عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 2014-10-26, 11:54 PM
ابن الصديقة عائشة ابن الصديقة عائشة غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2010-09-26
المكان: بلاد الله
المشاركات: 5,182
افتراضي

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ


اسباب النزول - أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} الآيات [11].
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقرىء، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن علي المقرىء، قال: أخبرنا أبو يعلى قال حدثنا أبو الربيع الزَّهْرَاني، قال: حدثنا فليح بن سليمان المدني، عن الزّهْري، عن عُرْوَة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقَّاص، وعُبَيد الله بن عَبْد الله بن عُتْبَة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله تعالى منه. قال الزهري: وكلهم حدثني بطائفة من حديثها، وبعضُهم كان أوْعَى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصاً، ووعيت، عن كلِّ واحدٍ الحديثَ الذي حدَّثني، وبعضُ حديثهم يصدُقُ بعضاً. ذكروا أن عائشة رضي الله عنها زَوْج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقْرَعَ بين نسائه، فأيتهن خَرَج سهْمُهَا خرج بها معه. قالت عائشة رضي الله عنها: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سَهْمِي. فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد ما نزلت آية الحجاب. فأنا أُحْمَلُ في هَوْدَجِي وأنزل فيه مَسِيرَنا، حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة وقفل، ودنونا من المدينة، أذن ليلةً بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرَّحْلِ فلمست صدري فإذا عقد من جَزْع ظَفَارِ قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون [بي] فحملوا هُوْدَجِي فرحّلُوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، قالت عائشة: وكانت النساء إذ ذاك خفافاً لم يَهْبَلْنَ، ولم يَغْشَهُنَّ اللحم، إنما يأكلن العُلْقَةَ من الطعام، فلم يستنكر القوم ثِقَلِ الهَوْدَج حين رحّلُوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مُجِيب، فتَيمَمَّتُ منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني ويرجعون إليّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت، وكان صفْوَان بن المعطَّل السُّلَمي [ثم] الذكواني قد عرّس من وراء الجيش، فأدْلَجَ فأصبح عند منزلي، فرأى سوادَ إنسان نائمٍ، فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب عليَّ الحِجَابُ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فَخَمَّرْتُ وجهي بِجِلْبَابِي، والله ما كلمني بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فوطىء على يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهِيرَة، وهلك مَنْ هلك فيَّ، وكان الذي تولى كِبْرَهُ منهم عبد الله بن أُبَيّ ابن سَلُول، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدِمتها شهراً، والناس يُفيضُون في قول أهل الإفْك، ولا أشعر بشيء من ذلك ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطفَ الذي كنت أرى منه حين اشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تِيكُمْ؟ فذلك يحزنني، ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نَقهْتُ وخرجتْ معي أم مِسْطَح قِبَلَ المناصع وهو مُتَبَرَّزُنَا، ولا نخرج إلا لَيْلاً إلى لَيْلٍ، وذلك قبل أن نتخذ الكُنُفَ قريباً من بيوتنا، وأمْرُنا أمْرُ العرب الأول في التنزه وكنا نتأذى بالكُنُف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأمّ مِسْطَح - وهي بنت أبي رُهْم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخْر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق وابنها مِسْطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قِبَل بيتي حين فرغنا من شأننا فَعَثَرَتْ أمُّ مِسْطَح في مِرْطِها فقالت: تَعِسَ مِسْطَح، فقلت لها: بئسما قلت، أتَسُبِّينَ رجلاً قد شهد بدراً؟ قالت: أي هَنَتَاه، أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم [فسلّم] ثم قال: كيف تِيكُمْ، قلت: تأذن لي أن آتي أبَوَيّ؟ قالت: وأنا أريد حينئذٍ أن أتيقن الخبر من قِبَلِهِمَا، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أبوَيّ فقلت: يا أمّاه، ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية، هوِّني عليك، فوالله لقلَّما كانت امرأة قط وَضِيئة عند رجل ولها ضرائر إلا أكْثَرْنَ عليها، قالت: فقلت: سبحان الله أوَقَدْ تحدث أليس بهذا؟ [وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم] قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرْقَأُ لي دمع، ولا أكْتَحِلُ بنوم، ثم أصبحت أبكي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، حين اسْتَلْبَث الوحيُ، يستشيرهما في فِرَاقِ أهله، فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال: يا رسول الله هم أهلك، وما نعلم إلا خيراً. وأما علي بن أبي طالب فقال: لم يُضَيِّق الله تعالى عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تَصْدُقْكَ، قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِيرَة فقال: يا بريرة، هل رأيت شيئاً يَريبك من عائشة؟ قالت بريرة: والذي بعثك بالحق إنْ رأيت عليها أمراً قط أغْمِصُه عليها أكثَرَ من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدَّاجِنُ فتأكله. قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسْتَعْذَرَ من عبد الله بن أبي ابن سَلُول، فقال، وهو على المنبر: يا معشر المسلمين، من يَعْذِرُني مِنْ رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمتُ على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً. وما كان يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن مُعَاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوْس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزْرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً ولكن احتملْته الحمية - فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدِر على قتله، فقام أسَيْد بن حُضَير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، إنك لمنافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيَّان من الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يُخَفِّضُهم حتى سكتوا وسكت. قالت: وبكيت يومي ذلك لاَ يَرْقَأُ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالِقٌ كَبِدِي. قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليَّ امرأةٌ من الأنصار، فأذنت لها وجلست تبكي معي. قالت فبينا نحن على ذلك، إِذْ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني شيء. قالت: فتشهَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألْمَمْتِ بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله عليه. قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قَلَص دمْعِي حتى ما أحس منه قَطْرَةً فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي [عني] رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: والله لقد عرفت أنكم سمعتم هذا، وقد استقر في نفوسكم فصدقتم به، ولئن قلت لكم: إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تُصَدِّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة - لتُصَدِّقُني، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا ما قال أبو يوسف: { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي. قالت: وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مُبْرئي بِبَرائتي، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحْيٌ يُتْلى، ولشَأنِي كان أحقرَ في نفسي من أن يتكلم الله تعالى فيَّ بأمر يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله تعالى بها. قالت: فوالله ما رَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم منزله، ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحَاء عند الوحي، حتى إنه لَيَتَحَدَّر منه مثلُ الجُمَانِ من العَرَقِ في اليوم الشاتي، من ثقل القول الذي أنزل عليه [من الوحي] قالت: فلما سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سُرِّي عنه وهو يضحك وكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أما والله لقد برَّأك الله، فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله سبحانه وتعالى هو الذي برَّأني. قالت: فأنزل الله سبحانه وتعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} العشر الآيات: فلما أنزل الله تعالى هذه الآيات في براءتي قال [أبو بكر] الصديق - وكان يُنفق على مِسْطَح لقرابته وفقره - والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة: قالت: فأنزل الله تعالى: { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ} إلى قوله: { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فقال أبو بكر: والله إني لأحِبّ أن يغفرَ الله لي، فرجع إلى مِسْطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبداً، رواه البخاري ومسلم، كلاهما عن أبي الربيع الزّهْراني.



