أنصار السنة  
جديد المواضيع



للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب
 محاسب قانوني   Online quran classes for kids 
منتدى السنة | الأذكار | زاد المتقين | منتديات الجامع | منتديات شباب الأمة | زد معرفة | طريق النجاح | طبيبة الأسرة | معلوماتي | وادي العرب | حياتها | فور شباب | جوابى | بنك أوف تك


العودة   أنصار السنة > قسم إحياء السنة النبوية > السنة ومصطلح الحديث

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
  #21  
قديم 2011-04-01, 06:00 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي







منهج أبو عبد الله الحاكم :


قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (1\97): «إن أهل العلم متفقون على أن الحاكم فيه من التساهل والتسامح في باب التصحيح. حتى أن تصحيحه دون تصحيح الترمذي والدارقطني وأمثالهما (وهما من المتساهلين) بلا نزاع. فكيف بتصحيح البخاري ومسلم؟ بل تصحيحه دون تصحيح أبي بكر بن خزيمة وأبي حاتم بن حبان البستي وأمثالهما (وهما من أشد المتساهلين من المتقدمين نسبيا). بل تصحيح الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مُختارته، خيرٌ من تصحيح الحاكم. فكتابه في هذا الباب خيرٌ من كتاب الحاكم بلا ريب عند من يعرف الحديث. وتحسين الترمذي أحياناً (رغم تساهله الشديد) يكون مثل تصحيحه أو أرجح. وكثيراً ما يُصَحِّحِ الحاكمُ أحاديثَ يُجْزَمُ بأنها موضوعة لا أصل لها».


وقال ابن القيم في "الفروسية" (ص245): «وأما تصحيح الحاكم فكما قال القائل:‏

فأصبحتُ من ليلى –الغداةَ– كقابضٍ * على الماء خانته فروجُ الأصابع‏

‏ولا يعبأ الحفاظ أطِبّاء عِلَل الحديث بتصحيح الحاكم شيئاً، ولا يرفعون به رأساً البَتّة. بل لا يعدِلُ تصحيحه ولا ‏يدلّ على حُسنِ الحديث. بل يصحّح أشياء موضوعة بلا شك عند أهل العلم بالحديث. وإن كان من لا علم له ‏بالحديث لا يعرف ذلك، فليس بمعيارٍ على سنة رسول الله، ولا يعبأ أهل الحديث به شيئاً. والحاكم نفسه يصحّح ‏أحاديثَ جماعةٍ، وقد أخبر في كتاب "المدخل" له أن لا يحتج بهم، وأطلق الكذب على بعضهم هذا». انتهى.‏



غفلة الحاكم

قال الذهبي عن الحاكم في "ميزان الاعتدال" (6\216): «إمامٌ صدوق، لكنه يصحّح في مُستدرَكِهِ أحاديثَ ‏ساقطة، ويُكثِرُ من ذلك. فما أدري، هل خفِيَت عليه؟ فما هو ممّن يَجهل ذلك. وإن عَلِمَ، فهذه خيانةٌ عظيمة. ثُم ‏هو شيعيٌّ مشهورٌ بذلك، من غير تَعَرّضٍ للشيخين...».‏


وذكر ذلك ابن حجر في لسان الميزان (5\232) ثم قال: «قيل في الاعتذار عنه: أنه عند تصنيفه للمُستدرَك، كان ‏في أواخِر عمره. وذَكر بعضهم أنه حصل له تغيّر وغفلة في آخر عمره. ويدلّ على ذلك أنه ذَكر جماعةً في كتاب ‏‏"الضعفاء" له، وقطع بترك الرواية عنهم، ومنع من الاحتجاج بهم. ثم أخرج أحاديث بعضهم في "مستدركه"، ‏وصحّحها! من ذلك أنه: أخرج حديثا لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وكان قد ذكره في الضعفاء فقال أنه: "روى ‏عن أبيه أحاديث موضوعة، لا تخفى على من تأملها –من أهل الصنعة– أن الحِملَ فيها عليه". وقال في آخر ‏الكتاب: "فهؤلاء الذين ذكرتهم في هذا الكتاب، ثبَتَ عندي صِدقهُم لأنني لا أستحلّ الجّرحَ إلا مبيّناً، ولا أُجيزُه ‏تقليداً. والذي أختارُ لطالبِ العِلمِ أن لا يَكتُبَ حديثَ هؤلاءِ أصلاً"!!».‏


قلت: و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيفٌ جداً، حتى قال عنه ابن الجوزي: «أجمعوا على ضعفه». وقد روى له ‏الحاكم عن أبيه! وكذلك كان يصحّح في مستدركه أحاديثاً كان قد حكم عليها بالضعف من قبل. قال إبراهيم بن ‏محمد الأرموي: «جمع الحاكم أحاديث وزعم أنها صِحاحُ على شرط البخاري ومسلم، منها: حديث الطير و "من ‏كنت مولاه فعلي مولاه". فأنكرها عليه أصحاب الحديث، فلم يلتفتوا إلى قوله». ثم ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ ‏‏(3\1042) أن الحاكم سُئِل عن حديث الطير فقال: «لا يصح. ولو صَحّ لما كان أحد أفضل من علي بعد النبي r‎‏». قال الذهبي: «ثم تغيّر رأي الحاكم، وأخرج حديث الطير في "مُستدركه". ولا ريب أن في "المستدرَك" ‏أحاديث كثيرة ليست على شرط الصحة. بل فيه أحاديث موضوعة شَانَ "المستدرك" بإخراجها فيه». قلت: ولا ‏نعلم إن وصل التشيع بالحاكم لتفضيل علي على سائر الصحابة بعد تصحيحه لحديث الطير.‏


لكن التخليط الأوضح من ذلك هو الأحاديث الكثيرة التي نفى وجودها في "الصحيحين" أو في أحدهما، وهي منهما ‏أو في أحدهما. وقد بلغت في "المستدرك" قدراً كبيراً. وهذه غفلةٌ شديدة. بل تجده في الحديث الواحد يذكر تخريج ‏صاحب الصحيح له، ثم ينفي ذلك في موضعٍ آخر من نفس الكتاب. ومثاله ما قال في حديث ابن الشخير مرفوعاً ‏‏"يقول ابن آدم مالي مالي...". قال الحاكم: المستدرك على الصحيحين (2\582): «مسلم قد أخرجه من حديث ‏شعبة عن قتادة مختصَراً». قلت: بل أخرجه بتمامه #2958 من حديث همام عن قتادة. ثم أورده الحاكم بنفس ‏اللفظ في موضعٍ آخر (4\358)، وقال: «هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد، ولم يُخرِجاه».‏


على أية هذا فلا يعني هذا حصول تحريف في إسنادٍ أو متنٍ، لأن رواية الحاكم كانت من أصوله المكتوبة لا من ‏حفظه. وإنما شاخ وجاوز الثمانين فأصابته غفلة، فسبب هذا الخلل في أحكامه على الحديث. عدا أن غالب ‏‏"المستدرك" هو مسودة مات الحاكم قبل أن يكمله. مع النتبه إلى أن الحاكم كان أصلاً متساهلاً في كل حياته، ‏فكيف بعد أن أصابته الغفلة ولم يحرّر مسودته؟


قال المعلمي في التنكيل (2\472): «هذا وذِكْرُهُم للحاكم بالتساهل، إنما ‏يخصّونه بالمستدرك. فكتبه في الجرح والتعديل لم يغمزه أحدٌ بشيءٍ مما فيها، فيما أعلم. ‏وبهذا يتبين أن التشبّث بما وقع له في المستدرك وبكلامهم فيه لأجله، إن كان لا يجاب ‏التروي في أحكامه التي في المستدرك فهو وجيه. وإن كان للقدح في روايته أو في أحكامه ‏في غير المستدرك في الجرح والتعديل ونحوه، فلا وجه لذلك. بل حاله في ذلك كحال غيره ‏من الأئمة العارفين: إن وقع له خطأ فهو نادرٌ كما يقع لغيره. والحكم في ذلك بإطراح ما ‏قام الدليل على أنه أخطأ فيه وقبول ما عداه، والله الموفق».‏


فالخلاصة أننا نصحح ضبط الحاكم للأسانيد، ولكننا نرفض أحكامه على الأحاديث في "المستدرك" كليّةً، ونعتبِرُ ‏بغيرها خارج "المستدرك" دون الاحتجاج بتصحيحه.‏


تشيع الحاكم

قال الخطيب البغدادي : «كان ابن البيع (الحاكم) يميل إلى التشيع». وقال محمد بن طاهر المقدسي: «قال الحاكم: "حديث الطير لم يخرج في الصحيح و هو صحيح". بل هو موضوع لا يُروى إلا عن سقاط أهل الكوفة من المجاهيل، عن أنس. فإن كان الحاكم لا يعرف هذا فهو جاهل. و إلا فهو معاند كذاب».

و لا بد من الإشارة هنا إلى أن أبا عبد الله الحاكم كان فارسياً نشأ في بلاد الفرس أيضاً في بيئة متشيعة. قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (17|168): «وكان يميل إلى التشيع». وقال أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي عن أبي عبد الله الحاكم: «ثقةٌ في الحديث، رافضيٌّ خبيث». وقال عنه ابن طاهر: «كان شديد التعصب للشيعة في الباطن. وكان يظهر التسنن في التقديم والخلافة. وكان منحرفاً غالياً عن معاوية t وعن أهل بيته. يتظاهر بذلك ولا يعتذر منه. فسمعت أبا الفتح سمكويه بهراة سمعت عبد الواحد المليحي سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: دخلت على الحاكم وهو في داره لا يمكنه الخروج إلى المسجد من أصحاب أبي عبد الله بن كرام. وذلك أنهم كسروا منبره ومنعوه من الخروج. فقلت له: لو خرجت وأمليت في فضائل هذا الرجل حديثاً، لاسترحت من المحنة. فقال: لا يجيء من قلبي... لا يجيء من قلبي!».

إذاً فهو لم يضعّف الحديث لكن قلبه لم يطاوعه بسبب تشيعه، فآثر السكوت عن معاوية. لكنه روى الحديث عنه وصححه على شرط الشيخان وترضى عنه. فتشيعه ليس شديداً، إلا إن كان يمارس التقية كما ادعى عليه ابن طاهر، لم يأت بدليل صريح.
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 2011-04-01, 06:01 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي






منهج العجلي :



العجلي قريب من ابن حبان في توثيق المجاهيل من القدماء. وقد ذكر ابن الوزير اليماني (ت840هـ) في "العواصم والقواصم" (8|27) أنه يوثق الصدوق في روايته بغض النظر عن حاله في دينه. قال المعلمي اليماني في "الأنوار الكاشفة" (ص68): «توثيق العِجْلي –وجدته بالاستقراء– كتوثيق ابن حبان تماماً أو أوسع». والمعلمي من أهل الاستقراء. وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (7|633): «فالعجلي معروفٌ بالتساهل في التوثيق كابن حبان تماماً. فتوثيقه مردودٌ إذا خالف أقوال الأئمة الموثوق بنقدهم وجرحهم». وقال في فقال في "تمام المنة": «توثيق العجلي في منزلة توثيق ابن حبان». قال الشيخ السعد ما مختصره: «لا يخفى أن ابن حبان عنده أن الثقة الذي لم يُجرح. والعجلي قريب مذهبه من مذهب ابن حبان، وأنه يتوسع في توثيق ‏المجاهيل وبالذات إذا كانوا من طبقة كبار التابعين وطبقة التابعين... وإذا تتبع الإنسان كلام العجلي: لو تتبع مئتين راوي أو ‏ثلاثمئة راوي ممن ذكرهم العجلي في كتابه "الثقات" وحكم بتوثيقهم العجلي... سوف تجد هذا ظاهراً. ولذلك نص المعلمي على هذا. والعجلي لا شك أنه من كبار أهل العلم والفضل، لكن فيما يتعلق بتوثيق المجاهيل هو هذا الشيء يسلكه، نعم، ‏ويتوسع فيه. وكذلك أيضا يتساهل ببعض الضعفاء فيوثقهم أيضاً. كما أنه أحياناً قد يكون الشخص لا يصل إلى درجة أن يقال عنه "ثقة ثبت" أو "ثقة"، يصل إلى ‏درجة "الصدوق" أو "الثقة الذي له أوهام"، فيقول عنه مثلاً: "ثقة" أو "ثقة ثبت"، وما شابه ذلك. فهو عنده شيء من التساهل في هذا». ولا ريب أن المعلمي والألباني والسعد والوادعي من ذوي الاطلاع الواسع، فشهادتهم في الاستقراء معتبرة.

ومن تأمل حال أئمة الجرح والتعديل من المتقدمين لوجد أنهم لا يعتدون بأقوال العجلي ويضربون عنها الذكر صفحاً، كأنها لم تكن. وإنما قام بعض المتأخرين باستعمال أقواله إذا وافق الحديث مذهبهم، لكن إذا خالفه، تجاهلوا قول العجلي كما كان يفعل المتقدمون. وهذا ما تجده عند ابن الجوزي، حيث غالباً ما يتجاهل قول العجلي ويحكم على الرواة بالجهالة، إلا في أحيان قليلة فتجده ينكر على الدارقطني تجهيله لراو بحجة توثيق العجلي له (رغم أن الدراقطني مسبوق بحكمه بالجهالة).

وقد اضطرب المتأخرون كثيراً في شأن من لم يوثقه إلا العجلي وابن حبان. وسبب اضطرابهم هو قاعدة فلسفية واهية أخذوها من المتكلمين. قالوا: توثيق الإمام مقدم على جهل غيره من الأئمة لأن مع الموثق زيادة علم. كذا قالوا بإطلاق! ولا ريب في أن إطلاق هذا مخالف للعقل والواقع ومخالف لمنهج الأئمة المتقدمين. فإن الأئمة يختلفون مع بعضهم البعض في معايير التوثيق. فتجدهم أحياناً يختلفون في حكمهم على الراوي مع أنه ليس لواحد منهم زيادة علم على الآخر، كما تجده أحياناً في اختلاف الرازيين أو في اختلاف ابن مهدي مع القطان. وهذا راجع لاختلاف الاجتهاد وليس سببه جهل من الإمام أو زيادة علم من الإمام الآخر! فلذلك تجد إماماً كالذهلي يقول إن رواية ثقتين عن المجهول تكفي لرفع الجهالة عنه، بينما إمام آخر كأبي حاتم يرى أن هذا بإطلاق غير كافٍ فيحكم على الرجل بالجهالة. ولا يُقال أن أحدهما عنده زيادة علم على الآخر. ومثال هذا عند الأئمة المتقدمين ما قاله ابن عدي في الكامل (4|298): «إذا قال مثل ابن معين (عن رجل) "لا أعرفه"، فهو غير معروف. وإذا عرفه غيره، لا يعتمد على معرفة غيره، لأن الرجال بابن معين تُسبَرُ أحوالهم». طبعاً يستثنى من هذه القاعدة من كان في طبقة ابن معين خاصة من المصريين.

والعجلي قد أدركه أغلب نقاد الحديث، وقد توفي بنفس السنة التي توفي بها مسلم (عام 261هـ). ومن تأمل أحوال الرجال، لوجد الأئمة المتقدمين قد أطلقوا الجهالة على عدد كبير جداً ممن وثقهم العجلي، رغم معرفتهم بلا شك بقوله. لكن لما عرفوا مذهبه في توثيق من لم يرو عنه إلا واحد حتى لو لم يكون عنده علم عن هذا الرجل (أي كما هو مذهب ابن حبان)، لم يعتدوا بقوله لأنه ليس فيه أن معه زيادة علمٍ عليهم. وقد عاش في بغداد عاصمة المحدّثين، قبل أن ينتقل إلى طرابلس في ليبيا. وقد ذكر أنه دخل على أحمد وهو محبوس في محنته. والنقاشات العظيمة بين أهل الحديث قد حدثت قبل ذلك الزمن، لأنه حصل وحشة بين أحمد وبين ابن معين وابن المديني بسبب موقفهما من الفتنة. فأين كان العجلي عن تلك المجالس التي يجتمع فيها الكبار أمثال أحمد والشاذكوني وابن المديني وابن معين وغيرهم من كبار الحفاظ فيتذاكرون الحديث ويتناقشون في علل الحديث؟ وكثير من هذه المجالس نقلها الخطيب والحاكم وأصحاب السؤالات وغيرهم، فلم نجد في أحد منها ذكراً للعجلي!

ثم ما يزال الطلاب يسألون الحفاظ عن رواة الحديث ويذكرون لهم أحكام غيرهم، فما كان أحد يذكر قول العجلي وهو بلديهم يعيش بينهم. وأين من جمع المصنفات في أقوال الرجال، لم يذكر أقوال العجلي؟ إن قلت إن كتابه لم يصل إليهم، نعم لم يصل، لكن العمدة في نقل هذا على من يسأله لا على الكتب. ولم يكن لدى ابن معين أو ابن نمير أو ابن حنبل كتباً في الجرح والتعديل، بل كانت هناك كتب مسائل جمعها طلابهم من أسئلتهم إليها. فعدم وجود الكتاب لا يمنع من نقل أقواله إن كانت موجودة. ومعلوم أن العجلي كان قد اكتمل علمه في الحديث وأتم رحلاته قبل زمن المحنة بزمن. وقد كان بينهم بكامل علمه فما كانوا يسألوه ولا يذكرون أقواله، مع أنهم ذكروا قوماً كانت عقيدتهم وأحوالهم سيئة كالشاذكوني ثم ابن خراش وابن عقدة لاحقاً وأمثالهم. وكان هو بريئا من البدع صالح السيرة.

وحتى عدد من المحققين من المتأخرين سلكوا نفس منهج المتقدمين في عدم الاعتداد بمنهج العجلي في توثيق المجاهيل (وهو نفس منهج ابن حبان). وعلى سبيل المثال: عمارة بن حديد. قال عنه أبو حاتم: «مجهول». وقال أبو زرعة: «لا يُعرف». وقال ابن عبد البر: «رجل مجهول». وقال ابن المديني: «لا أعلم أحداً روى عنه غير يعلى بن عطاء». وقال العجلي في "معرفة الرجال" (2\162): «حجازي تابعي ثقة»!! وذكره ابن حبان في ثقاته (5\141) وأخرج حديثه في صحيحه (11\62) رغم أنه لم يرو عنه إلا يعلى بن عطاء، وليس له أصلاً إلا حديثاً واحداً عن رجل مجهول اسمه صخر، زعم أنه صحابي. وهذا الحديث أشار الترمذي إلى ضعفه فقال عنه: «حسن غريب (كما في نسخة الذهبي. وهو تضعيف باصطلاح الترمذي)، و لا نعرف لصخر عن النبي r غير هذا الحديث». والحديث ضعفه أبو حاتم وابن الجوزي وابن القطان وكثير غيرهم. قال الذهبي في الميزان (5\211): «صخر لا يعرف إلا في هذا الحديث الواحد. ولا قيل إنه صحابي إلا به. ولا نَقَلَ ذلك إلا عمارة. وعمارة مجهول، كما قال الرازيان. ولا يُفرح بذكر ابن حبان له في الثقات، فإن قاعدته معروفة من الاحتجاج بمن لا يعرف». ومن الواضح أنه تجاهل ذكر العجلي أصلاً.

منصور الكلبي وقد وثقه العجلي فقال: منصور الكلبي: «مصري، تابعي، ثقة». قلت: توثيق العجلي في منزلة توثيق ابن حبان، ولذلك لم يعتمده ههنا الذهبي وغيره من المحققين. فقال الذهبي في ترجمته من "الميزان" : «ما روى عنه سوى مرثد المزني (مفتي مصر) هذا الحديث. ولم يصححه عبد الحق». وقال عنه في الكاشف: «لا يُعرف». والحق مع الذهبي إذ حكمه موافق لحكم الأئمة الأوائل. قال ابن المديني عن منصور: «مجهول لا أعرفه». وقال ابن خزيمة: «لا أعرفه». وابن حجر مع ذكره لتوثيق العجلي له في "التهذيب" لم يتبن هذا التوثيق في "التقريب" حيث قال عنه: «مستور». ولهذا ضعف الخطابي في "المعالم" حديث منصور فقال: «ليس بالقوي، وفي إسناده رجل ليس بالمشهور».

الجدير بالذكر أن كتاب العجلي قد سُمِّيَ بأسماء كثير مثل "معرفة الثقات" و "الجرح والتعديل" و "السؤالات" و "التاريخ" لكن التسمية الأصح هي "معرفة الرجال". لأنه لم يقتصر على الثقات فحسب، بل هناك جماعة جرحهم بالضعف أو الترك أو الكذب أو الزندقة. فهو كتاب عام في تواريخ الرجال تعرض فيه العجلي لكل أنواع الرواة. لكن بسبب شدة تساهله وفرطه في التوثيق، أدى ذلك إلى أن الغالبية العظمى من أحكامه على الرجال هي بالتوثيق، فغلب على الكتاب اسم "الثقات".
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
  #23  
قديم 2011-04-01, 06:02 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي






منهج أبو الفتح الأزدي



قال الذهبي في ميزان الاعتدال (1\117): «وأبو الفتح يسرف في الجرح. وله مُصنَّفٌ كبيرٌ إلى الغاية في المجروحين. جمع فأوعى، وجرح خلقاً بنفسهِ لم يسبقه أحدٌ إلى التكلم فيهم. وهو مُتَكَلَّمٌ فيه». وقال عنه في تذكرة الحفاظ (3\967): «له مصنَّفٌ كبيرٌ في الضعفاء. وهو قويّ النفس في الجرح. وهّاه جماعةٌ بلا مستندٍ طائل». وقال عنه في سير الأعلام (13\389): «ليت الأزدي عرف ضعف نفسه».


وهناك دراسة قام بها الأستاذ الدكتور عبد الله مرحول السوالمة، وملخصه كما يلي:
تهدف هذه الدراسة إلى جمع واستقراء ما وجه إلى الحافظ الناقد أبي الفتح الأزدي (ت 374هـ) من طعون وانتقادات كالتشيع والرفض والوضع والضعف والنكارة والتشدد والسرف في نقد الرجال وجرحهم، هذا إلى جانب معرفة ما له عند العلماء من منزلة ومكانة في العلم والحفظ والفهم، مما جعل كثيراً منهم يُثني عليه و يُعْوِلُ على أقواله في الرجال وغيرهم. وعلى ضوء هذه الأقوال المتضاربة فيه، وعلى ضوء جمع ما يقرب من 1080 قولاً له في الرجال، تم جمعها مما يزيد على 40 مجلداً، ثم مقارنتها بأقوال النقاد الآخرين لمعرفة موافقاته ومخالفاته لهم وانفراداته عنهم، وما انتقد عليه منها، وما كان منها سبباً في الطعون فيه. فعلى ضوء دراسة ذلك كله –مع الأخذ بعين الاعتبار معرفة الملابسات والقرائن التي تسببت في إفراز تلك الطعون والانتقادات المختلفة– قد توصل الباحث إلى نتائج منها:
1- استحالة كون الأزدي مبتدعا أو وضّاعاً.
2- من الخطأ الحكم عليه بالضعف المطلق، بل يحمل تضعيفه على أحوال خاصة.
3- الحافظ الأزدي من الأئمة المجتهدين في الجرح والتعديل. وأقواله في الرجال مقبولة بالجملة. إذ انه لمتعقب في حالتي التفرد وعدمه بأكثر من 5% مما ذكر له من أقوال.


