عرض مشاركة واحدة
  #29  
قديم 2013-06-10, 12:42 AM
نمر نمر غير متواجد حالياً
عضو متميز بمنتدى أنصار السنة
 
تاريخ التسجيل: 2013-02-26
المكان: بلاد الاسلام بلادي
المشاركات: 1,255
افتراضي

[إثبات علم الله تعالى، وتقديره الأقدار، وضربه الآجال]



وقوله: (خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، ولم يخف عليه شيءٍ قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم)
خلق الخلق عالما بهم، والخلق يستلزم العلم: (( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ))[الملك:14] فالله علم أحوال الخلق وأعمالهم بعلمه القديم، والإيمان بذلك هو أحد مراتب الإيمان بالقدر.


وفيه إثبات العلم لله، والأدلة على إثبات العلم لله كثيرة في الكتاب والسنة، وهو من الصفات الثابتة بالعقل والسمع، فالله تعالى اسمه العليم، وأخبر بأنه بكل شيءٍ عليم، يعلم ما كان وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف يكون، يعلم الدقيق والجليل، والله تعالى قد فصّل ذلك في كتابه ((وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ))، (( إن الله عليمٌ بذات الصدور ))، (( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ))[الأنعام:59](( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ))[الطلاق:12].


علمه تعالى محيطٌ بالأشياء، أحاط علمه بأعمال العباد، وأقوالهم، وأحوالهم، يعلم الخواطر التي ترد على النفوس، ويعلم ما في قلوب العباد: الملائكة، والأنبياء، وكل الناس يعلم ما في قلوبهم من أفكار، وخواطر، (( يعلم خائنة الأعين )) اللحظة التي يرسلها الإنسان خُفية ما يدري عنها أحد، الله يعلمها (( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور )).


يعلم دقائق الأشياء:(( إنها إن تك مثقال حبةٍ من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأتي بها الله ))، (( وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتابٍ مبين )).


والله تعالى من أسمائه العليم، وعلام الغيوب، وعالم الغيب والشهادة.


والعلم من صفاته تعالى، ومن أهل البدع من ينكر هذا !


فالجهمية ينفون عن الله أسماءَه وصفاتِه ويقولون: هذه الأسماء إضافتها إلى الله مجاز، وإلا فهي أسماء لبعض المخلوقات.



والمعتزلة ينفون الصفات، ويقولون : اسمه عليم لكنه بلا علم، فليس العلم صفةً قائمة به، وقدير بلا قدرة، وسميع بصير بلا سمع ولا بصر! كذا حكى أهل العلم عنهم [التمهيد 7/145، والتدمرية ص92، ومجموع الفتاوى3/335، والنبوات 1/577].



وأما الحق الذي دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله r ، ودل عليه العقل، وأجمع عليه سلف الأمة، والذين اتّبعوهم بإحسان فهو أنه عليم بعلم، وأن العلم صفته سبحانه وتعالى، وجاء ذكر العلم في القرآن، قال تعالى: ((أنزله بعلمه)) (( ولا يحيطون بشيءٍ من علمه ))، وفي السُنّة، قال النبي r: « اللهم إني أستخيرك بعلمك » [رواه البخاري (1162) من حديث جابر t]



وهذا تصريح بلفظ العلم، ولو لم ترد هذه النصوص لكان ذكر الإسم كافيا في الدلالة على إثبات الصفة.


وعلمه تعالى أزلي لا يتجدد ـ بمعنى ـ أنه يصير عالماً بعد أن لم يكن، ويعلم الشيء بعد أن لم يكن عالما به! فهذا نقص، والله منزه عنه، كما تقدم [ص] في التنبيه على دوام كماله (ما زال في صفاته قديما قبل خلقه).


فنقول: ما زال بكل شيءٍ عليما، وعلمه تعالى مطابق للواقع؛ لأن ما لم يطابق الواقع جهل.


وأما ما جاء في القرآن مما قد يفهم منه تجدد العلم، كقوله تعالى (( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ))[البقرة:143] وقوله تعالى: (( أفحسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله ))، وقوله تعالى:(( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا ))، فالمراد به علمه تعالى بالشيء موجوداً.