تفسير بن كثير

هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت، والفرية التي غار اللّه عزَّ وجلَّ لها ولنبيه صلوات اللّه وسلامه عليه، فأنزل اللّه تعالى براءتها صيانة لعرض الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فقال تعالى: { إن الذين جاءوا بالأفك عصبة منكم} أي جماعة منكم يعني ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة؛ فكان المقدم في هذه اللعنة عبد اللّه بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فإنه كان يجمعه ويستوشيه حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين، فتكلموا به، وجوزه آخرون منهم، وبقي الأمر كذلك قريباً من شهر حتى نزل القرآن؛ وبيان ذلك في الأحاديث الصحيحة. عن عائشة رضي اللّه عنها زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معه، قالت عائشة رضي اللّه عنها: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، وخرجت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وذلك بعدما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غزوته وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذن بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه، قالت: وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام؛ فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رأني، وقد كان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي واللّه ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد اللّه بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمناها شهراً والناس يفيضون في قول الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيسلم ثم يقول: (كيف تيكم؟) فذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت معي أم مسطح قِبَل المناصع وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل؛ وذلك قبل أن نتخذ الكنف القريب من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب بن عبد مناف، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئسما قلت، تسبين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت: أي هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسلم، ثم قال: (كيف تيكم؟) فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول اللّه فجئت أبوي، فقلت لأمي: يا أمتاه لماذا يتحدث الناس به؟ فقالت أي بنية هوني عليك فواللّه لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، قالت، فقلت: سبحان اللّه وقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي . قالت: فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال أسامة: يا رسول اللّه أهلك ولا نعلم إلا خيراً، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول اللّه لم يضيق اللّه عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر، قالت: فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بريرة فقال: (أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟) فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمراً أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد اللّه بن أبي سلول، قالت: فقال رسول اللّه وهو على المنبر: (يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فواللّه ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي)، فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي اللّه عنه فقال: أنا أعذرك منه يا رسول اللّه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً ولكن احتمله الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر اللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة، كذبت لعمر اللّه لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافق، فتثاور الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المنبر، فلم يزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، وسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذا استأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني شيء. قالت: فتشهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين جلس، ثم قال: (أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك اللّه، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري اللّه وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب اللّه عليه) قالت: فلما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول اللّه، فقال: واللّه ما أدري ما أقول لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت: واللّه ما أدري ما أقول لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قالت، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: واللّه لقد علمت، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى اسستقر في أنفسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة - واللّه يعلم أني بريئة - لا تصدقونني، ولئن اعترفت بأمر واللّه يعلم أني منه بريئة لتُصَدِّقُني، فواللّه ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: { فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون} ، قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأن اللّه أعلم حينئذ أني بريئة، وأن اللّه تعالى مبرئي ببراءتي، ولكن ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يتلى، ولَشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم اللّه فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو من أن يرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني اللّه بها، قالت: فواللّه ما رام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل اللّه تعالى على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه قالت: فسري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: (أبشري يا عائشة، أما اللّه عزَّ وجلَّ فقد برأك). قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: واللّه لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا اللّه عزَّ وجلَّ، هو الذي أنزل براءتي، وأنزل اللّه عزَّ وجلَّ: { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم} العشر الآيات كلها، فلما أنزل اللّه هذا في براءتي قال أبو بكر رضي اللّه عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: واللّه لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة، فأنزل اللّه تعالى: { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى - إلى قوله - ألا تحبون أن يغفر اللّه لكم واللّه غفور رحيم} ، فقال أبو بكر: بلى واللّه إني لأحب أن يغفر اللّه لي، فرجَّع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: واللّه لا أنزعها منه أبداً، قالت عائشة: وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم عن أمري، فقال: (يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟( فقالت: يا رسول اللّه أحمي سمعي وبصري، واللّه ما علمت إلا خيراً، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم فعصمها اللّه بالورع؛ وطفقت أختها حمنة بنت جحش""تحارب لها فهلكت فيمن هلك، قال ابن شهاب فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط ""أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الزهري عن عائشة رضي اللّه عنها"". وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدَّهم ""رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وقال الترمذي: حديث حسن، ووقع عند أبي داود تسميتهم وهم حسان بن ثابت و مسطح بن أثاثة و حمنة بنت جحش وروى الإمام أحمد أيضاً عن مسروق عن أم رومان قالت: بينا أنا عند عائشة إذ دخلت عليها امرأة من الأنصار فقالت: فعل اللّه بابنها وفعل، فقالت عائشة: ولم؟ قالت: إنه كان فيمن حدَّث الحديث، قالت: وأي الحديث؟ قالت: كذا وكذا، قالت: وقد بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قالت: نعم، قالت: وبلغ أبا بكر؟ قالت: نعم، فخرت عائشة رضي اللّه عنها مغشياً عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض، قالت: فقمت فدثرتها، قالت: فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (فما شأن هذه؟) فقلت: يا رسول اللّه أخذتها حمى بنافض، قال: (فلعله في حديث تحدث به) قالت: فاستوت عائشة قاعدة، فقالت: واللّه لئن حلفت لكم لا تصدقوني، ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبينه حين قال: { فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون} قالت: فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنزل اللّه عذرها، فرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه أبو بكر فدخل، فقال يا عائشة: (إن اللّه تعالى قد أنزل عذرك)، فقالت: بحمد اللّه لا بحمدك، فقال لها أبو بكر: تقولين هذا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ قالت: نعم، قالت: وكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعوله أبو بكر، فحلف أن لا يصله، فأنزل اللّه: { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة} إلى آخر الآية، فقال أبو بكر بلى فوصله. فقوله تعالى: { إن الذين جاؤوا بالإفك} أي الكذب والبهت والافتراء { عصبة} أي جماعة منكم { لا تحسبوه شرا لكم} أي يا آل أبي بكر { بل هو خير لكم} أي في الدنيا والآخرة، لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة، وإظهار شرف لهم باعتناء اللّه تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي اللّه عنها، حيث أنزل اللّه براءتها في القرآن العظيم، ولهذا لما دخل عليها ابن عباس رضي اللّه عنه وعنها وهي في سياق الموت، قال لها أبشري فإنك زوجة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكان يحبك ولم يتزوج بكراً غيرك، ونزلت براءتك من السماء، وقوله تعالى: { لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم} أي لكل من تكلم في هذه القضية، ورمى أم المؤمنين عائشة رضي اللّه عنها بشيء من الفاحشة نصيب عظيم من العذاب، { والذي تولى كبره منهم} قيل: ابتدأ به، وقيل: الذي كان يجمعه ويذيعه ويشيعه { له عذاب عظيم} أي على ذلك، ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد اللّه بن أبي بن سلول قبحه اللّه تعالى ولعنه، وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث؛ وقيل: بل المراد به حسان بن ثابت، وهو قول غريب، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن مآثره أن كان يذب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشعره، وهو الذي قال له صلى اللّه عليه وسلم: (هاجهم وجبريل معك). وقال مسروق كنت عند عائشة رضي اللّه عنها، فدخل حسان بن ثابت، فأمرت فألقي له وسادة، فلما خرج قلت لعائشة: ما تصنعين بهذا؟ يعني يدخل عليك، وفي رواية قيل لها: أتأذنين لهذا يدخل عليك؟ وقد قال اللّه: { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} ، قالت: وأي عذاب أشد من العمى، وكان قد ذهب بصره، لعل اللّه أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم، ثم قالت: إنه كان ينافح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها شعراً يمتدحها به فقال: حصان رزان ما تزن بريبة ** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل. فقالت: لكنك لست كذلك.

تفسير الجلالين