وبذلك يكن تصنيف أقواله وأحكامه على النحو التالي:
1- يُقبل قول الأزدي في التوثيق لأنه من المتشددين من جهة، ولأنهم لم يتعقبوه بحق فيما وقفت عليه من أقوال في التوثيق.
2- لا يُقبل جرحه منفرداً فيمن ثبتت عدالته واستقر عند العلماء توثيقه، ما لم يُبَيِّن ويُفَسِّر جرحه، وذلك لإسرافه في الجرح وتسرعه أحياناً.
3- يقبل قوله في المجروحين المشهورين بالضعف من غير بيان سبب.
4- يقبل قوله في المجهولين الذين لم يوجد فيهم كلام لغيره. إذ إعمال كلامه أولى من إهماله. اللهم إلاّ أن يكون المجهول من الكبار الذين تقادم العهد بهم ممّن لم يشتهروا بكثير رواية، ولم يطّلع العلماء على أحوالهم، فهؤلاء قد يتوقف أحياناً في قول الأزدي فيهم، لاحتمال أن يكون هؤلاء قد احتملهم الأئمة ورووا عنهم من جهة، ولاحتمال أن يكون الأزدي تشدَّدَ فيمن هذه حاله من جهة أُخرى.
5- إذا تعارض جرح الأزدي مع توثيق غيره، فإن كان هذا الغير من العلماء المشهورين بالنقد والاطلاع والاضطلاع فيه، والرجل المتكلم فيه من الثقات المشاهير، فلا يقبل قول الأزدي إلا ببيان الحجة على ما مر في (#2). وأما إذا كان الموثِّق ممن قد يتساهلون في التوثيق أحياناً –كابن حبان والعجلي مثلاً– فيُلجأ حينئذ إلى الترجيح على ضوء قرائن وملابسات. إذ قد يكون الرجل المتكلم فيه من المجاهيل ونحوهم، فيرجح قول الأزدي فيه. والله أعلم.
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
  #24  
قديم 2011-04-01, 06:03 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي







منهج ابن ماجه :




الثابت أن أكثر زوائد سنن ابن ماجة ضعيفة، وفي تصحيحها ما بقي منها خلاف. قال الحافظ المِزّي: «كل ما انفرد به ابن ماجة عن الخمسة فهو ضعيف». وقال ابن حجر: «إنه انفرد بأحاديث كثيرةٍ وهي صحيحة». قلت: لعلها قليلة جداً.



قال ابن حجر في التهذيب (9\468): «كتابه في السنن جامعٌ جيدٌ كثير الأبواب والغرائب. وفيه أحاديث ضعيفة جداً، حتى بلغني أن المزي كان يقول: "مهما انفرد ‏بخبر فيه فهو ضعيفٌ غالباً". وليس الأمر في ذلك على إطلاقه باستقرائي. وفي الجملة ففيه أحاديث منكرة، والله تعالى المستعان. ثم وجدت بخط الحافظ شمس الدين محمد ‏بن علي الحسيني ما لفظه: سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: "كل ما انفرد به ابن ماجة فهو ضعيف"، يعني بذلك ما انفرد به من الحديث عن الأئمة ‏الخمسة. انتهى ما وجدته بخطه. وهو (الحسيني) القائل: "يعني". وكلامه هو ظاهر كلام شيخه، لكن حمله على الرجال أولى. وأما حمله على أحاديث، فلا يصح، كما ‏قدمت ذكره من وجود الأحاديث الصحيحة والحسان مما انفرد به عن الخمسة».‏



أقول: يبعد جداً حمله على الرجال، لأن من رجال ابن ماجه الذين تفرد بهم، من كان فيهم توثيق من غير جرح، مثل أحمد بن منصور بن سيار الرمادي. والمزي أعلم بذلك بسبب عمله في تهذيب الكمال. ثم إن الحافظ الحسيني هو أعرف بكلام شيخه من ابن حجر.


وقال ابن تيمية كما في زاد المعاد (1\435): «أفراد ابن ماجه في الغالب غير صحيحة». وقال المِزِّي: «كتاب ابن ماجه إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به. بخلاف صحيحي البخاري ومسلم، فإن الحفاظ تداولوهما واعتنوا بضبطهما وتصحيحهما. ولذلك وقع فيه أغلاط وتصحيف».
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 2011-04-01, 06:04 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي








هل كان الحافظ الجوزجاني ناصبياً؟


لقد اتهم ابن حجر الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الخراساني الجوزجاني (شيخ النَّسائي) بأنه غالٍ في النصب. وأنا أقول: ليس كل من اتهموه بتهمة تثبت عليه. فالجرح لا يُقبل ‏–‏مع التعديل‏–‏ إلا إذا كان مُفَسَّراً. فأين دليله على نصبه؟ وابن حجر لم يجد على كلامه دليلاً سوى تعنت الجوزجاني ‏–‏بنظر ابن حجر‏–‏ على الكوفيين. قلت: وهذا لا يعني النصب كما لا يخفى على أحد. ولإثبات أنه ناصبي فلا بد من إثبات أنه يناصب علياً t وأهل البيت العداء. أي لا بد أن تجد له قولاً يطعن بعلي t. وإلا فالأمر مجرد عداوة شخصية بينه وبين الكوفيين (على فرض صحة كلام ابن حجر).

وقد طالعت ترجمته في "تهذيب الكمال" فلم أر إلا ثناءً عليه. قال الحافظ المزي في ترجمة الجوزجاني في تهذيب الكمال (2\248): قال أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال: «إبراهيم بن يعقوب (الجوزجاني): جليلٌ جداً. ‏كان أحمد بن حنبل يُكاتبه ويُكرمه إكراماً شديداً. وقد حدثنا عنه الشيوخ المتقدمون. وعنده عن أبي عبد الله (يعني أحمد بن حنبل) جزءان مسائل». وقال النسائي ‏‏(متشدد يقال فيه تشيع): «ثقة». وقال الدارقطني: «أقام بمكة مدة، وبالبصرة مدة، وبالرملة مدة. وكان من الحفاظ المصنفين، والمخرجين الثقات». وقال أبو أحمد ‏بن عدي: «كان يسكن دمشق يحدث على المنبر. ومكاتبه أحمد بن حنبل، فيتقوى بكتابه، ويقرأه على المنبر». اهـ. ولم يذكر الحافظ المزي فيه أي جرح. قلت: ‏فهذا النسائي –تلميذ الجوزجاني– أعرف الناس به. وقد وثّقه بإطلاق رغم ما يقال عن تشيعه (أي تشيع النسائي)، ورغم ما قيل عن تشدده في التوثيق، ورغم عدائه الشديد للنواصب، لدرجة تسببت بقتله. ولو كان الجوزجاني ناصبياً لما وثقه النسائي بإطلاق،‏ أو على الأقل لنبّه الناس على نصبه.

ثم نرى ابن العماد الحنبلي في"شذرات الذهب" (1\139) يقول: «الإمام إبراهيم بن يعقوب أبو إسحاق الجوزجاني صاحب التصانيف. كان من كبار العلماء، وجرّح وعدّل، وهو من الثقات». وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (11\31): «إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق أبو إسحاق الجوزجاني: خطيب دمشق وإمامها وعالمها. وله المصنفات المشهور المفيدة، منها المترجم فيه علوم غزيرة وفوائده كثيرة». وقال نحو ذلك الذهبي في "العبر في خبر من غبر" (2\24). وكيف يكون الجوزجاني ناصبياً مع إقرار العلماء أنه إمام من أئمة الحديث؟ ولماذا لا نجد أحداً نبذه بالنصب إلا بعض المتأخرين ممن لبعضهم ميولاً شيعية؟


وعلى فرض أنه ناصبي كما يزعمون، فعندما يجرح الشيعيَّ الثقة، يقول عنه زائغ أو مخذول أو مذموم أو مائل عن الحق، ولا يتهمه بضعف الحفظ. بل هو يحتج بحديثه في غير بدعته. وعلى سبيل المثال فإن الجوزجاني وثّق "حبة بن جوين" الشيعي مطلَقاً، رغم أن الجمهور ضعفه. وقد قال عنه ابن حبان: «كان غالياً في التشيع، واهياً في الحديث». فلم يمنع غلو "حبة بن جوين" في التشيع، من توثيق الجوزجاني له. وهذا من إنصافه رحمه الله. وإذا أراد أن يبين انحراف الراوية بيّن ذلك دون أن يرد حديثه كله. فقد قال مثلاً في إسماعيل بن أبان الوراق: «كان مائلاً عن الحق، ولم يكن يكذب».


وقد نص الإمام الجوزجاني على هذا المنهج بنفسه، فقال في كتابه "أحوال الرجال" (ص32): «ومنهم زائِغٌ عن الحقّ، صدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثه: إذ كان مخذولاً في بدعته، مأموناً في روايته، فهؤلاء عندي ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يُعرف، إذا لم يُقَوِّ به بدعته، فيُتَّهم عند ذلك».‏ وهذا المذهب هو ما عليه جمهور المحدثين من أهل السنة والجماعة. وقد نقل ابن حجر هذه العبارة مُقِراً لها في لسان الميزان (1\11).


ولم يجد ابن حجر مثالاً على غلو الجوزجاني في جرح الشيعة إلا مقولته في الأعمش الكوفي (ثقة فيه تشيع لكنه يدلس عن كذابين). فقد قال الجوزجاني في "أحوال الرجال" (ص192 - طبعة مؤسسة الرسالة 1405): «حدثني أحمد بن فضالة وإبراهيم بن خالد، عن مسلم بن إبراهيم، عن حماد بن زيد، قال: قال الأعمش حين حضرته الوفاة: أستغفر الله وأتوب إليه من أحاديث وضعناها في عثمان».‏ وهذا إسنادٌ رجاله ثِقات، ولكن حمّاد بصْري أرسل الخبر ولم يحضر احتضار الاعمش. فيكون حمّاد قد سمع الخبر من رجُلٍ لم يُسمّه. فلا يصلح هذا جرحاً في الأعمش، ولا يُطعَنُ به في الجُوزجاني. أم بالقوة يريدون أن يكون الجوزجاني كذاباً لأجل أنه يُظَنّ أنه اتخذ موقفاً سياسياً من الشيعة؟! ولم يستطع أحدٌ من هؤلاء إثبات تهمة النصب للجوزجاني، فأين ما يدّعونه؟


وإنما اعتمد ابن حجر على قصة باطلة ذكرها السلمي عن الدارقطني –بعد أن ذكر توثيق الجوزجاني–: «لكن فيه انحرافٌ عن علي: اجتمع على بابه أصحاب الحديث، فأخرجت جارية له فروجة (أي دجاجة) لتذبحها، فلم تجد من يذبحها. فقال: سبحان الله! فروجة لا يوجد من يذبحها، وعلي يذبح في ضحوةٍ نيّفاً وعشرين ألف مسلم؟!»، يقصد قتل عليٍّ لمسلمي الشام في صفّين. أقول: وهذا يُسمى انحرافٌ عن علي، ولا يعني مناصبته العداء، ولا يعني شتمه أو سبه والعياذ بالله. إنما كان الحافظ الجوزجاني على مذهب أهل دمشق فى الميل على علي. وبين هذا وبين النصب فرقٌ كبير. وبذلك نفهم قول ابن حبان في "الثقات" عنه: «كان حريزي المذهب، و لم يكن بداعية». يقصد أنه يشبه حريز بن عثمان، وهذا الأخير كان ثقةً ثبتاً يترحم على عليٍّ وينكر على من شتمه، إلا أنه كان يقول: «لا أحبه. قتلت آبائي». ومقولة الحافظ الجوزجاني تصب في نفس المعنى.



قال العلامة المعلمي في "التنكيل" في رده على الكوثري: «وأما الجوزجاني فحافظ كثير متقن عارف. وثّقه تلميذه النسائي جامع "خصائص علي" وقائل تلك الكلمات في معاوية. ووثقه آخرون. فأما ميل الجوزجاني إلى النصب فقال ابن حبان في "الثقات": "كان حريزي المذهب، ولم يكن بداعية. وكان صلبا في السنة... إلا أنه من صلابته ربما كان يتعدى طوره". وقال ابن عدي: "شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في النيل على علي".
وليس في هذا ما يُبيّن درجته في الميل. فأما قصة الفروجة فقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب": "قال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه: لكن فيه انحراف عن علي. اجتمع علي بابه أصحاب الحديث فأخرجت جارية له فروجة...". فالسلمي هو محمد بن الحسين النيسابوري، ترجمته في "لسان الميزان" (5|140): تكلموا فيه حتى رموه بوضع الحديث! والدارقطني إنما وُلِدَ بعد وفاة الجوزجاني ببضع وأربعين سنة. وإنما سمع الحكاية –على ما في معجم البلدان "جوزجانان"– من عبد الله بن أحمد بن عدبس. ولابن عدبس ترجمة في "تاريخ بغداد" (9|384) و "تهذيب تاريخ ابن عساكر" (7|288) ليس فيها ما يبيّن حاله. فهو مجهول الحال، فلا تقوم بخبره حجة. وفوق ذلك، فتلك الكلمة ليست بالصريحة في البغض. فقد يقولها من يرى أن فعل علي –عليه السلام– خلاف الأولى، أو أنه اجتهد فأخطأ. وفي "تهذيب التهذيب" (10| 391) عن ميمون بن مهران قال: "كنت أفضّل علياً على عثمان. فقال عمر بن عبد العزيز (الخليفة الراشد): أيهما أحب إليك، رجل أسرع في المال، أو رجل أسرع في كذا –يعني الدماء–. قال: فرجعت وقلت: لا أعود". وهذا بَيِّنٌ في أن عمر بن عبد العزيز وميمون بن مهران، كانا يريان فعل علي خلاف الأَولى أو خطأ في الاجتهاد. ولا يعد مثل هذا نصباً، إذ لا يستلزم البغض، بل لا ينافي الحب. وقد كره كثير من أهل العلم معاملة أبي بكر الصديق لمانعي الزكاة معاملة المرتدين، ورأوا أنه أخطأ، وهم مع ذلك يحبونه ويفضلونه.
فأما حط الجوزجاني على أهل الكوفة، فخاصٌّ بمن كان شيعياً يبغض الصحابة أو يكون ممن يظن به ذلك. وليس أبو حنيفة كذلك. ثم قد تقدم في القاعدة الرابعة من قسم القواعد، النظر في حط الجوزجاني على الشيعة، واتضح أنه لا يجاوز الحد، وليس فيه ما يسوغ اتهامه بتعمد الحكم بالباطل، أو يخدش في روايته ما فيه غض منهم أو فيهم. وتوثيق أهل العلم له يدفع ذلك البتة كما تقدم في القواعد. والله الموفق».


هل كان حريز بن عثمان ناصبياً؟




قال الذهبي كما في السير (7\79): «الحافظ العالم المتقن، أبو عثمان الرحبي المشرقي الحمصي. محدث حمص، من بقايا التابعين الصغار». وقال عنه الإمام أحمد كما في الجرح والتعديل (3\289): «ليس بالشام أثبت من حريز إلا أن يكون بحير». قيل: «صفوان بن عمرو؟». قال: «حريز فوقه. حريز ثقة ثقة». وقال أحمد كما في سير أعلام النبلاء (7\80): «حريز ثقة ثقة ثقة، لم يكن يرى القدر». ولا أعلم الإمام أحمد قد وصف رجلاً بالتوثيق ثلاث مرات إلا حريز. وقال الأمام أحمد أيضاً كما في الكامل (2\451): «صحيح الحديث إلا أنه يحمل على علي».


وقال معاذ بن معاذ كما في التاريخ الأوسط للبخاري (2\117): «لا أعلم أني رأيت أحداً من أهل الشام أفضّله عليه». ووثقه ابن معين كما في سؤالات ابن الجنيد (#399). وقال علي بن المديني كما في تهذيب التهذيب (1\376): «لم يزل من أدركناه من أصحابنا يوثّقونه». فقد نقل ابن المديني الإجماع على توثيق حريز والاحتجاج به. و وثقه كل من ابن شاهين ودُحيم (وهو أعلم الناس بالشاميين) والمفضل بن غسان وقال: «ثبت».


واتهمه ابن حبان بسب علي سبعين مرة في الصباح وسبعين مرة في المساء. قال الذهبي في السير (7\81) معلقاً على كلام من اتهمه بسب علي: «هذا الشيخ أورع من ذلك». وقد استنكر الدكتور بشار عواد (في تحقيقه لتهذيب الكمال) كلامَ ابن حبان. وذكَر أن السمعاني تبعه في ذلك (أي في أن حريزَ يسب علياً). وقال الدكتور: «إن هذا الكلام ليس له سند، فلا يُعتبر ولا يعتدّ به».


وقد نفى بنفسه (وهو الثقة الثبت) تهمة سب علي t. وجاء في السير (7\80): «ورُوِيَ عن علي بن عياش (وهو من تلاميذ حريز) عن حريز أنه قال: «أأنا أشتم علياً؟! والله ما شتمته». وصدق رحمه الله. وفي تاريخ ابن معين رواية الدوري (4\475): قال الدوري: سمعت يحيى يقول: سمعت علي بن عياش يقول سمعت: حريز بن عثمان الرحبي يقول لرجل: «ويحك، أما تتقي الله؟ تزعم أني شتمت علياً؟ لا والله ما شتمت علياً قط». وهذا إسنادٌ صحيحٌ كالشمس. وفي السير (7\80): قال شبابة سمعت رجلاً قال لحريز بن عثمان: «بلغني أنك لا تترحم على علي؟». قال: «اسكت. رحمه الله مئة مرة».


وممن نفى عنه هذه التهمة أبو حاتم الرازي، فقال في الجرح والتعديل (3\289): «حريز بن عثمان حسن الحديث. ولم يصحّ عندي ما يُقال في رأيه. ولا أعلم بالشام أثبت منه. هو أثبت من صفوان بن عمرو وأبي بكر بن أبي مريم. وهو ثقةٌ مُتقِن». وقوله لم يصح، أي أنها ضعيفة لم تثبت.


أما القصة التي في تاريخ بغداد (8\278) و تهذيب الكمال (5\578) من طريق عبد الوهاب بن الضحاك قال حدثنا إسماعيل بن عياش قال سمعت حريز بن عثمان قال: «هذا الذي يرويه الناس عن النبي r قال لعلي "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" حق. ولكن أخطأ السامع. قلت: فما هو؟ فقال: إنما هو "أنت مني مكان قارون من موسى". قلت: عن من ترويه؟ قال: سمعت الوليد بن عبد الملك يقوله وهو على المنبر». قال الحافظ أبو بكر الخطيب –ونقلها عنه المزي في التهذيب–: «عبد الوهاب بن الضحاك كان معروفاً بالكذب في الرواية، فلا يصح الاحتجاج بقوله».


واتهمه الفلاس بعدم محبة علي. وجاء عن حريز في ذلك أنه قال: «لا أحبه. قتلت آبائي». وقال كذلك: «لنا إمامُنا، ولكم إماكم». وهذا قد رجع عنه كما سنرى. وقال العجلي في "معرفة الثقات" (1\291): «ثقةٌ يتحامل على علي». ويقصد بالتحامل الأقوال السابقة، وهي غير الشتم. قال الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (8\258): «وحًكِيَ عنه من سوء المذهب وفساد الاعتقاد، ما لم يثبت عليه». فأسانيد ما ذُكِرَ عنه من انتقاصه ِلعَلي t ضعيفة كما قال الخطيب.


وقال ابن ماكولا في الإكمال (2\86): «وجاء عنه بغضه لعلي t، وفي ذلك خلافٌ عنه». وتابعه على ذلك الدارقطني كما في "تاريخ دمشق" لابن عساكر (13\240) فقال: «وفي ذلك اختلافٌ عنه». وسبب الاختلاف أنه رجع عن أقواله التي فيها تحامل. قال ابن حزم في "الإحكام" (8\506): «حريز بن عثمان ثقة. وقد رُوينا عنه أنه تبرأ مما أنسب إليه من الانحراف عن علي t». وقال أبو اليمان (وهو من تلاميذه) كما في التاريخ الأوسط للبخاري (2\117) والكبير (3\104): «كان حريز يتناول من رجل ثم تركه». ويقصد علياً t. قال ابن حجر في "مقدمة الفتح" (1\415): «وهذا أعدل الأقوال فيه».


وإن قيل كيف يقول أبو اليمان أنه كان يتناول رجلاً ثم تركه، وقد نفى ذلك عن نفسه؟ فيقال أن ما يقصده أبو اليمان مثل قوله: "لنا أمامنا ولكم أمامكم" و "قتل آبائي" وغيرها. وحتى هذه تركها، ورجع عنها. أما السب فلا. والله أعلم. وقد أخرج البخاري لحريز حديثين وأصحاب السنن أخرجوا له. وذكره الذهبي فيمن تكلم فيه بما لا يوجب الرد (#84). وهو ثقةٌ ثبتٌ حجة باتفاقهم.
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
  #26  
قديم 2011-04-01, 06:05 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي







المحدثون الحنفية :




الشائع أن الأحناف أصحاب رأي. وربما هم اليوم أبعد الناس عن الحديث وأكثرهم رداً له. ولكن في العصور الأولى كان منهم الكثير من المحدثين. ولا شك أن أغلب المحدثين هم من الشافعية فالحنابلة فالمالكية فالأحناف. وأئمة الشأن (بعد استقرار المذاهب) أغلبهم من الشافعية. فإن شككت في هذا فخذ كتاب "تذكرة الحفاظ" وعد عدد الشافعية منهم.
والشافعية المشتغلين بالحديث على قسمين: هناك فقهاء المحدثين كابن خزيمة، وهناك محدثي الفقهاء كالنووي. صحيح أن الحفاظ في الشافعية أكثر، واهتمام الشافعية بالحديث أكثر، وصحيح أن أصحاب الرأي أقل الناس اشتغالاً بالحديث، ولكن هذا لا ينفي وجود حفاظ ممن كان يرى رأي أبي حنيفة.
أبو يوسف: كان أكثر أصحاب أبي حنيفة حفظاً للحديث ومن أشدهم تعلقاً بالآثار. وهو أول من كتب عنه أحمد بن حنبل الحديث.
محمد بن الحسن: اشتهر بملازمته لمالك ورواية الموطأ عنه. وقد وثقه الدارقطني وغيره في روايته للموطأ.
الطحاوي: كان شافعياً ثم بسبب نزاع شخصي مع من تولى المذهب الشافعي من بعد الإمام، فإنه صار حنفياً متعصباً. وهو العمدة في الدفاع عن الأحناف فقهاً وحديثاً. أثنى عليه حفاظ الأندلس، كابن عبد البر وغيره، وسأله النسائي عن حديث. وقد قال البيهقي: «كم من حديث صححه لأجل مذهبه». وهذه المقولة تنطبق على البيهقي كذلك، وهما سواء في التعصب المذهبي.
يحيى بن معين (الإمام المشهور): وكان متعصباً لرأي أبي حنيفة حتى أنه انتقص الشافعي، كما نقل عنه الحاكم! وجاء عن ابن معين أنه سئل: ترى أن ينظر الرجل في رأي الشافعي، أو رأي أبي حنيفة؟ قال: «ما أرى لأحد أن ينظر في رأي الشافعي. ينظر في رأي أبي حنيفة أحب إلي». قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (11|88) تعليقاً على تلك المقولة: «كان أبو زكريا رحمه الله (ابن معين) حنفياً في الفروع. فلهذا قال هذا. وفيه انحراف يسير عن الشافعي». والإمام الذهبي بعد أن دافع عن الإمام الشافعي من طعن الإمام ابن معين به، قال في كتابه "الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب" (1|30): «ابن معين كان من الحنفيّةِ الغُلاة في مذهبه، وإن كان مُحَدِّثاً».

