[ايوب نصر]

نحن ( اي المسلمين ) ليس لدينا اسئلة لكل الاجوبة ، و لكن لدينا اجوبة منطقية معقولة ، لاسئلة منطقية معقولة ، فاذا ورد علينا سؤال من جهة ما ، نظرنا اولا في السؤال ، فاذا كان منطقيا ، اجبنا عليه ، و اذا لم يكن كذلك ، نكون قد كفينا المشقة.
.
و الاسئلة و الاشكالات المنطقية التي تواجهنا ، نفرح لها و نسعد بها ، فاذا كان الاخر يعتبرها شبها و احراجا ، فنحن نعتبرها اعجازا و دليلا على صدق ديننا و نبوة نبينا _ صل الله عليه و سلم _ .


و قد ورد علينا سؤال حول القران ، و هذا نصه : " كيف كلم إبليس أبانا آدم بعد طرده من الجنة ؟؟ و الله يقول :(( فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدً )) و هذا وهذا للاستماع والتصنت فما بالك بالمشاهدة لأدم وللشجرة ، و هبوط ابليس كان قبل اكل دم و زوجه من الشجرة ، بدليل قوله (( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى )) طه 123 . و حين قال (( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا)) قال بعدها : (( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)) و الشيطان ليس له هدي ، و هذا يعني ان لفظ (( اهبطوا) لا يشمله " انتهى


و قبل الخوض في الرد على هذه الاسئلة ، و تفنيد ما تحمله من اشاكلات ، و مقارنة الادلة و اختلاف دلالات الالفاظ ، و حتى يكون القارئ على بينة ، و يسهل عليه استحضار المشاهد فيما بعد ، فاننا نضع اولا التسلسل الزمني لاحداث القصة ، مند ان عصى ابليس ربه الى ان وضعت الشهب ، و هذا الترتيب هو كالتالي :
1_ عصان ابليس لربه و امتناعه عن السجود لادم
2_ طرد إبليس من الجنة إلى مكان ما في السماء
3_ وسوسة ابليس بطريقة ما الى ادم
4_ خروج آدم وحواء من الجنة.
5_ هبوط ابليس و ادم و حواء من السماء
6_ امكانية الجن من السماع ، و هي ما بين الهبوط و وضع الشهب
7_ وضع الشهب

ثم اقول : الحمد لله الذي من علينا بدين لا ياتيه الباطل لا من بين يديه و لا من خلفه ، و نزل الينا كتابا فيه تفصيل و بيان كل شيء ، و انا لا احب اسمي هذا السؤال ، و كما اسلفت ، شبهة ، و انما اعتبره معجزة من معجزات القران، فمن معجزاته : " انه يدخر في الالفاظ المعروفة في كل زمن ، حقائق غير معروفة لكل زمن ، فيجليها لوقتها حين يضج الزمان العلمي في متاهة و حيرة " (1) ، ففي جواب هذا السؤال ما يروع العقول و يحير الالباب ، لما فيه من تناسق و انسجام ، يدل على عظمة كتاب الاسلام .


و اما جواب السؤال فيكون من وجهين ، اجمالي و تفصيلي ، و اما الاجمالي فهو اثبات امكانية وسوسة ابليس لابينا ادم ، و دليل هذه الامكانية تجده في قوله تعالى(( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى )) طه 117 . فمادام الله حذره من ان يخرجه ابليس من الجنة ، الا و قد جعل لابليس الى ذلك سبيلا ، و هنا القران يثبت امكانية وصول ابليس لادم ، فجاءت هذه الاية متناسقة و منسجمة مع قوله تعالى(( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىظ° )) طه120 . و مع قوله تعالى (( الجنة فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ )) الاعراف 20 .
فانت ترى هذا الانسجام و التناسق المعجز ، اولا بين الايات بعضها البعض ، و ثانيا بين معاني هذه الايات و الالفاظ المركبة عليها ، فقدم لك القران امكانية وصول ابليس لابينا ادم ، ثم بين لك وصوله اليه .
و القضية الان صارت الى الوسيلة ، و لا يضرنا مع اثباتنا للامكانية جهلنا بالوسيلة ، و لكن كما قدمنا ، فان فيه تفصيل و بيان كل شيء ، و من عجائبه ما يروع العقول و يحير الالباب ، و قد ضرب الله لنا مثلا على الوسيلة ، فانظر قوله تعالى : (( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ غڑ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ )) الاعراف 50 . فاصحاب النار نادوا اصحاب الجنة من خارج الجنة ، و ابليس ايضا كان خارج الجنة ، فسماع اهل الجنة لمن هم خارجها امر جائز شرعا و عقلا ، فيمكن لاصحاب الجنة ان يسمعوا من هم خارجها و ان كانوا في النار .


و اما الرد التفصيلي ، فنبين فيه اختلاف دلالات الالفاظ التي جاءت بها ايات القصة ، و لو افترضنا ، و على سبيل الجدل لا التسليم ، ان هبوط ابليس كان قبل اكل ادم من الشجرة ، فان هذا لا يمنعه من ان يكلمه ذلك لامرين : فاما احدهما : فهو ان الله لم يحذر ادم من ابليس الا و قد جعل له وسيلة اليه . و اما الاخر :فان الشهب كانت بعد نزولهم ، بل وضع الشهب كان متاخرا بكثير عن وقت هبوطهم ، بدليل الاية التي احتج بها ، و هي قوله تعالى على لسان الجن (( وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدً ))الجن 9 . كانوا يستمعون لكن الان لا يمكنهم ، و ذلك لما وضعت الشهب ، و التي لم تكن قد وضعت من قبل ، فكانوا يستمعون ، و هذا يعني ان وضع الشهب كان متاخرا بكثير عن وقت النزول .