( إن الذين جاءوا بالإفك ) أسوأ الكذب على عائشة رضي الله عنها ، أم المؤمنين بقذفها ( عصبة منكم ) جماعة من المؤمنين قالت : حسان بن ثابت ، وعبد الله بن أبي ، ومسطح ، وحمنة بنت جحش ( لا تحسبوه ) أيها المؤمنون غير العصبة ( شرا لكم بل هو خير لكم ) يأجركم الله به ، ويظهر براءة عائشة ومن جاء معها منه وهو صفوان ، فإنها قالت : " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بعدما أنزل الحجاب ، ففرغ منها ورجع ودنا من المدينة ، وآذن بالرحيل ليلة فمشيت وقضيت شأني وأقبلت إلى الرحل فإذا عقدي انقطع ـ هو بكسر المهملة : القلادة ـ فرجعت ألتمسه ، وحملوا هودجي ـ هو ما يركب فيه ـ على بعيري يحسبونني فيه ، وكانت النساء خفافا إنما يأكلن العلقة ـ هو بضم المهملة وسكون اللام من الطعام : أي القليل ـ ووجدت عقدي وجئت بعدما ساروا فجلست في المنزل الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي فغلبتني عيناي فنمت وكان صفوان قد عرس من وراء الجيش فأدلج ـ هما بتشديد الراء والدال أي نزل من آخر الليل للاستراحة ـ فسار منه فأصبح في منزله فرأى سواد إنسان نائم ـ أي شخصه ـ فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باست

تفسير القرطبي

فيه ثمان وعشرون مسألة: الأولى: قوله { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم} { عصبة} خبر { إن} . ويجوز نصبها على الحال، ويكون الخبر { لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم} . وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة رضوان الله عليها، وهو خبر صحيح مشهور، أغنى اشتهاره عن ذكره، وسيأتي مختصرا. وأخرجه البخاري تعليقا، وحديثه أتم. قال : وقال أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأخرجه أيضا عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان من حديث مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت : لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها. وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال : حدثني مسروق بن الأجدع قال حدثتني أم رومان وهي أم عائشة قالت : بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بفلان وفعل بفلان فقالت أم رومان : وما ذاك؟ قالت ابني فيمن حدّث الحديث قالت : وما ذاك؟ قالت كذا وكذا. قالت عائشة : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت نعم. قالت : وأبو بكر؟ قالت نعم فخرت مغشيا عليها فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (ما شأن هذه؟) فقلت : يا رسول الله، أخذتها الحمى بنافض. قال : (فلعل في حديث تُحُدث به) قالت نعم. فقعدت عائشة فقالت : والله، لئن حلفت لا تصدقوني ولئن قلت لا تعذروني مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه والله المستعان على ما تصفون. قالت : وانصرف ولم يقل شيئا فأنزل الله عذرها. قالت : بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك. قال أبو عبدالله الحميدي : كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين يقول الإرسال في هذا الحديث أبين واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسروق لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف. وللبخاري من حديث عبيدالله بن عبدالله بن أبي مليكة أن عائشة كانت تقرأ { إذ تلقونه بألسنتكم} وتقول : الولق الكذب. قال ابن أبي مليكة : وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها. قال البخاري : وقال معمر بن راشد عن الزهري : كان حديث الإفك في غزوة المريسيع. قال ابن إسحاق : وذلك سنة ست. وقال موسى بن عقبة : سنة أربع. وأخرج البخاري من حديث معمر عن الزهري قال : قال لي الوليد بن عبدالملك : أبلغك أن عليا كان فيمن قذف؟ قال : قلت لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبدالرحمن وأبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما : كان عليٌّ مُسَلًّما في شأنها. وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر من حديث معمر عن الزهري، وفيه : قال كنت عند الوليد بن عبدالملك فقال : الذي تولى كبره منهم علي بن أبي طالب؟ فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة كلهم يقول سمعت عائشة تقول : والذي تولى كبره عبدالله بن أبي. وأخرج البخاري أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة : والذي تولى كبره منهم عبدالله بن أبي. الثانية: قوله تعالى: قوله { بالإفك} الإفك الكذب. والعصبة ثلاثة رجال؛ قال ابن عباس. وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة. ابن عيينة : أربعون رجلا. مجاهد : من عشرة إلى خمسة عشر. وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض. والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره. والشر ما زاد ضره على نفعه. وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة. وشرا لا خير فيه هو جهنم. فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى. فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان، إذ الخطاب لهم في قوله { لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم} ؛ لرجحان النفع والخير على جانب الشر. الثالثة: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع، وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل فمشت حتى جاوزت الجيش، فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه، فوجدته وانصرفت فلما لم تجد أحدا، وكانت شابة قليلة اللحم، فرفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه؛ فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها، فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل : إنا لله وإنا إليه راجعون؛ وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة. وقيل : إنها استيقظت لاسترجاعه، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة، وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة؛ فوقع أهل الإفك في مقالتهم، وكان الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه ويشعله عبدالله بن أبي بن سلول المنافق، وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل. وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. هذا اختصار الحديث، وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم، وهو في مسلم أكمل. ولما