وقد جاء في تاريخ ابن معين (رواية الدوري) (4|461): «قال يحيى: قال ابن وهب عن مالك بن أنس في المرأة يكون وليها ضعيفا أو يكون غائبا أو لا يكون لها ولي فتولي أمرها رجلا فيزوجها، قال: "جائز". وقال ابن وهب: "لا إلا بولي". قلت ليحيى: "هذا يوافق قول أبي حنيفة؟". قال: "نعم"، يعني قول مالك». فهذا يدل على أن ابن معين كان عارفاً بمذهب أبي حنيفة حتى كانوا يسألونه عن ذلك. وقال الدوري في تاريخ ابن معين (4|283): سمعت يحيى يقول: «لا نكذب الله ربما سمعنا الشيء من رأي أبي حنيفة فاستحسناه فأخذنا به».
وكان سيد الحفاظ الإمام يحيى بن سعيد القطان البصري، إمام المحدثين وشيخ الجرح والتعديل، يأخذ بأكثر أقوال أبي حنيفة. قال أحمد بن علي بن سعيد القاضي (ثقة حافظ): سمعت يحيى بن معين يقول: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: «لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، و قد أخذنا بأكثر أقواله». قال يحيى بن معين: «و كان يحيى بن سعيد يذهب في الفتوى إلى قول الكوفيين، و يختار قوله (أي قول أبي حنيفة) من أقوالهم، و يتّبع رأيه من بين أصحابه». وفي تاريخ ابن معين (3|517): قال الدوري: سمعت يحيى يقول: قال يحيى بن سعيد القطان: «لا نكذب الله. ربما رأينا الشيء من رأي أبي حنيفة فاستحسناه فقلنا به».

وكان إمام أهل الحفظ في عصره وكيع بن الجراح الكوفي، يفتي برأي الإمام أبي حنيفة. ففي "تذكرة الحفاظ" للحافظ الذهبي (1|307): (قال حسين بن حبان) قال يحيى بن معين عن وكيع: «ما رأيت أفضل منه، يقوم الليل ويَسرُدُ الصوم، ويُفتي بقول أبي حنيفة. وكان يحيى القطان يفتي بقول أبي حنيفة أيضاً». وقال يحيى بن مَعِين: ما رأيتُ أحداً أُقدِّمه على وكيع، وكان يُفتي برأي أبي حنيفة، وكان يحفظ حديثَه كلَّه، وكان قد سمع من أبي حنيفة حديثاً كثيراً. قلت: فهو حنفي إذاً. ولم يقل أحد بأن كل حنفي عليه أن لا يخالف أبا حنيفة في أي مسألة. فقد جاء عند الترمذي (3|249): سمعت يوسف بن عيسى يقول: سمعت وكيعاً يقول –حين روى هذا الحديث– قال: «لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا، فإن الإشعار سنة وقولهم بدعة».

وهناك آخرون مثل: معلى بن منصور، بكار بن قتيبة، ابن أبي عمران (وهو من كبار الحفاظ وإن لم يكن مشهوراً). وهؤلاء شيوخ الطحاوي. وهناك أحمد بن عيسى البرتي صاحب مسند أبي هريرة، وهو من كبار الحفاظ. وهناك حماد بن شاكر الراوي عن البخاري، وإبراهيم بن معقل النسفي راوي صحيح مسلم. ومن بعدهم: ابن قانع والكلاباذي (وقد رضي فهمه الدارقطني) وهذه الطبقة. ومن بعدهم حفاظ الموصل، مثل أبي يعلى الموصلي صاحب المسند الكبير، قال عنه الذهبي: أخذ الفقه عن أصحاب أبي يوسف. وبعد هؤلاء يأتي ابن التركماني الذي رد على البيهقي. ويأتي من بعده تلميذه الحافظ الزيلعي، وهو أعلم المحدثين الأحناف. وهناك مغلطاي والعيني وكثير من محدثي الهند.
وللكوثري الهالك رسالة في ذكر محدثي الحنفية، إلا أنه أدخل فيه من ليس من الحنفية، وهي مطبوعة مع نصب الراية. والأحناف كثيراً ما ينسبون الرجل إلى مذهب إمامهم بمجرد رواية الرجل عن أبي حنيفة. وهذا من العجب! وإلا كان كل من روى عن مالك هو مالكي. فهذا وكيع كوفي روى عن مالك. والوليد بن مسلم وهو شامي على مذهب الأوزاعي.

ومن تأمل مذهب المتأخرين الأحناف لعلم أنهم أبعد الناس عن علم الحديث، والله أعلم. على أن هذا الحكم لا ينبغي أن يكون عاماً. ففي الهند من الحنفية أعلام في الحديث، وهم سيف حاد على التقليد. ولا ننسى أن علم الحديث بقي قروناً عند علماء الهند من الحنفية، وقد قاموا به خير قيام، في الوقت الذي كانت فيه بلادنا مغرقة في التقليد والتعصب. ومن أراد التوسع، فعليه بمراجعة كتاب "جهود علماء الهند في خدمة السنة النبوية" لعبد الرحمن الفريوائي.
ولو ذهبنا نعدد أعيان هذا العصر من علماء الهند المحدثين المنتسبين إلى مذهب الإمام أبي حنيفة، لضاق المقام عن مجرد ذكر أسمائهم في طبقة شيوخنا وشيوخهم رحمهم الله ونفع بعلومهم. ومن الفوائد التي أحب أن أذكرها هنا حتى ينسب الفضل إلى أهله، أن التفريق بين منهجي المتقدمين والمتأخرين من المحدثين، والتنبه إلى طريقة حفاظ الحديث في التعليل بالنكارة والشذوذ، قد تلقاها بعض شيوخنا عن شيوخهم في الهند، كالحافظ محمد يونس الجونفوري وغيره، بشكل جلي وواضح في زمن مبكر، لم يكن يسمع فيه بهذه الأمور -على حد علمي المحدود- في محافلنا العلمية. والشيخ حمزة المليباري (الذي نقلها إلينا) إنما هو من باكستان.
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
  #27  
قديم 2011-04-01, 06:07 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي







محمد بن الحسن بين الجرح والتعديل :





المديح
سير أعلام النبلاء (9|136): قال إبراهيم الحربي: قلت للإمام أحمد: «من أين لك هذه المسائل الدقاق؟». قال: «من كتب محمد بن الحسن».
قال عنه الذهبي في ميزان الاعتدال (6|107): «وكان من بحور العلم والفقه، قوياً في مالك».
قال علي بن محمد بن الحسن المالكي: أنبأنا عبد الله بن عثمان الصفار قال: أنبأنا محمد بن عمران بن موسى الصيرفي قال: نبأنا عبد الله بن علي بن المديني، عن أبيه قال: وسألته عن أسد بن عمرو والحسن بن زياد اللؤلؤي ومحمد بن الحسن؟ فضعف أسداً والحسن بن زياد، وقال: «محمد بن الحسن صدوق».
ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي قال عن محمد بن الحسن: «دخلت عليه، فرأيت عنده كتاباً، فنظرت فيه، فإذا هو قد أخطأ في حديث وقاس على الخطأ. فوقَفته على الخطأ، فرجع، وقطع من كتابه بالمقراض عدة أوراق». قلت: هذا يدل على إنصافه وإرادته للحق.
قال أحمد بن محمد بن الحسن بن عمر: سمعت الحجاج بن حمزة الخشابي يقول: سمعت هشام بن عبيد الله الرازي (صدوق يخطئ) يقول: لما سمعنا كتب محمد بن الحسن بالرقة، قلنا: قولك أرأيت إلى من ينسب وسؤالك عن من؟ قال: «إنما هو سواد في بياض. إن شئتم فخذوه وإن شئتم فدعوه». (النص فيه تحريف)
قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: «أقمت على مالك ثلاث سنين، وسمعت من لفظه سبعمئة حديث» (وفي رواية ثمانمئة). قال ابن حجر: «وكان مالك لا يحدث من لفظه إلا نادراً». أقول: إنما كان مالك يطلب من أحد تلامذته أن يقرأ عليه. فهذا النص يدل على شدة ملازمة محمد بن الحسن لمالك. فقد لزمه أكثر من ثلاثة سنين. بينهما لزم الشافعي مالكاً حوالي ثمانية أشهر فقط.
قال أبو بكر بن المنذر: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: «ما رأيت سميناً أخف روحاً من محمد بن الحسن، وما رأيت أفصح منه. كنت إذا رأيته يقرأ، كأن القرآن نزل بلغته. حمل جمل من العلم».
وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: «حملت عن محمد وقر بعير كتباً». وقال الشافعي: «لو أشاء أن أقول أن القرآن نزل بلغة محمد بن الحسن، لقُلته، لفصاحته». وقال الشافعي: «ما رأيت أعقل من محمد بن الحسن». وقال الشافعي: «ما ناظرت أحداً إلا تَمَعَّرَ وجهه، ما خلا محمد بن الحسن». أقول: هذا يدل على قوته في المناظرة.
وقال الربيع بن سليمان كذلك: وقف رجل على الشافعي، فسأله عن مسألة، فأجابه. فقال له الرجل: يا أبا عبد الله، خالفك الفقهاء. فقال له الشافعي: «وهل رأيت فقيهاً قط؟ اللهم إلا أن تكون رأيت محمد بن الحسن. فإنه كان يملئ العين والقلب. وما رأيت مُبدِناً قط أذكى من محمد بن الحسن».
قال حرملة بن يحيى: نبأنا محمد بن إدريس الشافعي قال: «كان محمد بن الحسن الشيباني إذا أخذ في المسألة، كأنه قرآن ينزل عليه: لا يُقدِّمُ حرفاً ولا يُؤَخِّر».

ونقل الكاساني في البدائع عن أحمد بن حنبل قوله: محمد أبصر الناس بالعربية. ونقل عن الأخفش: ما وضع شيء لشيء قط فوافق ذلك الشيء إلا كتاب محمد بن الحسن، فإنه وافق كلام الناس. يريد أنه موافق للعربية. وكان ثعلب يقول: محمد عندنا من أقران سيبويه.
قال الجصاص في "الأصول" (1|30): «محمد بن الحسن حجة فيما يحكيه من اللغة. قد احتج به قوم من أئمة اللغة، منهم أبو عبيد في "غريب الحديث" وغيره. وحُكيَ لنا أن ثعلب قال: "محمد بن الحسن حجة في اللغة"».

وفي "توالي التأسيس" (ص71) من طريق أبي حسان الحسن بن عثمان الزيادي قال: «كنت في دهليز محمد بن الحسن فخرج محمد راكباً، فنظر فرأى الشافعي قد جاء، فثنى رجله ونزِلَ وقال لغلامه: اذهب فاعتذر. فقال له الشافعي: لنا وقت غير هذا. قال: لا. وأخذ بيده فدخلا الدار. قال أبو حسان: وما رأيت محمداً يعظّم أحداً إعظام الشافعي».
قال المعلمي في "التنكيل": «ومن تدبّر مناظرات الشافعي لمحمد، وجدها مناظرة الأكفاء، وعلم منها أن الشافعي كان حينئذ مجتهداً كاملاً، وأن محمداً كان –مع مكانته من الفقه والسن والمنزلة من الدولة وكثرة الأتباع– على غاية من الإنصاف في البحث والنظر. والإنصاف: أنه كان لتلك المناظرات أثرٌ في الرجلين، فاتفقا على مسائل رجع فيها الشافعي عما كان يتابع فيه مالكاً، أو رجع محمد عما كان يتابع فيه أبا حنيفة».
قال ابن حجر في "رواة الآثار" (ص163): «وتكلم فيه يحيى ابن معين، فيما حكاه معاوية بن صالح. وعظّمه أحمد (!)، والشافعي قبله. وكان من أفراد الدهر في الذكاء. وعظمت منزلته عند الرشيد جداً. ولما مات وهو معه، وكذلك الكسائي بالري قال: "دفنت الفقه والعربية بالري"».
وقال ثعلب: «توفي الكسائي ومحمد بن الحسن في يوم واحد. فقال الناس: "دُفِنَ اليوم اللغة والفقه"».
قال البرقاني في سؤالاته (ص63): سألت أبا الحسن الدارقطني عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، فقال: «قال يحيى بن معين: "كذاب". وقال فيه أحمد -يعني بن حنبل- نحو هذا. قال أبو الحسن: "وعندي لا يستحق الترك"». والدارقطني هو الذي يذكر محمد بن الحسن في عداد الثقات الحفاظ حيث يقول في "غرائب مالك" عن حديث الرفع عند الركوع: «حدث به عشرون نفراً من الثقات الحفاظ منهم محمد بن الحسن الشيباني، ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي وابن وهب وغيرهم». تجد نص هذا النقل عنه في "نصب الراية" (1|408). حيث قرن محمد مع الحفاظ الثقات الأثبات.



الذم في رأيه
قال أحمد بن حفص: سمعت أبا بكر الأعين يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: «لا تكتب عن أحد منهم ولا كرامة لهم». يعني أصحاب أبي حنيفة.
وقال ابن حماد: حدثني عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن محمد بن الحسن صاحب الرأي صاحب أبي حنيفة، قال: «لا أروي عنه شيئاً».
أقول: ما أظن أن أحمد قد امتنع عن الرواية عن أصحاب أبي حنيفة، إلا لخلافه معهم في الرأي. حتى قال لإبنه كما في الجرح والتعديل عن أبي يوسف: «صدوق، ولكن من أصحاب أبي حنيفة، لا ينبغي أن يُروى عنه شيء!».
قال ابن أبي حاتم (7|227): انا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل فيما كتب إلي قال: سألت أبي عن محمد بن الحسن صاحب الرأي قال: «لا أروي عنه شيئاً».
وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد: «كان أبو يوسف مُنصِفاً في الحديث. وأما محمد بن الحسن وشيخه (أبو حنيفة) فكانا مخالفين للأثر».
وقال علي بن أحمد بن سليمان: ثنا بن أبي مريم: سألت أحمد بن حنبل عن محمد بن الحسن، فقال: «ليس بشيء، ولا يكتب حديثه».
قال محمد بن أبي علي الأصبهاني: أنبأنا الحسين بن محمد الشافعي بالأهواز قال: أنبأنا أبو عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري قال: وسألته -يعني أبا داود السجستاني- عن محمد بن الحسن الشيباني فقال: «لا شيء، لا يكتب حديثه».
محمد بن الحسين القطان قال أنبأنا عثمان بن أحمد الدقاق قال نبأنا أبو العباس سهل بن أحمد الواسطي (؟؟) قال نبأنا أبو حفص عمرو بن علي الصيرفي (الفلاس) قال: «محمد بن الحسن صاحب الرأي ضعيف».



الذم في حفظه
وقال الأحوص بن الفضل العلائي، عن أبيه : «حسن اللؤلؤي ومحمد بن الحسن ضعيفان».

وقال البرقاني (#567) سألت الدارقطني عن أبي يوسف فقال: «هو أقوى من محمد بن الحسن».
وقال السلمي (#302) قال الدارقطني: «أبو يوسف ومحمد بن الحسن ، في حديثهما ضعف».
أحمد بن محمد بن سعيد يقول: سمعت محمد بن سعد العوفي (ضعيف) يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: «محمد بن الحسن كذاب».
عباس الدوري (3|364)، عن يحيى قال: «محمد بن الحسن الشيباني ليس بشيء».
أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدواليبي (حنفي فيه كلام)، ابن حماد، ثنا معاوية بن صالح (جيد)، عن يحيى قال: «محمد بن الحسن بغدادي ضعيف».
أحمد بن عبد الله الأنماطي قال: أنبأنا محمد بن المظفر الحافظ: انا علي بن أحمد بن سليمان المصري قال: انا أحمد بن سعيد بن أبي مريم قال: وسألته -يعني ابن معين- عن محمد بن الحسن فقال: «ليس بشيء فلا تكتب حديثه».
علي بن أحمد (بن سليمان البزار المعروف بعلان، جيد) ثنا أحمد بن سعد بن أبي مريم (جيد) قال: يحيى بن معين: «اجتمع الناس على طرح هؤلاء النفر، ليس يذاكر بحديثهم ولا يعتد بهم، منهم محمد بن الحسن».
وذكره العقيلي في "الضعفاء". وقال: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة (ثقة)، سمعت العباس الدوري يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: «جهمي كذاب».
ومن طريق أسد بن عمر (لم أعرفه وكأنه تصحيف) وقال: «هو كذاب».
وقال ابن أبي حاتم: قرئ على العباس بن محمد الدوري قال: سئل يحيى بن معين عن محمد بن الحسن الشيباني فقال: «ليس بشيء».
أخبرني عبد الله بن يحيى السكري قال: أنبأنا محمد بن عبد الله الشافعي قال: ثنا جعفر بن محمد بن الأزهر قال: ثنا بن الغلابي (المفضل بن غسان الغلابي) قال: قال يحيى بن معين: «محمد بن الحسن ليس بشيء».
قال العتيقي حدثنا تمام بن محمد بن عبد الله الأذني أخبرنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله البجلي قال سمعت نصر بن محمد البغدادي (مجهول إلا إن كان هو مضر) يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: «كان محمد بن الحسن كذاباً وكان جهمياً، وكان أبو حنيفة جهمياً ولم يكن كذاباً».
وقال عباس الدوري عن ابن معين: «كتبت "الجامع الصغير" عن محمد بن الحسن». وقد درس ابن معين الفقه على أبي يوسف، وبقي له محباً، حتى أن الذهبي بالغ فجعل ابن معين من الحنفية الغلاة. وقد حدث خلاف وتنافس بين أبي يوسف ومحمد بن الحسن على زعامة الأحناف، فهذا سبب حمل ابن معين الشديد على محمد. وأما التكذيب فالمقصود به الخطأ في نسبة الرأي إلى أبي يوسف (كما سيأتي). وأما التجهم فالمقصود به الإرجاء (كما سيأتي).
وقال عمرو بن علي: «ضعيف».
وكذلك قال النسائي.
الجنيدي، ثنا البخاري، قال أحمد بن عبدة (ثقة)، عن عبدان، سمعت منصور بن خالد (مجهول) يقول: اطلعت إلى محمد بن الحسن، سمعته يقول: «لا ينظر أحد إلى كلامنا يريد به الله». قال: «فاكتفيت بذاك منه». أقول: هذا كذبة باهتة.
قال ابن عدي (6|174): «ومحمد بن الحسن هذا، ليس هو من أهل الحديث، ولا هو ممن كان في طبقته يعنون بالحديث، حتى أذكر شيئاً من مسنده. على أنه سمع من مالك الموطأ. وكان يقول لأصحابه: "ما رأيت أسوأ ثناءً منكم على أصحابكم، إذا حدثتكم عن مالك ملأتم علي الموضِع. وإذا حدثتكم عن غيره تجيئوني متكارهين". وإنما أراد به أبو حنيفة وأصحابه. والاشتغال بحديثه شغل لا يحتاج إليه، لأنه ليس هو من أهل الحديث فينكر عليه. وقد تكلم فيه من ذكرنا. وقد استغنى أهل الحديث عما يرويه محمد بن الحسن وأمثاله». أقول: إنما استغنوا عنه لخلافهم معه في الرأي. وأما حديثه فلم يستطع ابن عدي أن يأتي بما يثبت ضعف محمد بن الحسن فيه. وهذا موطأه عن مالك يشهد له بالإتقان.
ذكر حمزة بن إسماعيل الطبري (كذاب)، عن محمد بن أبي منصور (ليس بذاك)، عن أبي نعيم قال: قال أبو يوسف: «محمد بن الحسن يكذب علي».
قرأت على الحسن بن أبي بكر عن احمد بن كامل القاضي قال أخبرني أحمد بن القاسم عن بشر بن الوليد (صدوق أصابه الخرف) قال: قال أبو يوسف: «قولوا لهذا الكذاب -يعني محمد بن الحسن-: هذا الذي يرويه عني، سمعه مني؟».
قال أحمد بن محمد بن عبد الله الكاتب: أنبانا محمد بن حميد المخرمي قال: نبأنا علي بن الحسين بن حبان قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده: قال أبو زكريا -يعنى يحيى بن معين-: سمعت محمد بن الحسن صاحب الرأي، وقيل له: «هذه الكتب سمعتها من أبي يوسف؟». فقال: «لا والله، ما سمعتها منه. ولكني من أعلم الناس بها. وما سمعت من أبي يوسف إلا "الجامع الصغير"». أقول: هذا مما يكذب القصة الأولى، لأن محمد بن الحسن يخبر الناس بأنه لم يسمع من أبي يوسف إلا "الجامع الصغير" (وهو الذي كتبه عنه ابن معين).

قال الكوثري: «نعم، سبق أن كَذَّب أبو يوسف محمداً في مسائل عزاها إليه. ولما بلغ الخبر محمداً قال: "كلا، ولكن الشيخ نسي". ثم تَبَيَّنَ أن قول محمد هو الصواب».



الذم في عقيدته
أحمد بن محمد بن غالب قال: حدثني محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الملك الأدمي قال: نبأنا محمد بن علي الأيادي قال: نبأنا زكريا الساجي قال: «محمد بن الحسن كان يقول بقول جهم وكان مرجئاً». أقول: قد كان محمد بن الحسن تبعاً لشيخه أبي حنيفة ولشيخ شيخه حماد بن أبي سليمان، وكلهم من مرجئة الفقهاء. بخلاف أبي يوسف القاضي، الذي كان سلفياً.
الحسن بن أبي الحسن قال: حدثني محمد بن شاذان، ثنا إسحاق بن راهويه، سمعت يحيى بن آدم يقول: «كان شريك لا يجيز شهادة المرجئة. فشهد عنده محمد بن الحسن، فلم يجز شهادته. فقيل له: "هذا محمد بن الحسن". فقال: "أنا لا أجيز شهادة من يقول الصلاة ليست من الإيمان"». أقول: كان شريك شيعياً جلداً، وكان محمد بن الحسن أحسن منه، وإن كان مرجئاً.
محمد بن الحسين بن محمد المتوثي قال" أنبأنا أحمد بن عثمان بن يحيى الأدمي قال: نبأنا محمد بن إسماعيل أبو إسماعيل الترمذي قال: سمعت أحمد بن حنبل، وذّكَرَ ابتداء محمد بن الحسن فقال: «كان يذهب مذهب جهم». وقد روي هذا القول بلفظ قريب: «كان محمد بن الحسن في الأول يذهب مذهب جهم». وهذا يدل على أنه كان يذهب مذهب جهم ثم رجع. والظاهر أن المقصود هو بدعة الإرجاء، مع الفارق الكبير بين مرجئة الفقهاء وبين مرجئة الجهمية.
البرقاني قال: نا يعقوب بن موسى الأردبيلي قال: نبأنا أحمد بن طاهر بن النجم الميانجي قال: نبأنا سعيد بن عمرو البرذعي قال: سمعت أبا زرعة يعنى الرازي يقول: «كان أبو حنيفة جهمياً، وكان محمد بن الحسن جهمياً، وكان أبو يوسف سليماً من التجهم». قلت: كانوا يطلقون التجهم على الإرجاء تخويفاً للناس منه. لكن جاء في سؤالات البرذعي المطبوعة (1|570): سمعت أبا زرعة يقول: «كان أبو حنيفة جهمياً، وكان محمد بن الحسن جهمياً، وكان أبو يوسف جهمياً بين التجهم». وهذا لا شك أنه غلط، فلم يكن أبو يوسف مرجئاً.
أبو طالب عمر بن إبراهيم بن سعيد الفقيه قال: نا محمد بن العباس الخزاز قال: نا أبو طالب أحمد بن نصر بن طالب (ثقة) قال: نا أبو النصر إسماعيل بن ميمون العجلي قال: حدثني عمي نوح بن ميمون (ثقة) قال: «دعاني محمد بن الحسن إلى أن أقول القران مخلوق، فأبيت عليه. فقال لي: "زهدت في نصفك". فقلت له: "بل زهدت في كلك"». قلت: هذه أسطورة لا أصل لها. وقد قرَّر أبو جعفر الطحاوي عقيدة محمد بن الحسن، في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة (العقيدة الطحاوية المشهورة). وكان لا يرى الصلاة خلف من قال القرآن مخلوق، كما في "مختصر العلو" (ص113). ويأمر من صلَّى خلف من يقول: "القرآن مخلوق"، بالإِعادة، كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة (2|277). وذكره اللالكائي فيمن أجمعوا على تكفير القائل بخلق القرآن، كما في المصدر السابق (2|271).

