عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 2009-07-08, 11:55 PM
مسدد مسدد غير متواجد حالياً
محاور
 
تاريخ التسجيل: 2008-06-24
المشاركات: 191
افتراضي

مشاهد من حوارات أبينا إبراهيم:

وصف الله نبيه إبراهيم عليه السلام بأنه كان أمة، أمة وحده: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" النحل :120
"شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" النحل : 121 وإن المشاهد التي حكاها القرآن من سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلام تفيض بالعظمة. وهذا زاد للدعاة إلى الله، إلى جانب الاستمتاع بالقصة من خلال سرد المشهد: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" يوسف : 108
المشهد الأول: حواره مع أبيه "حوار خاص":
ولد سيدنا إبراهيم عليه السلام في مملكة بابل (جزء من العراق حالياً) فوجد أباه أو عمه حسب الروايات واسمه آزر يصنع الأصنام ليعبدها الناس.
بين حجارة الحضارة، والقلوب المتحجرة نشأ رسولنا إبراهيم عليه السلام وبعد نظر طويل في عالم الأصنام وتفكير في صياغة الحوار مع الأب والصانع، دار هذا الحوار: "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا* يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا* يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا* يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا* قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا* قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا" 41 - 47 (مريم).
من الحوار الذي سجله القرآن الكريم نلتقط هذه المعاني:
 لقد هيمن الأدب، وهيمنت العاطفة الفطرية، على لغة التخاطب بين إبراهيم عليه السلام وأبيه "يّا أّبّتٌ".
 إرجاع الكفر والشرك إلى مصدره الأصلي: الشيطان، وليس إلى النفس البشرية المفطورة على التوحيد.
التعبير بـ "جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ " يفيد التواضع، وأن العلم يُكتسب، وبالمقارنة مع قول قارون: "إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ" علم عندي (القصص:78) فيتضح الفارق بين التواضع والغرور.
 إظهار الشفقة على مصير الأب الكافر، وأن الهدف من دعوته، إنقاذه من العذاب "إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن".
قد يحتد الأب إذا كانت دعوة الهداية آتية إليه من الابن، على تصور من بعض الآباء أن الصغار مشكوك في صلاحيتهم لهداية الكبار!! وهنا يجب الفراق بهدوء "قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا" ويتبع ذلك اعتزال أهل الملة الباطلة جميعهم "وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا" 48- 47 (مريم).
المشهد الثاني: حوار مع أبيه وقومه "حوار عام":
إذا كان أهل الضلال في اجتماع عام، هنا يغلب على الحوار طابع المناظرة، فتختلف هنا اللغة عن لغة الحوار الخاص، إذ يجب أن تحسم المسائل المطروحة للحوار لأن المواجهة هنا تكون مع الرأي العام، وليس مع شخص قد يكون للخصومة الشخصية تأثير فيها.
لنتابع هذا الحوار: "وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ* قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ* قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ* قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ* وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ* فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ* قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ* قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ* قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ* قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ* قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ* فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ* قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ* قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ* قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ* وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ* وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء من 51 - 71).
من هذا المشهد نلتقط تلك المعاني:
 الرشد المبكر نعمة من الله، فإذا وظف الرشد في الخير كانت نعمتان.
 بدء الحوار بالسؤال يعطي المسؤول الفرصة حتى يعبر عما في نفسه .. ولا يبدأ الداعية بالهجوم قبل أن يعرف ما عند الطرف الآخر.
 في هذا المشهد يقف والد إبراهيم مع القوم فيكون حديث سيدنا إبراهيم عاماً، بخلاف الحديث الخاص بين سيدنا إبراهيم وأبيه .. كان الحديث الخاص يتميز بالعاطفة، أما الحديث هنا فيتميز بالمنطق، والمنطق جاف.
 في أثناء الحوار والمناظرة تتكشف للمحاور أمور تعينه على إدراك حقائق، وهذا الإدراك يعينه على توجيه الحوار وإصدار القرار.. مثل التبعية للآباء في الضلال، بل الزيادة على موروث الآباء: "مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ" لقد تحول الجيل اللاحق إلى عاكف، وقد كان الجيل السابق مجرد عابد.
 لابد من تسفيه الباطل في الخطاب الإعلامي الدعوي، إذا كان الموضوع متعلقاً بالحق وما يقابله: "قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" هكذا صراحة ودون مواربة، وقد نزل الوحي على سيدنا محمد بالأمر الإلهي: "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ* وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ* وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" (الكافرون 1-6)، إنها مسألة لا فصال فيها ولا جدال.
 الاستدلال على عظمة الله سبحانه بملكية السموات والأرض، لأن أهل الباطل، خاصة الطواغيت قد يمتلكون أرضاً واسعة، أو ذهباً أو غير ذلك مما يفرضون به سلطانهم على الفقراء وأصحاب الحاجات .. أما ملكية السموات والأرض وما بينهما فليست إلا لله، وبإعلان هذه الملكية تنقطع المحاولات والمماحكات التي يلجأ إليها الطواغيت الكفار والمشركون لتعبيد الناس لهم!.
 أقسم سيدنا إبراهيم ليكيدن الأصنام! وهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا لم يتخذ القوم إجراءات أمنية لحماية الأصنام؟ والظن الراجح أن القوم كانوا يعتقدون في معبوداتهم أنها تحمي نفسها!! وأن هذا الفتى إبراهيم هو الخصم الوحيد لهم ولمعبوداتهم، فماذا عساه يصنع بمملكة الأصنام؟!.
 نفذ سيدنا إبراهيم عليه السلام خطته فحطم الأصنام، ووضع أداة التكسير على كتف الصنم الكبير.. ثم قال لهم حين استجوبوه "بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ" فتحول القوم من محاورته إلى محاورة بعضهم لبعض، "فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ"، وبدأت حركة إفاقة ولكنها انقطعت فلم تمض في الطريق الموصلة إلى معرفة الحقيقة وهي التي وصفها القرآن بأنها انتكاسة " ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ"، تلك الانتكاسة فتحت الباب واسعاً أمام سيدنا إبراهيم ليرفع صوته عالياً: "أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ".
إن منطق داعية الحق قوي، ولسانه فصيح، ورغم أنه الوحيد المؤمن ولا يستند إلا لقوة الغيب غير المشاهد للطاغوت وللمجتمع المنحرف، إلا أنه فصيح لا يتلجلج وهو يواجه ويتأفف من معبودات المملكة كلها.
رد مع اقتباس