ولهذا بعضهم يعبّر عنه بـ(علم الظهور، أوعلم الوجود).


فالله تعالى قبل أن يخلق الخلق يعلم أحوالهم، وصفاتهم، ومن يطيعه، ومن يعصيه، لكن هل يعلمهم موجودين ؟ لا؛ بل يعلم أن ذلك الشيء سيكون، فإذا وجد علمه موجوداً.


فهو تعالى يعلم من يجاهد، ومن لا يجاهد، ومن يصبر، ومن لا يصبر، ويعلم من يقبل تشريعه في أمر القبلة، ومن لا يقبل، ومن يتبع الرسول، ومن لا يتبع الرسول... إلخ


يعلم أنه سيكون وهم غير موجودين، فإذا وجدوا علمهم موجودين، والثواب والعقاب مرتبٌ على ما يوجد بالفعل، هذا مقتضى عدله وحكمته.
فالله لا يجزي العباد بموجب علمه قبل خلقهم؛ بل يجزيهم على ما وقع منهم بالفعل.


والله تعالى يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون، وشاهد هذا في القرآن قوله تعالى: (( ولو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه )) [الأنعام:28]، وقد حكم الله بأنهم لا يُردّون (( وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ))[الأنبياء:95]


وكما دل السمع على إثبات صفة العلم؛ دل العقل عليها، وبيان ذلك: أن إيجاد المخلوقات وإحكام هذا الخلق العظيم الواسع لابد أن يكون عن علم يقوم بالرب تعالى، ولا يتصور أن يكون بلا علم تعالى الله عمَّا يقول الجاهلون علوا كبيرا.


ومن الطرق العقلية ـ أيضا ـ أن العلم يوصف به المخلوق على يليق به، وهو صفة كمال، فلو لم يتصف الخالق سبحانه بالعلم لزم أن يكون المخلوق أكمل من الخالق؛ وهذا ممتنع بداهةً.


وقوله: (وقدّر لهم أقدارا) قال تعالى: (( وخلق كل شيءٍ فقدره تقديراً )) (( إنا كل شيءٍ خلقناه بقدر )).


وجاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي r قال: (قدّر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة). [رواه أحمد2/169ـ والفظ له ـ ، ومسلم (2653)، والترمذي (2156)، وابن حبان (6138) وصححاه، وعند مسلم: «كتب»]


مقادير تكون من جهة الزمان، والمكان، والذات، فكل إنسان قدر الله له زمنا (( وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ))[الحج:5] يعني مقدار لُبْث الجنين في الرحم مقدّر، هذا ستة أشهر، وذا تسعة، وذا عشرة، وذا أكثر.
وعملهم مقدّر، ورزقهم مقدّر، وقدّر جميع الأشياء.


وقوله r (قدّر الله المقادير) كلمة قصيرة لكن مفهومها واسع جدا، لا نحيط به ولا نتصوره لكن نفهمه إجمالا.


وقوله: (وضرب لهم آجالا)


وعطف هذه الجملة على التي قبلها من عطف الخاص على العام، (ضرب لهم آجالا) حدد للخلق أجالا، والأجل: يطلق على نهاية المدة المقدرة، أو على نفس المدة المقدرة كلها، فالدنيا لها أجل، ينتهي بيوم القيامة (( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ))[الأنعام:2].


والأمم لها آجال (( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ))[يونس:49] كل أمة لها أجل ثم تنتهي كيف شاء الله، وفي تاريخ المسلمين، الدولة الأموية لها تاريخ وانتهت، ثم الدولة العباسية وانتهت، وهكذا غيرها.