بلغ صفوان قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال : تلق ذباب السيف عني فإنني ** غلام إذا هوجيت ليس بشاعر فأخذ جماعة حسان ولببوه وجاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح حسان واستوهبه إياه. وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر؛ على ما يأتي والله أعلم. وكان صفوان هذا صاحبَ ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة. وقيل : كان حصورا لا يأتي النساء؛ ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة. وقيل : كان له ابنان؛ يدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ابنيه : (لهما أشبه به من الغراب بالغراب). وقوله في الحديث : والله ما كشف كنف أنثى قط؛ يريد بزنى. وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر، وقيل : ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية. الرابعة: قوله { لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم} يعني ممن تكلم بالإفك. ولم يسم من أهل الإفك إلا حسان ومسطح وحمنة وعبدالله؛ وجهل الغير؛ قاله عروة بن الزبير، وقد سأله عن ذلك عبدالملك بن مروان، وقال : إلا أنهم كانوا عصبة؛ كما قال الله تعالى. وفي مصحف حفصة { عصبة أربعة} . الخامسة: قوله { والذي تولى كبره منهم} وقرأ حميد الأعرج ويعقوب { كُبره} بضم الكاف. قال الفراء : وهو وجه جيد؛ لأن العرب تقول : فلان تولى عظم كذا وكذا؛ أي أكبره. روي عن عائشة أنه حسان، وأنها قالت حين عمي : لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره؛ رواه عنها مسروق. وروي عنها أنه عبدالله بن أبي؛ وهو الصحيح، وقال ابن عباس. وحكى أبو عمر بن عبدالبر أن عائشة برأت حسان من الفرية، وقالت : إنه لم يقل شيئا. وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئا من ذلك في قوله : حصان رزان ما تزن بريبة ** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل حليلة خير الناس دينا ومنصبا ** نبي الهدى والمكرمات الفواضل عقيلة حي من لؤي بن غالب ** كرام المساعي مجدها غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها ** وطهرها من كل شين وباطل فإن كان ما بلغت أني قلته ** فلا رفعت سوطي إلي أناملي فكيف وودي ما حييت ونصرتي ** لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس فضلها ** تقاصر عنها سورة المتطاول وقد روي أنه لما أنشدها : حصان رزان؛ قالت له : لست كذلك؛ تريد أنك وقعت في الغوافل. وهذا تعارض، ويمكن الجمع بأن يقال : إن حسانا لم يقل ذلك نصا وتصريحا، ويكون عرض بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه؛ والله أعلم. السادسة: وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا، وهل جلد الحد أم لا؛ فالله أعلم أي ذلك كان فروى محمد بن إسحاق وغيره"" أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة : مسطحا وحسان وحمنة، وذكره الترمذي وذكر القشيري عن ابن عباس قال : جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار. قال القشيري : والذي ثبت في الأخبار أنه ضرب ابن أبي وضرب حسان وحمنة، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح. قال الماوردي وغيره : اختلفوا هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإفك؛ على قولين : أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها؛ كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم. قلت : وهذا فاسد مخالف لنص القرآن؛ فإن الله عز وجل يقول { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} أي على صدق قولهم { فاجلدوهم ثمانين جلدة} . والقول الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم حد أهل الإفك عبدالله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش؛ وفي ذلك قال شاعر من المسلمين : لقد ذاق حسان الذي كان أهله ** وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح وابن سلول ذاق في الحد خزية ** كما خاض في إفك من القول يفصح تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ** وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا وآذوا رسول الله فيها فجلدوا ** مخازي تبقى عمموها وفضحوا فصب عليهم محصدات كأنها ** شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح قلت : المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحد لعبدالله بن أبي. ""روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها"" قالت : لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، وتلا القرآن؛ فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم : حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وفي كتاب الطحاوي { ثمانين ثمانين} . قال علماؤنا. وإنما لم يحد عبدالله بن أبي لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما؛ فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها؛ فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف؛ كما قال الله { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} . وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود (إنها كفارة لمن أقيمت عليه)؛ كما في حديث عبادة بن الصامت. ويحتمل أن يقال : إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه؛ كما في صحيح مسلم. والله أعلم. السابعة: قوله { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا. قال ابن زيد : ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه؛ قال المهدوي. و { لولا} بمعنى هلا. وقيل : المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم؛ فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد. وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته؛ وذلك أنه دخل عليها فقالت له : يا أبا أيوب أسمعت ما قيل فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك قالت : لا والله قال : فعائشة والله