عبد الرحمن بن عثمان الدمشقي يذكر، أن خيثمة بن سليمان القرشي (الطرابلسي) أخبرهم قال: نبأنا سليمان بن عبد الحميد البهراني (ناصبي اتهمه النسائي بالكذب) قال: حدثنا عبد السلام بن محمد (الحضرمي) قال: سمعت بقية (شديد التدليس) يقول: قيل لإسماعيل بن عياش: «يا أبا عتبة. قد رافق محمد بن الحسن يحيى بن صالح من الكوفة الى مكة». قال: «أمَا أنه لو رافق خِنزيراً كان خيراً له منه». قلت هذه بذاءة يُجلّ عنها ابن عياش، ولا يصح الإسناد إليه.
روى اللالكائي في "أصول السنة" عن محمد بن الحسن قال: «اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله r في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه. فمن فسّر اليوم شيئاً من ذلك، فقد خرج مما كان عليه النبي r وفارق الجماعة. فإنهم لم يصفوا و لم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب و السنة ثم سكتوا». قلت: وهذا والله إجماع صحيح، فأين ما ينسبونه للتجهم؟ إنما يقصدون الإرجاء فحسب.


الخلاصة

يظهر مما سبق أن محمد بن الحسن ثقة في مالك، فضلاً عن أبي حنيفة وأبي يوسف. وأما عن غيرهم فربما فيه لين، ويكتب حديثه ويعتبر به. وليس له من الحديث المرفوع في الكتب الستة، لكن له كتب آثار مقبولة، وإن كان أكثر ما فيها عن أبي حنيفة عن حماد، وقد عرفت حالهما. وأما عقيدته فسلفية، إلا في باب الإيمان فقد كان من مرجئة الفقهاء. وأما في الفقه فقد كان ضليعاً به، منصفاً، محباً للمناظرة، وإن كان قد أفرط في الرأي وفي دقائق الأمور.
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
  #28  
قديم 2011-04-01, 06:08 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي







منهج ابن عدي :





قال الذهبي في ترجمة ابن عدي: «وجرَّح وعدَّلَ وصحَّح وعلَّلَ، وتقدَّم في هذه الصناعة على لحنٍ فِيهِ، يظهَرُ في تأليفِهِ». قال الشيخ خلف سلامة: «من محاسن النقد عند ابن عدي هو جمعه واستقراؤه ما لعله يستنكر من حديث الراوي المتكلم فيه، ثم النظر في تلك الأحاديث وطرقها، وبيان من الذي حقه أن يكون الحمل عليه فيها إن وجد فيها ما يستنكره. ولكن ابن عدي في مواضع كثيرة من كتابه "الكامل" كثير الدفاع عن المضعفين وجماعة من الضعفاء بل وبعض المتهمين. ويظهر لي أن أكثر نظره عند اعتباره أحاديث الراوي وسبرها، إنما كان يتوجه إلى متونها دون أسانيدها. ثم هو فوق ذلك، قليل الاستنكار للمنكر من الأحاديث، بطيء جداً عن ادعاء النكارة فيها ووصفها بها. وهو لا يكاد يلتفت إلى الإغراب في السند أو النكارة الواقعة فيه، بل هو كثير الدفاع عن الأحاديث التي فيها غرابة بينة أو يسير من النكارة. أي يكثر منه أن يدافع عن الأحاديث التي لا تفحش نكارتها أو التي لا تكون نكارتها بينة واضحة. وهذا –كما هو بيّن– من أسباب التساهل في الأحكام على الرواة وتقوية بعض الضعفاء. ولا سيما أن عدم النكارة في حديث الراوي، يلزم منها عند ابن عدي قوته –في كثير من الأحيان– ولو وجد في ذلك الراوي تجريحاً صريحاً. وهكذا انتهى ابن عدي رحمه الله تعالى إلى تقويته طائفة كبيرة من المختلف فيهم، والدفاع عن جملة من المتهمين أو المجاهيل. هذا وقد تبين لي من متابعة كلمات ابن عدي في الرواة المتروكين والضعفاء في كتابه "الكامل"، أنه يريد بالنكارة، وبمشتقاتها من الكلمات أو مثيلاتها من العبارات، معنى هو أشد وأسوأ معانيها عند الجمهور».



وقال الحويني في "النافلة" (2|145): «وزعم (أحد المعاصرين) أن ابن عدي مشهور بالإفراط في الجرح! مع أن ابن عدي معروف بأنه وسط. وجانب التسامح عنده أظهر جداً من جانب الجرح». وقال مصطفى بن إسماعيل في "إتحاف النبيل" (1|42): «إن ابن عدي يعد من المعتدلين، وإن كان فيه من التساهل في بعض المواضع». وقال عنه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (16|156): «وهو منصف في الرجال بحسب اجتهاده».



قول ابن عديٍ عن الراوي: «أرجو أنه لا بأس به» ليست على بابها دائماً، بل هي كلمةٌ معناها واسعٌ عنده. فأحياناً يستعملها مع تضعيفه للراوي الذي قالها عنه. قال المعلمي في "الفوائد المجموعة" (ص51): «هذه الكلمة رأيت ابن عدي يطلقها في مواضع تقتضي أن يكون مقصوده: أرجو أنه لا يتعمد الكذب». وقال (ص430): «وقوله "هو عندي من أهل الصدق" يعني: أنه لم يكن يتعمد الكذب». وقد استعملها أيضاً في حقِّ من هو من الحفَّاظ الثقات. فقد قال عن الحكم بن عتيبة وسماك بن حرب (2|844): «ليس بهما بأس». ومن المعلوم أنَّ الحكم من الثقات الأثبات. ولذلك لا يلزم من قول ابن عدي في "الكامل" عن الراوي: «أرجو أنه لا بأس به» تعديلاً له منه.



وظن البعض أن قول ابن عدي عن الراوي "لا بأس به" أنه توثيق، حتى قال السيوطي عن أحد المتروكين: "ووثقه ابن عدي فقال: أرجو أنه لا بأس به". وهذا غلط. وقد تعقبه المعلمي في تعليقه على "الفوائد المجموعة" للشوكاني (ص459): «ليس هذا بتوثيق. وابن عدي يذكر منكرات الراوي ثم يقول "أرجو أنه لا بأس به"، يعني بالبأس: تعمد الكذب». وقال كذلك (ص35): «وهذه الكلمة رأيت ابن عدي يطلقها في مواضع تقتضي أن يكون مقصوده: "أرجو أنه لا يتعمد الكذب". وهذا (الموضع الذي عليه هذا التعليق) منها، لأنه قالها (أي كلمة "أرجو أنه لا بأس به") بعد أن ساق أحاديث يوسف (بن المنكدر)، وعامتها لم يتابع عليها». وقال هناك أيضاً (ص501): «لفظ ابن عدي "هو من أهل الصدق" يعني لم يكن يتعمد الكذب».



قال الألباني في ضعيفته (3|112): «إن قول ابن عدي "أرجو أنه لا بأس به" ليس نصاً في التوثيق. ولئن سلم، فهو في أدنى درجة في مراتب التعديل أو أول مرتبة من مراتب التجريح، مثل قوله "ما أعلم به بأساً، كما في "التدريب" (ص234)». وقال ابن عدي عن ابن قيراط: «منكر الحديث عن ثابت وغيره، ولا يتابع، وأحاديثه أفراد. وأرجو أنه لا بأس به. وهو خير من بشار بن قيراط». فعلق على ذلك الألباني في صحيحته (4|577): «ابن قيراط كذبه أبو زرعة وضعفه غيره. فكأن ابن عدي يعني بقوله أنه "لا بأس به": من جهة صدقه. أي أنه لا يتعمد الكذب. وإلا لو كان يعني من جهة حفظه أيضاً، لم يلتق مع أول كلامه "منكر الحديث...". وقال ابن حبان: "ينفرد عن ثابت بأشياء ليست من حديثه". قلت: فمثله إلى الضعف، بل إلى الضعف الشديد أقرب منه إلى الصدق والحفظ. والله أعلم».



قال ابن القطان الفاسي في كتابه "الوهم والإيهام" (4|324): «فأما أبو أحمد بن عدي فإنه ذكر الرجل (موسى بن هلال) بهذا الحديث، ثم قال: "ولموسى غير هذا..." وهذا من أبي أحمد قولٌ صدر عن تصفُّح روايات هذا الرجل، لا عن مباشرةٍ لأحواله. فالحق فيه أنه لم تثبت عدالته». قال الشيخ عبد الله السعد (ص47): «وأنا أذهب إلى ما ذهب إليه ابن القطَّان. وهذا بناءً على أنَّ قول ابن عديٍّ "أرجو أنه لا بأس به" تقوية له. ولكن الصحيح: أنَّ هذه الصيغة من ابن عديٍّ لا تفيد ذلك عنده. فقد أطلقها على رواةٍ ضعَّفهم هو وغيره». ثم ساق خمسة أمثلة على ذلك، منها المثال الخامس (ص51):
وكذلك قالها في أناس ضعفاء، بل وفيهم من اتهم. فقد قال عن حبيب بن حسان بن أبي الأشرس (2|811): «ولحبيب بن حسان غير ما ذكرت من الحديث،. فأما أحاديثه وروايته فقد سبرته، ولا أرى به بأساً،. وأما رداءة دينه –كما حُكيَ عن يحيى القطان، وكما ذكر عمرو بن علي عن الأفطس– فهم أعلم. وما يذكرونه والذي قالوا محتمل. وأما في باب الرواية فلم أرَ في رواياته بأساً». كذا قال، وقد نقل هو في ترجمته قول ابن المثنى: «ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن حدثنا عن سفيان عن حبيب شيئاً قط». ونقل عن أحمد قوله: «متروك»، وعن البخاري: «منكر الحديث»، وعن يحيى –وهو ابن معين–: «ليس حديثه بشيء»، وأيضاً: «ليس بثقة. وكان له جاريتان نصرانيتان، وكان يذهب معهما إلى البيعة!»، وعن عبد الله بن سلمة الأفطس قوله عنه: «تزوج امرأة نصرانية كان عشقها، فتنصَّر»، وعن يحيى: «كان رديئاً»، وعن السعدي: «ساقط»، وعن النسائي: «متروك الحديث». وقال ابن حبان (1|264): «منكر الحديث جداً، وقد كان عشق امرأة نصرانية، وقد قيل إنه تنصر وتزوج بها. فأما اختلافه إلى البيعة من أجلها فصحيح». قال الشيخ (ص52): «تبيَّن مما تقدَّم أن هذا الراوي ضعيف جداً، بل بعضهم شكَّك في إسلامه. فالذي يبدو أنَّ كلام ابن عديٍّ ليس على ظاهره، والله تعالى أعلم».
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
  #29  
قديم 2011-04-01, 06:09 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي






منهج ابن حجر العسقلاني :







أخطاء ابن حجر العقائدية

الحافظ ابن حجر العسقلاني من كبار العلماء، بلا أدنى ريب. ولا تكاد تجد عالماً بعده، إلا ويستفيد من كتبه، وبخاصة فتح الباري. وهذا لا يمنع أن يكون قد ارتكب أخطاءً لأنه غير معصوم. وأهم هذه الأخطاء أنه وافق الأشاعرة في العديد من المسائل العقائدية وخالف بها معتقد أهل السنة والجماعة، وإن كان في مواضع أخرى قد وافق أهل السنة وانتقد الأشاعرة كما في فتح الباري (1|71) و(4|135) و(6|290) و(7|409) وغيره. وقد كفانا في تبيين أخطاءه العقائدية في فتح الباري، كتاب الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل "التنبيه على المخالفات العقدية في فتح الباري لابن حجر". وهو كتاب راجعه وأثنى عليه عدد من المشايخ مثل ابن باز وابن عثيمين والفوزان والراجحي والغنيمان وكثير غيرهم. فنفي بعض طلبة العلم لوقوع ابن حجر في أخطاء عقائدية هو غلو فيه، نعوذ بالله منه.


ابن حجر ليس أشعرياً

الحافظ ابن حجر كما يقول الشيخ سفر: «أقرب شيءٍ إلى عقيدة مفوضة الحنابلة كأبي يعلى ونحوه ممن ذكرهم شيخ الإسلام في "درء تعارض العقل والنقل" ووصفهم بمحبة الآثار، والتمسك بها، ولكنهم وافقوا بعض أصول المتكلمين، وتابعوهم ظانين صحتها عن حسن نية». وقال: «وكثيراً ما تجد في كتب الجرح والتعديل –ومنها "لسان الميزان" للحافظ ابن حجر– قولهم عن الرجل أنه وافق المعتزلة في أشياء من مصنفاته، أو وافق الخوارج في بعض أقوالهم، وهكذا، ومع هذا لا يعتبرونه معتزلياً أو خارجياً. وهذا المنهج إذا طبقناه على الحافظ وعلى النووي و أمثالهما، لم يصح اعتبارهم أشاعرة، وإنما يقال: وافقوا الأشاعرة في أشياء، ومع ضرورة بيان هذه الأشياء واستداركها عليهم». ا.هـ كلام الشيخ سفر. والملاحظ على منهج ابن حجر في العقيدة ما يلي:

1- كل الكتب التي تَرجمت للحافظ ابن حجر –وخاصة القديمة منها– لا تكاد تصرّح بشيءٍ فيما يتعلق بمذهبه العقدي. بل على العكس، هناك عبارة واحدة نقلها السخاوي (تلميذ ابن حجر) في "الجواهر والدرر" عن الجمال ابن عبد الهادي (السلفي المشهور) يقول فيها عن ابن حجر: «كان محباً للشيخ تقي الدين ابن تيمية، معظماً له، جارياً في أصول الدين على قاعدة المحدثين...».

2-كان أهل ذلك العصر –أعني عصر ابن حجر– أو ما يسمى عصر سلاطين المماليك، عصر انتشار التصوف وتقديس الأشياخ والاعتقاد فيهم. وقد كانوا في غاية التعصب لما هم عليه من العقائد المنحرفة. حتى أن ابن حجر يذكر في كتابه "إنباء الغمر" أن قراءة كتاب في العقيدة السلفية ككتاب الإمام الدارمي "الرد على الجهمية" يعد خروجاً على عقيدة الجماعة ويسجن صاحبه! تخيلوا يسجن المسلم بسبب قراءته لكتاب سلفي! أما الأخذ بآراء شيخ الإسلام في ذلك العصر فيؤدي بصاحبه للأذى والابتلاء ولمز الناس له بالتيمي! ولا يفوتنا ذكر ابتلاء وامتحان الإمام ابن أبي العز الحنفي المعاصر لابن حجر –كما يذكر ابن حجر في "إنباء الغمر"– حين رفض تقريض قصيدة للشاعر علي أيبك الصفدي التي غلا فيها بالنبي ، وانتقد فيها مواضع كالتوسل وغيرها، فسجن أكثر من ستة أشهر!

3- ومع ذلك فابن حجر خالف الأشاعرة في كتابه "فتح الباري" في أصول مذهبهم. وقد تتبع بعض الباحثين مخالفات ابن حجر في فتح الباري للأشاعرة ووجدوها كثيرة.

4- انتقد ابن حجر الأشاعرة مرات عديدة في كتبه. فمثلاً قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13|253): «وقد توسَّع من تأخّر (يقصد الأشاعرة) عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم. ولم يقتنعوا (أي الأشاعرة) بذلك، حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة: أصلاً يرُدّونَ إليه ما خالَفَهُ من الآثار بالتأويل، ولو كان مستكرهاً. ثم لم يكتفوا بذلك، حتى زعموا أن الذي رتّبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يَستعمِل ما اصطلحوا عليه، فهو عامِّيٌّ جاهلُ. فالسعيد من تمسَّكَ بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف (أي الأشاعرة)».



تعصب ابن حجر ضد الحنفية
وابن حجر شافعي كذلك، وقد حصل في عصره نزاع بين الشافعية والأحناف. فكان لهذا تأثير على مؤلفاته، أضف لذلك النزاع الشخصي الشهير بينه وبين فقيه الأحناف الحافظ العيني الذي كان يكتب في نفس الوقت شرحاً لصحيح البخاري. وقد ترى بعض ذلك في ردود العيني عليه، ولو أن الثاني متعصب لمذهبه أكثر من ابن حجر. والله أعلم.

ومن دأب ابن حجر في كتبه –ولا سيما ‏"‏فتح الباري‏"‏– أنه يغادر حديثاً في بابه مؤيداً للحنفية، مع علمه، ثم يذكره في غير مظانه، لئلا ينتفع به الحنفية‏.‏ وقد نقل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة (ص9) من "الرفع والتكميل"، كلام الكشميري عن ابن حجر بأنه: «لا يريد أن ينتفع الحنفية من كلامه ولو بجناح بعوضة. فإن حصل، فذلك بلا قصد منه». وقال أبو غدة أن هذه الكلمة: «كلمة عادلة». وقال محمد أنور الكشميري كذلك عن ابن حجر أنه: «يتطلب دائمًا مواقع العلل، ويتوخى مواضع الوهن من الحنفية. ولا يأتي في أبحاثه ما يفيد الحنفية. ويقول شيئاً، وهو يعلم خلاف ذلك. ولا يليق بجلالة قدره ذلك الصنيع. وحاشايَ أن أغض من قدر الحافظ ابن حجر الذي يستحقه، وإنما هي حقائق ناصعة، ووقائع ثابتة، يجب على الباحث الناقد أن يعرفها. عفا اللّه عنه، وبدّل سيئاته حسنات‏».‏

ثم إن ابن حجر ذكي جداً عندما يريد أن يطعن في غيره دون أن يبدو متعصباً عليه. فيقوم بنقل أقوال غيره في جرح هذا الرجل. فعلى سبيل المثال فإن ابن حجر نقل ترجمة الطحاوي التي ذكرها الذهبي في تذكرة الحفاظ (3\809)، فأعادها في لسان الميزان (1\275)، لكن مع تطويلٍ ولمزٍ وغمز في الطحاوي، كعادته في تراجم علماء الأحناف، مع التزام أن يكون الجرح منقولاً عن غيره حتى لا يُتّهم بالتعصب. فيما يغض النظر عن كثيرٍ من أخطاء أبناء مذهبه –الشافعية– وإن عَظُمَت. فهل تراه ترجم للبيهقي مثلاً بنفس هذا الإسلوب؟ رغم أن البيهقي نظير الطحاوي في انتصاره للشافعية مقابل انتصار الطحاوي للأحناف.


تحامل ابن حجر على شيخ الإسلام ابن تيمية
وقد فعل ذلك بترجمات الكثير من العلماء بما فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية. وتحامل ابن حجر على الإمام ابن تيمية رحمهما الله تعالى موجود وعليه دلائل كثيرة. وترجمته له في الدرر الكامنة تضمنت نقولاً –لا هو أسندها ولا بين مآخذها– في النيل منه وضعها بإزاء كلام الأئمة المعروفين فيه. ونقل أكاذيب كثيرة عن شيخ الإسلام نسبها لرَحّالة مجهول يسمى الآقشهري. قال محقق ترجمة الحافظ ابن حجر السيد محمد عزيز شمس بعد هذا النقل: «ما نقله الحافظ هنا عن الآقشهري أو غيره لم نجده في المصادر السابقة! ولم نجد ما يوافق ما ذكره في مؤلفات الشيخ رحمه الله. وجميع ما نقله الحافظ عن الآقشهري في "رحلته" مخالف لكل ترجمات الشيخ. ونحن نستغرب من الحافظ استرواحه لهذه الأخبار التي لا أساس لها من الصحة، واعتماده على الآقشهري مع تفرده بها». فهل هذه هي الأمانة؟! ولا يعكر على ذلك بعض عبارات يقف عليها الباحث في كلام ابن حجر رحمه الله في وصف شيخ الإسلام بالحفظ ونحو ذلك، فقد أُثِرَ عن السبكيان (الكبير والصغير) ما هو أبلغ في المدحة من هذه العبارات، مع كونهما من أشد خصومه وأكثر المتعصبين عليه.

والذي يظهر لي كذلك أن ابن حجر كان في بداية حياته وأوائل مؤلفاته مائلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وذلك جلي في ترجمة شيخ الإسلام في كتابه "الدرر الكامنة". حيث غالب ما نقله عن غيره هو جرحٌ في ابن تيمية لا يصح أصلاً، وهو أدرى بذلك ولم ينبه عليه. وكأنه أراد بشكل خفي أن يطعن شيخ الإسلام بكلام غيره. وإلا فلم ينقل الجرح الباطل ولا يجيب عليه؟! كما أنك تلحظ في كتبه جفوة حين يذكر ابن تيمية، وكثيراً ما يتهمه بتهم باطلة. ولكنه قد تغيّر واعتدل في بعض كتبه الأخيرة، فأثنى عليه كما في كتاب ابن ناصر الدين.

قال ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان (6\319) عن شيخ الإسلام ابن تيمية: «وجدته كثير التحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر ‏‏(الزنديق الرافضي الشهير). وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات، لكنه رد –في ردّه– كثيراً من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف ‏مظانها، لأنه كان لاتساعه في الحفظ يتكل على ما في صدره. والإنسان عامد للنسيان. وكم من مبالغة لتوهين كلام الرافضي، أدّته أحياناً إلى تنقيص علي».

أقول هذا كذبٌ على شيخ الإسلام. وأين انتقص علياً رضي الله عنه؟ بل كتبه طافحة في الثناء عليه وعلى بنيه. وهل يستطيع ابن حجر أن يأتينا بحديثٍ ‏بين شيخ الإسلام ضعفه، ولم يسبقه أحد؟ أم أنها محاولة للطعن بشيخ الإسلام لغرضٍ في النفس؟

قال العثماني الحنفي تعليقاً على كلام ابن حجر: «ومما رذّه ابن تيمية من الأحاديث الجياد في كتابه "منهاج السنة"، حديثُ ردِّ الشمس لعلي t. ولمّا رأى ‏الطحاويَّ قد حسّنه وأثبته، جَعَلَ يَجرح الطحاوي بلسانٍ ذَلْقٍ وكلامٍ طَلْق. و أيمُ الله إن درجةَ الطحاوي في علم الحديث، فوق آلافٍ من مثل ابن تيمية. وأين ‏لإبن تيمية أن يكون كتُرابِ نعليه! فمثلُ هؤلاء المتشدّدين لا يُحتج بقولهم إلا بعد التثبت والتأمل». قلت: لا والله -والحق يُقال- بل إن درجة ابن تيمية في الحديث فوق الطحاوي بمرات. وأما حديث رد الشمس فهو موضوع لا يخفى ضعفه على أحد. بل إن الإمام أبا حنيفة نفسه استنكره. فما بالك بباقي ‏الحفاظ؟ ولم لا نجد هذا الهجوم على من ضعف الحديث غير ابن تيمية مثل ابن كثير (الذي نقل تضعيفه عن أبي حنيفة)؟


تعاطف ابن حجر مع الشيعة
وفيما نجد هذا الهجوم من جانب ابن حجر على شيخ الإسلام، نجد الثناء العطر على ذلك الرافضي الخبيث الذي لم يكد يترك صحابياً إلا ونال منه وطعن فيه. ‏فيقول ابن حجر في لسان الميزان (2\317): «الحسين بن يوسف بن المطهر الحلي: عالم الشيعة وإمامهم ومصنفهم. وكان آية في الذكاء (!!) شرح مختصر بن ‏الحاجب شرحاَ جيّداً سهل المآخذ، غايةً في الإيضاح. واشتهرت تصانيفه في حياته. وهو الذي رد عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية في كتابه المعروف بالرد على ‏الرافضي (قلت: اسم الكتاب هو منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية). وكان ابن المطهر، مشتهر الذكر وحسن الأخلاق (!!!) ولما بلغه بعض كتاب ‏ابن تيمية قال: "لو كان يفهم ما أقول، أجبته"».‏

فما فعله ابن حجر بأن يذكر الرجل الزنديق المعادي للإسلام فيثني عليه ويقول عنه «مشتهر الذكر وحسن الأخلاق» (متناسياً إفحاشه في سب الصحابة) وأنه «آية في الذكاء» (رغم الحماقات التي وقع بها ورغم إغراقه في نصرة الخرافات المضحكة)، ثم يذكر رده على ابن تيمية. فهذا شيء سيئ للغاية. خاصة أنه في ترجمة ابن تيمية لم يُفوّت الفرصة على نفسه للنيل من شيخ الإسلام. فلم لم يطعن بالرافضي هنا؟ ثم أين الأمثلة التي فيها أن شيخ الإسلام تنقص فيها علياً؟ {قُلْ هاتوا بُرهانكُمْ إِنْ كُنتُمْ صادقينَ}. فالبينة على المدعي.