و الان نرجع لمسألة الهبوط ، و هل هبوط ابليس كان قبل هبوط ادم و زوجه او معهما ، و باعمال الفكر في الايات التي عرضت القضة و اطالة النظر فيها و تدبرها ، يظهر لنا ان في الايات ادلة متوافرة على ان هبوط ابليس كان متزامنا مع هبوط ادم و حواء .

و قد وجب علي تنبيهك ، اخي القارئ ، فالاجابة على هذا الاشكال ، تحتاج منك ان تكون حاضرا بذهنك و فكرك ، لما فيها من اعمال للفكر و النظر في ايات الذكر الحكيم ، و لما فيها من رد على طائفتين ابتلي بهما الاسلام و العروبة ، فاما الاولى فهم دعاة التجديد ، و الذين لا يستقيم عندهم التجديد الا بالقطيعة مع القديم ، و اما الثانية فهم الاريكييون(2) ، و الذين لا يستقيم عندهم التدبر الا بانكار السنة .

و اقول راجيا من العلي القدير ان لا يسلمني و لا يكلني الى نفسي و عقلي : ان للقران اساليبه و هذه الاساليب وعتها العرب و فهمتها لما كان عندهم من الذهن المستعد لقبول كل ما هو عربي ، فلما نزل قوله تعالى (( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ))البقرة 38، فهموا منها ان المخاطب بالهبوط هم ادم و زوجه و ابليس ، و لما انتقل الكلام الى الهدى فهموا ان المخاطب هو غير ابليس و غير ادم ، فاما ابليس فهو غير مخاطب لانه لعن ، و اما ادم فهو غير مقصود لانه نبي زمانه _ صل الله عليه و سلم _ و انما المخاطب هو زوج ادم و ذريته
و الدليل على كلامي هو قوله تعالى في سورة ص : (( فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )) فسجد الملائكة كلهم اجمعون ، الا ابليس ، الذي تم استثناءه رغم انه ليس من الملائكة ، فانت و انا عند وقوفنا عند ظاهر الاية نقول ان ابليس من الملائكة ، و لكن العرب سليقة فهموا ان هذا اسلوب من اساليب القران العربي المبين ، و ذلك لما كان عندهم من الذهن و العقيدة اللغوية ، كما فهموا من ان المخاطب بالهدى هو غير ادم _ عليه السلام _ و ابليس ، و انما المخاطب زوجه و ذريته .
و الاية لم تات بصيغة (( اهبطوا منها )) و لكن الاية جاءت هكذا (( اهبطوا منها جميعا )) فانظر قوله ( جميعا ) فهي تاكيد على انهم جمع اكثر من اثنين .


و اما قوله تعالى (( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا غ– بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ غ– فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى )) طه 123. فهو تفسير لقوله تعالى (( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ))البقرة 38 . فقوله (( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ )) دليل على ان ابليس يشمله لفظ (( اهبطوا ))

و لاهل النباهة و الفطنة و الذكاء ان يقولوا : انت عندك نصان وليس نصا واحدا ، الاول فيه (( قال اهبطا )) و الثاني ((قلنا اهبطوا ))
قلت : هذا الاسلوب نفسه في قوله (( فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ )) ص . فقد قال (( اجمعون )) ليبين ان الاستثناء في قوله (( الا ابليس .. )) يخص السجود و ليس الجنس ( اي جنس الملائكة )
و قوله (( اهبطا )) فهو جاء باعتبار الجنس ( الانس و الجن ) و ليس باعتبار العدد ، عكس قوله (( اهبطوا )) و التي جاءت باعتبار العدد لا باعتبار الجنس ، و حين قال (( اهبطا )) قال بعدها (( جميعا )) و قال (( بعضكم لبعض عدو )) ، و الشيطان كان للانسان عدوا ، فكانت (( اهبطا )) لمخاطبة الجنسين ، الانس و الجن .
و يزيده بيانا قوله تعالى (( وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ )) السجدة 13 . فباعتبار الجنس هما اثنان ( الجنة و الناس ) و باعتبار العدد فهم جمع و لذلك قال (( اجمعين )).

و الان و بعدما اثبتنا الامكانية ، و ضربنا مثالا للوسيلة ، و اثبتنا معها ان نزول ابليس كان متزامنا مع نزول ادم و زوجه و انه لم يكن قبلهما ، فانه لم يبقى لي الا امران اختم بهما ، فاأولهما نكتة حول تناسق الايات فيما بينها ، و تناسق معانيها مع الالفاظ المركبة عليها ، و اقول : انظر قوله (( يُخْرِجَنَّكُمَا )) و اربطها مع ما نقله القران من قول ابليس (( يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى )) و ما نقله من قوله (( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ))
و هنا ترتيب و تركيب محكم لالفاظ على المعاني ، فابليس لا يعد الا غرورا و باطلا ، فالجنة تدل على الخلد ، و الخروج منها يدل على الفناء ، و ادم _ عليه السلام _ يصبو الى الخلد و البقاء ، فجاء خداع ابليس لابينا ادم ، من جهة ما يأمله و يصبو اليه ، ان اوهمه ان خلوده في اكله من الشجرة .

و ثانيها : هو ان اتوجه بالشكر للشيخ الحبيب " ابو جهاد الانصاري " و الذي اجده دائما يحوطني بتوجيهه اياي و نصحه لي ، و الذي له الفضل الاكبر علي ، فجزاه الله عني خيرا

************
(1) الرافعي / وحي القلم ج2 / فلسفة الصيام
(2) هم منكروا السنة ، و نسميهم بالاريكيين متابعة لما وصفهم به رسول الله _ صل الله عليه و سلم _ في حديث الاريكة

كتب : السبت 24 رمضان 1439 (09/06/2018)