[ايوب نصر]

(4)

ان ركوب هذا البحر ، اي بحر الدفاع عن الامة و لغتها و دينها و قيمها و ارث اجدادها ، لا يتفق لاي كان ان يركبه ، فهو بحر وعر و خضم هائل هائج ، متلاطمة امواجه ، و قد قلت هذا لما وقفت عليه من بعض الكتابات ، و التي اغلبها ليس فيه الا السخرية و الاستهزاء ، و احسنها حالا تعرض لبيان فضل العربية ، و لكن طريق الدفاع عنها ليس هنالك ، و لا يكون بتلكم الاساليب .

كنت قد قلت لك في نهاية المقالة الثالثة : " و حتى مسألة الزيادة في ساعات تدريس الانجليزية او اي لغة اخرى استعمارية ، و تغليبها على العربية لا يجب السماح به ، و لا يقبله اي رجل شريف محب لهذا البلد مدافع عن امنه و استقراره . " ، و لعلك تسأل نفسك و تسألني عن السبب ، الذي دفعني لاقول هذا الكلام ، و ما علاقة زيادة ساعات تدريس الانجليزية او غيرها من اللغات بامن البلد و استقراره ، و انا اقول لك لاجل هذا انشأت هذه المقالات ، و لاجل هذا ايضا قامت هذه الدعوات ، فتحملني قليلا ، و اصبر علي و على ما اخطه لك ، و لا تقرا بعجل و انما اقرا بتمعن و اعنات الروية .

ان اعراضنا عن لغتنا الشريفة ، و اعطاء الاهتمام الزائد باي لغة هجينة قبيحة ، انما هو الذل عينه ، و الانحطاط نفسه ، لان الشعوب تقوم بلغتها لا بغيرها ، و لهذا فاي اهتمام مفرط باي لغة اخرى غير العربية الشريفة سيجعلنا تبعا لذلك الشعب الذي افرطنا في الاهتمام بلغته على قصورها و ضعفها ، و اذا كنتم ترضون لنا و لانفسكم الذل و المهانة ، فنحن لا نرضاه لا لنا و لكم ، و انما نرغب في رفعه صيانة للامة و حفاظا على استقرارها و رغبة في عزها، فلو اتقن الشعب باكمله الانجليزية اتقانا جيدا حتى جرت منه مجرى الدم ، فلن يتقدم على المستوى العلمي ، و لو "و طارت معزة " كما يقولون في المثل العامي

و انه بيننا الالاف من اساتذة الفيزياء و الكيمياء و الطبيعيات ، و هم يتقنون الانجليزية و غيرها من اللغات ، و لكن لو اردنا نهضة علمية و طلبنا من هذه الجامعات العربية و المغربية ان تمدنا بخمسة علماء في كل علم من هذه العلوم قادرين على تقديم شيء جديد للعلم يساعد الامة على نهضتها و تطورها ، فلن نجد ، فاغلبهم زائد على هذه العلوم ، و ان كانوا درسوا في اوربة و امريكة .

كنت يوما اذاكر حبيبا ، و انتقل بنا الكلام الى عهد البعثات العلمية التي ارسلت ، في عهد محمد علي و بعده ، الى اوربة ، فقال لي الم تلاحظ امرا في تلك البعثات ، و هو انها كانت موجهة فقط للتخصصات الادبية او ما يسمى اليوم بالعلوم الانسانية ، و انه لم يكن منها من اتجه لدراسة الفيزياء و الكيمياء و الطبيعيات ، فانظر يا صاحبي و اعتبر .
و حتى البعثات الان التي تذهب لاوربة و امريكة ، لاجل الدراسات العلمية ، و مع اتقانها لتلك اللغات الاجنبية ، فانها ترجع و ليس لها القدرة الا على تقليد و تكرار ما تلقنته ، و لا تستطيع تقديم شيء للعلم يكون نهضة لهذه الامة و لن تستطيع .