يقولون أقوالاً ولا يثبتونها * وإن قيل هاتوا حقِّقوا، لم يُحقِّقوا


فالحافظ ابن حجر رحمه الله لم يذكر في الرافضي الخبيث إلا الثناء العاطر دون أن يرد عليه، وذَكَر كتابه ولم يذكر ما ورد فيه من الطعن في الصحابة. فما حاجه لذلك؟ وهل هذا من الإنصاف في التراجم؟ إذ يذكرني بإسلوب الرازي الذي كان يسرد حجج الزنادقة ويطيل في بيان حججهم المقوية لبدعهم، ثم لا يرد عليهم إلا برد باهت. بينما طريقة الأئمة المؤرخين كالحافظ الذهبي -وهو من أفضل من كتب في علم الرجال- هي أنه عندما يترجم للرجل، يذكر ما فيه من مدح وذم، ولا يذكر فقط المدح ويترك الذم، خاصة مع مبتدع خبيث ما ترك شبهة للرافضة إلا ونصرها وقوّاها. ورغم أن الذهبي قد يحاول الاعتذار أحياناً لبعض أهل البدع، فهو لم يحابِ الرافضة أبداً. وانظر ما قال في ترجمة عمران بن مسلم الفزاري في الميزان (5|294).

وليس ثناء ابن حجر على إبن المطهر الرافضي وحده، بل تجده لكثيرٍ من غلاة الرافضة وخبثائهم، مع تصريحه بأنه اطلع على تراجمهم في كتب الشيعة. فأين ميزان العدل يا ‏ابن حجر؟ على أن هذا البحث لا يقصد به الطعن في الأشخاص أو القدح في العلم أو إسقاط المكانة العلمية. وحاشا لله أن يقوم أحد بذلك. وموقف الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى من الرافضة -عامة- أظنه واضحاً في تسفيه مذهبهم. والذي يظهر هو تعاطف مع الشيعة وليس ميلاً للرفض منه، وبين الأمرين بونٌ واسع. ولو قال باحث ما إنه عثر على تساهله مع بعضهم، فهذا ليس بأشد من تعاطف الحافظ مع غلاة الأشاعرة وأخص الذين يذهبون في اعتقادهم إلى ضرب من التجهم والاعتزال (وإن كان يخالفهم وينتقدهم في مواضع). ومع ذلك فابن حجر إمامٌ في العلم والتُّقى والورع، فلا يؤثر هذا في مكانته العالية عندنا.

وعند المقارنة بين كتابي الميزان للإمام الذهبي وابن حجر، يبدو الفرق شاسعاً بين الكتابين. فقد أضاف ابن حجر ذماً لبعض تراجم الأحناف، وحذف كثيراً من الذم من تراجم الشيعة. وقد عرف الرافضة مقدار تقدير ابن حجر لهم مقارنة مع الذهبي. فقال الرافضي المدعو محمد رضا الحسيني الجلالي في كتابه "إيقاظُ الوَسْنان بالملاحظات على فتح المنّان في مقدّمة لسان الميزان":

«إنّ علم الجرح والتعديل من المعارف الإسلاميّة المهمّة التي يبتني عليها المهمّ من أمر إحراز السنّة الشريفة، والاستيثاق منها، والتأكُّد من سلامة طرقها ووسائل إثباتها، وهي الأسانيد الحاوية لأسماء الرواة. وقد بذل علماء الاُمّة الإسلاميّة المجيدة قُصارى جهودهم في تحقيق هذا العلم. فحدّدوا معالمه، ونقّحوا مسائله، وألّفوها في كُتبٍ جامعة. ومن أشهر مؤلّفات «الجرح» هو كتاب «لسان الميزان» الذي ألّفه الحافظ، شيخ الإسلام، ابن حَجَر العسقلاني (ت 852) مُعقّباً ما أورده الذهبيّ التركماني (ت 748) في كتابه «ميزان الاعتدال». وبما أنّ الذهبي معروف بحنبليّته، فلذلك قد أبدى في كتابه كثيراً من التعصُّب، وخلّط في كثير من المواضع، وبالأخصّ عندما يتورّط بعلومٍ ـ غير التاريخ ـ ممّا لا عَهْدَ له بها، ولم تكن له فيها يدٌ أو باع أو شأن، كالكلام والفقه والعلوم العقلية، وحتّى فقه الحديث ومتن الحديث، وعلوم اللغة والأدب، فإنّ كلّ هذه المعارف لم يتعمّقْ فيها، وإنّما تخصّص بِعلم تاريخ الرجال، فلذلك وقع في مؤلّفاته ـ عندما يتعرّض لما لا يَعنيه ـ في كثير من الغلط والتجديف والتكلّف والتحكّم على الواقع والحقّ، مستخدماً أساليبَ القذف والتكذيب، سيّما إذا واجه واحداً من أولياء أهل البيت عليهم السّلام وأتباع مذهبهم، فإنّه يُغْرِقُ سهماً في المغالطة والإيهام، وإبراز الكراهيّة، وكَيْل الاتّهام، والإغراء لقرّائه بالحطّ والغضّ عن المكارم والمحاسِن، ويُحاول التشكيك والتهوين لها، مع التضخيم والتهويل لما يراهُ جرحاً وقدحاً، ولا يألُو جُهْداً في كلّ هذه الألوان من التصّرفات مع مَنْ يُخالفه في الرأي والهوى. وقد عُرِفَ الذهبيّ بما ذكرنا من التصّرفات عند أهل نحلته من علماء السنّة، فضجّوا منها ومنه، لمّا رأوهُ لا يتقيّد بحدٍّ في ذلك، ولا يردعهُ دين، أو موضوعيّة، أو وجدان، فتصدّوا له في مؤلّفاتهم، حَذَراً من ضياع الحق الذي أخفاه، وخوفاً من نفاذ الباطل الذي أبداه[1]. وفي مقدمة الذين عقّبوهُ بالاستدراك: الحافظ، الشافعيّ ابن حَجَر العسقلانيّ، فقد قابَلَ تصرّفات الذهبي، بالردّ والتصحيح مستخدماً أُسلوباً يتّسِمُ بالأدب والإنْصاف، مع الفَهم الجيّد والموضُوعيّة، مُحاولاً تعديل ما أوهمه الذهبي في ميزانه. وقد يعودُ اعتدال ابن حَجَر وإنصافه إلى علمه الزاخِر وموسوعيّته الشاملة لأكثر العلوم الإسلاميّة، كالفقه، والحديث، واللغة، مضافاً إلى تبحّره في علوم تاريخ الرواة وتراجم الرجال، مما جَعَلَه أقدر وأوْعَب، وأبرز وأعمق، في مواقفه مع الذهبيّ عندما يُؤاخذُهُ، ويُساجلِه. ومن أجل ذلك كان (لسان الميزان) أكبر فائدةً من (ميزان) الذهبيّ، وأكثر تدقيقاً، وأعمّ وأشملُ مساحةً واستيعاباً، ممّا حدا بالحافظ ابن حَجَر أنْ يُعلن عن أسَفه بالانشغال بكتاب الذهبي، فقال: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، لم أتقيّد بالذهبيّ، ولجعلتُه ـ يعني اللسان ـ كتاباً مبتكراً»[2]. ولكنّ عمل ابن حجر، هو الآخر، لا يخلو من بعض المخالَفات، سواء في المنهج، اُم في الأحكام القاسية».
--------
1 ـ لاحظ قاعدة في الجرح والتعديل، وقاعدة في المؤرخين للتاج السبكي (ص 14 و16 و31 و35 و36).
2 ـ نقله السخاوي في كتابه «الجواهر والدرر» عن الحافظ ابن حجر، لاحظ كتاب (تعريف أهل التقديس) المقدمة (ص 17).

انتهى كلام الرافضي، والهوامش من عنده.

نلاحظ أن هذا الرافضي يصنّف ابن حجر من ضمن "علماء الأمة الإسلامية المجيدة"، ويصفه بأنه "الحافظ، شيخ الإسلام". بينما يتهكم بالإمام الذهبي أن أصله تركماني (وقد اعتبر هذا في بقية الكتاب عيباً!). بل يقول عنه "معروف بحنبليّته" رغم أن هذا كذبٌ، وقد صرح الذهبي في ترجمة أبيه بأنه شافعي المذهب. ثم هذا الرافضي يصف الذهبي بالتعصب الكثير وبالتخليط والجهل و "الغلط والتجديف والتكلّف والتحكّم على الواقع والحقّ، مستخدماً أساليبَ القذف والتكذيب، سيّما إذا واجه واحداً من أولياء أهل البيت عليهم السّلام وأتباع مذهبهم..." إلى آخر هراءه أخزاه الله. لكنه يصف ابن حجر بالاعتدال، بل ويعتبر كتابه "لسان الميزان" بمثابة محاولة تعديل لقسوة الذهبي على الشيعة في كتابه "ميزان الاعتدال". ويصف الرافضيُّ ابنَ حجر "بالأدب والإنْصاف، مع الفَهم الجيّد والموضُوعيّة"!! هذا مع أنه كرافضي، لديه بعض الملاحظات على ابن حجر، وهو أمرٌ لا مفرّ منه. لكن الشاهد هنا هو مديح الرافضة لما فعله ابن حجر من تلميع لصورتهم وتحسين تراجمهم.

وإن كان أحدٌ يعتقد أن مجرد نسبة ابن حجر للتشيع الخفيف طعناً به لا يجوز بأي حال، فما يقول عن وصف الإمام الذهبي لعدد من الأعلام بالتشيع مثل: أبي نُعَيم والنسائي وابن جريرٍ الطبري والحاكم؟ وماذا يقول عن وصف شيخ الإسلام للحاكم والنسائي وابن عبد البر (في منهاج السنة 7|373) بالتشيع؟ لم يتوهم أحدٌ أن هذا طعنٌ في عدالة هؤلاء. فلم ابن حجر استثناء، رغم أن هؤلاء المذكورون أحسن عقيدة منه وأقرب للسلف؟! وصدق الذهبي في قوله: الإنصاف عزيز.


منهج ابن حجر الحديثي
أما عن منهج ابن حجر الحديثي فيعاب عليه ميله لإصدار اصطلاحات جديدة، بخاصة في كتابه "نخبة الفكر". فإن قيل: أليس أنه لا مشاحة في الاصطلاح؟ قلنا نعم، ولكن ما الفائدة من المصطلحات الجديدة إن كانت ستسبب (وقد سبّبت) سوء فهم لأقوال كل الأئمة الذين من قبل ابن حجر، لأنه غير معاني المصطلحات؟



تساهل ابن حجر

قال أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل في "إتحاف النبيل بأجوبة أسئلة المصطلح والجرح والتعديل" (1|45): «وأما ابن حجر -من جهة تصحيح الأحاديث والكلام عليها- فهو إلى التساهل أقرب. وقد بان لي هذا جلياً عند تحقيقي للفتح. فكم من حديث يضعف صاحبه في التقريب، ومع ذلك يحكم على سند الحديث –وهو من طريقه– بأنه حسن أو صحيح... والحافظ ابن حجر رحمه الله -على سعة اطلاعه وكثرة استفادة طلبة العلم منه ومن كتبه- يتساهل». وقال (1|156) ما خلاصته أن ابن حجر ذكر في "مقدمة فتح الباري" أن ما سكت عليه من الأحاديث التي يوردها في شرح أحاديث البخاري فهي شريطة الصحة أو الحسن، ولكنه ما وَفّى بذلك، وأنه بان له في أثناء اشتغاله بتحقيق "فتح الباري" أن ابن حجر سكت على أحاديث كثيرة وهي ضعيفة، بل صرح بحسن أحاديث ضعيفة، وصرح في بعض الأحاديث بأنها على شرط مسلم، وهي شاذة. انتهى معنى كلامه.

وقال (1|132) في أثناء كلام له: «مع أنني أرى كثيراً من أحكام الحافظ الذهبي فيها تساهل، وكذلك الحافظ ابن حجر». قلت: تساهل الذهبي يجب حصره في كتاب "الكاشف" الذي كتبه في شبابه، ثم كتابه "السير". وحكمه في "الميزان" مقدَّمٌ عليه، وفيه اعتدال.



أنواع تساهل ابن حجر:

1- تساهل مع التابعين، خاصة مع قدمائهم.

2- تساهل في توثيق من له إدراك، أو من ذُكِرَ في الصحابة ولم تثبت صحبته.

3- تساهل في إثبات الصحبة للمختلف فيهم. وهذا والذي قبله تراه واضحاً في "تحرير التقريب".

4- له رتبة جديدة سماها "المقبول" أكثر من فيها مجاهيل، وفيها صدوقين كذلك. وهو لا يحب إطلاق كلمة "مجهول" إن لم يكن له سلف في ذلك، لذلك تساهل في الحكم عليهم.

5- تساهل في تحسين (وأحياناً تصحيح) الأحاديث بمجموع طرقها –على نهج المتأخرين- مع أن المنكر عند المتقدمين دوماً منكر، كما قال الإمام أحمد.

6- تساهل في الحكم على الأحاديث الموضوعة حيث يستعمل ألفاظاً خفيفة مثل "ضعيف".

7- تشدد فقط في كتابه "التقريب" في مسألة إطلاق لفظ "صدوق" على جماعة من الثقات، حتى ذهب بعض الباحثين إلى أن لابن حجر مصطلح خاص بكلمة "صدوق" في هذا الكتاب.



ومما يعاب عليه أيضاً فتوره في الحكم على الحديث الموضوع: بأنه موضوع. قال الشيخ أحمد الغُماري في كتابه "المغير على الأحاديث الموضوعة في الجامع الصغير" (ص7) بعد أن أورد حديثَ "آفةُ الدِّين ثلاثة: فقيه فاجر، وإمام جائر، ومجتهد جاهل"، قال: «قال الحافظ في "زهر الفردوس": "فيه ضعفٌ وانقطاع". قلتُ: بل فيه كذابٌ وضَّاع، وهو نَهْشَـل بن سعيد، فالحديث موضوع. والحافظُ (ابن حجر) وشيخُهُ العراقي متساهلان في الحكم للحديث. ولا يكادان يُصرِّحان بوضع حديثٍ إلا إذا كان كالشمس في رابعة النهار».



وقد نص ابن حجر في "مقدمة الفتح" أن ما يسكت عنه فهو إما حسنٌ أو صحيح. والواقع أن ابن حجر لم ‏يلتزم أبداً بهذا. وقد سكت عن الكثير من الأحاديث الضعيفة. بل إنه يسكت على الحديث في موضع، ‏ويضعفه في موضِعٍ آخر. فقد سكت في الفتح (1\8) وفي تلخيص الحبير (1\76) عن حديث: «كل أمرٍ ‏ذي بال لا يبدأ بحمد الله، فهو أقطع». إلا أنه صرح بضعفه في الفتح (8\220). وكذلك حديث: «نية ‏المؤمن خيرٌ من عمله». ذَكَره في (1\11) ساكتاً عليه، وصرّح بتضعيفه في (4\219).‏

ومما يعاب عليه أيضاً تكلفه الشديد في محاولة تقوية الأحاديث الضعيفة التي تنصر التشيع. حتى قال عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في تعليقه على "الفوائد المجموعة" (ص317) ما نصه: «وتصدى الحافظ ابن حجر في "القول المسدد" و "الفتح" للدفاع عن بعض روايات الكوفيين. وفي كلامه تسامح. والحق أنه لا تسلم رواية منها عن وهن». ولم يتوقف الِأمر عند الأحاديث التي تنصر التشيع، بل وصل إلى تصحيح أحاديث تطعن في أصول الدين أيضاً.


قال الشيخ رشيد رضا في مجلة المنار (المجلد 28، الجزء 6، ص 474، صفر 1346 – أغسطس|آب 1927): «وإذا بحث بعض المشتغلين بالعلم منهم –على قلتهم– في هذه المسائل، فإنه يقبل في الجمع بين الحديثين، أو في دفع الإشكال الذي يَرِدُ على بعض الأحاديث، كل ما يقوله الباحثون في ذلك. كالكثير مما أورده الحافظ ابن حجر مما لا يكاد يعقل، حتى إنه قد يدافع عن الحديث الذي يعد من أقوى المطاعن على أصول الدين –كالتوحيد والرسالة– إذا كانت صناعة فن رواية الحديث تعده مقبولاً. كحديث الغرانيق الصريح في إقرار عبادة الأصنام والثناء على اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، والمجوز لإلقاء الشيطان في قراءة النبي r لسورة النجم في مدح هذه الأصنام الكبرى: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لتُرْتَجَى. دافع الحافظ –عفا الله عنه– عن هذا الحديث الذي يعترف بأنه لم يصح له سند، بأن تعدد طرقه يقويه!! و... قاعدة للمحدثين لم ينزلها الله تعالى في كتابه، ولا ثبتت في سنة عن رسوله r. وإنما هي مسألة نظرية غير مطردة. فتعدد الطرق في مسألة مقطوع ببطلانها شرعاً كمسألة الغرانيق أو عقلاً، لا قيمة له لجواز اجتماع تلك الطرق على الباطل. ولذلك حكم صفوة المحققين من أهل الحديث والأصول بأن حديث الغرانيق موضوع باطل».



تناقض ابن حجر في أحكامه
ومما يؤخذ على ابن حجر، كثرة تناقضه في أحكامه. قال صاحب "إتحاف النبيل" (1|46) عن ابن حجر: «وقد يحكم على الرجل في "التقريب" مثلاً بأنه صدوق، ويحكم عليه في "التلخيص الحبير" بأنه ضعيف جداً أو ضعيف... فلو جمعنا بين كلامه في "التلخيص" وفي "الدراية" وفي "الفتح"، وجدناه يخالف كلامه في "التقريب" في مواضع كثيرة».
وقال مؤلفا "تحرير التقريب" (1|15): «ابن حجر يتناقض في أحكامه تناقضاً عجيباً. فهو يوثق الرجل هنا أو يضعفه، ويضعفه أو يوثقه في كتاب آخر». وقالا كذلك (1|31): «وقد اضطرب الحافظ ابن حجر اضطراباً شديداً في "التقريب" في موقفه من توثيق ابن حبان، أو ذكره لشخص ما في كتابه "الثقات". فهو تارة يعتد به، ولا يعتد به تارة أخرى». ثم ضربا أمثلة على ذلك، وكذلك على اضطرابه في توثيق العجلي وابن سعد.







--------------------------------------------------------------------------------



فائدة عن ابن حجر: ما هو ترتيب كتب ابن حجر حسب تاريخ الانتهاء من كتابتها؟ فمثلاً، إذا حسن حديثاً في الفتح، وضعفه في التلخيص، فأي الرأيين له يكون الأخير؟

وهذه الدراسة معتمدة على ما ذكره الشيخ هيثم حمدان وعلى كتاب الدكتور شاكر عبد المنعم "ابن حجر العسقلاني مصنفاته ودراسة في منهجه وموارده في كتابه الإصابة" وإن كان قد اعتمد كثيرا على كتاب السخاوي "الجواهر والدرر". مع العلم أن ابن حجر ربما فرغ من تصنيف الكتاب ثم زاد فيه ونقص منه. فلا يلزم من إيراد زمن الفراغ من التصنيف أن يكون الحافظ لم يغير فيه شيئاً بعد ذلك التاريخ. و لا ننسى أنّه قد يكون يصنّف كتابين أو أكثر في نفس الوقت.



1. لسان الميزان. لم أقف على زمن الفراغ من تصنيفه. وأحال فيه إلى تعجيل المنفعة وإلى الإصابة.
2. تغليق التعليق. كمل سنة (804هـ) كما قاله ابن حجر. وأحال فيه إلى تهذيب التهذيب ولسان الميزان.
3. تهذيب التهذيب. كان الانتهاء من تبييضه سنة (807هـ). وأحال فيه إلى لسان الميزان.
4. نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر. فرغ منها في سنة (812هـ)
5. التلخيص الحبير. فرغ منه في (21/10/812هـ) وفرغ منه تتبعاً في سنة (820هـ)
6. هدي الساري مقدمة فتح الباري. كملت في سنة (813هـ)
7. تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس. انتهى منه سنة (815هـ) ثم زاد بعد ذلك أسماء مختصرة.
8. تبصير المنتبه بتحرير المشتبه. فرغ من تحريره سنة (816هـ)
9. نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر. فرغ منها في ذي الحجة سنة (818هـ)
10. القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد. فرغ منه شهور سنة (819هـ)
11. الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف. فرغ منه في شهور سنة (821هـ)
12. تقريب التهذيب. فرغ من تأليفه في شهور سنة (827هـ)
13. بلوغ المرام. فرغ منه في (11/3/828هـ)
14. الإيثار بمعرفة رواة الآثار. بدأ بتصنيفه سنة (813هـ) وفرغ منه في (19/12/833هـ)
15. تعجيل المنفعة. فرغ منه في (10/1/835هـ)
16. فتح الباري. ابتدأ تأليفه في أوائل سنة (817هـ) فرغ منه في رجب سنة (842هـ) أي استغرق تصنيفه 25 عاماً.
17. انتقاض الاعتراض. كمل في رجب سنة (842هـ)
18. الإصابة في معرفة الصحابة. ابتدأ في جمعه سنة (809هـ) وامتد تأليفه حوالي الأربعين سنة. فهو تصنيف متقدم متأخر، وقيل أنه لم يتمه.
19. نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار. ابتدأ في إملائه في يوم الثلاثاء (7/2/837هـ) واستمر إلى يوم الثلاثاء (15/11/852هـ)

أهم الإحالات:
(*) قال ابن حجر في (تلخيص الحبير 2|161) عند الكلام على بهز بن حكيم: "... وقد استوفيت ذلك في (تلخيص التهذيب)" اهـ.
(*) وقال في (تلخيص الحبير 2|73) عند الحديث على اختلاف العلماء في تحديد ليلة القدر: "... بَلَغتها في (فتح الباري) إلى بضعة وأربعين قولاً " اهـ.
(*) وقال في (فتح الباري 1|45): "... وقد أوضحت ذلك في كتابي (تغليق التعليق)" اهـ.
(*) وقال في (تلخيص الحبير 1|279) حول حديث "الفخذ عورة": "... وقد ذكرت من وصلها في كتابي (تغليق التعليق)" اهـ.
(*) وقال في (الفتح 1|51): "... وقد جمعتها في ترجمته في (تهذيب التهذيب)" اهـ.
(*) وقال في (تغليق التعليق 2|470): "... أوضحتُ ذلك في (مختصر التهذيب) في ترجمته" اهـ.
(*) وقال (الفتح 2|497): "... وقد بينت فساد ذلك كله في ترجمة أبى طالب من كتاب (الإصابة)" اهـ.
(*) وقال في (التهذيب 3|51): "... وقد بينت ذلك في كتابي (الإصابة)" اهـ.
(*) وقال في (لسان الميزان 2|171): " وقد ذكرتها بتمامها في ترجمة يغوث من كتابي (الإصابة في تمييز الصحابة)" اهـ.
(*) وقال في (تهذيب التهذيب 1|122): "... وقد بينت خطأه في ذلك في (لسان الميزان)" اهـ.
(*) وقال في (تغليق التعليق 3|475): "... وقد أشبعت الكلام عليه في ترجمته في (لسان الميزان)" اهـ.
(*) وقال في (لسان الميزان 3|303): "... وقد بسطت ذلك... وفي (تعجيل المنفعة برجال الأئمة الأربع)" اهـ.
(*) وقال في (تعجيل المنفعة 1|184): "وقد بسطت ترجمته في كتاب (الإصابة)" اهـ.
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
  #30  
قديم 2011-04-01, 06:10 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي








منهج ابن القيم الجوزية :






قال عنه الذهبي في المعجم المختصر: «عُني بالحديث بمتونه وبعض رجاله. وكان يشتغل في الفقه ويجيد تقريره، وفي النحو ويدريه، وفي الأصلين. وقد حبس مدة لإنكاره على شد الرحيل لزيارة قبر الخليل (إبراهيم عليه السلام، والقبر مزوّر). ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم. لكنه معجب برأيه، جريء على أمور».