أفضل منك؛ قالت أم أيوب نعم. فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم. الثامنة: قوله { بأنفسهم} قال النحاس : معنى { بأنفسهم} بإخوانهم. فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه وتواعد من ترك ذلك ومن نقله. قلت : ولأجل هذا قال العلماء : إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان؛ ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا. التاسعة: قوله { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء} هذا توبيخ لأهل الإفك. و { لولا} بمعنى هلا؛ أي هلا جاؤوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. وهذا رد على الحكم الأول وإحالة على الآية السابقة في آية القذف. العاشرة: قوله { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} أي هم في حكم الله كاذبون. وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب لا في علم الله تعالى؛ وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبني على ذلك حكم الآخرة. قلت : ومما يقوي هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه؛ وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة. وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله عز وجل. الحادية عشرة: قوله { ولولا فضل الله عليكم ورحمته} { فضل} رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا تظهره العرب. وحذف جواب { لولا} لأنه قد ذكر مثله بعد؛ قال الله عز وجل { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم} أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. وهذا عتاب من الله تعالى بليغ، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا والإفاضة : الأخذ في الحديث؛ وهو الذي وقع عليه العتاب؛ يقال : أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه. الثانية عشرة: قوله { إذ تلقَّونه بألسنتكم} قراءة محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف؛ من الإلقاء، وهذه قراءة بينة. وقرأ أبي وابن مسعود { إذ تتلقونه} من التلقي، بتاءين. وقرأ جمهور السبعة بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام؛ وهذا أيضا من التلقي. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الذال في التاء. وقرأ ابن كثير بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء؛ وهذه قراءة قلقة؛ لأنها تقتضي اجتماع ساكنين، وليست كالإدغام في قراءة من قرأ { فلا تناجوا. ولا تنابزوا} لأن دونه الألف الساكنة، وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال. وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنهما - وهم أعلم الناس بهذا الأمر - { إذ تلقَّونه} بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف؛ ومعنى هذه القراءة من قول العرب : ولق الرجل يلق ولقا إذا كذب واستمر عليه؛ فجاؤوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي. قال ابن عطية : وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه؛ فحذف حرف الجر فاتصل الضمير. وقال الخليل وأبو عمرو : أصل الولق الإسراع؛ يقال : جاءت الإبل تلق؛ أي تسرع. قال : لما رأوا جيشا عليهم قد طرق ** جاؤوا بأسراب من الشأم ولق إن الحصين زلق وزملق ** جاءت به عنس من الشأم تلق يقال : رجل زلق وزملق؛ مثال هُدَبِد، وزمالق وزملق (بتشديد الميم) وهو الذي ينزل قبل أن يجامع؛ قال الراجز : إن الحصين زلق وزملق والولق أيضا أخف الطعن. وقد ولقه يلقه ولقا. يقال : ولقه بالسيف ولقات، أي ضربات؛ فهو مشترك. الثالثة عشرة: قوله { وتقولون بأفواهكم ما} مبالغة وإلزام وتأكيد. والضمير في { تحسبونه} عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له. و { هينا} أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم. { وهو عند الله} في الوزر { عظيم} . وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث القبرين : (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) أي بالنسبة إليكم. الرابعة عشرة: قوله { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين، ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم} عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام. وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان؛ وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه. وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة. و { أن} مفعول من أجله، بتقدير : كراهية أن ونحوه. الخامسة عشرة: { إن كنتم مؤمنين} توقيف وتوكيد؛ كما تقول : ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا. السادسة عشرة: قوله { يعظكم الله أن تعودوا لمثله} يعني في عائشة؛ لأن مثله لا يكون إلا نظير القول المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما في ذلك من إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله؛ وذلك كفر من فاعله. السابعة عشرة: قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول : من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل لأن الله تعالى يقول { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين} فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل. قال ابن العربي : قال أصحاب الشافعي من سب عائشة رضي الله عنها أدب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله { إن كنتم مؤمنين} في عائشة لأن ذلك كفر، وإنما هو كما قال عليه السلام : (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه). ولو كان سلب الإيمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله : (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) حقيقة. قلنا : ليس كما زعمتم؛ فإن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر؛ فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر. ولو أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب. الثامنة