كان عليه الصوفية وعما صاروا إليه في إشارات بليغة ومعبرة: "كان للقوم إشارات ثم صارت حركات ثم لم يبق منها إلا حسرات". هذا عن عصره فكيف إذا شاهد أكثر صوفية عصرنا؟! أيها السادة أحباب التصوف والصوفية: إن من الواجب علينا جميعاً أن نتكاتف كل حسب استطاعته وفي مجاله؛ للرجوع إلى التصوف الصحيح والبعد عن المدعين البطالين. إن من الواجب على مشيخة الطرق الصوفية (وهي هيئة دينية رسمية تقوم على شئون التصوف والصوفية ولها مجلسها الأعلى الذي يضم بالإضافة لأعضائه المنتخبين ممثلين لأهم هيئات الدولة، كما أن لها قانونها المنظم لعملها، ولها لائحتها الداخلية) أن تمارس دورها الروحي والقانوني للوصول إلى تصوف خال من الزيف والخرافات، بعيد عن البدع والمبالغات،/ ليس فيه اختلاط أو ابتذال خاصة في الموالد التي يقصدها المحبون من الداخل والخارج. يجب أن يكون الموالد ملتقىً روحياً لتدارس سير هؤلاء الصالحين، وكيفية توظيفها للاستفادة بها في واقع حياتنا. فيا مشيختنا العامة للطرق الصوفية ـ وفيك العلماء الأفذاذ والسالكون المربون الصالحون بحق ـ عليك أن تضعي برنامجاً؛ للقضاء على السلبيات المشينة التي تسيء إلى التصوف والصوفية.
ومما لا شك فيه أن الوصول إلى مقامات السادة الصوفية الأوائل أمر صعب المراس لا يستطيعه مدع أفاق، أو متلصص بطال. فها هو الإمام العَلَم الذي بلغ الدرجات العليا في علوم الشريعة والفلسفة الإيمانية وهو الإمام أبو حامد الغزالي ـ رضي الله عنه ـ يحدثنا عن تجربته النورانية مع التصوف والصوفية فيقول في كتابه المنقذ من الضلال: "بقيت نحو عشرين سنة بعد خروجي للتصوف وانكشفت لي في أثنائها أمور لا يمكن إحصاؤها والقدر الذي أذكره لينتفع به الناس أني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرهم أحسن السير وطريقهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلا وأن جميع حركاتهم وسكناتهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة وبالجملة ماذا يقول القائل في طريقة أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى وآخرها الفناء بالكلية في الله تعالى". وعن بداية تجربته المباركة بقول: "ابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم: مثل(قوت القلوب لأبي طالب المكي رحمه الله وكتب الحارث المحاسبي والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي قدس الله أرواحهم وغير ذلك من كلام مشايخهم حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلية وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع فظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعليم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات". ويؤكد الإمام أبو الحسن النوري المعنى نفسه فيقول: "ليس التصوف رسماً ولا علماً ولكنه خلق لأنه لو كان رسماً لحصل بالمجاهدة ولو كان علماً لحصل بالتعليم ولكنه تخلق بأخلاق الله ولن تستطيع الإقبال على الأخلاق الإلهية بعلم أو رسم". وفي كتابه "المدرسة الشاذلية" يقول إمام وعلم التصوف في عصرنا سيدي الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله: "ونقول في يقين يسد الطريق في وجه كل من يحاول أن يثير أوهاماً ضد التصوف والصوفية إن المنهج الصوفي إنما هو تحقيق واقعي لقوله تعالى: {قد أفلح من زكاها}(9: الشمي). هذا هو التصوف الذي ينبغي الحديث عنه، واحترامه واحترام أهله، ومن ذهب إلى غير ذلك فليس من التصوف في شيء؛ إنما للتصوف رجاله، وهم قادة سادة في شتى الميادين الدينية والدنيوية؛ أكرمهم الله ونفع بهم. والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
رد مع اقتباس