قال ابن حجر في الدرر الكامنة: «غلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذب كتبه، ونشر علمه».


قال ابن كثير: «وكان مغرماً بجمع الكتب، فحصل منها ما لا ينحصر، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً، سوى ما اصطفوه لأنفسهم منها‏.‏.. وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف. وهو طويل النفس فيها، قصداً للإيضاح. ومعظمها من كلام شيخه، يتصرف في ذلك. وله في ذلك ملكة قوية، وهمة علوية. ولا يزال يدندن حول مفرداته، وينصرها، ويحتج لها‏».



وقال ابن جبرين في شرحه على منهج السالكين للسعدي: «وابن القيم -رحمه الله- ولو كان معه أسلوب قوي، ولكن إذا مال إلى قول فإنه يتحامل على ذلك القول».


وقد وجدت بحثاً قيماً للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة أحببت أن أنقله بكامله لجودته البالغة، قال:
أما ابن القيم: فمع جلالة قدره، ونباهة ذهنه، ويقظته البالغة: فإن المرء ليَعجَب منه –رحمه الله تعالى– كيف يروي الحديث الضعيف والمنكر في بعض كتبه كـ"مدارج السالكين" من غير أن ينبه عليه؟! بل تراه إذا رَوَى حديثاً جاء على "مشربه" المعروف، بالَغَ في تقويته وتمتينه كلَّ المبالغة، حتى يُخَيَّل للقارئ أن ذلك الحديث من قسم المتواتر، في حين أنه قد يكون حديثاً ضعيفاً أو غريباً أو منكراً. ولكن لما جاء على "مشربه"، جمَع له جَرَاميزه، وهبَّ لتقويته وتفخيم شأنه بكل ما أوتيه من براعة بيان وقوة لسان.
وأكتفي –على سبيل المثال– بالإشارة إلى حديثٍ واحدٍ من هذا النمط، رواه –رحمه الله تعالى– في كتابه "زاد المعاد في هدي خير العباد" أثناء كلامه عن وفد بني المنتفِق (3\674 ت الأرنؤوط)، فقد ساق هناك حديثاً طويلاً جداً جاء فيه من قول النبي (r): «... ثم تلبثون ما لبثتم، ثم تُبعَث الصائحة. فلعَمْرُ إلهك ما تدَعُ على ظهرها شيئاً إلا مات، والملائكةُ الذين مع ربّك. فأصبح ربُّك عزَّ وجلَّ يطوفُ في الأرض! وخلَتْ عليه البلاد...!».
وبعد أن ساق الحديث المُشار إليه، أتبعه بكلامٍ طويلٍ في تقويته، استهلّه بقوله: «هذا حديث كبير جليل، تنادي جلالتُه وفخامتُه وعظمتُه على أنه قد خَرَج من مشكاة النبوة. لا يُعرَفُ إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني...». ثم استرسلَ في توثيق "عبد الرحمان" ومن رواه عنه استرسالاً غريباً! كما أنه سَرَد الكتبَ التي رُوي الحديث فيها، وهي كتب معروفة بشيوع الحديث الضعيف والمنكر والموضوع فيها، وهو من أعلم الناس بحالها. ولكن غلبتهُ عادتهُ ومشربه، فذهب يسردها ويطيل بتضخيم مؤلِّفيها، تهويلاً بقوة الحديث وصحته.
مع أن الحديث حينما رواه صاحبه الحافظ ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" (5\82) أعقبه بقوله: «هذا حديثٌ غريبٌ جداً، وألفاظه في بعضها نكارة». وكذلك قال الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" في ترجمة "عاصم بن لقيط بن عامر بن المنتفِق العُقَيلي" (5\50) بعد أن أشار للحديث ومن رواه من المؤلِّفين: «وهو حديثٌ غريبٌ جداً».
فحينما يقول الحافظ ابن كثير والحافظ ابن حجر في الحديث المشار إليه: «حديثٌ غريب جداً، وألفاظُه في بعضها نكارة» تَرى الشيخَ ابنَ القيم يُسهب ويُطنب في دَعمه وتصحيحه، حتى نَقَل مرتضياً قولَ من قال: «ولا يُنكِرُ هذا الحديثَ إلا جاحد، أو جاهل، أو مخالفٌ للكتاب والسنة»!!
فصنيعُ ابن القيم هذا يدعو للبحث والفحص عن الأحاديث التي يرويها من هذا النوع ويُشيدُ بها في تآليفه، وهي من كتبٍ فيها الحديث الضعيف والمنكر والموضوع.

انتهى كلام الأستاذ رحمه الله.
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
  #31  
قديم 2011-04-01, 06:11 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي







منهج ابن حزم الأندلسي الظاهري :





علم الحديث
قال ابن حجر عن ابن حزم الأندلسي في لسان الميزان (4|198): «كان واسع الحفظ جداً. إلا أنه لثقته بحافظته كان يَهجُمُ على القول في التعديل والتجريح وتبيين أسماء الرواة، فيقع له من ذلك أوهام شنيعة». وقال أبو الحسن ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5|637): «محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الترمذي، وترمذ بخراسان. جهله بعض من لم يبحث عنه –وهو أبو محمد ابن حزم– فقال في كتاب الفرائض من "الإيصال" –إثْرَ حديثٍ أورده–: "إنه مجهول"». وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (11|77) عن الإمام الترمذي: «فإن جهالته لا تضع من قدره عند أهل العلم، بل وضعت منزلة ابن حزم عند الحفاظ». ويظهر أن هذا من تسرع ابن حزم. فابن حزم معروفٌ عنه التسرع في إطلاق الأحكام.



قال ابن حجر في ترجمة الإمام الترمذي (صاحب "السنن") في تهذيب التهذيب (9|344): «قال الخليلي (عن الإمام الترمذي): "ثقةٌ متفقٌ عليه". وأما أبو محمد بن حزم فإنه نادى على نفسه بعدم الاطلاع، فقال في كتاب الفرائض من "الإيصال إلى فهم كتاب الخصال": محمد بن عيسى بن سَوْرة مجهول! ولا يقولنّ قائلٌ: "لعله ما عرَفَ الترمذيّ ولا اطلع على حفظه وتصانيفه". فإنّ هذا الرجل قد أطلق هذه العبارة في خَلْقٍ من المشهورين من الثقات الحُفّاظ كأبي القاسم البغوي (إمام ثبتٌ محدّث العراق في عصره، ت317هـ، جهله ابن حزم في "حجة الوداع" ص328)، وإسماعيل بن محمد بن الصفّار (314هـ)، وأبي العباس الأصمّ (محمد بن يعقوب، أخذ عنه أهل المشرق والمغرب ت346هـ)، وغيرهم. والعَجَبُ أن الحافظ ابن الفَرَضي (وهو قرطبيٌّ من بلد ابن حزم توفي قبله عام 403هـ) ذكرَهُ (أي للإمام الترمذي) في كتابه "المؤتلِف والمختلِف"، ونبَّه على قدْرِه. فكيف فات ابن حزم الوقوف عليه فيه؟!». وابن حزم قد اطلع على الكتاب الأخير كما في رسالته في "فضل الأندلس".



وقيل عن ابن حزم أنه لم يطلع لا على سنن الترمذي ولا على العلل الكبير له، ولا حتى على سنن ابن ماجة. مع أن جامع الترمذي من مرويات ابن عبد البر الأندلسي (وهو قرين ابن حزم ورفيقه)، وكثيراً ما ينقل عن الترمذي في مصنفاته كالتمهيد والاستذكار، وهي الكتب التي اطلع عليها ابن حزم ونقل عنها. بل كيف لم يعرف ابن حزم من هو الأصم (راوي كتب الشافعي)، وهو في الأصل كان شافعياً قبل أن يصبح ظاهرياً؟ ومن الواضح أن ابن حزم لم يطلع أصلاً على سنن الترمذي بدليل أنه ذكر في كتابه المحلى (9|295) حديثاً من طريق أبي عيسى الترمذي، وضعفه برجلين بينه وبين أبي عيسى. وهذا الحديث مخرّجٌ في جامع الترمذي. فلو كان الكتاب عند ابن حزم، لما احتاج إلى رواية الحديث بمثل هذا الإسناد، ولا ضعفه بمن هو دون الترمذي. وليس في المحلى ذكرٌ للترمذي إلا هذا. مما يقوي أنه سمع بالترمذي وسننه، لكنه لم يبذل جهداً بأن يطلع عليها.



وعلى الرغم من تفوقه في علم الحديث على الفقهاء المتأخرين، فكان مثلهم في المنهج، لا يعبئ شيئاً بعلل الحديث الذي عرفه الجهابذة من المتقدمين. بل يُنكر علم علل الحديث من أصله، مع أنه من أهم علوم الإسلام. قال ابن القيّم في "الفروسية" (ص246): «قالوا: وأما تصحيح أبي محمد بن حزم له، فما أجدره بظاهريته وعدم التفاته إلى العلل والقرائن التي تمنع ثبوت الحديث، بتصحيح مثل هذا الحديث وما هو دونه في الشذوذ والنكارة. فتصحيحه للأحاديث المعلولة وإنكاره لنقلتها، نظير إنكاره للمعاني والمناسبات والأقيسة التي يستوي فيها الأصل والفرع من كل وجه. والرجل يصحّح ما أجمع أهل الحديث على ضعفه. وهذا بَيّنٌ في كتبه لمن تأمله».



علم الفقه
قال مؤرّخ الأندلس أبو مروان بن حَيّان: «كان ابن حزم حاملَ فنون... وكان لا يخلو في فنونه من غلطٍ، لجرأته في الصِّيال على كل فن. ولم يكن سالماً من اضطرابٍ في رأيه». ومن أمثلة هذا الاضطراب ما قاله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (33|46): «وكذلك إذا وقّت الطلاق بوقت، كقوله "أنت طالق عند رأس الشهر". وقد ذكر غير واحد الإجماع على وقوع هذا الطلاق المعَلّق. ولم يُعلم فيه خلافاً قديماً. لكن ابن حزم زعم أنه لا يقع به الطلاق! وهو قول الإمامية (أي الرافضة). مع أن ابن حزم ذكر في كتاب "الإجماع": إجماع العلماء على أنه يقع به الطلاق».



قال إمام الأندلس ابن عبد البر في الاستذكار (1|302) عن صاحبه ابن حزم: «وقد شذّ بعض أهل الظاهر، وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين، فقال: ليس على المتعمد في ترك الصلاة في وقتها، أن يأتي بها في غير وقتها». ويبيّن أنه يقصد واحداً بعينه (ص307): «والعجب من هذا الظاهري في نقضه أصله و أصل أصحابه». وبين ابن عبد البر أن هذا ليس مذهب الظاهرية، وذكر استدلالات ابن حزم بعينها. وقال بعد كل ذلك (ص309): «فما أرى هذا الظاهري، إلا قد خرج عن جماعةِ العلماءِ من السلف والخلف، وخالف جميع فرق الفقهاء وشذّ عنهم. ولا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذِّ من العِلم». قلت: صدق رحمه الله، فإن من تتبع زلات العلماء تزندق، فكيف بمن جمع موسوعة من الأقوال الشاذة التي لم يُسبق بها؟



قال الحافظ السلفي ابن كثير (تلميذ شيخ الإسلام) في "البداية والنهاية" (12|13): «كان ابن حزم كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقَلَمه، فأوْرثه ذلك حِقداً في قلوب أهل زمانه. ومازالوا به حتى بَغّضَوه إلى ملوكهم، فطردوه عن بلاده. والعجب –كل العجب– منه أنه كان ظاهرياً حائراً في الفروع، لا يقول بشيء من القياس لا الجلي ولا غيره. وهذا الذي وَضَعَهُ عند العلماء، وأدْخَلَ عليه خطأ كبيراً في نظره وتصرّفه. وكان –مع هذا– من أشد الناس تأويلاً في باب الأصول وآيات الصفات وأحاديث الصفات، لأنه كان أولاً قدْ تضلّع من علم المنطق، أخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني. ففسُد بذلك حاله في باب الصفات».



وقال ابن كثير أيضاً (14|332): «ورأيتُ في ليلة الإثنين الثاني والعشرين من المحرم سنة ثلاث وستين وسبعمائة الشيخ محي الدين النووي رحمه الله فقلت له: يا سيدي الشيخ لِمَ لا أدْخلتَ في "شرحك المهذب" شيئاً من مصنفات ابن حزم؟ فقال ما معناه: أنه لا يحبه. فقلت له: أنت معذور فيه فإنه جمع بين طرفيْ النقيضين في أصوله وفروعه. أما هو في الفروع فظاهريّ جامد يابس. وفي الأصول قول مائع قرمطة القرامطة وهَرَس الهرائسة. ورفعت بها صوتي حتى سمعت وأنا نائم. ثم أشَرْتُ له إلى أرض خضراء تشبه النخيل بل هي أرْدأ شكلاً منه، لا يُنتفع بها في اسْتغلالٍ ولا رعي. فقلت له: هذه أرض ابن حزم التي زرعها. قال: إنظر، هل ترى فيها شجراً مثمراً أو شيئاً يُنتفع به؟ فقلت: إنما تصلح للجلوس عليها في ضوء القمر. فهذا حاصل ما رأيته. ووقع في خلدي أن ابن حزم كان حاضرنا عندما أشرْت للشيخ محيي الدين إلى الأرض المنسوبة لابن حزم، وهو ساكتٌ لا يتكلم».



قال ابن حجر الهيتمي في "فصل الخطاب" (ص196): «ابن حزم حمله تعصّبه لمذهبه الفاسد الباطل في إباحة الأوتار وغيرها، إلى أن حكم على هذا الحديث (يعني حديث البخاري: ليكونن من أمتي قوم يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف) وكل ما وَرَدَ في الملاهي بالوضع. وقدْ كذَب في ذلك وافترى على الله وعلى نبيه وشريعته. كيف وقدْ صَرّح الأئمة الحفاظ بتصحيح كثير من الأحاديث الواردة في ذلك. ولقد قال بعض الأئمة الحفاظ أن ابن حزم إنما صَرَّح بذلك تقريراً لمذهبه الفاسد في إباحة الملاهي. وإن تعصّبه لمذهبه الباطل أوْقعه في المجازفة والاشتهار، حتى حَكَمَ على الأحاديث الصحيحة من غير شك ولا مَريّة بأنها موضوعة. وقد كذب وافترى. ومن ثُمّ قال الأئمة –في الحطّ عليه– أن له مجازفات كثيرة وأمور شنيعة نشأتْ من غلظه وجموده على تلك الظواهر. ومن ثم قال المحققون: أنه لا يُقام له وزن ولا يُنظر لكلامه ولا يُعوّل على خلافه. فإنه ليس مُراعياً للأدلة، بل لما رآه هواه وغلب عليه من عدم تَحَرِّيه وتقواه». كذا قال، وابن حزم أعلم من ابن حجر وخيرٌ منه بمرات، لكن ابن حجر ينقل عن غيره.



وقال كذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي: «وفي زماننا يتعيّن كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد. وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم. فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة. وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم (يقصد ابن حزم)، وهو أشد مخالفة لها، لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه، أو يأخذ ما لم يأخذ به الأئمة من قبله».



وقد بلغ الجمود الفكري والظاهرية الشديدة وتحريم القياس عند ابن حزم إلى أنه أنكر الواضحات، وصار يأخذ بالأقوال الشاذة والغريبة المخالفة للإجماع. كقول ابن حزم: أن بول الإنسان في الماء الراكد ينجسه، إلا في بول الإنسان، فلا يقاس عليه بول الحيوان ولو خنزيراً! وكذهابه إلى أن سؤر الكلب لا يكون التطهير للإناء الذي فيه إلا بعد غسله سبعًا إحداهن بالتراب الطاهر، لأن النص قد ورد بذلك، بينما يقرر أن سؤر الخنزير طاهر يصح شربه والوضوء منه لعدم ورود نص فيه (المحلى 1|132). وله تقريرات عجيبة لا يحتملها الناس. فذكر أنه لا يجب على المرأة خدمة زوجها، وبالتالي أوجب على الزوج جلب الطعام مطبوخاً، وأن يأتي بمرضعة لأطفالها! ومن ذلك ما ذكره في (المحلى (3|196) أنه يجب على من صلى ركعتي الفجر أن يضطجع على شقه الأيمن قبل صلاة الفجر، سواء صلاها في وقتها أو قاضيا لها من نسيان أو عمد نوم. فإن عجز عن الضجعة، أشار إلى ذلك حسب طاقت . ولم يجز له أن يصلي الصبح، إلا بأن يضطجع على شقه الأيمن. ولا شك أن عدم الأخذ بالقياس يؤدي إلى الحرج في كثير من الأحكام، فإنه من المعقول أنه إذا تشابهت مسألتان واتحدتا في علة واحدة أن تأخذ الثانية حكم الأولى، ما دامت العلة واضحة، وإلا كان ذلك منافيًا للعقل ومجافياً للصواب.



والذي لا شك فيه عند كل ذي عقل له معرفة بشيء من اللغة العربية، أنه أول ما يقرأ قوله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} يفهم من أن النهي عن قول "أف" للوالدين، يستلزم كذلك النهي عن الأعظم من ذلك كالضرب واللعن والقتل. أما ابن حزم فيقول أن هذا النهي «ليس نهياً عن القتل ولا عن الضرب ولا عن القذف، وأنه إنما هو نهي عن قول "أف" فقط»! قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (1|327) وفي مجموع الفتاوى (21|207): «ومن لم يلحظ المعاني من خطاب الله ورسوله، ولا يفهم تنبيه الخطاب وفحواه من أهل الظاهر، كالذين يقولون إن قوله {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (الإسراء:من الآية23) لا يفيد النهي عن الضرب!! وهو إحدى الروايتين عن داود، واختاره ابن حزم. وهذا في غاية الضعف. بل وكذلك قياس الأَولى، وإن لم يدل عليه الخطاب، لكن عُرِفَ أنه أولى بالحُكم من المنطوق بهذا. فإنكاره من بدع الظاهرية التي لم يسبقهم بها أحدٌ من السلف. فما زل السلف يحتجون بمثل هذا».



علم أصول الفقه
أما في الأصول فقد نحى ابن حزم منهجاً متأثراً بالفلاسفة، لكنه أيضاً كثير الشذوذ عن السلف. ومما يتضح جلياً في مذهب ابن حزم الاستدلالي، أخذه بمذهب الاستصحاب، وخاصة استصحاب البراءة الأصلية: فهو يكثر منه جداً، وهو عمدته في الاستدلال غالباً. ولم أرى له موضعاً قَبِلَ فيه قول المخالف، ولو مجرد قبول. بل إنه يعمد إلى هدمه جميعاً! وكثير من احتجاجات ابن حزم التي قد يراها المرء قوية، لا تخرج عن الحجج الخطابية.



والسمة الظاهرة على منهج ابن حزم في الترجيح والاستدلال، أنه يميل إلى الأخذ بالنسخ أكثر منه إلى الجمع بين النصوص، وإن كان في كثير من الأحيان يوافق الصواب في الحكم بالنسخ. وهو في هذا على خلاف طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية. فإن السمة الغالبة على منهج شيخ الإسلام أنه يميل إلى الجمع أكثر منه إلى القول بالنسخ.هذا والشافعية والحنابلة بشكل عام يميلون إلى الجمع بين النصوص، بينما الأحناف يميلون أكثر للنسخ. لكن الجمع بين الأحاديث زاد كثيراً عند المتأخرين بسبب تحسينهم للأحاديث الضعيفة المعارضة للأحاديث الصحيحة. وتجد ذلك بشكل واضح في شرح المناوي. بل قد تجده عند الأحناف كذلك في الفتح للهمام وغيره، ولو أنهم أكثر قولاً بالنسخ. هذا وأحسن طريقة للتخلص من تعارض الأحاديث هو الاعتماد على الصحيح فقط.



الإيمان والعقيدة
وابن حزم ما عَذَرَ أئمة الإسلام والسنة في تركهم بعض الظواهر لدليل، كما هو شأن الصحابة و شأن من تكلم العربية، مع كون ما تركوه في مسائل متفرقة. أما هو: فيحق له صرف جميع الصفات –إلا قليلاً– عن ظاهرها، بأدلة ضعيفة متناقضة. والويل لمن أخذها على ظاهرها!



وقد سرد شيخ الإسلام أقوالاً لابن حزم في إنكاره لصفات الله سبحانه وتعالى، ثم قال في "شرح العقيدة الأصفهانية" (ص107): «فهذا ونحوه، قرمَطَةٌ ظاهرةٌ من هؤلاء الظاهرية الذين يَدَّعون الوقوف مع الظاهر. وقد قالوا بنحو مقالة القرامطة الباطنية في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته، مع ادعائهم الحديث ومذهب السلف، وإنكارهم على الأشعري وأصحابه أعظم إنكار. ومعلومٌ أن الأشعري وأصحابه أقرب إلى السلف والأئمة ومذهب أهل الحديث في هذا الباب من هؤلاء بكثير». وقال: «فمن عَرَفَ مذهب الأشعري وأصحابه، ومذهب ابن حزم وأمثاله من الظاهرية في باب الصفات، تبين له ذلك. وعَلِمَ –هو وكُلّ من فَهِم المقالتين– أن هؤلاء الظاهرية الباطنية أقرب إلى المعتزلة –بل إلى الفلاسفة– من الأشعرية، وأن الأشعرية أقرب إلى السلف والأئمة وأهل الحديث منهم».