عشرة: قوله { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة} أي تفشو؛ يقال : شاع الشيء شيوعا وشيعا وشيعانا وشيوعه؛ أي ظهر وتفرق. { في الذين آمنوا} أي في المحصنين والمحصنات. والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان رضي الله عنهما. والفاحشة : الفعل القبيح المفرط القبح. وقيل : الفاحشة في هذه الآية القول السيء. { لهم عذاب أليم في الدنيا} أي الحد. وفي الآخرة عذاب النار؛ أي للمنافقين، فهو مخصوص. وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة. وقال الطبري : معناه إن مات مصرا غير تائب. التاسعة عشرة: قوله { والله يعلم} أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه ويعلم كل شيء. { وأنتم لا تعلمون} روي من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها. وأيما رجل قال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقا وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة. وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله تعالى أن يرميه بها في النار - ثم تلا مصداقه من كتاب الله { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} الآية. الموفية عشرين: قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان} يعني مسالكه ومذاهبه؛ المعنى : لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليها الشيطان. وواحد الخطوات خطوة هو ما بين القدمين. والخطوة بالفتح المصدر؛ يقال : خطوت خطوة، وجمعها خطوات. وتخطى إلينا فلان؛ ومنه الحديث أنه رأى رجلا يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة. وقرأ الجمهور { خطوات} بضم الطاء. وسكنها عاصم والأعمش. وقرأ الجمهور { ما زكى} بتخفيف الكاف؛ أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف رشدا. وقيل { ما زكى} أي ما صلح؛ يقال : زكا يزكو زكاء؛ أي صلح. وشددها الحسن وأبو حيوة؛ أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم. وقال الكسائي { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان} معترض، وقوله { ما زكى منكم من أحد أبدا} جواب لقوله أولا وثانيا { ولولا فضل الله عليكم} . الحادية والعشرون: قوله { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة} الآية. المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة. وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين. وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف. وقيل : اسمه عوف، ومسطح لقب. وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته؛ فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح فاعتذر وقال : إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول. فقال له أبو بكر : لقد ضحكت وشاركت فيما قيل؛ ومر على يمينه، فنزلت الآية. وقال الضحاك وابن عباس : إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا : والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة؛ فنزلت الآية في جميعهم. والأول أصح؛ غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع في هذه صفته غابر الدهر. روي في الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم} العشر آيات، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة؛ فأنزل الله { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة} إلى قوله { ألا تحبون أن يغفر الله لكم} . قال عبدالله بن المبارك : هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى؛ فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي؛ فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : لا أنزعها منه أبدا. الثانية والعشرون: في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال؛ لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان؛ وكذلك سائر الكبائر؛ ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال الله { لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65]. الثالثة والعشرون: من حلف على شيء لا يفعله فرأى فعله أولى منه أتاه وكفر عن يمينه، أو كفر عن يمينه وأتاه؛ كما تقدم في .المائدة . ورأى الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبّد ذلك أنها جُرحة في شهادته؛ ذكره الباجي في المنتقى. الرابعة والعشرون: قوله { ولا يأتل أولوا الفضل} { ولا يأتل} معناه يحلف؛ وزنها يفتعل، من الألية وهي اليمين؛ ومنه قوله { للذين يؤلون من نسائهم} وقد تقدم في -البقرة -. وقالت فرقة : معناه يقصر؛ من قولك : ألوت في كذا إذا قصرت فيه؛ ومنه قوله { لا يألونكم خبالا} [آل عمران: 118]. الخامسة والعشرون: قوله { ألا تحبون أن يغفر الله لكم} تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم؛ وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام : (من لا يرحم لا يرحم). السادسة والعشرون: قال بعض العلماء : هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ. وقيل. أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا} [الأحزاب: 47] . وقد قال تعالى في آية أخرى { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير} [الشورى: 22]؛ فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك. ومن آيات الرجاء قوله { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} [الزمر: 53] وقوله { الله لطيف بعباده} [الشورى :19]. وقال بعضهم : أرجى آية في كتاب الله عز وجل { ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5]؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار. السابعة والعشرون: قوله { أن تؤتوا} أي ألا يؤتوا، فحذف { لا} ؛ كقول القائل : فقلت يمين الله أبرح قاعدا ذكره الزجاج. وعلى قول أبي عبيدة لا حاجة إلى إضمار { لا} . { وليعفو} من عفا الربع أي درس فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع.
رد مع اقتباس