وكذلك آجال مختصة بكل فرد مثل ما جاء في حديث ابن مسعود t عن النبي r: (فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله) [رواه البخاري (3208)، ومسلم (2643)]، قال تعالى: (( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ))[آل عمران:145].
إذًا؛ بأي شيء يموت الإنسان ؟

هو ميت بأجله، وفي الوقت المحدود (( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ))[آل عمران:145] فالمقتول ميت بأجله هذا عند أهل السُنّة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يقولون: إن المقتول قد قطع القاتل عليه أجله، فيمكن أنه سيعيش مائة سنة لكن اعتدى عليه القاتل فقتله وهو ابن عشرين سنة فضيّع عليه القاتل ثمانين سنة! [مجموع الفتاوى 8/516]


نعوذ بالله من الجهالة، والضلالة؛ بل المقتول ميت بأجله، والآجال جعل الله لانقضائها أسبابا؛ فمن الناس من يموت بأسباب سماوية لا دخل لأحدٍ من الناس فيها، ومنها ماله تسببٌ من الناس؛ مثل المقتول، وكلٌ في كتابٍ مبين، معلوم لرب العالمين، (( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ))[فاطر:11].


فالآجال، والأعمار كلها مقدرة، ودلت النصوص على أن لطول العمر وقصره أسبابا كونية، و شرعية، فمن الأسباب الشرعية: صلة الرحم، وبر الوالدين، ففي الصحيحين عن النبي r: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) [البخاري (5986)، ومسلم (2557) من حديث أنس t] و في الحديث الآخر قال النبي r: (ولا يزيد في العمر إلا البر) [أحمد5/277، وابن ماجه (90) ، وصححه ابن حبان (872) والحاكم1/493، وحسنه العراقي فيما نقله البوصيري في مصباح الزجاجة (33) من حديث ثوبان t] والتحقيق أنه لا ينافي القدر، فليس معناه أن هذا سبق في علم الله وكتابه أن عمره ستون سنة، ثم يحدث أنه يبر بوالديه فيزاد في عمره، لا؛ بل هذا الذي وصَل رحمه، ومَد الله في عمره جزاءً له؛ قد سبق في علم الله وفي كتابه أنه يطول عمره بهذا السبب، وكل الأمور جارية على الأسباب والمسببات، ومندرجة في قدر الله التام.

ويقال مثل هذا في الدعاء، وبعضُ أهل البدع يقول: الدعاء لا فائدة منه؛ فإن كان الله قدَّر هذا المطلوب فلا حاجة للدعاء، فهو حاصل دعوت أو لم تدع، وإن كان غير مقدر فلا فائدة في الدعاء؛ لأنه لن يحدث!

وهذا فهم باطل مبني على عدم تأثير الأسباب في مسبَبَاتها، ويلزمهم أن يقولوا مثل هذا في كل الأسباب.

وما قدر الله حصوله في هذا الدعاء قد يُقدِّر سببه، وقد لا يقدر، فما لم يقدر سببه لا يحصل بالدعاء، وما قدر سببه يحصل السبب، والمسبَبَ.

فتارة يقدر الله السبب، ولم يقدر المسبَب.

وتارة يقدر هذا الأمر بدون هذا السبب.

وتارة يكون المقدّر السبب، والمسبَب، وهذا موضوع معناه واسع جدا، فالرزق للإنسان يحصل بسبب الطلب والكدح، و أحيانا يحصل بدون سعي ولا جهد.[مجموع الفتاوى 8/192و14/143]


وهذا كله يرجع إلى الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان، والمؤلف لما قال : (خلق الخلق بعلمه، وقدّر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا) يريد تقرير الأصل السادس، وإن كان سيُثنّي ويردد الكلام في القدر.


ثم أكد المصنف قوله: (خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا) بقوله: (لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم) أكده بالنفي، فالأول إثبات، والثاني سلب.


ثم قال: (وعلم ما هم عاملون) وهذا أيضا تأكيد، لكن الجملة الأولى عامّة.

(علم ما هم عاملون) سبق علمه بأعمالهم: المؤمن، والكافر، والمطيع، والعاصي قبل أن يخلقهم، وكتب ذلك وقضاه وقدّره في أم الكتاب.
وفي التقدير الثاني: قال النبي r: (فيؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه، وأجله، وعمله ) [تقدم تخرجه في ص]





[وجوب الإيمان بالشرع والقدر]
رد مع اقتباس