أما عن دعوى بعض الظاهرية بانتساب ابن حزم للسلف فقد كذبها وأبطلها شيخ الإسلام في "الأصفهانية" (ص109) فقال: «إن كثيراً من الناس ينتَسِبُ إلى السنة أو الحديث أو اتباع مذهب السلف أو الأئمة أو مذهب الإمام أحمد أو غيره من الأئمة أو قول الأشعري أو غيره، ويكون في أقواله ما ليس بموافقٍ لقولِ من انتسب إليهم. فمعرفة ذلك نافعةٌ جداً. كما تقدم في الظاهرية الذين ينتسبون إلى الحديث والسنة، حتى أنكروا القياس الشرعي المأثور عن السلف والأئمة، ودخلوا في الكلام الذي ذمه السلف والأئمة، حتى نفوا حقيقة أسماء الله وصفاته، وصاروا مشابهين للقرامطة الباطنية. بحيث تكون مقالة المعتزلة في أسماء الله، أحسن من مقالتهم! فهم مع دعوى الظاهر، يقرمطون في توحيد الله وأسمائه. وأما السفسطة في العقليات فظاهرة». قلت: السَّفْسَطَةُ (كما في القاموس الوسيط): «قياسٌ مُركّبٌ من الوهميات، والغرض منه إفحام الخصم وإسكاته». والسُّوفِسْطائيّة هي فرقة فلاسفة إغريق يُنكِرون الحِسِّيَّاتِ والبَديهيّات وغيرها.


بل إنه جزم بتفضيل مذهب الأشاعرة في الصفات على مذهب ابن حزم. فقال في "درء التعارض" (5|250): «ومن المعلوم الذي لا يمكن مدافعته، أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم». والمسألتان الوحيدتان التي كاد ابن حزم يوافق بهما السلف الصالح، هما مسألة الإيمان ومسألة القدر. وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (4|19): «الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل –ومن قَبله من الأئمة– في القرآن والصفات. وإن كان أبو محمد بن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره، وأعلم بالحديث، وأكثر تعظيماً له ولأهله من غيره. لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات، ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك. فوافق (ابن حزم) هؤلاء (السلفيين) في اللفظ، وهؤلاء (الفلاسفة) في المعنى. وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث، باتباعه لظاهرٍ لا باطن له، كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفى خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب. مضموماً إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني، ودعوى متابعة الظواهر. وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة، ما لا يدفعه إلا مُكابر. ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال، والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة، ما لا يجتمع مثله لغيره. فالمسألة التي يكون فيها حديث، يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح. وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف، ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء».



وأما مذهب ابن حزم في الإيمان فهو مرجئ، وله مذهب خاص في الإرجاء: فجميع فرق المرجئة تخرج العمل من الإيمان، أما ابن حزم فإنه يُخرج العمل من أصل الإيمان ويُدخله في الإيمان الواجب. وقد وهم البعض فظنه على مذهب أهل السنة، وقالوا: حمده ابن تيمية في الكفر والإيمان. وليس كذلك، إنما الموجود من كلام ابن تيمية ما ذكرناه آنفاً، من تفضيله في هذا الباب على الأشعري، وليس أنه موافق بشكل كامل لأهل السنة والحديث.



أما الدليل على أنه يخرج العمل من أصل الإيمان: فقوله في "الفصل" (3|255): «فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضداً له فهو: العقد بالقلب والإقرار باللسان. فإن الكفر ضد لهذا الإيمان»، وقوله: «الإيمان الذي يكون الكفر ضداً له»، فهذه صفة أصل الإيمان. فأخرج العمل من أصل الإيمان وقَصَره على اعتقاد القلب وإقرار اللسان كقول مرجئة الفقهاء، خلافاً لأهل السنة. ويترتب على هذا أنه لا يكفُر أحدٌُ بشيء من العمل، وهذا ما يصرّح به ابن حزم فيقول في المحلى (1|40): «ومن ضيّع الأعمال كلها، فهو مؤمن عاص ناقص الإيمان لا يكفر». ويدل على إرجائه أيضاً تجويزه قول "أنا مؤمن مسلم قطعاً عند الله تعالى" (كما في "الفصل" 3|271) هكذا بدون استثناء، بل على وجه القطع والجزم. وهذه كلها أقوال المرجئة بلا ريب.



وأما الدليل على أنه يُدخل العمل في الإيمان الواجب والإيمان المستحب، فقوله في الفصل (3|255): «وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضداً له لا الكفر، فهو ما كان من الأعمال فرضاً. فإن تركه ضد للعمل، وهو فسق لا كفر. وأما الإيمان الذي يكون الترك له ضداً فهو: كل ما كان من الأعمال تطوعاً، فإن تركه ضد العمل به، وليس فسقاً ولا كفراً». والإيمان الذي يضاده الفسق هو الإيمان الواجب، والإيمان الذي يضاده الترك غير المكفر ولا المفسق هو الإيمان المستحب. وابن حزم كذلك يرى الإيمان الذي هو ضد الكفر شيئا واحداً لا يتجزء ولهذا يقول: «إن اليقين لا يقبل الزيادة والنقصان».



وبهذا تعلم أن ابن حزم وافق المرجئة في مسائل، ووافق أهل السنة في مسائل. ولهذا فإن قوله في المحلى (1|38): «الإيمان والإسلام شئ واحد... كل ذلك عقد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية»، كلامه هذا وإن كان موافقاً لأهل السنة في ظاهره، إلا أنه مخالف لهم في الحقيقة. إذ لايُدخِل العمل في أصل الإيمان كما ظهر من كلامه السابق، فأمره مضطرب. ولهذا فقد اعتبر ابن الجوزي الظاهرية فرقة ً من فرق المرجئة في كتابه "تلبيس إبليس" (ص28 ط المدني).



وهـذا شأن ابن حزم في معظم العلوم سواء منها الاعتقاد أو الفقه أو أصوله، أمره مضطرب، وكلامه يجمع بين الحق والباطل. ولهذا يجب التوقف في قبول ما انفرد به من آراء وأحكام حتى ينظر فيها. وينبغي ألا يبدأ طالب العلم دراسته بقراءة كتب ابن حزم كالإحكام والمحلى -على ما فيهما من فوائد-. وأنا أنصح بقراءتهما، ولكن في مرحلة متقدمة بعد قراءة غيرهما من الكتب، ليستفيد الطالب بما فيهما من فوائد، مع توقِّيه ما فيهما من أخطاء. وكلامه في الإيمان جدير بالقراءة، مع معرفة ما أخطأ فيه.

وبسبب انحرافات ابن حزم هذه، وصفه الآلوسي عند ذكره في تفسيره (21|76) بقوله: «الضال المضل». فليت ابن حزم قلد داود بن علي الظاهري في باب الأسماء والصفات، فإنه كان على مذهب السلف الصالح في هذا الباب. وغلطُ داود هو في مسألة اللفظ في خلق القرآن، لكنه يثبت الصفات كأهل السنة. قال شيخ الإسلام في "الأصفهانية" (ص107) عن الظاهرية: «إن إمامهم داود وأكابر أصحابه كانوا من المثبتين للصفات على مذهب أهل السنة والحديث».



حدته مع العلماء

وكان ابن حزم شديد الوقوع في كبار العلماء. قال ابن حجر في "لسان الميزان" (4|201): «ومما يُعابُ به ابن حزم: وقوعه في الأئمة الكبار بأقبح عبارةٍ، وأشنع رد». وقال ابن خلكان في تاريخه (1|370): «كان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين، لا يكاد أحد يسلم من لسانه». وقال أبو العباس بن العريف: «كان لسان ابن حزم وسيف الحَجّاج شقيقان»! ومع أنه كان ذا حدة ظهرت كثيرًا في جدله، فإنه لم يغفل عن ذكر سببها والكلام عنها، فقال: «لقد أصابتني علة شديدة ولّدت في ربواً في الطحال شديداً. فولّد ذلك علي من الضجر، وضيق الخلق، وقلة الصبر، والنزق أمراً جاشت نفسي فيه. إذ أنكرتُ تبدل خلقي، واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي. وصحّ عندي أن الطحال موضع الفرح، وإذا فسد تولد ضد». إن هذا تحليلًا دقيقًا يذكر فيه أسباب ضعفه النفسي في صراحة وقوة فيصف نفسه بالنزق والضجر، ولا يضن عليها بمثل ما يصف به مخالفيه. ولعل السبب الأهم في ذلك هو ما أصابه من ظلم على يد فقهاء المالكية حتى أحرقوا كتبه.



وكان ابن حزم يظن أنه بحدة لسانه سيسكت خصومه. ولكن انقلب السحر على الساحر، وتسبب له ذلك بإحراق كتبه وطرده من منصبه وقلة رواج أفكاره، حتى لا نجد له أتباعاً إلا من بعض الطلبة الذين يتعلمون الحديث قبل أن يتعلمون الفقه وأصوله. وكتبه لولا أنه اهتم فيها بجمع الآثار، لانقرضت منذ زمن بعيد. لكن جمعه لكل تلك الآثار والأقوال مع محاولة تبيين الصحيح من الضعيف، جعل كتابه "المحلى" ثروة لا يُستغنى عنها. وقد حَذّرَ جماعةٌ من المشايخِ والمؤدّبين من أن يقرأ المبتدئُ في مؤلّفاتِ ابن حزمٍ لا سيّما "المُحَلّى". وهي منهم نصيحةٌ في مَحلّها. فإنّ الأدبَ مع أهل العلمِ يقتضي ذلك. فإذا ما أتقنَ الطالبُ التأدّبَ مع أهلِ العلمِ، فلا حَرجَ حينئذٍ من الاستفادة من ذلك الكتاب، على حَذَرٍ من شُذوذاتٍ وغرائبَ وَقَعَ فيها أبو محمّد رحمه الله.



كيف تتعامل مع ابن حزم؟

ابن حزم ذكي قوي الحجة، له علم بالمنطق وجدله. أما كيف تتعامل مع مصنفاته، فإن اسلم طريقة هي أن لا تجاري ابن حزم في مقدماته. فهو يبدأ بذكر مقدمات، ثم يبنى عليها نقاشه مع العلماء. فلو أنت صرت تنظر عجلاً للنتيجة كما يفعل طالب العلم المبتدئـ فإنك سوف تنساق مع مقدماته لجمال عبارتها وقوتها. لكن انظر إلى مقدماته بدقة، واحذر من جزمه. فإنه يجزم أحيانا بقوة كأنه يقسم قسما غليظا بصوابه، مما يجعل في نفسك صواب هذا الرأي. واحذر من معارضته، فإنه كثيرا ما يجزم أيضا أن هذا الأمر معارضٌ للعقل وللنقل، فلا تتعجل، وانظر سبب المعارضة عنده. ولا شك أن كتبه مفيدة جداً، وتغذي المجتهد المتمكن على الاجتهاد والاستقلال، وتقوي ملكة النظر في الأدلة من حيث جملتها. أي بمعنى ربط الأدلة مع بعضها والنظر إليها نظرا إجماليا، من غير تناقض. فإن كثيراً من الفقهاء ممن لا يتدبر الأمر ملياً، تجهده يحكم على مسألة في الطهارة بحكم بناء على قاعدة، ثم يحكم على أخرى بحكم آخر، ويستخدم نفس القاعدة، وإنما أتي من اختلاف الباب.

والأمثلة كثيرة. فمن ذلك قوله راداً على الحنفية: «فمن أطرف شئ مبادرتهم إذا أدركوا شيء من أوامر القرآن أنه ندب؟ فقلنا لهم: ما برهانكم على هذه الدعوى؟ قالوا: قوله تعالى {وإذا حللتم فاصطادوا}. وقوله {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض}. فقلنا لهم: إن هذا لعجب؟ ليت شعري، في أي دين وجدتم أم في أي عقل: أنه إذا صح أمر من أوامر الله تعالى أنه منسوخ أو أنه ندب، وجب أن تحمل سائر أوامر الله تعالى على أنها منسوخة وعلى أنها ندب؟ فما سُمع بأعجب من هذا الاحتجاج الفاسد، إذ قصدوا به "هدم القرآن"». ومعلوم ما في المقدمات من الفساد. إذ لم يقصد الحنفية ولا غيرهم أن كل أوامر الله على الندب، ولم يقل بهذا مسلم. وقصدهم واضح لابن حزم، إنما قصدوا أن من أوامر الله ما هو ندب في كتابه ومنه غيره. وكأنه -رحمه الله- تدارك هذا الأمر بعد أسطر، وذكر أنه لا يُنكر، لكن لابد من القرينة. وهذا حق وقد قالوه، لكنه لم يرد على احتجاجهم.

ومن هذه الأمثلة : كلامه في بيع الفضولي حيث قال في رده حديث عروة البارقي: «لأنه إذا أمر -عليه السلام- أن يشترى له شاه، فاشترى شاتين، صار الشراء لعروة ((بلا شك)) لأنه إنما اشترى كما أراد، لا كما أمره. ثم وزن الدينا إما مسترخصا له ليرده، وإما متعديا فصار الدينا في ذمته ((بلا شك))... ثم ذكر كلاما ثم قال: ثم نسألهم عمن باع مال غيره، فنقول: أخبرونا هل ملك المشتري ما اشترى وملك صاحب المبيع الثمن؟ فإن قالوا لا، وهو الحق وهو قولنا. وإن قالوا نعم، قلنا فمن أين جعلتم له إبطال عقد صحيح؟». وأنت ترى جزالة مقدماته لكنها خطأ من وجوه، منها حصره. فليس الأمر في الصورتين فحسب. فنحن نقول العقد صحيح، لكنه معلق على رضا صاحب المال. وهو مثل خيار المجلس الذي أقره. أليس قد تم البيع لكن صاحباه بالخيار؟ فالعقد صحيح، لكنه مُعلق. وليس الأمر كما ذكر. فالنتيجة صحيحة، لكنها مبنية على مقدمات لا تُسلّم له.

ومن الأمثلة ما كان من رده على بكر البشري في كتابه الأحكام حيث قال: «إذا أمكن ما قلتم من أن اللفظ لا يبنى على المعنى بمجرده، فبأي شي نعرف مرادكم من كلامك؟ هذا لعلكم تريدون به معنى آخر؟ فبأي شيء أجابوا، فهو لازمٌ لهم». وهذا تحكم، فليست المسألة حصرا كما ذكر. فإنهم قد يقولون بالتفصيل، فما كان من الألفاظ المشتركة، فإنها لا تُحمل بمطلقها، وما كان غير ذلك فله حكمه. وما كان من المشتركة وله عرفٌ مشهور أو معنى يحمل عليه في الأكثر، قلنا بأنه يحمل عليه، وما لا فلا. بل إنه في الألفاظ التي لا تحمل إلا معنى واحد، فإن السياق قد يقلبه. انظر إلى قوله تعالى {ذق إنك أنت العزيز الكريم} وما يقتضيه ظاهر المعنى، ومع ذلك دل السياق على خلافه.



رأي ابن حزم بالمذاهب الأربعة

قال المنتصر الكتاني عن ابن حزم: «لا يذكر فقهاً لأحمد إلا نادراً جداً. إذ أحمد عند الأندلسيين إمام في الحديث فقط. ومن ذلك كتاب الحافظ ابن عبد البر الأندلسي: "الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء". وقد يذكر فقه من جاء بعد الثلاثة إلى منتصف القرن الخامس». قال: «ويمكن أن يجرد من "المحلى" مجلدان في فقه الأحناف والرد عليه، ومجلدان في فقه المالكية والرد عليه، ومجلد في فقه الشافعي وداود بن علي وغيرهما والرد عليه. أما فقه أحمد فليس في "المحلى" منه إلا قضايا محدودة، ومسائل محسوبة». قال: «وفي مناقشته فقه الثلاثة والرد عليه يكون ابن حزم قاسياً عنيفاً مع الحنفية والمالكية، ويكون براً لطيفاً مع الشافعية». وما ذاك إلا لأن الحنفية والمالكية هم من أهل الرأي، والشافعية هم من أهل الحديث. وابن حزم يعظّم الحديث ويمقت الرأي المجرّد. انظر: المذهب الظاهري



ومصادره في النقل عن المذاهب الثلاثة كثيرة، فهو واسع الاطلاع جداً. وقد وجدت أحد الحنفية يعترض على ابن حزم بأن نقوله غير دقيقة عن مذهبهم، وبأنه لم يفهم حججهم كما زعموا. وهو غلط، فقد اطلع ابن حزم على كتب الطحاوي، وهو أهم محدّثي الحنفية، وأحد أصدق فقهائهم في نقله. وكثيراً ما ينقل عنه ابن حزم دون أن يسميه، ويجيب على حججه. وقد نقل أيضاً من أمهات الكتب عند الحنفية مثل الجامع الصغير لمحمد بن الحسن (ذكره في المحلى 6|243) ومثل المبسوط (7|492) لابن الحسن. وقد كان ابن حزم على مذهب الشافعي لفترة من حياته، فصار له اطلاع كبير على مؤلفات الشافعية (لكن من الغريب أنه قد يخلط بين القديم والجديد). أما عن كتب المالكية فله اطلاع عظيم عليها. فقد كان يعيش في بيئة مالكية، وصاحبه وبلديه ابن عبد البر. وعامة مناظراته الفقهية هي مع المالكية. وأحياناً يصرّح بالنقل عن "الموطأ" و"مدونة" ابن سحنون و"المستخرجة العتبية" وكتب أخرى كثيرة.



يقول في أحد رسائله راداً على خصومه: «وأما قولهم: إنهم طالعوا دواوين لم نطالعها نحن، ومن الدواوين مالا نقف على أسمائها، فلعمري ما لشيوخهم ديوان مشهور مؤلف في نص مذهبهم؛ إلاّ وقد رأيناه ولله الحمد كثيراً، ككتاب ابن الجهم، وكتاب الأبهري الكبير، والأبهري الصغير، والقزويني، وابن القصار، وعبد الوهاب، والأصيلي». وهنا يشير للكتب المؤلفة خارج الأندلس، فكيف به مع كتب أهل بلده؟ وما دخل الأندلس رجلٌ أكثر اطلاعاً من ابن حزم. بل ما يساويه في الاطلاع في تاريخ الإسلام إلا قلائل، وفوق كل ذي علمٍ عليم.



رأي ابن حزم بالمرأة

لعل من أبرز حسنات ابن حزم، إنصافه للمرأة وعدله في الأحكام التي أصدرها تجاهها. بينما تجد غيره من الفقهاء لا ينفك عن إهانة المرأة التي أنجبته، نعوذ بالله من العقوق. قال الحسن بن علي بن المنتصر بن الزمزمي الكتاني: «ما من مسألة اختلف فيها الفقهاء بين مشدد على المرأة وميسّر، فإن ابن حزم يسلك سبيل التيسير، وعنده أن المرأة في الأحكام كالرجل إلا ما خصّه الدليل... وأنظر إلى كثير من الفقهاء، خاصة المتأخرين منهم، فإنهم يلمح من كلامهم استنقاص المرأة والتحجير عليها مرة بحجة قصورها وأخرى بحجة سد الذرائع. وهذا ما لم أجده عند ابن حزم، بل الصالحات منهن عنده صالحات والفاسدات بحسب فسادهن، مثلهن في ذلك مثل الرجال».



أسانيد ابن حزم

غالب أسانيد ابن حزم ترجع إلى أربعة من كبار أئمة الحديث في الأندلس: بقي بن مخلد، وقاسم بن أصبغ، وأحمد بن خالد، ومحمد بن أيمن. ولذلك تجد عنده من الآثار ما لا تجده عند أحدٍ غيره من المشرقيين، لأن كتب هؤلاء الكبار لم تصل للمشرق على أهميتها (وبخاصة ابن مخلد وابن أصبغ). وهي اليوم مفقودة.
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
  #32  
قديم 2011-04-01, 06:12 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي







منهج مالك :









مالك بن أنس: إمام ثقة ثبت من كبار الحفاظ في المدينة. قال البُخاريّ عن عليّ بن المَديني: «له نحو ألف حديث». وقد جمع كثيراً من حديثه في كتابه "المُوَطَّأ"، وبعضه تجده في كتاب "غرائب مالك" للدارقطني (وإن كان أكثر أحاديث هذا الكتاب لا يصح إسنادها لمالك). وعامة الحديث الصحيح في الموطأ قد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما. وفيه أحاديث جيدة لكنها ليست على شرط الصحيحين. وفيه أحاديث ضعيفة غالباً بسبب انقطاع سندها أو بسبب جهالة رواتها. وكان مالك يعلم الضعف التي فيها، لكن كان منهجه أن الحديث المشتهر بين أهل المدينة يُحتج به وإن كان منقطعاً. ففي سنن الدارقطني (4|40): قال مالك: «شهرةُ الحديث بالمدينة تغني عن صحة سنده». وهذا أمرٌ لم يوافقه عليه أحدٌ من أهل الحديث.



يذكر ابن حزم في كتاب "مراتب الديانة": «أحصيتُ ما في الموطأ فوجدت من المسند خمسمئة ونيّف. وفيه ثلاثمئة ونيف مرسلاً. وفيه نيف وسبعون حديثاً قد ترك مالك نفسُه العمل بها. وفيه أحاديث ضعيفة وهّنها جمهور العلماء». أي أن مالك قد خالف حوالي تسعة في المئة مما رواه في الموطأ. لكن ما خالفه من الحديث الصحيح أكثر من ذلك، إلا أنه قد كتم أكثر تلك الأحاديث. ويًنقل عن مالك أنه قال: «سمعت من ابن شهاب أحاديث كثيرة، ما حدّثت بها قط، ولا أحدّث بها». فقيل له: لم؟ فقال: «ليس عليها العمل»!



كان مالك ممن اعتنى بنقد الرجال خاصة أهل بلده، وهو معتدل مع بعض التشدد. قال ابن عيينة: «ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم». وقال ابن حجر في (التلخيص الحبير) (3|10) في بعض الرواة: «قد اعتمده مالك مع شدة نقده». وقد شاع أن كل ما في الموطأ ثقات، وهو غلط، وإنما قيل أن ما روى عنه مالك (بغير واسطة) فهو ثقة، وهو غلط كذلك. فقد روى عن جماعة من الضعفاء مثل:

عبد الكريم بن أبي المخارق أبي أمية البصري
عبد الله بن لهيعة
عاصم بن عبيد الله
شريك بن أبي نمر
عطاء الخراساني
داود بن الحصين الأموي
عمرو بن أبي عمرو
وهذا الأخير – واسمه ميسرة – مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب القرشي، ضعفه ابن معين رغم أنه من شيوخ مالك. وضعف آخر أربعة ليس بشديد. وقيل إذا قال مالك "عن الثقة" فهو ابن لهيعة. وابن لهيعة ضعيف الحفظ سواء قبل احتراق كتبه أم بعدها. وهو فوق ذلك شيعي مدلّس ضعيف العقل.



قال القاضي إسماعيل: «إنما يعتبر بمالك في أهل بلده، فأما الغرباء فليس يحتج به فيهم». وقال الشيخ محمد خلف سلامة: «والقول بتوثيق جميع شيوخ مالك بلا استثناء، مذهب ضعيف أو لا يخلو من تساهل. والحق الذي يوافق ما صرح به غير واحد من المحققين: هو توثيق المدنيين من شيوخ مالك، إلا إذا قام الدليل على خلاف ذلك. بخلاف غير المدنيين من شيوخه، فلا تعد رواية مالك عنهم كافية في توثيقهم».