و الدعوة الى تشويه الفصحى و الاعراض عنها و خلطها بالعامية ، و الافراط في الاهتمام باللغات الاجنبية ، انما الهدف منها جعل حاجز بين الاجيال الجديدة و بين تراثها ، لانهم يعرفون ان السبيل الوحيد لنهضتنا هو ان نرتبط بتراثنا و ننظر في مناهجه ، و انت ترى و بعد قرن من الزمان من ارتباطنا بالافرنج لم نقدم شيئا و لم نتقدم خطوة ، و كل تقدم انما هو تقدم نتوهمه لا يوجد منه شيء على الحقيقة .

و هذا ليس كلامي ، و انما كلامهم هم ، و ساقدم لك الدليل بخط ايديهم ، فقد قام احد المستشرقين و هو " كريستوف لوكسنبيرغ " سنة 2000 بكتابة نظرية جديدة لقراءة القران الكريم ، و قد انعقد لهذه النظرية في سنة 2005 مؤتمر حشذ له جحافل المستشرقين ، لاجل النظر في هذه النظرية و تطويرها ، و اجريت ابحاث لاجلها ، كانت كلها تهدف الى ابعاد القران عن العربي, ( تامل ) و جعله سريانيا ، و هذا ما يجيدون اليه سبيلا ، و قد نتج عن هذا المؤتمر كتاب تضمن تلك الدراسات ، و قد جاء في مقدمته ، التي نسجها دانيال ماديغال : ( ... انها تعكس تبصرا في ان ظاهرة التفجير الاسلامي الحديثة تضرب جذورها مع قراءة خاصة للقران ( اي قراة المسلمين له ) و ان طريقة التعامل مع الازمة الجارية في العلاقات مع المسلمين هي ببساطة ان تكذب قراءة كهذه ( اي و تاتيهم بقراءة جديدة او تجعلهم لا يفهمون لغة القران ) ، ان القران في الفكر الشعبي قنبلة مؤقتة تحتاج الى نزع الفتيل " ، قلت : و ما نزع فتيل القران الا باتخاذ الاسباب الضرورية لجعل القران غريبا على المسلمين ، و ما ذلك الا بامرين انكار السنة ، و جعل العربية لغة غريبة عليهم ، فتبقى مدفونة في الكتب ، فيصبح حال القران بعدها كحال الانجيل ، لا يفهمه احد من معتنقي المسيحية ، حتى تتم ترجمته ترجمة مشوهة محرفة و قد كان .

ارايت يا صاحبي كيف ان هذه الدعوة انما هي دعوة ممنهجة مخطط لها ، الهدف منها فصل المسلمين عن تراثهم العلمي و الادبي و الديني ، و جعلهم تبع لكل مستعمر ، و رحم الله العلامة الامام عبد الله كنون حين فطن لهذا الامر و اشار اليه في رسالته التي ارسلها الى مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، فقال " فثم شعوب كثيرة لم يكن لها وجود متميز على الخارطة الجغرافية في مختلف القارات، لأنها كانت مندمجة في غيرها، أو كانت على جانب من التخلف لا تشعر به، فلما استقلت بأمرها أو مسها عامل التحول الحضاري بحكم تقارب الأبعاد وما ينشأ عنه من اتصال الأفراد والجماعات واحتكاك بعضهم ببعض، بدأت في حفر الجذور واستنطاق الأحجار، وصنع مشجرات الأنساب، وإقامة متاحف الآثار وأصبحنا نسمع عن مأثوراتها الشعبية، وفنونها الحضارية، ما لم يكن معروفا من قبل. "
فتركنا لترثنا و اعراضنا عنه ، يعني ان ظهرنا اصبح مكشوفا للاعداء ، فيسهل عليهم تفرقتنا و جعلنا دويلات و مماليك صغيرة ، لا تجد قوة و لا قدرة .

فاعلم ايها العربي المسلم علما يقينيا لا يخالطه شك و لا تتلبس به شبهة ، ان الدفاع عن امن بلد و استقراره ، لا يتفق فقط بتجهيز الجيش ، و انما يجب ان يكون مع هذا تجهيز الفكر ليكون مستعدا لتصدي لهذه الدعوات الهدامة ، فالجيوش الافرنجية ، لن تهاجمك و لن تعمل على تفتيت بلد و تشتيه و تمزيقه ، الا اذا مزقتك فكريا .

كتب: الاربعاء 2 محرم 1440 ( 12/09/2018)