ومن أمثلة الأحاديث المنقطعة في الموطأ:



عن مالك أنه بلغه أن رسول الله r كان يقول: «إذا نشأتْ بَحْريةً ثم تشاءمتْ، فتلك عينٌ غُدَيقةٌ». قال ابن عبد البر في "التجريد" (ص254): «لا يُحفظ عن النبي r من وجهٍ يصح من جهة الإسناد. ولا يُعرف هذا الحديث بهذا اللفظ في غير الموطأ، إلا ما رواه الشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى (متروك) ولفظه: إذا نشأت بحرية ثم استحالت شامية فهو أمطر لها. ولم يسنده أيضاً. وهو منقطع عنده مع ضعفه». معنى الحديث: إذا ظهرت سحابة من ناحية البحر ثم أخذت نحو الشمال، فستمطر ماءً كثيراً. ومعناه باطل كما ترى.



وحديث «أما إني لا أَنسى، ولكن أُنَسَّى لأشرِّعَ». قال الألباني في السلسلة الضعيفة (#101): «باطل لا أصل له. و قد أورده بهذا اللفظ الغزالي في "الإحياء" (4|38) مجزوما بنسبته إليه r، فقال العراقي في "تخريجه": ذكره مالك بلاغاً بغير إسناد، و قال ابن عبد البر: لا يوجد في "الموطأ" إلا مرسلاً لا إسناد له. و كذا قال حمزة الكناني: إنه لم يرد من غير طريق مالك. و قال أبو طاهر الأنماطي: و قد طال بحثي عنه و سؤالي عنه للأئمة و الحفاظ فلم أظفر به و لا سمعت عن أحد أنه ظفر به. قال: و ادعى بعض طلبة الحديث أنه وقع له مسندا. قلت: فالعجب من ابن عبد البر كيف يورد الحديث في "التمهيد" جازما بنسبته إلى النبي r في غير موضع منه، فانظر (1|100 و 5|108 و 10|184)! قلت: الحديث في "الموطأ" (1|161) عن مالك أنه بلغه أن رسول الله r قال: "إني لأنسى أو أنسى لأسن". فقول المعلق على "زاد المعاد" (1|286) "وإسناده منقطع" ليس بصحيح بداهةً لأنه كما ترى بلاغ لا إسناد له. و لذلك قال الحافظ فيما نقل الزرقاني في "شرح الموطأ" (1|205): لا أصل له. و ظاهر الحديث أنه r لا ينسى بباعث البشرية وإنما ينسيه الله ليشرع. و على هذا فهو مخالف لما ثبت في "الصحيحين" و غيرهما من حديث ابن مسعود مرفوعا: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني". و لا ينافي هذا أن يترتب على نسيانه r حكم و فوائد من البيان و التعليم. و القصد أنه لا يجوز نفي النسيان الذي هو من طبيعة البشر عنه r لهذا الحديث الباطل لمعارضته لهذا الحديث الصحيح».
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
  #33  
قديم 2011-04-01, 06:14 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي






ملاحظات حول منهج الشيخ الألباني -رحمه الله- :






1– رأيه في مسألة زيادة الثقة: فإنه –رحمه الله– توسع في ذلك شيئاً، فقبل الكثير من الزيادات التي ضعّفها الأئمة لشذوذها، واعتبرها هو زيادة ثقة يجب قبولها، مع أنه يشترط ألا تكون منافية لأصل الحديث. إلا أنه ربما ذهل عن هذا أحياناً. أما الأئمة المتقدمين فلم يقبلوا زيادة الثقة بإطلاقها، بل كانوا يبحثون بعناية في كل حالة. وهذا من أهم الفروق بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين (أي بعد عصر النسائي).

2– عدم تركيزه على قضية العلة و الشذوذ. فنرى الشيخ لا يعبأ كثيراً بأقوال الأئمة المتقدمين في إنكار بعض الروايات. ودليل ذلك تصحيحه للأحاديث الباطلة والمنكرة والتي أبطلها الأئمة المتقدمون وأنكروها. وهذا كثيراً ما أوقعه في أوحال الأحاديث المنكَرة. وكذلك تصحيحه الحديث بكثرة طرقه، مع أن الأئمة المتقدمين اطلعوا على هذه الطرق وضعفوها كلها، ولم يصححوا الحديث بها لأمر ما، فكل حديث له حديث يخصه.

3– تساهله في التصحيح. حيث أن المستور، والمقبول على رسم ابن حجر، والإسناد المنقطع، والمدلس، والصدوق كل ذلك يقبل في الشواهد والمتابعات عنده. وهذا أيضاً مسلك فيه تساهل واضح. وهذا أيضاً سبب آخر لتصحيحه الحديث بمجرد كثرة طرقه، مع تضعيف الأئمة له.

4– الإكثار من تحسين الأحاديث بالشواهد والمتابعات. وتقويته للحديث بالطرق الضعيفة جداً. فالسلف لا يكثرون –جداً– من تحسين الأحاديث بالشواهد، إلا إذا قويت طرقها، ولم يكن في رواته كذاباً ولا مُتهم، ولم تعارض أصلاً. أما لو قويت طرقها واستقامت بمفردها، لكنها عارضت أصلاً فإنها تُطرح. ويمكن تلخيص منهج السلف في تحسين الأحاديث بالشواهد بما يلي:

1. محل إعمال قاعدة تقوية الحديث بتعدد الطرق، هو في غير الحديث الذي أجمع أئمة الحديث على تضعيفه، ما لم يكن تضعيفهم مقيداً بطريق بعينه.

2. أن محل تقوية الحديث بتعدد الطرق، ينبغي أن لا يكون في حديث ضعفه أحد أئمة الحديث، وقامت القرائن على صحة قوله.

3. أن تتعدد طرق الحديث تعدداً حقيقياً فلا يؤول هذا التعدد إلى طريق واحد، كما يحصل كثيراً في الأحاديث التي فيها انقطاع أو جهالة أو تدليس.

4. أن لا يشتد ضعف الطرق. فلا يقبل التحسين من أحاديث المجاهيل والكذابين والمختلطين وأمثالهم.

5. أن يسلم المتن من النكارة! وهذا مهم للغاية كما في المثال الذي ذكره الحاكم النيسابوري في "معرفة علوم الحديث" (1|119).

5– والشيخ الألباني كان كثير الاعتماد على تقريب التهذيب (وهو مجرد عناوين مختصرة)، دون الرجوع إلى التراجم المفصلة. والصواب أن تقريب التهذيب لا ينبغي الرجوع إليه إلا عندما يصعب الترجيح بين الرواة. وإلا فلا بد من الرجوع ليس إلى تهذيب التهذيب وحده، بل إلى كتب العلل و السؤالات والكتب المختصة بالمدلسين والمختلطين وغير ذلك من الأمور الدقيقة. فإن قال قائل إن هذا أمر يطول كثيراً، قلنا نعم! فمن لم يكن عنده الصبر والجلد فليلزم التقليد لحفاظ جهابذةٍ أفنوا عمرهم في طلب هذا العلم والبحث فيه.

وهذه الأخطاء لم يتفرد بها الشيخ الألباني رحمه الله، بل سار عليها أغلب المتأخرين –كما أسلفنا–، وبخاصة المعاصرين منهم، وصارت منهجاً لهم لا يجوز خلافه. وإنما خصصناه بالذكر لأنه من أعظمهم أثراً، ولما لكتبه من قبول. ومن أراد البسط في هذه المسألة فعليه بمراجعة هذه كتاب "الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها"، للشيخ الدكتور حمزة المليباري.

6– تعجله –رحمه الله– في تخريج الحديث بحجة كثرة إلحاح دار النشر عليه! وهذا العذر فيه ما فيه كما ترى. فقال مثلاً ما مختصره: أنه لم يأخذ الوقتَ الكافي ليتمكن من تجويد عملهِ على "السنن". وسبب ذلك: أن الدكتور مُحمد الرشيد –مدير "مكتب التربية العربي" حينذاك– استعجله وحثه على الإسراع بمشروع "صحيح وضعيف السنن الأربعة". لأن الدكتور على وشك ترك إدارة المكتب، ويرغب في إتمام هذا المشروع في عهده، ليترك أثراً طيّباً نافعاً قبل خروجه.

ونضيف على هذه الأخطاء ما ذكره الشيخ الفاضل إبراهيم بن محمد العلي (مع تبديل الأرقام). قال في كتابه "محمد ناصر الدين الألباني محدث العصر وناصر السنَّة" (ص50): «ولما كان الخطأ صفة لازمة في بني الإنسان، لا ينجو منها أحد مهما علت مرتبته في العلم والدين، ولو نجا منها أحد لنجا منها أصحاب رسول الله r الكرام، وهم خير القرون على وجه الأرض، ومع ذلك لم يسلم أحد منهم من الخطأ والوقوع فيه بتأويل، أو بغير تأويل.

والشيخ الألباني –رحمه الله تعالى– من أولئك العلماء الذين بذلوا جهداً كبيراً في خدمة السُنّة المطهرة، لكنه وقع في الخطأ كما وقع غيره من أهل العلم. لكننا حين نتحدث عن بعض الملاحظات حول منهجه فنحن لا نريد أن ننقص من مكانته، فكفى بالمــرء نبلاً أن تُعـد معايبه. ومن تلك الملاحظات التي أخذها عليه الكثير من أهل العلم:

7– الحـِدّة الشديدة التي كان يواجه بها المخالفين له من العلماء القدامى والمُحدثين مما زاد من خصـومه. هذه الحدة التي كانت تخرجه عن الاعتدال في التعامل مع آراء الآخرين، ولم تقتصر هذه الحــدة على المخالفين له في آرائه، وإنما شملت أيضاً بعض محبيه إذا حصل بينه وبينهم تنافر أو خلاف.

8– امتلأت كتبه في الرد على المخالفين. ولذلك يحتاج القارئ إلى التأني في أخذ المسائل التي رد فيها على أهل العلم وردوا عليه، ولذلك لابد من قراءة الرد، لأن الشيخ –رحمه الله– يخطئ ويصيب كسائر أهل العلم. إذ قد يصيب الحق تارة، وقد يخطئ تارة أخرى، فليس كل ما قاله صواباً.

9– تعامله مع التيار الحركي الإسلامي (الجمــاعات الإسلامية) بكثير من الجفاء والغلظة، وإصدار الأحكام القاسية بحقهــا، وذلك من خلال حكمه عليها خلال أفراد منها، واعتبار الجماعات أنها تتبنى هذه الأخطاء، ثم محاكمتها بناء على ذلك. رغم أن كثيراً من أحكامه بحقها ينقصه الدقة والمعلومة الصحيحة.

10– تبنيه لمجموعة من الأحكام الشرعية والتي لم يوفق في اختيار الصواب فيها، ودفاعه عنها دفاعاً شديداً حمله على مهاجمة آراء المخالفين بشدة، رغم أن هذه الاختيارات والغرائب التي تبناها يعوزها الحجة، أو أنها موضع مخالفة شديدة من جماهير أهل العلم، مثل تحريم الذهب المحلق على النساء.

11– منهجه في تقسيم السنن الأربعة إلى صحيح وضعيف، فالصحيح معمول به عنده، والضعيف غير معمول به. وقد أضاع هذا العمل الهدف الذي أراده مؤلفوها حين قاموا بجمعها. وقد اعترف الشيخ بهذا في مقدمة صحيح الأدب المفرد، إلا أنه دافع عن ذلك.




--------------------------------------------------------------------------------



وأنقل إجابة الشيخ الحويني على النقطة الأخيرة، لأني أظن أن الشيخ الألباني له وجهة نظر قوية. قال الشيخ أبو إسحاق الحويني في مقدمة كتاب "الألباني العالم الرباني":

وأما قول الشيخ العلي: "5ـ منهجه في تقسيم السنن الأربعة.." فو الله حينما قرأتها أول مرة تعجبت أشد العجب من هذه النقطة بالذات وقلت: لو غيرك قالها! ويمكن تقسيمها والإجابة عنها في ثلاثة جمل
"منهجه في تقسيم السنن الأربعة إلى صحيح وضعيف، فالصحيح معمول به عنده، والضعيف غير معمول به". فهل يخالف أحد من أهل العلم في هذا؟! بل هذا بإجماع العلماء ألا يعمل إلا بما صح عن رسول الله r. بل كتب الشيخ العلي قائمة على هذا النهج فلماذا الإنكار؟ ولماذا جمع في كتابه القيم: "صحيح السيرة النبوية" ما صح من سيرة الرسول r؟!

وكذلك قول الشيخ العلي: "وقد أضــاع هذا العمل الهــدف الذي أراده مؤلفوها حين قاموا بجمعها".
أقـول: هذا الكلام ليس بصحيح، خاصة وقـد حـوى كل كتاب من السنن أحاديث ضعيفة ومناكير بل وموضوعات! فجامع الترمذي ليس كل حديث فيه صحيح عنده، فقد ذكر جملة كبيرة من الضعاف وهو على علم بها، بل ويعلها بنفسه رحمه الله. وكذلك ينقل عن شيخه البخاري تضعيفه لبعض تلك الأحاديث. ولذلك كان من أسباب ذكر الأحاديث الضعاف في جامعه هو عمل بعض الفقهاء بها، فشرطه واسع جداً. وكذلك سكوت الإمام أبي داود ـ رحمه الله، لما ضَعفه ظاهر عنده معروف للمشتغلين بالحديث. وكذلك يعل الإمام النسائي رحمه الله أحاديث كثيرة في سننه، وهو ظاهر لمن تأمله. وأما ابن ماجه فالأمر فيه ظاهر جداً جداً، حتى قيل فيه كل ما تفرد بإخراجه ضعيف، وهذا فيه غلو وإسراف.

ومن قرأ لمن كتب في شروط الأئمة في كتبهم كابن طـاهر، والحازمي –رحمهم الله– علم صدق ما قلت.
وهنا أنقل فائدةً عزيزة للشيخ الألباني –رحمه الله– حول أحاديث السنن وطريقة أصحابها. قال –رحمه الله– في رده على الشيخ إسماعيل الأنصاري –رحمه الله– على إباحة الذهب المحلق المطبوع في: "حياة الألباني وآثاره" (1|194): "والحقيقة أنه قد فات الأستاذ أن أصحاب السنن إنما غايتهم من تخريجهم الأحاديث والتبويب لها عرض ما ورد إليهم والإشارة إلى ما تدل عليه من الأحكام سواء ثبتت تلك الأحاديث أو لم تثبت، وليس غرضهم تقرير أحكام قطعية لا يجوز خلافها. ولهذا نرى فيها كثيراً من الأبواب التي لم يورد فيها إلا ما لا يصح سنده من الحديث، وتارة فيها أبواب متناقضة. فهذا النسائي مثـلاً عقد باباً في تحــريم الذهب على الرجــال، ثم باباً آخر في خاتم الذهب أورد فيها أحاديث صحيحة تدل على ما ترجــم لها. ثم أورد بين البابين المذكورين باباً في الرخصة في خاتم الذهب للرجال (2|286) من طريق عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب قال: عمر يعني لصهيب: ما لي أرى عليك خاتم الذهب؟ قال: قد رآه من هو خير منك فلم يعبه ! قال: من هو؟ قال: رسول الله r. والأمثلة على ما ذكرنا كثيرة لا حاجة بنا إلى إطالة الكلام بالاستكثار منها".

فالمقصود أنَّ تقسيم الكتاب إلى قسمين لم يذهب بفائدة الكتاب، وإن كان الأَولى هو عدم التقسيم، ويضع الشيخ حكمه تحت الحديث، لما في ذلك من المحافظة على طريقة الكتاب كما أراده مؤلفه، ومنها حتى لا يكبر حجم الكتاب ويصبح ثمنه أغلى بكثيــر من أصله المسند! وقد استغل هذا الأمر –مع الأســف– من لا خــلاق له، وطعـن في نيــة الشيـخ وعملــه وأنه أراد التجارة بالكتب. فالله حسيبه.

وقـول الشيخ العلـي: "وقد اعتــرف الشيخ بهـذا في مقدمة صحيح الأدب المفرد، إلا أنه دافع عن ذلك". أقول: ما نسبه إلى الشيخ الألباني –رحمه الله– أولاً هو ليس في صحيح الأدب بل في ضعيفه ص 6. وثانياً لم يعترف الشيخ بما ذكره الشيخ العلي، بل ذكر وجهة نظر من رأى عدم التقسيم وأجاب بما يعتقده ويراه الأصلح.

وأرى لزاماً علىّ أن أنقل للقراء الأعزاء ما ذكره الشيخ –رحمه الله– حيث قال: "وأنا عندما أصنع هذا أعلم منذ بدأت بمشروع صحيح أبي داود و ضعيف أبي داود وغيرهماـ وذلك منذ أكثر من أربعين عاماًـ أن بعض الفضلاء لا يرون مثل هذا التقسيم، ويقولون: الأولى ترك الأصل كما هو دون تقسيمه إلى صحيح و ضعيف مع العناية ببيان مراتب أحاديثه. وإن مما لا شك فيه أن هذه وجهة نظر لها قيمتها. لأن فيها الجمع بين المحافظة على الكتاب كما وضعه مؤلفه، وبين فائدة تمييز صحيحه من سقيمــه. لكن هـذا لا ينفي فـائـدة التقسيم المذكـور، بل هو الأنفـع لعامـة المسلمين، بل وخاصتهم. لأن من المعلوم –بداهة– أنه ليس كل واحد منهم مستعداً طبعاً أو تطبُّعاً أن يعنى بحفظ التمييز المذكور في كتاب واحد. فهذا مما يصعب على جمهورهم، بخلاف ما إذا كان الصحيح في كتاب، والضعيف في آخر. وهذا أمر مجرب لا يماري فيه أحد –إن شاء الله تعالى–. وعلى كل حال فالأمر كما قال الله تعالى: ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات. فأسأله تعالى أن يهديني سواء الصراط".
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
  #34  
قديم 2011-04-01, 06:15 PM
عارف الشمري عارف الشمري غير متواجد حالياً
محـــــــــاور
 
تاريخ التسجيل: 2011-01-12
المشاركات: 1,573
افتراضي

تمت ولله الحمد

منقول من موقع الشيخ محمد الأمين
__________________
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله:الحلمُ ، والأناةُ )رواه مسلم :1/48
وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(من أحبّ لِقاء الله أحبّ الله لقاءهُ ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءهُ ) رواه مسلم : 4/2065
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع الأقسام الرئيسية مشاركات المشاركة الاخيرة
حسد الأنبياء وشماتة أئمة أتباع الفرقة الشيعية الامامية بأهل القبلة وإبتكارهم أسلوبا جديدا ابو هديل الشيعة والروافض 0 2020-03-12 05:21 PM
ماذا سيفعل أئمة الامامية الاثنى عشرية لو انهم رأوا وشاهدوا صحاح الامامية الاثنى عشرية ؟ مسخرة قذارة ابو هديل الشيعة والروافض 0 2020-02-11 12:57 AM
لماذا كان أئمة أهل السنة يصفون الأشاعرة بإناث الجهمية ومخانيث المعتزلة؟ فلق الصبح المعتزلة | الأشعرية | الخوارج 1 2019-12-01 03:19 PM
أبرز علماء الإسلام معاوية فهمي إبراهيم مصطفى السير والتاريخ وتراجم الأعلام 0 2019-11-13 01:54 PM
حسد الأنبياء وشماتة أئمة أتباع الفرقة الشيعية الامامية بأهل القبلة ابو هديل الشيعة والروافض 0 2019-10-12 05:46 PM

 link 
*** مواقع صديقة ***
للإعلان هنا تواصل معنا > واتساب
 شراء اثاث مستعمل   شركة تنظيف منازل بالرياض   نقل عفش الكويت   pdf help   كورة لايف   koora live   شركة تنظيف في دبي   شركة تنظيف في رأس الخيمة   شركة تنظيف في دبي 24 ساعة   كحل الاثمد   متاجر السعودية   مأذون شرعي   كحل الاثمد الاصلي   تمور المدينة   شركة عزل خزانات بجدة   شركة تنظيف افران   صيانة غسالات الدمام   صيانة غسالات ال جي   صيانة غسالات بمكة   شركة صيانة غسالات الرياض   صيانة غسالات سامسونج 
شركة صيانة افران بالرياض  كود خصم   سطحة هيدروليك   سطحة بين المدن   سطحة غرب الرياض   سطحة شمال الرياض 
 yalla live   يلا لايف   bein sport 1   كورة لايف   بث مباشر مباريات اليوم   Kora live   yalla shoot   ربح المال من الانترنت 
 سحب مجاري   translation office near me   كورة سيتي kooracity   مظلات وسواتر   تركيب مظلات سيارات في الرياض   تركيب مظلات في الرياض   مظلات وسواتر   شركة تنظيف منازل بالرياض   شركة تنظيف مكيفات بالرياض   شركه تنظيف بالرياض 
 برنامج ادارة مطاعم فى السعودية   افضل برنامج كاشير سحابي   الفاتورة الإلكترونية فى السعودية   المنيو الالكترونى للمطاعم والكافيهات   افضل برنامج كاشير فى السعودية 
 شركة تنظيف مكيفات بجدة   عزل فوم بالرياض   شركة عزل اسطح بالرياض   يلا شوت   يلا شوت   الحلوى العمانية 
 يلا لايف   يلا شوت 
 Yalla shoot   شركة حور كلين للتنظيف 
 تركيب ساندوتش بانل   تركيب مظلات حدائق 
 موقع الشعاع   بيت المعلومات   موقع فكرة   موقع شامل العرب   صقور الخليج   إنتظر 
 شركة نقل عفش بالرياض   شركة نقل عفش بالرياض   دكتور مخ وأعصاب 
 كشف تسربات المياه   شركة تنظيف منازل   نقل اثاث بالرياض   شراء اثاث مستعمل بالرياض   نقل اثاث   كشف تسربات المياه   شركة تنظيف بالرياض   شركة عزل اسطح   عزل اسطح بالرياض   شركة عزل اسطح بجدة   كشف تسربات المياه بالرياض   شركة عزل خزانات بالرياض   كشف تسربات المياه بالخرج   تنظيف خزانات بالرياض   مكافحة حشرات بالرياض   شركة عزل اسطح بالرياض   كشف تسربات المياه بالدمام   كشف تسربات المياه بالرياض   شركة عزل خزانات بالرياض   شركة عزل فوم   كشف تسربات المياه   عزل خزانات بالاحساء   شركة نقل اثاث بالرياض   نقل عفش بالرياض   عزل اسطح   شركة تنظيف بالرياض   شركات نقل الاثاث   شركة تنظيف منازل بجدة   شركة عزل فوم   شركة عزل خزانات بالرياض   شركة تنظيف خزانات بالرياض   شركة تخزين اثاث بالرياض   شركة تنظيف مكيفات بخميس مشيط   شركة تنظيف مكيفات بالرياض   شركة عزل اسطح   كشف تسربات المياه بالرياض   شركة كشف تسربات المياه   شركة نقل اثاث بالرياض   شركة عزل اسطح بجدة   شركة عزل اسطح   عزل خزانات   شركات عزل اسطح بالرياض   شركة عزل خزانات المياه   شركة تنظيف فلل بالرياض   كشف تسربات المياه بالدمام   شركة كشف تسربات المياه بالدمام   عزل خزانات بالاحساء   عزل فوم بالرياض   عزل اسطح بجدة   عزل اسطح بالطائف 
دليل السياح | تقنية تك | بروفيشنال برامج | موقع . كوم | شو ون شو | أفضل كورس سيو أونلاين بالعربي | المشرق كلين | الضمان | Technology News | خدمات منزلية بالسعودية | فور رياض | الحياة لك | كوبون ملكي | اعرف دوت كوم | طبيبك | شركة المدينة الذهبية للخدمات المنزلية

تطوير موقع الموقع لخدمات المواقع الإلكترونية

Powered by vBulletin Copyright ©2000 - 2024 Jelsoft Enterprises Ltd